فصل: قال الخطيب الشربيني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



و لنرجع إلى التفسير. قوله: {وإذ صرفنا} معطوف على قوله: {أذكر أخا عاد إذ أنذر} ومعنى صرفنا أملناهم إليك. والنفر ما دون العشرة ويجمع على أنفار. والضمير في {حضروه} للنبي صلى الله عليه وسلم أو القرآن {قالوا} أي قال بعضهم لبعض {أنصتوا} والأنصات السكوت لاستماع الكلام {فلما قضى} أي فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من القراءة. وإنما قالوا {أنزل من بعد موسى} لأنهم كانوا يهودًا أولأنهم لم يسمعوا أمر عيسى قاله ابن عباس {أجيبوا داعي الله} عنوا رسول الله أوأنفسهم بناء على أنهم رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومهم. ومنه يعلم أنه صلى الله عليه وسلم كان مبعوثًا إلى الجن أيضًا وهذا من جملة خصائصه. وحين عمموا الأمر بإجابة الداعي خصصوه بقولهم {وآمنوا به} لأن الآيمان أشرف أقسام التكاليف. و (من) في قوله: {من ذنوبكم} للتبعيض فمن الذنوب ما لا يغفر بالإيمان كالمظالم وقد مر في (إبراهيم). واختلفوا في أن الجن هل لهم ثواب أم لا؟ فقيل: لا ثواب لهم إلا النجاة من النار بقوله: {ويجركم من عذاب أليم} وهو قول أبي حنيفة. والصحيح أنهم في حكم بني آدم يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون. وقد جرت بين مالك وأبي حنيفة مناظرة في هذا الباب. قوله: {فليس بمعجز} أي لا يفوته هارب. قوله: {ولم يعي} يقال: عييت بالأمر إذا لم يعرف وجهه. قوله: {بقادر} في محل الرفع لأنه خبر (إن) وإنما دخلت الباء لاشتمال الآية على النفي كأنه قيل: أليس الله بقادر؟ والمقصود تأكيد ما مر في أول السورة من دلائل البعث والنبوّة. ثم سلى نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: {فاصبر كما صبر أولوا العزم} وقوله: {من الرسل} بيان لأن جميع الرسل أرباب عزم وجد في تبليغ ما أمروا بأدائه. أوهو للتبعيض فنوح صبر على أذى قومه. وإبراهيم على النار وذبح الولد. وإسحق على الذبح. ويعقوب على فراق الولد. ويوسف على السجن. وأيوب على الضر. وموسى على سفاهة قومه وجهالاتهم. وأما يونس فلم يصبر على دعاء القوم فذهب مغاضبًا. وقال الله تعالى في حق آدم {ولم نجد له عزمًا} [طه: 115] {ولا تستعجل لهم} أي لا تدع لكفار قريش بتعجيل العذاب فإنه نازل بهم لا محالة وإن تأخر. وإنهم يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا حتى ظنوا أنها ساعة من نهار {هذا} الذي وعظهم به كفاية في بابه وقد مر في آخر سورة (إبراهيم) عليه السلام. اهـ.

.قال الخطيب الشربيني:

ولما كان قوم عاد أكثر أموالًا وقوة وجاهًا من أهل مكة. ذكر تعالى قصتهم ليعتبروا. فيتركوا الاغترار بما وجدوه في الدنيا. فقال عز من قائل: {واذكر} يا أشرف الرسل. لهؤلاء الذين لا يتعظون {أخا عاد} وهو أخوك هود عليه السلام. الذي كان بين قوم أشدّ من قومك. ولم يخف عاقبتهم وأمرهم ونهاهم ونجيناه منهم فهولك قدوة. وفيه أسوة. و لقومك في قصدهم إياك بالأذى من أمره موعظة.
وقوله تعالى: {إذ أنذر} بدل اشتمال من {أخا} {قومه} أي: الذين لهم قوة على القيام فيما يحاولونه.
{بالأحقاف} قال ابن عباس: واديين عمان ومهرة. وقال مقاتل: كانت منازل عاد باليمن في حضرموت بموضع يقال له: مهرة إليها تنسب الإبل المهرية. وكانوا أهل عمد سيارة في الربيع. فإذا هاج العود رجعوا إلى منازلهم. وكانوا من قبيلة إرم قال قتادة: ذكر لنا: أن عادًا كانوا حيًا من اليمن. كانوا أهل رمل مشرفين على البحر بأرض يقال لها الشحر.
{وقد} أي: والحال أنّه قد {خلت النذر} أي: مرّت ومضت الرسل الكثيرون {من بين يديه} أي: قبل هود. كنوح وشيث وادم عليهم السلام {ومن خلفه} أي: بعده والمعنى؛ أنّ الرسل الذين بعثوا قبله. والذين سيبعثون بعده كلهم منذرون نحو إنذاره. والجملة حال. أواعتراض. ولما أشار إلى كثرة الرسل. ذكر وحدتهم في أصل الدعاء. فقال مفسرًا للأنذار معبرًا بالنهي {أن لا تعبدوا} أي: أيها العباد المنذرون. بوجه من الوجوه شيئًا من الأشيئاء {إلا الله} أي: الملك الذي لا ملك غيره. ولا خالق سواه. ولا منعم إلا هو فإني أراكم تشركون به من لم يشركه في شيء من تدبيركم والملك لا يقرّ على مثل هذا {إني أخاف عليكم} لكونكم قومي. وأعز الناس عليّ {عذاب يوم عظيم} أي لا يدع جهة إلا ملأها عذابه إن أصررتم على ما أنتم فيه من الشرك.
{قالوا} له في جوابه منكرين عليه {أجئتنا} أي: يا هود. {لتأفكنا} أي: لتصرفنا عن وجه أمرنا إلى قفاه {عن الهتنا} فلا نعبدها. ولا نعتد بها {فأتنا بما تعدنا} من العذاب؛ سموا الوعيد وعدًا {إن كنت} أي: يقال عنك كونًا ثابتًا {من الصادقين} في أنك رسول من الله. وأنه يأتينا بما تخافه علينا من العذاب إن أصررنا.
{قال} أي هود مكذبًا لهم في نسبتهم إليه ادعاء شيء من ذلك: {إنما العلم} أي: المحيط بكل شيء. عذابكم وغيره.
{عند الله} أي: المحيط بجميع صفات الكمال. فهو ينزل علم ما توعدون به على من يشاء إن شاء. ولا علم لي إلى الأن. ولا لكم بشيء من ذلك ولا قدرة. {وأبلغكم} أي: في الحال والاستقبال وقرأ أبو عمرو بسكون الباء الموحدة وتخفيف اللام والباقون: بفتح الموحدة وتشديد اللام.
{ما أرسلت به} ممن لا مرسل في الحقيقة غيره. سواء أكان وعدًا أم وعيدًا أم غير ذلك. ولم يذكر الغاية؛ لأن ما أرسل به صالح لهم و لغيرهم {ولكني أراكم} أي: أعلمكم علمًا كالرؤية. وقرأ نافع والبزي وأبو عمرو: بفتح الياء والباقون: بسكونها. وأمال الألف بعد الراء ورش بين بين وأمالها أبو عمرو. وحمزة. والكسائي محضة. والباقون بالفتح.
{قومًا تجهلون} أي: باستعجال العذاب. فإنّ الرسل بعثوا مبلغين منذرين لا مقترحين.
{فلما رأوه} أي: العذاب الذي توعدهم به {عارضا} أي: سحابًا أسود بارزًا في الأفق. ظاهر الأمر عند من له أهلية النظر. حال كونه قاصدًا إليهم.
{مستقبل أوديتهم} أي: طالبًا لأن يكون مقابلًا لها وموجدًّا لذلك.
{قالوا} على عادة جهلهم. مشيرين إليه بأداة القرب الدالة على أنهم في غاية الجهل. لأن جهلهم به استمّر حتى كاد أن يواقعهم.
{هذا عارض} أي: سحاب معترض في عرض السماء. أي: ناحيتها.
{ممطرنا} قال المفسرون: كان حبس عنهم المطر أيامًا فساق الله تعالى إليهم سحابة سوداء فخرجت عليهم من واد لهم يقال له المغيث فلما رأوها استبشروا وقالوا هذا عارض ممطرنا فقال الله تعالى: {بل هو} أي: هذا العارض الذي ترونه {ما استعجلتم به} أي: طلبتم العجلة في إتيانه وقوله تعالى: {ريح} بدل من {ما} {فيها عذاب أليم} أي: شديد الآيلام وروي أنها كانت تحمل الفسطاط فترفعه في الجوّ. وتحمل الظعينة في الجوّ. فترفعها وهودجها حتى ترى كأنها جرادة وكانوا يرون ما كان خارجًا عن منازلهم من الناس والمواشي تطير بهم الريح بين السماء والأرض. ثم تقذف بهم. ثم وصف تلك الريح. بقوله تعالى: {تدمر} أي: تهلك إهلاكًا عظيمًا شديدًا.
{كل شيء} أي: أتت عليه من الحيوان والناس وغيرهما. هذا شأنها فمن سلم منها كهود عليه السلام ومن امن به. فسلامته أمر خارق للعادة. كما أنّ أمرها في إهلاك كل ما مرّت عليه أمر خارق للعادة.
{بأمر ربها} أي: المبدع لها والمربي والمحسن بالأنتقام من أعدائه.
فإن قيل: ما فائدة إضافة الرب إلى الريح أجيب: بأنّ فائدة ذلك: الدلالة على أنّ الريح وتصريف أعنتها. مما يشهد بعظيم قدرته لأنها من أعاجيب خلقه. وأكابر جنوده.
وذكر الأمر وكونها مأمورة من جهته عز وعلا يعضد ذلك ويقويه فليس من تأثير الكواكب والقرآنات.
قيل: إنّ أول من أبصر العذاب امرأة منهم. قالت: رأيت ريحًا فيها كشهب النار. وروي: أنّ أول ما عرفوا به أنه عذاب أليم: أنهم رأوا ما كان في الصحراء من رحالهم ومواشيهم تطير به الريح بين السماء والأرض فدخلوا بيوتهم. وغلقوا أبوابهم فقلعت الريح الأبواب وصرعتهم. وأمال الله عليهم الأحقاف فكانوا تحتها سبع ليال وثمانية أيام. لهم أنين ثم أمر الله تعالى الريح. فكشفت عنهم الرمال. وحملتهم. فرمت بهم في البحر.
وروي: أن هودا عليه السلام لما أحس بالريح خط على نفسه وعلى المؤمنين خطًا إلى جنب عين تنبع وكانت الريح التي تصيبهم ريحًا طيبة هادئة. والريح التي تصيب قوم عاد ترفعهم من الأرض وتطير بهم إلى السماء وتضربهم على الأرض.
وعن ابن عباس اعتزل هود ومن معه في حظيرة. ما يصيبهم من الريح إلا ما يلين على الجلود وتلذه الأنفس. وإنها لتمرّ من عاد بالظعن بين السماء والأرض. وتدمغهم بالحجارة. وأثر المعجزة إنما ظهر في تلك الريح من هذا الوجه «قال صلى الله عليه وسلم ما أمر الله تعالى خازن الريح أن يرسل على عاد إلا مقدار الخاتم وذلك القدر أهلكهم بكليتهم» كما قال تعالى: {فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم} أي: فجاءتهم الريح فدمّرتهم. فأصبحوا بحيث لوخضت بلادهم لا ترى إلا مساكنهم. وقرأ عاصم وحمزة: بالياء التحتية المضمومة ورفع النون من مساكنهم. لقيامه مقام الفاعل. والباقون: بالتاء الفوقية مفتوحة مبنيًا للفاعل. ونصب مساكنهم مفعولا به. وأمال الألف بعد الراء ورش بين بين. وأبو عمرو وحمزة والكسائي محضة. وكذلك من {القرى} {كذلك} أي: مثل هذا الجزاء الهائل؛ في أصله. أوجنسه. أونوعه. أوشخصه من الأهلاك.
{نجزي} بعظمتنا دائمًا إذا شئنا {القوم المجرمين} أي: العريقين في الإجرام الذين يقطعون ما حقه الوصل وذلك الجزاء هو الأهلاك على هذا الوجه الشنيع وروي أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى الريح فزع وقال: «اللهم إني أسألك خيرها وخير ما أرسلت به وأعوذ بك من شرّها وشرّ ما أرسلت به. وإذا رأى مخيلة أي: سحابة. قام وقعد. وجاء وذهب. وتغير لونه. فنقول له: يا رسول الله ما تخاف؟ فيقول: إني أخاف أن يكون مثل قوم عاد حيث قالوا: هذا عارض ممطرنا فاحذروا أيها العرب مثل ذلك إن لم ترجعوا» فإن قيل قال تعالى: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} (الأنفال).
فكيف يحصل التخويف أجيب بأنّ ذلك كان قبل نزول الآية ثم أخبر الله تعالى عن مكنة عاد بقوله سبحانه: {ولقد مكناهم} أي: تمكينًا تظهر به عظمتنا {فيما} أي: في الذي {إن} نافية أي: ما {مكناكم} يا أهل مكة {فيه} من قوّة الأبدان. وطو ل الأعمار. وكثرة الأموال. وغيرها. ثم إنّهم مع ذلك ما نجوا من عذاب الله تعالى. فكيف يكون حالكم؟.
تنبيه:
قال البقاعي: وجعل النافي إن؛ لأنها أبلغ من {ما} لأن ما تنفى تمام الفوت. لتركبها من الميم والألف التي حقيقة إدراكها فوت تمام الإدراك. وإن تنفي أدنى مظاهر مدخولها. فكيف بما وراء من تمامه؟ لأن الهمزة أول مظهر لفوت الألف. والنون لمطلق الإظهار. هذا إلى ما في ذلك من عذوبة اللفظ. وصونه عن ثقل التكرار. إلى غير ذلك من بديع الأسرار. اهـ.
وقال الزمخشريّ: إن نافية أي: فيما ما مكناكم فيه إلا أن إن أحسن في اللفظ. لما في مجامعة ما بمثلها من التكرار المستبشع. ومثله مجتنب. ألا ترى أنّ الأصل في مهما ما ما فلبشاعة التكرير قلبوا الألف هاء ولقد أغث أبو الطيب في قوله:
لعمرك ما ما بان منك لضارب

وما ضرّه لواقتدى بعذوبة لفظ التنزيل فقال:
لعمرك ما إن بان منك لضارب. وقد جعلت إن صلة مثلها فيما أنشده الأخفش رحمه الله تعالى:
يرجى المرء ما إن لا يراه ** وتعرض دون أدناه الخطوب

وتؤول بأنا مكناهم في مثل ما مكناكم فيه والوجه هو الأول {وجعلنا لهم} أي على ما اقتضته عظمتنا {سمعًا} وأفرده لقلة التفاوت فيه {وأبصارًا} وجمعه لكثرة التفاوت في أنوار الأبصار. وكذا في قوله تعالى: {وأفئدة} أي: فتحنا عليهم أبواب النعم. وأعطيناهم سمعًا فما استعملوه في سماع الدلائل. وأعطيناهم أبصارًا فما استعملوها في دلائل ملكوت السموات والأرض وأعطيناهم أفئدة. أي: قلوبًا فما استعملوها في طلب معرفة الله تعالى. بل صرفوا كل هذه القوى إلى طلب الدنيا و لذاتها. فلا جرم قال تعالى: {فما أغنى عنهم} في حال إرسالنا إليهم الرحمة على لسان هود عليه السلام ثم النقمة بيد الريح {سمعهم} وأكد النفي بتكرير النافي بقوله تعالى: {ولا أبصارهم} وكذا في قوله تعالى: {ولا أفئدتهم} أردنا إهلاكهم. وأكد بإثبات الجار بقوله تعالى: {من شيء} أي: من الأشيئاء وإن قل وقال الجلال المحلي إنّ {من} زائدة وقوله تعالى: {إذ} معمولة لأغنى وأشربت معنى التعليل. أي: لأنهم {كانوا} أي: طبعًا وخلقًا {يجحدون} أي: يكرّرون على ممر الزمان الجحد {بآيات الله} أي: الأنكار لما يعرب عن دلائل الملك الأعظم {وحاق} أي: نزل {بهم ما كانوا به يستهزئون} لأنهم؛ كانوا يطلبون نزول العذاب على سبيل الاستهزاء ولما تم المراد من الإخبار بهلاكهم على ما لهم من المكنة العظيمة ليتعظ بهم من سمع أمرهم أتبعهم من كان مشاركًا لهم في التكذيب فشاركهم في الهلاك فقال تعالى: {ولقد أهلكنا} أي: بما لنا من العظمة {ما حولكم} يا أهل مكة {من القرى} كحجر ثمود وعاد وأرض سدوم وسبأ ومدين والآيكة وقوم لوط وفرعون وأصحاب الرس. وغيرهم ممن فيهم معتبر {وصرّفنا} أي: بينا {الآيات} أي: الحجج البينات {لعلهم} أي: الكفار {يرجعون} أي: ليكونوا عند من يعرف حالهم في رؤية الآيات. حال من يرجع عن الغيّ الذي كان يرتكبه. لتقليد أوشبهة كشفتها الآيات وفضحتها الدلالات؛ فلم يرجعوا فكان عدم رجوعهم سبب إهلاكهم.
{فلولا} أي: فهلا ولم لا {نصرهم الذين} أي: نصر هؤلاء المهلكين الذين {اتخذوا} أي: اجتهدوا في صرف أنفسهم عن دواعي العقل حتى أخذوا.
{من دون الله} أي: الملك الذي هو أعظم من كل عظيم {قربانًا} أي: متقربًا بهم إلى الله تعالى: {الهة} معه وهم الأصنام ومفعول اتخذوا الأول ضمير محذوف يعود على الموصول أي: هم. وقربانًا المفعول الثاني. والهة بدل منه {بل ضلوا} أي: غابوا {عنهم} وقت نزول النقمة. وقرأ الكسائي بإدغام اللام في الضاد. والباقون بالإظهار {وذلك} أي: اتخاذهم الأصنام الهة قربانًا {إفكهم} أي: كذبهم {وما كانوا} أي: على وجه الدوام لكونه في طباعهم {يفترون} أي: يتعمدون كذبه. لأن إصرارهم عليه بعد مجيء الآيات لا يكون إلا كذلك. لأن من نظر فيها مجردًا نفسه عن الهوى اهتدى.
{وإذ} أي: واذكر إذ {صرفنا} أي: أملنا {إليك نفرًا} وهو اسم يطلق على ما دون العشرة وسيأتي في ذلك خلاف {من الجنّ} أي جنّ نصيبين اليمن. أوجنّ نينوى {يستمعون القرآن} أي: يطلبون سماع الذكر الجامع لكل خير الفارق بين كل ملبس. وأنت في صلاة الفجر في نخلة. تصلي بأصحابك {فلما حضروه} أي: صاروا بحيث يستمعونه {قالوا} أي: قال بعضهم لبعض. ورضي الآخرون {أنصتوا} أي: اسكتوا. وميلوا بكلياتكم. واستمعوا. حفظًا للأدب على بساط الخدمة وفيه تأدب مع العلم في تعلمه. قال القشيري: فأهّل الحضور صفتهم الذبو ل والسكون والهيبة والوقار.
تنبيه:
ذكروا في كيفية هذه الواقعة قولين: أحدهما قال سعيد بن جبير: كان الجنّ تستمع فلما رجموا قالوا هذا الذي حدث في السماء إنما حدث لشيء في الأرض فذهبوا يطلبون السبب. وكان قد اتفق أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لما أيس من أهل مكة أن يجيبوه. خرج إلى الطائف ليدعوهم إلى الإسلام فلما انصرف إلى مكة وكان ببطن نخلة قام يقرأ القرآن. فمرّ به نفر من أشرار جنّ نصيبين. كان إبليس بعثهم ليعرف السبب الذي أوجب حراسة السماء بالرجم. فسمعوا القرآن فعرفوا أن ذلك هو السبب. والقول الثاني أنّ الله تعالى أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن ينذر الجنّ ويدعوهم إلى الله تعالى ويقرأ عليهم القرآن فصرف الله تعالى إليه نفرًا من الجنّ يستمعون منه القرآن وينذرون قومهم روي أن الجنّ كانوا يهودًا لأن في الجنّ مللًا كما في الإنس من اليهود والنصارى. وعبدة الأوثان. والمجوس وأطبق المحققون على أنّ الجن مكلفون سئل ابن عباس هل للجنّ ثواب قال نعم لهم ثواب وعليهم عقاب يلبثون في أبواب الجنة ويزدحمون على أبوابها. وروى الطبراني عن ابن عباس أن أولئك الجنّ كانوا سبعة نفر من أهل نصيبين فجعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلًا إلى قومهم. وعن زرّ ابن حبيش (كانوا تسعة. أحدهم زوبعة) وعن قتادة ذكر لنا أنهم صرفوا إليه من نينوى. وروي في الحديث: «أنّ الجنّ ثلاثة أصناف صنف لهم أجنحة يطيرون في الهواء وصنف حيات وكلاب وصنف يحلون ويظعنون». واختلفت الروايات هل كان عبد الله بن مسعود مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجنّ أولا؟ وروى عن أنس قال «كنت عند النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو بظاهر المدينة. إذ أقبل شيخ يتوكأ على عكازة فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنها لمشية جني. ثم أتى فسلم على النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم إنها لنغمة جنيّ فقال الشّيخ: أجل يا رسول الله. فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم من أيّ الجنّ أنت؟».