فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في السورة الكريمة:

قال عليه الرحمة:
سورة الأحقاف:
قوله جل ذكره: (بسم الله الرحمن الرحيم).
(بسم الله) كلمة للقولب سالبة. للعقول غالبة. للمطيعين واهبة. للعارفين ناهية. فالذين يهبهم فلهم لطفه. والذين ينهبهم فمن محقه فهو عنه خلفه.
قوله جلّ ذكره: {حم تَنزِيلُ الكِتَابِ مِنَ اللَّهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ}.
حَمَيْتُ قلوبَ أهلِ عنايتي فَصَرَفْتُ عنها خواطرَ التجويز. وَثَبَّتُها في مشاهدِ اليقينِ بنور التحقيق؛ فلاحت فيها شواهدُ البرهان. فأضَفْنا إليها لطائفَ الإحسان؛ فكَمُلَ منالُها من عين الوصلة. وغذيناهم بنسيم الإنس في ساحات القربة.
{الْعَزِيزِ}: المُعزِّ للمؤمنين بإنزال الكتاب عليهم.
{الْحَكِيم}. المُحْكِم لكتابِه عن التبديل والتحويل.
قوله جلّ ذكره: {مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إلًا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُواْ عَمَّا أُنذِرُواْ مُعْرِضُونَ}.
الكافرون مُعْرِضُون عن موضع الإنذار. مقيمون على حَدِّ الإصرار.
قوله جلّ ذكره: {قُلْ أَرَءَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِى مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ في السَّمَوَاتِ ائْتُونِى بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أو أثارة مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}.
أروني.. أي أثر فيهم في الملك. أو القدرة على النفع والضر؟ إن كانت لكم حُجَّةٌ فأَظْهِرُوها. أودلالة فَبَيِّنوها.. وإذا قد عَجَزْتُم عن ذلك فهلاَّ رجعتم عن غيْكم وأقلعتم؟
قوله جلّ ذكره: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُواْ مِن دُونِ اللّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ}.
مَنْ أشدُّ ضلالًا مِمَّنْ عَبَدَ الجمادَ الذي ليس له حياة ولا له في النفع أو الضر إثبات؟.
قوله جلّ ذكره: {وَإذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ}.
إذا حُشِرَ الناسُ للحساب وقعت العداوةُ بين الأصنام وعابديها.
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آياتنَا بَيِّنَاتٍ قال الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)}.
رموا رُسُلَنا بالسِّحر ثم بالافتراء والمكر.. قُلْ- يا محمد- كفى بالله بيني وبينكم شهيدًا؛ أنتم أشركتم به. وأنا أخلصت له توحيدًا. وما كنت بدعًا من الرسل؛ فلستُ بأول رسول أُرْسِل. ولا بغيرما جاءوا به من أصو ل التوحيد جئتُ. إنما أمرتكم بالإخلاص في التوحيد. والصدقِ في العبودية. والدعاءِ إلى محاسن الأخلاق.
قوله جلّ ذكره: {وَمَا أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِى ولا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَىِّ وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ}.
وهذا قبل أن نزل قوله تعالى: {لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تأَخَّرَ} [الفتح: 2].
وفي الآية دليلٌ على فساد قول أهل القَدَرِ والبدِعِ حيث قالوا: (إيلامُ البريء قبيحٌ في العقل). لأنه لو لم يَجُزْ ذلك لكان يقول: أَعْلَمُ- قطعًا- أني رسول الله. وأني معصومٌ فلا محالةَ يغفر لي. ولكنه قال: وما أدري ما يُفْعَلُ بي ولا بكم؛ لِيُعْلَمَ أن الأمرَ أمرُه. والحكمَ حكمُه. و له أن يفعلَ بعباده ما يريد.
قوله جلّ ذكره: {قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِى إِسْرَاءِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَئَامَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}.
تبيَّنَ له أنه لا عُذْرَ لهم بحال. ولا أمانَ لهم من عقوبةِ الله. وما يستروحون إليه من حُجَجِهم عند انفسهم كلُّها- في التحقيق- باطلٌ.
وأخبر أن الكفار قالوا: لوكان هذا الذي يقوله من الحشر والنشر حقًّ لم تتقاصر رتبتُنا عند الله عن رتبة أحدٍ. و لتَقَدَّمنا- في الاستحقاق- على الكُلِّ. ولما لم يجدوا لهذا القول دليلًا صرَّحوا:
{فَسَيَقولونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ}.
و لقد بَعَثَ اللَّهُ أنبياءَه- عليهم السلام- وأنزل عليهم الكتب. وبيَّنَ في كلِّ كتابٍ. وعل لسانِ كلَِّ رسول بأنه يبعث محمدًا رسو لا. ولكن القومَ الذين في عصر نبيِّنا- صلى الله عليه وسلم- كتموه. وحسدوه.
{إِنَّ الَّذِينَ قالوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُونَ (13)}.
مضى تفسيرُ الاستقامة. وإنَّ مِنْ خرج على الآيمان والاستقامة حَظِيَ بكلِّ كرامة. ووصل إلى جزيل السلامة.
وقيل: السين في (الاستقامة) سين الطَّلَب؛ وإن المستقيم هو الذي يبتهل إلى الله تعالى في أن يُقيمَه على الحق. ويُثَبِّتُه على الصدق.
قوله جلّ ذكره: {ووصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا ووضعتهُ كُرْهًا}.
أَمَرَ الإنسان برعاية حقِّ والديه على الاحترام. لما لهما عليه من حق التربية والأنعام. وإذا لم يُحْسِنْ الإنسان حُرْمةَ مَنْ هو من جنسه فهو عن حُسْنِ مراعاة سِّده أبعد. ولولم يكن في هذا الباب إلا قوله- صلى الله عليه سلم: «رضا الرب من رضا الوالدين وسخطه في سخطهما» لكان ذلك كافيًا. ورعايةُ حق الوالد من حيث الاحترام. ورعاية حق الأم من حيث الشفقة والإكرام. ووعدَ الوالدين قبو ل الطاعة بقوله جلَّ ذكره:
{أُؤلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِئَّاتِهِم في أَصْحَبِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الذي كَانُواْ يُوْعَدُونَ}.
فقبو ل الطاعةِ وغفران الزَّلَّة مشروطان ببرِّ الوالدين. وقد ذمَّ اللَّهُ- سبحانه- الذي يتصف في حقهما بالتأفُّفِ. وفي ذلك تنبيهٌ على ما وراء ذلك من أي تعنُّف. وعلى أنَّ الذي يَسْلكُ ذلك يكونُ من أهل الخسران. وبالتالي يكون ناقصَ الآيمان.
وسبيلُ العبدِ في رعاية حق الوالدين أن يُصْلِح ما بينه وبين الله. فحينئذٍ يَصْلُحُ ما بينه وبين غيره- على العموم. وأهله- على الخصوص.
وشَرُّ خصَال الولد في رعاية حق والديه أَنْ يتبَرَّم بطو ل حياتهما. ويتأذَّى بما يحفظ من حقهما. وعن قريب يموت الأصلُ ويبقى النسلُ. ولا بدَّ من أن يتبع النسلُ الأصلَ. وقد قالوا في هذا المعنى:
رويدك إن الدهرَ فيه كفايةٌ ** لتفريق ذات البيْنِ فانتظر الدهرا

{وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)}.
سبيلُ العبد ألا ينسى في كل حالٍ معبودَه. وأَنْ يتذكرَ أنه معه في همِّه وسروره. وفي مناجاته عند رخائه وبلائه. فإن اتفق أَنْ حَصَلَ له أَنْسٌ. وغَلَبَ عليه رجاءٌ وبسطٌ ثم هجم على قلبه قَبْضٌ أو مسّهُ خوف.. فليخاطبْ ربَّه حتى لا يكونَ من جملة مَنْ قيل له: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّببَاتُكُمْ في حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا}.
{وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21)}.
أخبر بالشرحِ عن قصة هود وقومه عاد وما جرى بينهم من الخطاب. وتوجّه عليهم من العتاب. وأَخْذِهم بأليم العذاب.
قوله جلّ ذكره: {ولقد مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ}.
فلم يُغْنِ عنهم ما آتيناهم.. وانظروا كيف أهلكناهم.
{وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ القرآن فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ ولوا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29)}.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مبعوثًا إلى الجنِّ كما كان مبعوثًا إلى الإنس. وإن قومًا أتوه ليلة الجن وآمنوا به. ورجعوا إلى قومهم فأخبروهم. وامن قومٌ منهم. فاليومَ في الجن مؤمنون. وفيهم كافرون.
{فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالواْ أَنصِتُواْ} الصيحةُ على الباب وفوق البساط غيبةٌ؛ و لهذا لما حضر الجنُّ بساطَ خدمته- صلى الله عليه وسلم- تواصوا فيما بينهم بحفظ الأدب. وقالوا لما حضروا بساطَه: {أَنصِتُواْ}. فأهلُ الحضور صفتُهم الذبو ل والسكونُ. والهيبة والوقار. والثورانُ أو الأنزعاجُ يدل على غيبة أوقِلّةِ تيقُّظِ أونقصان اطلاع.
{فَلَمَّا قَضَى} يعني الوحي {ولواْ إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ} وأخبروهم بما رأوه وسمعوه.
{يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمنوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31)}.
يقال الإجابة على ضربين: إجابةٌ لله. وإجابة للداعي؛ فإجابة الداعي بشهود الوساطة- وهو الرسول صلى الله عليه وسلم-. وإجابةُ الله بالجهْرِ إذا بَلَغَتْهُ الرسالةُ على لسان السفير. وبالسِّرِّ إذا حصلت التعريفاتُ من الواردات على القلب؛ فمستجيبٌ بنفسه ومستجيبٌ بقلبه ومستجيبٌ بروحه ومستجيبٌ بسرِّه. ومن توقف عن دعاء الداعي إيِّاه. ولم يبادرْ بالاستجابة هُجِرَ فيما كان يُخَاطب به.
{أَولم يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ولم يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قالوا بَلَى وَرَبِّنَا قال فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أولو العزم مِنَ الرُّسُلِ ولا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)}.
الرؤيةُ هنا بمعنى العلم.
{ولم يَعْىَ} أي ولم يعجز ولم يَضْعفُ.
قوله جلّ ذكره: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى النَّارِ}.
ثم يقال لهم على سبيل تأكيد إلزام الحجة:
قوله جلّ ذكره: {أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قالواْ بَلَى وَرَبِّنَا قال فَذُوقُواْ الْعَذَابَ}.
جزاءً لكم على كُفْركم.
قوله جل ذكره: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولواْ الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ}.
أولوالجد والصبر والحزم. وجاء في التفسير أنهم: نوح. وإبراهيم. وموسى. وعيسى. ومحمد صلى الله عليه سلم. وقيل: هود وصالح وشعيب ومحمد عليهم السلام. وقيل: منهم يعقوب وأيوب ويونس.
والصبرُ هو الوقوفُ لحُكْمِ الله. والثباتُ من غير بثٍ ولا استكراهٍ.
قوله جلّ ذكره: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُواْ إلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارِ}.
ويقال مُدّةُ الخلْقِ: من مبتدأ وقتهم إلى مُنتَهى اجالهم بالإضافة إلى الأزليّة كلحظةٍ بل هي أقلُّ؛ إذ الأزلُ لا ابتداء له ولا انتهاء.. وأي خَطَرٍ لما حصل في لحظةٍ خيرًا كان أوشَرًَّا؟!. اهـ.

.من فوائد الجصاص في السورة الكريمة:

قال رحمه الله:
قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا}.
رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ أَمَرَ بِرَجْمِ امْرَأَةٍ قَدْ و لدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ. فَقال لَهُ عَلِيٌّ: قال اللَّهُ تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} وَقال: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} وَرُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ سَأَلَ النَّاسَ عَنْ ذَلِكَ. فَقال لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ مِثْلَ ذَلِكَ. وَأَنَّ عُثْمَانَ رَجَعَ إلَى قول عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ.
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ كُلَّ مَا زَادَ فِي الْحَمْلِ نَقَصَ مِنْ الرَّضَاعِ. فَإِذَا كَانَ الْحَمْلُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ فَالرَّضَاعُ وَاحِدٌ وَعِشْرُونَ شَهْرًا. وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ جَمِيعُ ذَلِكَ.
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الرَّضَاعَ حولأن فِي جَمِيعِ النَّاسِ. ولم يُفَرِّقُوا بَيْنَ مَنْ زَادَ حَمْلُهُ أَونَقَصَ وهو مُخَالِفٌ لِلْقول الأول وَقال مُجَاهِدٌ فِي قوله: {وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ}: مَا نَقَصَ عَنْ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ أَوزَادَ عَلَيْهَا.
قوله تعالى: {حَتَّى إذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ} رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ: (أَشُدُّهُ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً) وَقال الشَّعْبِيُّ: (هوبُلُوغُ الْحُلُمِ) وَقال الْحَسَنُ: (أَشُدُّهُ قِيَامُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ).
وقوله تعالى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: قال عُمَرُ: فَقُلْت يَا رسول اللَّهِ اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يُوَسِّعَ عَلَى أُمَّتِك فَقَدْ وَسَّعَ عَلَى فَارِسَ وَالرُّومِ وَهُمْ لَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ فَاسْتَوَى جَالِسًا وَقال: «أَفِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟ أولئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا».
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قال: حَدَّثَنَا الجرجاني قال: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ فِي قوله: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا}.
قال: إنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قال: (لَو شِئْت أَنْ أُذْهِبَ طَيِّبَاتِي فِي حَيَاتِي لَأَمَرْت بِجَدْيٍ سَمِينٍ يُطْبَخُ بِاللَّبَنِ) وَقال مَعْمَرٌ: قال قَتَادَةُ: قال عُمَرُ: (لَو شِئْت أَنْ أَكُونَ أَطْيَبَكُمْ طَعَامًا وَأَلْيَنَكُمْ ثِيَابًا لَفَعَلْت. ولكني أَسْتَبْقِي طَيِّبَاتِي) وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قال: قَدِمَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ. فَقَرَّبَ إلَيْهِمْ طَعَامَهُ. فَرَاهُمْ كَأَنَّهُمْ يَتَعَذَّرُونَ فِي الْأَكْلِ. فَقال: (يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ لَو شِئْت أَنْ يُدَهْمَقَ لِي كَمَا يُدَهْمَقُ لَكُمْ لَفَعَلْت. ولكن نَسْتَبْقِي مِنْ دُنْيَانَا لَاخِرَتِنَا. أَمَا سَمِعْتُمْ اللَّهَ يَقول: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا}) قال أبو بكر: هَذَا محمول عَلَى أَنَّهُ رَأَى ذَلِكَ أَفْضَلَ لَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ؛ لأن اللَّهَ قَدْ أَبَاحَ ذَلِكَ. فَلَا يَكُونُ اكِلُهُ فَاعِلًا مَحْظُورًا. قال اللَّهُ تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ}. اهـ.

.من فوائد ابن العربي في السورة الكريمة:

قال رحمه الله:
سورة الْأَحْقَافِ:
فِيهَا ثَلَاثُ آيات:
الآية الأولى قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنْ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أو أثارة مِنْ عِلْمٍ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
المسألة الأولى فِي مَسَاقِ الآية:
وَهِيَ أَشْرَفُ آية فِي القرآن فَإِنَّهَا اسْتَوْفَتْ أَدِلَّةَ الشَّرْعِ عَقْلِيَّهَا وَسَمْعِيَّهَا لِقوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنْ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ} فَهَذِهِ بَيَانٌ لِأَدِلَّةِ الْعَقْلِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالتَّوْحِيدِ. وَحُدُوثِ الْعَالَمِ. وَانْفِرَادِ الْبَارِّي سُبْحَانَهُ بِالْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ وَالْوُجُودِ وَالْخَلْقِ. ثُمَّ قال: {ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا} عَلَى مَا تَقولونَ. وَهَذِهِ بَيَانٌ لِأَدِلَّةِ السَّمْعِ فَإِنَّ مُدْرِكَ الْحَقِّ إنَّمَا يَكُونُ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ أو بدليلِ الشَّرْعِ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ مَرَاتِبِ الْأَدِلَّةِ فِي كُتُبِ الْأُصُو ل. ثُمَّ قال: {أو أثارة مِنْ عِلْمٍ} يَعْنِي أو علْمٍ يُؤْثَرُ. أو يرْوَى وَيُنْقَلُ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَكْتُوبًا؛ فَإِنَّ الْمَنْقول عَنْ الْحِفْظِ مِثْلُ الْمَنْقول عَنْ الْكُتُبِ.
المسألة الثَّانِيَةُ:
قال قَوْمٌ: إنَّ قوله: {أو أثارة مِنْ عِلْمٍ} يَعْنِي بِذَلِكَ عِلْمَ الْخَطِّ. وهو الضَّرْبُ فِي التُّرَابِ لِمَعْرِفَةِ الْكَوَائِنِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَوفِيمَا مَضَى مِمَّا غَابَ عَنْ الضَّارِبِ. وَأَسْنَدُوا ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ولم يَصِحَّ.
وَفِي مَشْهورِ الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «كَانَ نَبِيٌّ مِنْ الأنبِيَاءِ يَخُطُّ. فَمَنْ وَافَقَ خَطَّهُ فَذَلِكَ» ولم يَصِحَّ أَيْضًا.
وَاخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِهِ. فَمِنْهُمْ مَنْ قال: إنَّهُ جَاءَ لِإِبَاحَةِ الضَّرْبِ بِهِ؛ لأن بَعْضَ الأنبِيَاءِ كَانَ يَفْعَلُهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ قال: جَاءَ لِلنَّهْيِ عَنْهُ؛ لأن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «فَمَنْ وَافَقَ خَطَّهُ فَذَلِكَ».
و لا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَةِ طَرِيقِ النَّبِيِّ الْمُتَقَدِّمِ فِيهِ فَإِذًا لَا سَبِيلَ إلَى الْعَمَلِ بِهِ: لَعَمْرُك مَا تَدْرِي الضَّوَارِبُ بِالْحَصَى ولا زَاجِرَاتُ الطَّيْرِ مَا اللَّهُ صَانِعٌ وَحَقِيقَتُهُ عِنْدَ أَرْبَابِهِ تَرْجِعُ إلَى صُوَرِ الْكَوَاكِبِ. فَيَدُلُّ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا عَلَى مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ تِلْكَ الْكَوَاكِبِ مِنْ سَعْدٍ أَونَحْسٍ يَحِلُّ بِهِمْ. فَصَارَ ظَنًّا مَبْنِيًّا عَلَى ظَنٍّ. وَتَعَلَّقَا بِأَمْرٍ غَائِبٍ قَدْ دَرَسَتْ طَرِيقُهُ. وَفَاتَ تَحْقِيقُهُ. وَقَدْ نَهَتْ الشَّرِيعَةُ عَنْهُ. وَأَخْبَرَتْ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا اخْتَصَّ اللَّهُ بِهِ. وَقَطَعَهُ عَنْ الْخَلْقِ. وَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ أَسْبَابٌ يَتَعَلَّقُونَ بِهَا فِي دَرْكِ الْغَيْبِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تعالى قَدْ رَفَعَ تِلْكَ الْأَسْبَابَ. وَطَمَسَ تِلْكَ الْأَبْوَابَ. وَأَفْرَدَ نَفْسَهُ بِعِلْمِ الْغَيْبِ؛ فَلَا يَجُوزُ مُزَاحَمَتُهُ فِي ذَلِكَ. ولا تَحِلُّ لِأَحَدٍ دَعْوَاهُ. وَطَلَبُهُ عَنَاءً لو لم يَكُنْ فِيهِ نَهْيٌ. فَإِذْ قَدْ وَرَدَ النَّهْيُ فَطَلَبُهُ مَعْصِيَةٌ أَوكُفْرٌ بِحَسَبِ قَصْدِ الطَّالِبِ.
المسألة الثَّالِثَةُ:
إنَّ اللَّهَ تعالى لَمْ يُبْقِ مِنْ الْأَسْبَابِ الدَّالَّةِ عَلَى الْغَيْبِ الَّتِي أَذِنَ فِي التَّعَلُّقِ بِهَا وَالِاسْتِدْلَالِ مِنْهَا إلَّا الرُّؤْيَا. فَإِنَّهُ أَذِنَ فِيهَا وَأَخْبَرَ أَنَّهَا جُزْءٌ مِنْ النُّبُوَّةِ. وَكَذَلِكَ الْفَأْلُ.
فَأَمَّا الطِّيَرَةُ وَالزَّجْرُ فَإِنَّهُ نَهَى عَنْهُمَا.
وَالْفَأْلُ هو الاسْتِدْلَال بِمَا يَسْتَمِعُ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى مَا يُرِيدُ مِنْ الْأَمْرِ إذَا كَانَ حَسَنًا. فَإِنْ سَمِعَ مَكْرُوهًا فهو تَطَيُّرٌ. وَأَمَرَ الشَّرْعُ بِأَنْ يَفْرَحَ بِالْفَأْلِ. وَيَمْضِيَ عَلَى أَمْرِهِ مَسْرُورًا بِهِ.
فَإِذَا سَمِعَ الْمَكْرُوهَ أَعْرَضَ عَنْهُ ولم يَرْجِعْ لِأَجْلِهِ. وَقال كَمَا عَلَّمَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ لَا طَيْرَ إلَّا طَيْرُك. ولا خَيْرَ إلَّا خَيْرُك. ولا إلَهَ غَيْرُك».
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْأُدَبَاءِ: الْفَأْلُ وَالزَّجْرُ وَالْكُهَّانُ كُلُّهُمْ مُضَلِّلُونَ وَدُونَ الْغَيْبِ أَقْفَالٌ وَهَذَا كَلَامٌ صَحِيحٌ إلَّا فِي الْفَأْلِ. فَإِنَّ الشَّرْعَ اسْتِثْنَاءٌ. وَأَمَرَ بِهِ. فَلَا يُقْبَلُ مِنْ هَذَا الشَّاعِرِ مَا نَظَمَهُ فِيهِ. فَإِنَّهُ تَكَلَّمَ بِجَهْلٍ؛ وَصَاحِبُ الشَّرْعِ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.
الآية الثَّانِيَةُ قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا}:
رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً تَزَوَّجَتْ فَو لدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ زُوِّجَتْ. فَأَتَى بِهَا عُثْمَانَ. فَأَرَادَ أَنْ يَرْجُمَهَا. فَقال ابْنُ عَبَّاسٍ لِعُثْمَانَ: إنَّهَا إنْ تُخَاصِمْكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ تَخْصِمْكُمْ؛ قال اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا}.
وَقال: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أولادَهُنَّ حوليْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} فَالْحَمْلُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ. وَالْفِصَالُ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ شَهْرًا؛ فَخَلَّى سَبِيلَهَا.
فِي رِوَايَةٍ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قال لَهُ ذَلِكَ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وهو اسْتِنْبَاطٌ بَدِيعٌ.
الآية الثَّالِثَةُ قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
المسألة الأولى:
لَا خِلَافَ أَنَّ هَذِهِ الآية فِي الْكُفَّارِ بِنَصِّ القرآن. لِقوله فِي أولهَا: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ}. أَيْ فَيُقال لَهُمْ: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا. يُرِيدُ أَفْنَيْتُمُوهَا فِي الْكُفْرِ بِاَللَّهِ وَمَعْصِيَتِهِ. وَإِنَّ اللَّهَ أَحَلَّ الطَّيِّبَاتِ مِنْ الْحَلَالِ وَاللَّذَّاتِ. وَأَمَرَ بِاسْتِعْمَالِهَا فِي الطَّاعَاتِ. فَصَرَفَهَا الْكُفَّارُ إلَى الْكُفْرِ فَأو عدَهُمْ اللَّهُ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْهُمْ. وَقَدْ يَسْتَعْمِلُهَا الْمُؤْمِنُ فِي الْمَعَاصِي. يَدْخُلُ فِي وَعِيدٍ آخر وَتَنَالُهُ آية أُخْرَى بِرَجَاءِ الْمَغْفِرَةِ. وَيَرْجِعُ أَمْرُهُ إلَى الْمَشِيئَةِ. فَيُنَفِّذُ اللَّهُ فِيهِ مَا عَلِمَهُ مِنْهُ وَكَتَبَهُ لَهُ.
المسألة الثَّانِيَةُ:
رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لَقَى جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ. وَقَدْ ابْتَاعَ لَحْمًا بِدِرْهَمٍ. فَقال لَهُ: أَمَا سَمِعْت اللَّهَ تعالى يَقول: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} وَهَذَا عِتَابٌ مِنْهُ لَهُ عَلَى التَّوَسُّعِ بِابْتِيَاعِ اللَّحْمِ وَالْخُرُوجِ عَنْ جِلْفِ الْخُبْزِ وَالْمَاءِ؛ فَإِنَّ تَعَاطِي الطَّيِّبَاتِ مِنْ الْحَلَالِ تَسْتَشْرِي لَهَا الطِّبَاعُ. وَتَسْتَمِرُّ عَلَيْهَا الْعَادَةُ. فَإِذَا فَقَدْتهَا اسْتَسْهَلْت فِي تَحْصِيلِهَا بِالشُّبُهَاتِ. وَحَتَّى تَقَعَ فِي الْحَرَامِ الْمَحْضِ بِغَلَبَةِ الْعَادَةِ. وَاسْتَشْرَاهِ الْهوى عَلَى النَّفْسِ الْأَمَارَةِ بِالسُّوءِ. فَأَخَذَ عُمَرُ الْأَمْرَ مِنْ أولهِ. وَحَمَاهُ مِنْ ابْتِدَائِهِ كَمَا يَفْعَلُهُ مِثْلُهُ.
وَاَلَّذِي يَضْبِطُ هَذَا الْبَابَ وَيَحْفَظُ قَانُونَهُ: عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَأْكُلَ مَا وَجَدَ طَيِّبًا كَانَ أَوقَفَارًا. ولا يَتَكَلَّفُ الطَّيِّبَ. وَيَتَّخِذَهُ عَادَةً؛ وَقَدْ كَانَ صلى الله عليه وسلم يَشْبَعُ إذَا وَجَدَ. وَيَصْبِرُ إذَا عَدِمَ. وَيَأْكُلُ الْحَلْوَى إذَا قَدَرَ عَلَيْهَا. وَيَشْرَبُ الْعَسَلَ إذَا اتَّفَقَ لَهُ. وَيَأْكُلُ اللَّحْمَ إذَا تَيَسَّرَ. ولا يَعْتَمِدُهُ أَصْلًا. ولا يَجْعَلُهُ دَيْدَنًا. وَمَعِيشَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَعْلُومَةٌ. وَطَرِيقَةُ أَصْحَابِهِ بَعْدُ مَنْقولةٌ؛ فَأَمَّا الْيَوْمَ عِنْدَ اسْتِيلَاءِ الْحَرَامِ. وَفَسَادِ الْحُطَامِ. فَالْخَلَاصُ عَسِيرٌ. وَاَللَّهُ يَهَبُ الْإِخْلَاصَ. وَيُعِينُ عَلَى الْخَلَاصِ بِرَحْمَتِهِ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَدِمَ عَلَيْهِ نَاسٌ مِنْ الْعِرَاقِ فَرَأَى الْقَوْمُ كَأَنَّهُمْ يَتَقَزَّزُونَ فِي الْأَكْلِ. فَقال: مَا هَذَا يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ؟ ولو شئت أَنْ يُدَهْمَقُ لِي كَمَا يُدَهْمَقُ لَكُمْ. ولكنا نَسْتَبْقِي مِنْ دُنْيَانَا مَا نَجِدُهُ فِي اخِرَتِنَا.
أَلَمِ تَسْمَعُوا أَنَّ اللَّهَ تعالى ذَكَرَ قَوْمًا فَقال: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا}. اهـ.

.من فوائد ابن تيمية في السورة الكريمة:

سورة الْأَحْقَافِ:
سَأَلَ رَجُلٌ آخر:
عَنْ قوله تعالى: {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إمَامًا وَرَحْمَةً} فَقال: مَا سَمِعْنَا بِنَصِّ القرآن وَالْحَدِيثِ أَنَّ مَا قَبْلَ كِتَابِنَا إلَّا الأنجِيلَ فَقال الآخر: عِيسَى إنَّمَا كَانَ تَبَعًا لِمُوسَى وَالأنجِيلُ إنَّمَا فِيهِ تَوَسُّعٌ فِي الْأَحْكَامِ تَيْسِيرٌ مِمَّا فِي التَّوْرَاةِ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ رَجُلٌ وَقال: كَانَ لِعِيسَى شَرْعٌ غَيْرُ شَرْعِ مُوسَى وَاحْتَجَّ بِقوله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} قال: فَمَا الْحُكْمُ فِي قوله: {وَإِذْ قال عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إسْرَائِيلَ إنِّي رسول اللَّهِ إلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ}؟ فَقال: لَيْسَتْ هَذِهِ حُجَّةً.
فَأَجَابَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ:
قَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ فِي القرآن أَنَّ عِيسَى قال لَهُمْ: {ولأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} فَعُلِمَ أَنَّهُ أَحَلَّ الْبَعْضَ دُونَ الْجَمِيعِ وَأَخْبَرَ عَنْ الْمَسِيحِ أَنَّهُ عَلَّمَهُ التَّوْرَاةَ وَالأنجِيلَ بِقوله: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالأنجِيلَ} وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لولا أَنَّهُ مُتَّبِعٌ لِبَعْضِ مَا فِي التَّوْرَاةِ لَمْ يَكُنْ تَعَلُّمُهَا لَهُ مِنَّةً أَلَا تَرَى أَنَّا نَحْنُ لَمْ نُؤْمَرْ بِحِفْظِ التَّوْرَاةِ وَالأنجِيلِ وَإِنْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ شَرَائِعِ الْكِتَابَيْنِ يُوَافِقُ شَرِيعَةَ القرآن فَهَذَا وَغَيْرُهُ يُبَيِّنُ مَا ذَكَرَهُ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَنَّ الأنجِيلَ لَيْسَ فِيهِ إلَّا أَحْكَامٌ قَلِيلَةٌ وَأَكْثَرُ الْأَحْكَامِ يَتْبَعُ فِيهَا مَا فِي التَّوْرَاةِ؛ وَبِهَذَا يَحْصُلُ التَّغَايُرُ بَيْنَ الشرعتين.
و لهَذَا كَانَ النَّصَارَى مُتَّفِقِينَ عَلَى حِفْظِ التَّوْرَاةِ وَتِلَاوَتِهَا كَمَا يَحْفَظُونَ الأنجِيلَ؛ و لهَذَا لَمَّا سَمِعَ النَّجَاشِيُّ القرآن قال: إنَّ هَذَا وَاَلَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى لَيَخْرُجُ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ وَكَذَلِكَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ قال لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم- لَمَّا ذَكَرَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَا يَأْتِيهِ قال هَذَا هو النَّامُوسُ الَّذِي كَانَ يَأْتِي مُوسَى.
وَكَذَلِكَ قالتْ الْجِنُّ: {إنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} وَقال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قالوا لولا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَولم يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} قالوا سَاحِرَانِ تَظَاهَرَا أَيْ مُوسَى وَمُحَمَّدٌ وَفِي القراءة الآخرى: {سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} أَيْ التَّوْرَاةُ وَالقرآن. وَكَذَلِكَ قال: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إذْ قالوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ} إلَى قوله: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} فَهَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ مِمَّا فِيهِ اقْتِرَانُ التَّوْرَاةِ بِالقرآن وَتَخْصِيصُهَا بِالذِّكْرِ يُبَيِّنُ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ أَنَّ التَّوْرَاةَ هِيَ الْأَصْلُ وَالأنجِيلَ تَبَعٌ لَهَا فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ وَإِنْ كَانَ مُغَايِرًا لِبَعْضِهَا. فَلِهَذَا يَذْكُرُ الأنجِيلَ مَعَ التَّوْرَاةِ وَالقرآن فِي مِثْلِ قوله: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالأنجِيلَ} {مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} وَقال: {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالأنجِيلِ وَالقرآن} فَيَذْكُرُ الثَّلَاثَةَ تَارَةً وَيَذْكُرُ القرآن مَعَ التَّوْرَاةِ وَحْدَهَا تَارَةً لِسِرِّ: وهو أَنَّ الأنجِيلَ مِنْ وَجْهٍ أَصْلٌ وَمِنْ وَجْهٍ تَبَعٌ؛ بِخِلَافِ القرآن مَعَ التَّوْرَاةِ فَإِنَّهُ أَصْلٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بَلْ هو مُهَيْمِنٌ عَلَى مَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَإِنْ كَانَ مُوَافِقًا لِلتَّوْرَاةِ فِي أُصُو ل الدِّينِ وَكُتُبِهِ مِنْ الشَّرَائِعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ.