فصل: قال سيد قطب في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال سيد قطب في الآيات السابقة:

{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)} إلى قوله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)}.
أول ما يواجهنا في هذا الدرس هو ذلك التعبير الخاص عن الرسل:
{تلك الرسل}.
لم يقل: هؤلاء الرسل. إنما استهل الحديث عنهم بهذا التعبير الخاص، الذي يشتمل على إيحاء قوي واضح. يحسن أن نقول عنه كلمة قبل المضي في مواجهة نصوص الدرس كله.
{تلك الرسل}.
إنهم جماعة خاصة. ذات طبيعة خاصة. وإن كانوا بشرًا من البشر.. فمن هم؟ ما الرسالة؟ ما طبيعتها؟ كيف تتم؟ لماذا كان هؤلاء وحدهم رسلًا؟ وبماذا؟
أسئلة طالما أشفقت أن أبحث لها عن جواب! إن حسي ليفعم بمشاعر ومعان لا أجد لها كفاء من العبارات! ولكن لابد من تقريب المشاعر والمعاني بالعبارات!
إن لهذا الوجود الذي نعيش فيه، والذي نحن قطعة منه؛ سننًا أصيلة يقوم عليها. هذه السنن هي القوانين الكونية التي أودعها الله هذا الكون ليسير على وفقها، ويتحرك بموجبها، ويعمل بمقتضاها.
والإنسان يكشف عن أطراف من هذه القوانين كلما ارتقى في سلم المعرفة. يكشف عنها- أو يكشف له عنها- بمقدار يناسب إدراكه المحدود، المعطى له بالقدر الذي يلزم لنهوضه بمهمة الخلافة في الأرض، في أمد محدود.
ويعتمد الإنسان في معرفة هذه الأطراف من القوانين الكونية على وسيلتين أساسيتين- بالقياس إليه- هما الملاحظة والتجربة. وهما وسيلتان جزئيتان في طبيعتهما، وغير نهائيتين ولا مطلقتين في نتائجهما. ولكنهما تقودان أحيانا إلى أطراف من القوانين الكلية في آماد متطاولة من الزمان.. ثم يظل هذا الكشف جزئيًا غير نهائي ولا مطلق؛ لأن سر التناسق بين تلك القوانين كلها. سر الناموس الذي ينسق بين القوانين جميعها. هذا السر يظل خافيًا، لا تهتدي إليه الملاحظة الجزئية النسبية، مهما طالت الآماد.. إن الزمن ليس هو العنصر النهائي في هذا المجال. إنما هو الحد المقدور للإنسان ذاته، بحكم تكوينه، وبحكم دوره في الوجود. وهو دور جزئي ونسبي. ثم تجيء كذلك نسبية الزمن الممنوح للجنس البشري كله على وجه الأرض وهو بدوره جزئي ومحدود.. ومن ثم تبقى جميع وسائل المعرفة، وجميع النتائج التي يصل إليها البشر عن طريق هذه الوسائل، محصورة في تلك الدائرة الجزئية النسبية.
هنا يجيء دور الرسالة. دور الطبيعة الخاصة التي آتاها الله الاستعداد اللدني لتتجاوب في أعماقها- بطريقة ما نزال نجهل طبيعتها وإن كنا ندرك آثارها- مع ذلك الناموس الكلي، الذي يقوم عليه الوجود..
هذه الطبيعة الخاصة هي التي تتلقى الوحي؛ فتطيق تلقيه، لأنها مهيأة لاستقباله.. إنها تتلقى الإشارة الإلهية التي يتلقاها هذا الوجود؛ لأنها متصلة اتصالًا مباشرًا بالناموس الكوني الذي يصرّف هذا الوجود.. كيف تتلقى هذه الإشارة؟ وبأي جهاز تستقبلها؟ نحن في حاجة- لكي نجيب- أن تكون لنا نحن هذه الطبيعة التي يهبها الله للمختارين من عباده! و{الله أعلم حيث يجعل رسالته}. وهي أمر عظيم أعظم من كل ما يخطر على البال من عظائم الأسرار في هذا الوجود.
كل الرسل قد أدركوا حقيقة التوحيد وكلهم بعثوا بها. ذلك أن إيقاع الناموس الواحد في كيانهم كله، هداهم إلى مصدره الواحد الذي لا يتعدد- لا يتعدد وإلا لتعددت النواميس وتعدد إيقاعها الذي يتلقونه- وكان هذا الإدراك في فجر البشرية، قبل أن تنمو المعرفة الخارجية، المبنية على الملاحظة والتجربة، وقبل أن تتكشف بعض القوانين الكونية، التي تشير إلى تلك الوحدة.
وكلهم دعا إلى عبادة الله الواحد.. دعا إلى هذه الحقيقة التي تلقاها وأمر أن يبلغها.. وكان إدراكهم لها هو المنطق الفطري الناشيء من إيقاع الناموس الواحد في الفطرة الواصلة. كما كان نهوضهم لتبليغها هو النتيجة الطبيعية لإيمانهم المطلق بكونها الحقيقة؛ وبكونها صادرة إليهم من الله الواحد، الذي لا يمكن- وفق الإيقاع القوي الصادق الملزم الذي تلقته فطرتهم- أن يتعدد!
وهذا الإلزام الملح الذي تستشعره فطرة الرسل يبدو أحيانًا في كلمات الرسل التي يحكيها عنهم هذا القرآن، أو التي يصفهم بها في بعض الأحيان.
نجده مثلًا في حكاية قول نوح عليه السلام لقومه: {قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ويا قوم لا أسألكم عليه مالًا إن أجري إلا على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقو ربهم ولكني أراكم قومًا تجهلون ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون} ونجده في حكاية قول صالح عليه السلام: {قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته فما تزيدونني غير تخسير} ونجده في سيرة إبراهيم عليه السلام {وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئًا وسع ربي كل شيء علمًا أفلا تتذكرون وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانًا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون} ونجده في قصة شعيب عليه السلام: {قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقًا حسنًا وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب} ونجدها في قول يعقوب عليه السلام لبنيه: {إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون} وهكذا وهكذا نجد في أقوال الرسل وأوصافهم أثر ذلك الإيقاع العميق الملح على فطرتهم، والذي تشي كلماتهم بما يجدونه منه في أعماق الضمير!
ويومًا بعد يوم تكشفت للمعرفة الإنسانية الخارجية ظواهر تشير من بعيد إلى قانون الوحدة في هذا الوجود.
واطلع العلماء من البشر على ظاهرة وحدة التكوين ووحدة الحركة في هذا الكون العريض وتكشف- في حدود ما يملك الإنسان أن يعلم- أن الذرة هي أساس البناء الكوني كله، وأن الذرة طاقة.. فالتقت المادة بالقوة في هذا الكون ممثلة في الذرة. وانتفت الثنائية التي تراءت طويلًا. وإذا المادة- وهي مجموعة من الذرات- هي طاقة حين تتحطم هذه الذرات، فتتحول إلى طاقة من الطاقات!.. وتكشف كذلك- في حدود ما يملك الإنسان أن يعلم- أن الذرة في حركة مستمرة من داخلها. وإنها مؤلفة من إلكترونات- أو كهارب- تدور في فلك حول النواة أو النويات وهي قلب الذرة. وأن هذه الحركة مستمرة ومطردة في كل ذرة. وأن كل ذرة- كما قال فريد الدين العطار- شمس تدور حولها كواكب كشمسنا هذه وكواكبها التي ما تني تدور حولها باستمرار!
وحدة التكوين ووحدة الحركة في هذا الكون هما الظاهرتان اللتان اهتدى اليهما الإنسان.. وهما إشارتان من بعيد إلى قانون الوحدة الشامل الكبير. وقد بلغت اليهما المعرفة البشرية بمقدار ما تطيق الملاحظة والتجربة البشرية أن تبلغ.. أما الطبائع الخاصة الموهوبة، فقد أدركت القانون الشامل الكبير كله في لمحة؛ لأنها تتلقى إيقاعه المباشر، وتطيق وحدها تلقيه.
إنهم لم يجمعوا الشواهد والظواهر على تلك الوحدة عن طريق التجارب العلمية. ولكن لأنهم وهبوا جهاز استقبال كاملًا مباشرًا، استقبلوا إيقاع الناموس الواحد استقبالا داخليًا مباشرًا؛ فأدركوا إدراكًا مباشرًا أن الإيقاع الواحد لابد منبعث عن ناموس واحد، صادر من مصدر واحد. وكان هذا الجهاز اللدني في تلك الطبائع الخاصة الموهوبة أدق وأشمل وأكمل، لأنه أدرك في لمسة واحدة ما وراء وحدة الإيقاع من وحدة المصدر، ووحدة الإرادة والفاعلية في هذا الوجود. فقرر- في إيمان- وحدة الذات الإلهية المصرفة لهذا الوجود.
وما أسوق هذا الكلام لأن العلم الحديث يرى أنه قد أدرك ظاهرة أو ظاهرتين من ظواهر الوحدة الكونية. فالعلم يثبت أو ينفي في ميدانه. وكل ما يصل إليه من الحقائق نسبي جزئي مقيد؛ فهو لا يملك أن يصل أبدًا إلى حقيقة واحدة نهائية مطلقة. فضلًا على أن نظريات العلم قُلَّب، يكذب بعضها بعضًا، ويعدِّل بعضها بعضًا.
وما ذكرت شيئًا عن وحدة التكوين ووحدة الحركة لأقرن اليهما صدق الاستقبال لوحدة الناموس في حس الرسل.. كلا.. إنما قصدت إلى أمر آخر. قصدت إلى تحديد مصدر التلقي المعتمد لتكوين التصور الصادق الكامل الشامل لحقيقة الوجود.
إن الكشف العلمي ربما يكون قد اهتدى إلى بعض الظواهر الكونية المتعلقة بحقيقة الوحدة الكبرى.
هذه الوحدة التي لمست حس الرسل من قبل في محيطها الواسع الشامل المباشر. والتي أدركتها الفطرة اللدنية إدراكًا كاملًا شاملًا مباشرًا. وهذه الفطرة صادقة بذاتها- سواء اهتدت نظريات العلم الحديث إلى بعض الظواهر أو لم تهتد- فنظريات العلم موضع بحث ومراجعة من العلم ذاته. وهي ليست ثابتة أولًا. ثم إنها ليست نهائية ولا مطلقة أخيرًا. فلا تصلح إذن أن تقاس بها صحة الرسالة. فالمقياس لابد أن يكون ثابتًا وأن يكون مطلقًا. ومن هنا تكون الرسالة هي المقياس الثابت المطلق الوحيد.
وينشأ عن هذه الحقيقة حقيقة أخرى ذات أهمية قصوى..
إن هذه الطبائع الخاصة الموصولة بناموس الوجود صلة مباشرة، هي التي تملك أن ترسم للبشرية اتجاهها الشامل. اتجاهها الذي يتسق مع فطرة الكون وقوانينه الثابتة وناموسه المطرد. هي التي تتلقى مباشرة وحي الله. فلا تخطئ ولا تضل، ولا تكذب ولا تكتم. ولا تحجبها عوامل الزمان والمكان عن الحقيقة؛ لأنها تتلقى هذه الحقيقة عن الله، الذي لا زمان عنده ولا مكان.
ولقد شاءت الإرادة العليا أن تبعث بالرسل بين الحين والحين، لتصل البشرية بالحقيقة المطلقة، التي ما كانت ملاحظتهم وتجربتهم لتبلغ إلى طرف منها إلا بعد مئات القرون. وما كانت لتبلغ إليها كلها أبدًا على مدار القرون. وقيمة هذا الاتصال هي استقامة خطاهم مع خطى الكون؛ واستقامة حركاتهم مع حركة الكون؛ واستقامة فطرتهم مع فطرة الكون.
ومن ثم كان هنالك مصدر واحد يتلقى منه البشر التصور الصادق الكامل الشامل لحقيقة الوجود كله ولحقيقة الوجود الإنساني. ولغاية الوجود كله وغاية الوجود الإنساني. ومن هذا التصور يمكن أن ينبثق المنهج الوحيد الصحيح القويم، الذي يتطابق مع حقيقة تصميم الكون وحقيقة حركته، وحقيقة اتجاهه. ويدخل به الناس في السلم كافة. السلم مع هذا الكون، والسلم مع فطرتهم وهي من فطرة هذا الكون، والسلم مع بعضهم البعض في سعيهم ونشاطهم ونموهم ورقيهم المهيأ لهم في هذه الحياة الدنيا.
مصدر واحد هو مصدر الرسالات، وما عداه ضلال وباطل، لأنه لا يتلقى عن ذلك المصدر الوحيد الواصل الموصول.
إن وسائل المعرفة الأخرى المتاحة للإنسان، معطاة له بقدر. ليكشف بها بعض ظواهر الكون وبعض قوانينه وبعض طاقاته. بالقدر اللازم له في النهوض بعبء الخلافة في الأرض، وتنمية الحياة وتطويرها. وقد يصل في هذا المجال إلى آماد بعيدة جدًا. ولكن هذه الآماد لا تبلغ به أبدًا إلى محيط الحقيقة المطلقة التي هو في حاجة إليها ليكيف حياته- لا وفق الأحوال والظروف الطارئة المتجددة فحسب، ولكن وفق القوانين الكونية الثابتة المطردة التي قام عليها الوجود، ووفق الغاية الكبرى للوجود الإنساني كله. هذه الغاية التي يراها خالق الإنسان المتعالي عن ملابسات الزمان والمكان.
ولا يراها الإنسان المحدود المتأثر بملابسات الزمان والمكان.
إن الذي يضع خطة الرحلة للطريق كله، هو الذي يدرك الطريق كله. والإنسان محجوب عن رؤية هذا الطريق. بل هو محجوب عن اللحظة التالية. ودونه ودونها ستر مسبل لا يباح لبشر أن يطلع وراءه! فأنى للإنسان أن يضع الخطة لقطع الطريق المجهول؟!
إنه إما الخبط والضلال والشرود. وإما العودة إلى المنهج المستمد من خالق الوجود. منهج الرسالات. ومنهج الرسل. ومنهج الفطر الموصولة بالوجود وخالق الوجود.
ولقد مضت الرسالات واحدة إثر واحدة، تأخذ بيد البشرية وتمضي بها صعدًا في الطريق على هدى وعلى نور. والبشرية تشرد من هنا وتشرد من هناك؛ وتحيد عن النهج، وتغفل حداء الرائد؛ وتنحرف فترة ريثما يبعث إليها رائد جديد.
وفي كل مرة تتكشف لها الحقيقة الواحدة في صور مترقية؛ تناسب تجاربها المتجددة حتى إذا كانت الرسالة الأخيرة كان عهد الرشد العقلي قد أشرق. فجاءت الرسالة الأخيرة تخاطب العقل البشري بكليات الحقيقة كلها؛ لتتابع البشرية خطواتها في ظل تلك الخطوط النهائية العريضة. وكانت خطوط الحقيقة الكبرى من الوضوح بحيث لا تحتاج بعد إلى رسالة جديدة. ويحسبها المفسرون المجددون على مدار القرون.
وبعد فإما أن تسير البشرية داخل هذا النطاق الشامل الذي يسعها دائمًا، ويسع نشاطها المتجدد المترقي، ويصلها بالحقيقة المطلقة التي لا تصل إليها عن أي طريق آخر. وإما أن تشرد وتضل وتذهب بددًا في التيه! بعيدًا عن معالم الطريق!
{تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد}.
هذه الآية تلخص قصة الرسل والرسالات- كما أنها أفردت جماعة الرسل وميزتها من بين الناس- فهي تقرر أن الله فضل بعض الرسل على بعض؛ وتذكر بعض أمارات التفضيل ومظاهره. ثم تشير إلى اختلاف الذين جاءوا من بعدهم من الأجيال المتعاقبة- من بعد ما جاءتهم البينات- وإلى اقتتالهم بسبب هذا الاختلاف. كما تقرر أن بعضهم آمن وبعضهم كفر. وأن الله قد قدر أن يقع بينهم القتال لدفع الكفر بالإيمان، ودفع الشر بالخير.. وهذه الحقائق الكثيرة التي تشير إليها هذه الآية تمثل قصة الرسالة وتاريخها الطويل.
{تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض}.
والتفضيل هنا قد يتعلق بالمحيط المقدر للرسول. والذي تشمله دعوته ونشاطه. كأن يكون رسول قبيلة، أو رسول أمة، أو رسول جيل. أو رسول الأمم كافة في جميع الأجيال.. كذلك يتعلق بالمزايا التي يوهبها لشخصه أو لأمته.
كما يتعلق بطبيعة الرسالة ذاتها ومدى شمولها لجوانب الحياة الإنسانية والكونية..
وقد ذكر النص هنا مثالين في موسى وعيسى عليهما السلام وأشار إشارة عامة إلى من سواهما: {منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس}.
وحين يذكر تكليم الله لأحد من الرسل ينصرف الذهن إلى موسى عليه السلام ومن ثم لم يذكره باسمه. وذكر عيسى بن مريم عليه السلام وهكذا يرد اسمه منسوبًا إلى أمه في أغلب المواضع القرآنية. والحكمة في هذا واضحة. فقد نزل القرآن وهناك حشد من الأساطير الشائعة حول عيسى عليه السلام وبنوته لله سبحانه وتعالى أو عن ازدواج طبيعته من اللاهوت والناسوت. أو عن تفرده بطبيعة إلهية ذابت فيها الطبيعة الناسوتية كالقطرة في الكأس! إلى آخر هذه التصورات الأسطورية التي غرقت الكنائس والمجامع في الجدل حولها؛ وجرت حولها الدماء أنهارًا في الدولة الرومانية! ومن ثم كان هذا التوكيد الدائم على بشرية عيسى عليه السلام وذكره في معظم المواضع منسوبًا إلى أمه مريم.. أما روح القدس فالقرآن يعني به جبريل عليه السلام فهو حامل الوحي إلى الرسل. وهذا أعظم تأييد وأكبره. وهو الذي ينقل الإشارة الإلهية إلى الرسل بانتدابهم لهذا الدور الفذ العظيم، وهو الذي يثبتهم على المضي في الطريق الشاق الطويل؛ وهو الذي يتنزل عليهم بالسكينة والتثبيت والنصر في مواقع الهول والشدة في ثنايا الطريق.. وهذا كله التأييد أما البينات التي آتاها الله عيسى عليه السلام فتشمل الإنجيل الذي نزله عليه، كما تشمل الخوارق التي أجراها على يديه، والتي ورد ذكرها مفصلة في مواضعها المناسبة من القرآن. تصديقًا لرسالته في مواجهة بني إسرائيل المعاندين!
ولم يذكر النص هنا محمدًا صلى الله عليه وسلم لأن الخطاب موجه إليه. كما جاء في الآية السابقة في السياق: {تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين} {تلك الرسل} إلخ فالسياق سياق إخبار له عن غيره من الرسل.
وحين ننظر إلى مقامات الرسل- صلوات الله وسلامه عليهم- من أية ناحية نجد محمدًا صلى الله عليه وسلم في القمة العليا. وسواء نظرنا إلى الأمر من ناحية شمول الرسالة وكليتها، أو من ناحية محيطها وامتدادها، فإن النتيجة لا تتغير..
إن الإسلام هو أكمل تصور لحقيقة الوحدة- وهي أضخم الحقائق على الإطلاق- وحدة الخالق الذي ليس كمثله شيء. ووحدة الإرادة التي يصدر عنها الوجود كله بكلمة: كن. ووحدة الوجود الصادر عن تلك الإرادة. ووحدة الناموس الذي يحكم هذا الوجود. ووحدة الحياة من الخلية الساذجة إلى الإنسان الناطق.
ووحدة البشرية من آدم عليه السلام إلى آخر أبنائه في الأرض. ووحدة الدين الصادر من الله الواحد إلى البشرية الواحدة. ووحدة جماعة الرسل المبلغة لهذه الدعوة. ووحدة الأمة المؤمنة التي لبت هذه الدعوة. ووحدة النشاط البشري المتجه إلى الله وإعطائه كله اسم العبادة. ووحدة الدنيا والآخرة داري العمل والجزاء. ووحدة المنهج الذي شرعه الله للناس فلا يقبل منهم سواه. ووحدة المصدر الذي يتلقون عنه تصوراتهم كلها ومنهجهم في الحياة.
ومحمد صلى الله عليه وسلم هو الذي أطاقت روحه التجاوب المطلق مع حقيقة الوحدة الكبرى؛ كما أطاق عقله تصور هذه الوحدة وتمثلها؛ كما أطاق كيانه تمثيل هذه الوحدة في حياته الواقعة المعروضة للناس.
كذلك هو الرسول الذي أرسل إلى البشر كافة، من يوم مبعثه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ والذي اعتمدت رسالته على الإدراك الإنساني الواعي دون ضغط حتى من معجزة مادية قاهرة، ليعلن بذلك عهد الرشد الإنساني.
ومن ثم كان هو خاتم الرسل. وكانت رسالته خاتمة الرسالات. ومن ثم انقطع الوحي بعده؛ وارتسمت للبشرية في رسالته تلك الوحدة الكبرى؛ وأعلن المنهج الواسع الشامل الذي يسع نشاط البشرية المقبل في إطاره؛ ولم تعد إلا التفصيلات والتفسيرات التي يستقل بها العقل البشري- في حدود المنهج الرباني- ولا تستدعي رسالة إلهية جديدة.
وقد علم الله سبحانه وهو الذي خلق البشر؛ وهو الذي يعلم ما هم ومن هم؛ ويعلم ما كان من أمرهم وما هو كائن.. قد علم الله سبحانه أن هذه الرسالة الأخيرة، وما ينبثق عنها من منهج للحياة شامل، هي خير ما يكفل للحياة النمو والتجدد والانطلاق. فأيما إنسان زعم لنفسه أنه أعلم من الله بمصلحة عباده؛ أو زعم أن هذا المنهج الرباني لم يعد يصلح للحياة المتجددة النامية في الأرض؛ أو زعم أنه يملك ابتداع منهج أمثل من المنهج الذي أراده الله.. أيما إنسان زعم واحدة من هذه الدعاوى أو زعمها جميعًا فقد كفر كفرًا صراحًا لا مراء فيه؛ وأراد لنفسه وللبشرية شر ما يريده إنسان بنفسه وبالبشرية؛ واختار لنفسه موقف العداء الصريح لله، والعداء الصريح للبشرية التي رحمها الله بهذه الرسالة، وأراد لها الخير بالمنهج الرباني المنبثق منها ليحكم الحياة البشرية إلى آخر الزمان.
وبعد فقد اقتتل أتباع {تلك الرسل}. ولم تغن وحدة جماعة الرسل في طبيعتهم، ووحدة الرسالة التي جاءوا بها كلهم.. لم تغن هذه الوحدة عن اختلاف اتباع الرسل حتى ليقتتلون من خلاف: {ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد}.
إن هذا الاقتتال لم يقع مخالفًا لمشيئة الله. فما يمكن أن يقع في هذا الكون ما يخالف مشيئته سبحانه فمن مشيئته أن يكون هذا الكائن البشري كما هو. بتكوينه هذا واستعداداته للهدى وللضلال. وأن يكون موكولًا إلى نفسه في اختيار طريقه إلى الهدى أو إلى الضلال. ومن ثم فكل ما ينشأ عن هذا التكوين وإفرازاته واتجاهاته داخل في إطار المشيئة؛ وواقع وفق هذه المشيئة.
كذلك فإن اختلاف الاستعدادات بين فرد وفرد من هذا الجنس سنة من سنن الخالق، لتنويع الخلق- مع وحدة الأصل والنشأة- لتقابل هذه الاستعدادات المختلفة وظائف الخلافة المختلفة المتعددة المتنوعة. وما كان الله ليجعل الناس جميعًا نسخًا مكررة كأنما طبعت على ورق الكربون على حين أن الوظائف اللازمة للخلافة في الأرض وتنمية الحياة وتطويرها منوعة متباينة متعددة.. أما وقد مضت مشيئة الله بتنويع الوظائف فقد مضت كذلك بتنويع الاستعدادات ليكون الاختلاف فيها وسيلة للتكامل. وكلف كل إنسان أن يتحرى لنفسه الهدى والرشاد والإيمان. وفيه الاستعداد الكامن لهذا، وأمامه دلائل الهدى في الكون، وعنده هدى الرسالات والرسل على مدار الزمان. وفي نطاق الهدى والإيمان يمكن أن يظل التنوع الخير الذي لا يحشر نماذج الناس كلهم في قالب جامد!
{ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر}.
وحين يصل الاختلاف إلى هذا المدى، فيكون اختلاف كفر وإيمان، يتعين القتال. يتعين لدفع الناس بعضهم ببعض. دفع الكفر بالإيمان. والضلال بالهدى، والشر بالخير. فالأرض لا تصلح بالكفر والضلال والشر. ولا يكفي أن يقول قوم: إنهم أتباع أنبياء إذا وصل الاختلاف بينهم إلى حد الكفر والإيمان. وهذه هي الحالة التي كانت تواجهها الجماعة المسلمة في المدينة يوم نزل هذا النص.. كان المشركون في مكة يزعمون أنهم على ملة إبراهيم! وكان اليهود في المدينة يزعمون أنهم على دين موسى. كما كان النصارى يزعمون أنهم على دين عيسى.. ولكن كل فرقة من هؤلاء كانت قد بعدت بعدًا كبيرًا عن أصل دينها، وعن رسالة نبيها. وانحرفت إلى المدى الذي ينطبق عليه وصف الكفر. وكان المسلمون عند نزول هذا النص يقاتلون المشركين من العرب. كما كانوا على وشك أن يوجهوا إلى قتال الكفار من أهل الكتاب. ومن ثم جاء هذا النص يقرر أن الاقتتال بين المختلفين على العقيدة إلى هذا الحد، هو من مشيئة الله وبإذنه:
{ولو شاء الله ما اقتتلوا}.
ولكنه شاء. شاء ليدفع الكفر بالإيمان؛ وليقر في الأرض حقيقة العقيدة الصحيحة الواحدة التي جاء بها الرسل جميعًا فانحرف عنها المنحرفون. وقد علم الله أن الضلال لا يقف سلبيًا جامدًا، إنما هو ذو طبيعة شريرة. فلابد أن يعتدي، ولابد أن يحاول إضلال المهتدين، ولابد أن يريد العوج ويحارب الاستقامة.
فلابد من قتاله لتستقيم الأمور.
{ولكن الله يفعل ما يريد}.
مشيئة مطلقة. ومعها القدرة الفاعلة. وقد قدر أن يكون الناس مختلفين في تكوينهم. وقدر أن يكونوا موكولين إلى أنفسهم في اختيار طريقهم. وقدر أن من لا يهتدي منهم يضل. وقدر أن الشر لابد أن يعتدي ويريد العوج. وقدر أن يقع القتال بين الهدى والضلال. وقدر أن يجاهد أصحاب الإيمان لإقرار حقيقته الواحدة الواضحة المستقيمة؛ وأنه لا عبرة بالانتساب إلى الرسل من اتباعهم، إنما العبرة بحقيقة ما يعتقدون وحقيقة ما يعملون. وأنه لا يعصمهم من مجاهدة المؤمنين لهم أن يكونوا ورثة عقيدة وهم عنها منحرفون..
وهذه الحقيقة التي قررها الله للجماعة المسلمة في المدينة حقيقة مطلقة لا تتقيد بزمان. إنما هي طريقة القرآن في اتخاذ الحادثة المفردة المقيدة مناسبة لتقرير الحقيقة المطردة المطلقة.
ومن ثم يعقب السياق على ذكر الاختلاف والاقتتال بنداء {الذين آمنوا}، ودعوتهم إلى الإنفاق مما رزقهم الله. فالإنفاق صنو الجهاد وعصب الجهاد:
{يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون}.
إنها الدعوة بالصفة الحبيبة إلى نفوس المؤمنين، والتي تربطهم بمن يدعوهم، والذي هم به مؤمنون: {يا أيها الذين آمنوا}.
وهي الدعوة إلى الإنفاق من رزقه الذي أعطاهم إياه. فهو الذي أعطى، وهو الذي يدعو إلى الإنفاق مما أعطى: {أنفقوا مما رزقناكم}.
وهي الدعوة إلى الفرصة التي إن أفلتت منهم فلن تعود {من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة}.
فهي الفرصة التي ليس بعدها- لو فوّتوها على أنفسهم- بيع تربح فيه الأموال وتنمو. وليس بعده صداقة أو شفاعة ترد عنهم عاقبة النكول والتقصير.
ويشير إلى الموضوع الذي يدعوهم إلى الإنفاق من أجله. فهو الإنفاق للجهاد. لدفع الكفر. ودفع الظلم المتمثل في هذا الكفر:
{والكافرون هم الظالمون}.
ظلموا الحق فأنكروه. وظلموا أنفسهم فأوردوها موارد الهلاك. وظلموا الناس فصدوهم عن الهدى وفتنوهم عن الإيمان، وموهوا عليهم الطريق، وحرموهم الخير الذي لا خير مثله. خير السلم والرحمة والطمأنينة والصلاح واليقين.
إن الذين يحاربون حقيقة الإيمان أن تستقر في القلوب؛ ويحاربون منهج الإيمان أن يستقر في الحياة؛ ويحاربون شريعة الإيمان أن تستقر في المجتمع.. إنما هم أعدى أعداء البشرية وأظلم الظالمين لها. ومن واجب البشرية- لو رشدت- أن تطاردهم حتى يصبحوا عاجزين عن هذا الظلم الذي يزاولونه؛ وأن ترصد لحربهم كل ما تملك من الأنفس والأموال.. وهذا هو واجب الجماعة المسلمة الذي يندبها إليه ربها ويدعوها من أجله بصفتها تلك؛ ويناديها ذلك النداء الموحي العميق.
وبمناسبة الاختلاف بعد الرسل والاقتتال، والكفر بعد مجيء البينات والإيمان.
بهذه المناسبة تجيء آية تتضمن قواعد التصور الإيماني، وتذكر من صفات الله سبحانه ما يقرر معنى الوحدانية في أدق مجالاته، وأوضح سماته. وهي آية جليلة الشأن، عميقة الدلالة، واسعة المجال: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم}.
وكل صفة من هذه الصفات تتضمن قاعدة من قواعد التصور الإسلامي الكلية. ومع أن القرآن المكي في عمومه كان يدور على بناء هذا التصور، فإننا نلتقي في القرآن المدني كذلك في مناسبات شتى بهذا الموضوع الأصيل الهام. الذي يقوم على أساسه المنهج الإسلامي كله، ولا يستقيم هذا المنهج في الحس إلا أن يستقيم ذلك الأساس، ويتضح ويتحول إلى حقائق مسلمة في النفس، ترتكن إلى الوضوح واليقين.
ولقد تحدثت فيما سبق عند تفسير سورة الفاتحة في أول الجزء الأول من هذه الطبعة من الظلال، عن الأهمية البالغة لوضوح صفة الله سبحانه في الضمير الإنساني. بما أن الركام الذي كان يرين على هذا الضمير من تصورات الجاهلية كان معظمه ناشئًا من غموض هذه الحقيقة، ومن غلبة الخرافة والأسطورة عليها؛ ومن الغبش التي يغشيها حتى في فلسفة أكبر الفلاسفة.. حتى جاء الإسلام فجلاها هذا الجلاء، وأنقذ الضمير البشري من ذلك الركام الثقيل، ومن ذلك الضلال والخبط في الظلماء!
وكل صفة من هذه الصفات التي تضمنتها هذه الآية تمثل قاعدة يقوم عليها التصور الإسلامي الناصع، كما يقوم عليها المنهج الإسلامي الواضح.
{الله لا إله إلا هو}.
فهذه الوحدانية الحاسمة التي لا مجال فيها لأي انحراف أو لبس مما طرأ على الديانات السابقة- بعد الرسل- كعقيدة التثليث المبتدعة من المجامع الكنسية بعد عيسى عليه السلام ولا لأي غبش مما كان يرين على العقائد الوثنية التي تميل إلى التوحيد، ولكنها تلبسه بالأساطير، كعقيدة قدماء المصريين- في وقت من الأوقات- بوحدانية الله، ثم تلبيس هذه الوحدانية بتمثل الإله في قرص الشمس! ووجود آلهة صغيرة خاضعة له!
هذه الوحدانية الحاسمة الناصعة هي القاعدة التي يقوم عليها التصور الإسلامي؛ والتي ينبثق منها منهج الإسلام للحياة كلها. فعن هذا التصور ينشأ الاتجاه إلى الله وحده بالعبودية والعبادة. فلا يكون إنسان عبدًا إلا لله، ولا يتجه بالعبادة إلا لله، ولا يلتزم بطاعة إلا طاعة الله، وما يأمره الله به من الطاعات. وعن هذا التصور تنشأ قاعدة: الحاكمية لله وحده. فيكون الله وحده هو المشرع للعباد؛ ويجيء تشريع البشر مستمدًا من شريعة الله.
وعن هذا التصور تنشأ قاعدة استمداد القيم كلها من الله؛ فلا اعتبار لقيمة من قيم الحياة كلها إذا لم تقبل في ميزان الله، ولا شرعية لوضع أو تقليد أو تنظيم يخالف عن منهج الله.. وهكذا إلى آخر ما ينبثق عن معنى الوحدانية من مشاعر في الضمير أو مناهج لحياة الناس في الأرض على السواء.
{الحي القيوم} والحياة التي يوصف بها الإله الواحد هي الحياة الذاتية التي لم تأت من مصدر آخر كحياة الخلائق المكسوبة الموهوبة لها من الخالق. ومن ثم يتفرد الله سبحانه بالحياة على هذا المعنى. كما أنها هي الحياة الأزلية الأبدية التي لا تبدأ من مبدأ ولا تنتهي إلى نهاية، فهي متجردة عن معنى الزمان المصاحب لحياة الخلائق المكتسبة المحددة البدء والنهاية. ومن ثم يتفرد الله سبحانه كذلك بالحياة على هذا المعنى. ثم إنها هي الحياة المطلقة من الخصائص التي اعتاد الناس أن يعرفوا بها الحياة. فالله سبحانه ليس كمثله شيء، ومن ثم يرتفع كل شبه من الخصائص التي تتميز بها حياة الأشياء، وتثبت لله صفة الحياة مطلقة من كل خصيصة تحدد معنى الحياة في مفهوم البشر.. وتنتفي بهذا جميع المفهومات الأسطورية التي جالت في خيال البشر!
أما صفة {القيوم} فتعني قيامه سبحانه على كل موجود. كما تعني قيام كل موجود به فلا قيام لشيء إلا مرتكنًا إلى وجوده وتدبيره.. لا كما كان أكبر فلاسفة الإغريق- أرسطو- يتصور أن الله لا يفكر في شيء من مخلوقاته، لأنه تعالى أن يفكر في غير ذاته! ويحسب أن في هذا التصور تنزيهًا لله وتعظيمًا؛ وهو يقطع الصلة بينه وبين هذا الوجود الذي خلقه.. وتركه.. فالتصور الإسلامي تصور إيجابي لا سلبي. يقوم على أساس أن الله سبحانه قائم على كل شيء وأن كل شيء، قائم في وجوده على إرادة الله وتدبيره.. ومن ثم يظل ضمير المسلم وحياته ووجوده ووجود كل شيء من حوله مرتبطا بالله الواحد؛ الذي يصرّف أمره وأمر كل شيء حوله، وفق حكمة وتدبير، فيلتزم الإنسان في حياته بالمنهج المرسوم القائم على الحكمة والتدبير؛ ويستمد منه قيمه وموازينه، ويراقبه وهو يستخدم هذه القيم والموازين.
{لا تأخذه سنة ولا نوم}.
وهذا توكيد لقيامه سبحانه على كل شيء، وقيام كل شيء به. ولكنه توكيد في صورة تعبيرية تقرب للإدراك البشري صورة القيام الدائم. في الوقت الذي تعبر فيه هذه الصورة عن الحقيقة الواقعة من مخالفة الله سبحانه لكل شيء.. {ليس كمثله شيء}.. وهي تتضمن نفي السنة الخفيفة أو النوم المستغرق، وتنزهه سبحانه عنهما إطلاقًا.
وحقيقة القيام على هذا الوجود بكلياته وجزئياته في كل وقت وفي كل حالة.
حقيقة هائلة حين يحاول الإنسان تصورها، وحين يسبح بخياله المحدود مع ما لا يحصيه عد من الذرات والخلايا والخلائق والأشياء والأحداث في هذا الكون الهائل؛ ويتصور- بقدر ما يملك- قيام الله سبحانه عليها؛ وتعلقها في قيامها بالله وتدبيره.. إنه أمر.. أمر لا يتصوره الإدراك الإنساني. وما يتصوره منه- وهو يسير- هائل يدير الرؤوس. ويحير العقول، وتطمئن به القلوب.
{له ما في السماوات وما في الأرض}.
فهي الملكية الشاملة. كما أنها هي الملكية المطلقة.. الملكية التي لا يرد عليها قيد ولا شرط ولا فوت ولا شركة. وهي مفهوم من مفاهيم الألوهية الواحدة. فالله الواحد هو الحي الواحد، القيوم الواحد، المالك الواحد وهي نفي للشركة في صورتها التي ترد على أذهان الناس ومداركهم. كما أنها ذات أثر في إنشاء معنى الملكية وحقيقتها في دنيا الناس. فإذا تمحضت الملكية الحقيقية لله، لم يكن للناس ملكية ابتداء لشيء. إنما كان لهم استخلاف من المالك الواحد الأصلي الذي يملك كل شيء. ومن ثم وجب أن يخضعوا في خلافتهم لشروط المالك المستخلف في هذه الملكية. وشروط المالك المستخلف قد بينها لهم في شريعته؛ فليس لهم أن يخرجوا عنها؛ وإلا بطلت ملكيتهم الناشئة عن عهد الاستخلاف، ووقعت تصرفاتهم باطلة، ووجب رد هذه التصرفات من المؤمنين بالله في الأرض.. وهكذا نجد أثر التصور الإسلامي في التشريع الإسلامي، وفي واقع الحياة العملية التي تقوم عليه. وحين يقول الله في القرآن الكريم: {له ما في السماوات وما في الأرض}.. فإنه لا يقرر مجرد حقيقة تصورية اعتقادية؛ إنما يضع قاعدة من قواعد الدستور للحياة البشرية ونوع الارتباطات التي تقوم فيها كذلك.
على أن مجرد استقرار هذه الحقيقة في الضمير.. مجرد شعور الإنسان بحقيقة المالك سبحانه لما في السماوات وما في الأرض.. مجرد تصور الإنسان لخلو يده هو من ملكية أي شيء مما يقال: إنه يملكه؛ ورد هذه الملكية لصاحبها الذي له ما في السماوات وما في الأرض.. مجرد إحساسه بأن ما في يده عارية لأمد محدود، ثم يستردها صاحبها الذي أعارها له في الأجل المرسوم.. مجرد استحضار هذه الحقائق والمشاعر كفيل وحده بأن يطامن من حدة الشره والطمع، وحدة الشح والحرص، وحدة التكالب المسعور. وكفيل كذلك بأن يسكب في النفس القناعة والرضى بما يحصل من الرزق؛ والسماحة والجود بالموجود؛ وأن يفيض على القلب الطمأنينة والقرار في الوجدان والحرمان سواء؛ فلا تذهب النفس حسرات على فائت أو ضائع؛ ولا يتحرق القلب سعارًا على المرموق المطلوب!
{من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه}.
وهذه صفة أخرى من صفات الله؛ توضح مقام الألوهية ومقام العبودية.. فالعبيد جميعًا يقفون في حضرة الألوهية موقف العبودية؛ لا يتعدونه ولا يتجاوزونه، يقفون في مقام العبد الخاشع الخاضع؛ الذي لا يقدم بين يدي ربه؛ ولا يجرؤ على الشفاعة عنده، إلا بعد أن يؤذن له، فيخضع للإذن ويشفع في حدوده.
وهم يتفاضلون فيما بينهم، ويتفاضلون في ميزان الله. ولكنهم يقفون عند الحد الذي لا يتجاوزه عبد.
إنه الإيحاء بالجلال والرهبة في ظل الألوهية الجليلة العلية. يزيد هذا الإيحاء عمقًا صيغة الاستفهام الاستنكارية؛ التي توحي بأن هذا أمر لا يكون؛ وأنه مستنكر أن يكون. فمن هو هذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه؟
وفي ظل هذه الحقيقة تبدو سائر التصورات المنحرفة للذين جاءوا من بعد الرسل فخلطوا بين حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية، فزعموا لله سبحانه خليطًا يمازجه أو يشاركه بالبنوة أو بغيرها من الصور في أي شكل وفي أي تصور، أو زعموا له سبحانه اندادًا يشفعون عنده فيستجيب لهم حتمًا. أو زعموا له سبحانه من البشر خلفاء يستمدون سلطانهم من قرابتهم له.. في ظل هذه الحقيقة تبدو تلك التصورات كلها مستنكرة مستبعدة لا تخطر على الذهن؛ ولا تجول في الخاطر، ولا تلوح بظلها في خيال!
وهذه هي النصاعة التي يتميز بها التصور الإسلامي؛ فلا تدع مجالًا لتلبيس أو وهم، أو اهتزاز في الرؤية! الألوهية ألوهية. والعبودية عبودية. ولا مجال لالتقاء طبيعتهما أدنى التقاء. والرب رب، والعبد عبد. ولا مجال لمشاركة في طبيعتهما ولا التقاء.
فأما صلة العبد بالرب، ورحمة الرب للعبد، والقربى والود والمدد.. فالإسلام يقررها ويسكبها في النفس سكبًا؛ ويملأ بها قلب المؤمن ويفيضها عليه فيضًا؛ ويدعه يعيش في ظلالها الندية الحلوة. دون ما حاجة إلى خلط طبيعة الألوهية وطبيعة العبودية. ودون ما حاجة إلى الغبش والركام والزغللة والاضطراب الذي لا تتبين فيه صورة واحدة واضحة ولا ناصعة ولا محددة!
{يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء}.
وهذه الحقيقة بطرفيها تساهم كذلك في تعريف المسلم بإلهه، وفي تحديد مقامه هو من إلهه. فالله يعلم ما بين أيدي الناس وما خلفهم. وهو تعبير عن العلم الشامل الكامل المستقصي لكل ما حولهم. فهو يشمل حاضرهم الذي بين أيديهم؛ ويشمل غيبهم الذي كان ومضى والذي سيكون وهو عنهم محجوب. كذلك هو يشمل ما يعلمونه من الأمور وما يجهلونه في كل وقت. وهو على العموم تعبير لغوي يفيد شمول العلم وتقصيه.. أما هم فلا يعلمون شيئًا إلا ما يأذن لهم الله أن يعلموه..
وشطر الحقيقة الأول.. علم الله الشامل بما بين أيديهم وما خلفهم.. من شأنه أن يحدث في النفس رجة وهزة. النفس التي تقف عارية في كل لحظة أمام بارئها الذي يعلم ما بين يديها وما خلفها.
يعلم ما تضمر علمه بما تجهر. ويعلم ما تعلم علمه بما تجهل. ويعلم ما يحيط بها من ماض وآت مما لا تعلمه هي ولا تدريه.. شعور النفس بهذا خليق بأن يحدث فيها هزة الذي يقف عريانًا بكل ما في سريرته أمام الديان؛ كما أنه خليق بأن يسكب في القلب الاستسلام لمن يعرف ظاهر كل شيء وخافيه.
وشطر الحقيقة الثاني.. أن الناس لا يعلمون إلا ما شاء الله لهم أن يعلموه.. جدير بأن يتدبره الناس طويلًا. وبخاصة في هذه الأيام التي يفتنون فيها بالعلم في جانب من جوانب الكون والحياة.
{ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء}.
إنه سبحانه هو الذي يعلم وحده كل شيء علمًا مطلقًا شاملًا كاملًا. وهو سبحانه يتأذن فيكشف للعباد بقدر عن شيء من علمه؛ تصديقًا لوعده الحق: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق}.. ولكنهم هم ينسون هذه الحقيقة؛ ويفتنهم ما يأذن الله لهم فيه من علمه. سواء كان هذا الذي أذن لهم فيه علم شيء من نواميس الكون وقوانينه؛ أو رؤية شيء من غيبه في لحظة عابرة وإلى حد معين.. يفتنهم هذا كما يفتنهم ذاك؛ فينسون الإذن الأول الذي منحهم الإحاطة بهذا العلم. فلا يذكرون ولا يشكرون. بل يتبجحون وقد يكفرون.
إن الله سبحانه وهب الإنسان المعرفة مذ أراد إسناد الخلافة في الأرض إليه. ووعده أن يريه آياته في الآفاق وفي الأنفس ووعده الحق. وصدقه وعده فكشف له يومًا بعد يوم، وجيلًا بعد جيل، في خط يكاد يكون صاعدًا أبدًا، عن بعض القوى والطاقات والقوانين الكونية التي تلزم له في خلافة الأرض، ليصل بها إلى أقصى الكمال المقدر له في هذه الرحلة المرسومة.
وبقدر ما أذن الله للإنسان في علم هذا الجانب وكشف له عنه، بقدر ما زوى عنه أسرارًا أخرى لا حاجة له بها في الخلافة.. زوى عنه سر الحياة وما يزال هذا السر خافيًا، وما يزال عصيًا، وما يزال البحث فيه خبطًا في التيه بلا دليل! وزوى عنه سر اللحظة القادمة. فهي غيب لا سبيل إليه. والستر المسدل دونها كثيف لا تجدي محاولة الإنسان في رفعه.. وأحيانًا تومض من وراء الستر ومضة لقلب مفرد بإذن من الله خاص؛ ثم يسدل الستر ويسود السكون؛ ويقف الإنسان عند حده لا يتعداه!
وزوى عنه أسرارًا كثيرة.. زوى عنه كل ما لا يتعلق بالخلافة في الأرض.. والأرض هي تلك الذرة الصغيرة السابحة في الفضاء كالهباءة..
ومع ذلك يفتن الإنسان بذلك الطرف من العلم، الذي أحاط به بعد الأذن. يفتن فيحسب نفسه في الأرض إلهًا! ويكفر فينكر أن لهذا الكون إلهًا! وإن يكن هذا القرن العشرون قد بدأ يرد العلماء حقًا إلى التواضع والتطامن.
فقد بدأوا يعلمون أنهم لم يؤتوا من العلم إلا قليلًا! وبقي الجهال المتعالمون الذين يحسبون أنهم قد علموا شيئًا كثيرًا!
{وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما}.
وقد جاء التعبير في هذه الصورة الحسية في موضع التجريد المطلق؛ على طريقة القرآن في التعبير التصويري، لأن الصورة هنا تمنح الحقيقة المراد تمثيلها للقلب قوة وعمقًا وثباتًا. فالكرسي يستخدم عادة في معنى الملك. فإذا وسع كرسيه السماوات والأرض فقد وسعهما سلطانه. وهذه هي الحقيقة من الناحية الذهنية. ولكن الصورة التي ترتسم في الحس من التعبير بالمحسوس أثبت وأمكن. وكذلك التعبير بقوله: {ولا يؤوده حفظهما} فهو كناية عن القدرة الكاملة. ولكنه يجيء في هذه الصورة المحسوسة. صورة انعدام الجهد والكلال. لأن التعبير القرآني يتجه إلى رسم صور للمعاني تجسمها للحس، فتكون فيه أوقع وأعمق وأحس.
ولا حاجة بنا إلى كل ما ثار من الجدل حول مثل هذه التعبيرات في القرآن، إذا نحن فقهنا طريقة القرآن التعبيرية؛ ولم نستعر من تلك الفلسفات الأجنبية الغريبة التي أفسدت علينا كثيرًا من بساطة القرآن ووضوحه.
ويحسن أن أضيف هنا أنني لم أعثر على أحاديث صحيحة في شأن الكرسي والعرش تفسر وتحدد المراد مما ورد منها في القرآن. ومن ثم أوثر أن لا أخوض في شأنها بأكثر من هذا البيان.
{وهو العلي العظيم}.
وهذه خاتمة الصفات في الآية، تقرر حقيقة، وتوحي للنفس بهذه الحقيقة. وتفرد الله سبحانه بالعلو، وتفرده سبحانه بالعظمة. فالتعبير على هذا النحو يتضمن معنى القصر والحصر. فلم يقل وهو عليّ عظيم، ليثبت الصفة مجرد إثبات. ولكنه قال: {العلي العظيم} ليقصرها عليه سبحانه بلا شريك!
إنه المتفرد بالعلو، المتفرد بالعظمة. وما يتطاول أحد من العبيد إلى هذا المقام إلا ويرده الله إلى الخفض والهون؛ وإلى العذاب في الآخرة والهوان. وهو يقول: {تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوًا في الأرض ولا فسادًا} ويقول عن فرعون في معرض الهلاك: {إنه كان عاليًا} ويعلو الإنسان ما يعلو، ويعظم الإنسان ما يعظم، فلا يتجاوز مقام العبودية لله العلي العظيم. وعندما تستقر هذه الحقيقة في نفس الإنسان، فإنها تثوب به إلى مقام العبودية وتطامن من كبريائه وطغيانه؛ وترده إلى مخافة الله ومهابته؛ وإلى الشعور بجلاله وعظمته؛ وإلى الأدب في حقه والتحرج من الاستكبار على عباده. فهي اعتقاد وتصور. وهي كذلك عمل وسلوك..
وعندما يصل السياق بهذه الآية إلى إيضاح قواعد التصور الإيماني في أدق جوانبها، وبيان صفة الله وعلاقة الخلق به هذا البيان المنير.. ينتقل إلى إيضاح طريق المؤمنين وهم يحملون هذا التصور؛ ويقومون بهذه الدعوة؛ وينهضون بواجب القيادة للبشرية الضالة الضائعة: {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}.
إن قضية العقيدة- كما جاء بها هذا الدين- قضية اقتناع بعد البيان والإدراك؛ وليست قضية إكراه وغصب وإجبار. ولقد جاء هذا الدين يخاطب الإدراك البشري بكل قواه وطاقاته. يخاطب العقل المفكر، والبداهة الناطقة، ويخاطب الوجدان المنفعل، كما يخاطب الفطرة المستكنة. يخاطب الكيان البشري كله، والإدراك البشري بكل جوانبه؛ في غير قهر حتى بالخارقة المادية التي قد تلجئ مشاهدها الجاء إلى الإذعان، ولكن وعيه لا يتدبرها وإدراكه لا يتعقلها لأنها فوق الوعي والإدراك.
وإذا كان هذا الدين لا يواجه الحس البشري بالخارقة المادية القاهرة، فهو من باب أولى لا يواجهه بالقوة والإكراه ليعتنق هذا الدين تحت تأثير التهديد أو مزاولة الضغط القاهر والإكراه بلا بيان ولا إقناع ولا اقتناع.
وكانت المسيحية- آخر الديانات قبل الإسلام- قد فرضت فرضًا بالحديد والنار ووسائل التعذيب والقمع التي زاولتها الدولة الرومانية بمجرد دخول الإمبراطور قسطنطين في المسيحية. بنفس الوحشية والقسوة التي زاولتها الدولة الرومانية من قبل ضد المسيحيين القلائل من رعاياها الذين اعتنقوا المسيحية اقتناعًا وحبًا! ولم تقتصر وسائل القمع والقهر على الذين لم يدخلوا في المسيحية؛ بل إنها ظلت تتناول في ضراوة المسيحيين أنفسهم الذين لم يدخلوا في مذهب الدولة؛ وخالفوها في بعض الاعتقاد بطبيعة المسيح!
فلما جاء الإسلام عقب ذلك جاء يعلن- في أول ما يعلن- هذا المبدأ العظيم الكبير: {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي}.
وفي هذا المبدأ يتجلى تكريم الله للإنسان؛ واحترام إرادته وفكره ومشاعره؛ وترك أمره لنفسه فيما يختص بالهدى والضلال في الاعتقاد وتحميله تبعة عمله وحساب نفسه.. وهذه هي أخص خصائص التحرر الإنساني.. التحرر الذي تنكره على الإنسان في القرن العشرين مذاهب معتسفة ونظم مذلة؛ لا تسمح لهذا الكائن الذي كرمه الله- باختياره لعقيدته- أن ينطوي ضميره على تصور للحياة ونظمها غير ما تمليه عليه الدولة بشتى أجهزتها التوجيهية، وما تمليه عليه بعد ذلك بقوانينها وأوضاعها؛ فإما أن يعتنق مذهب الدولة هذا- وهو يحرمه من الإيمان باله للكون يصرف هذا الكون- وإما أن يتعرض للموت بشتى الوسائل والأسباب!
إن حرية الاعتقاد هي أول حقوق الإنسان التي يثبت له بها وصف إنسان. فالذي يسلب إنسانًا حرية الاعتقاد، إنما يسلبه إنسانيته ابتداء.. ومع حرية الاعتقاد حرية الدعوة للعقيدة، والأمن من الأذى والفتنة.. وإلا فهي حرية بالاسم لا مدلول لها في واقع الحياة.
والإسلام- وهو أرقى تصور للوجود وللحياة، وأقوم منهج للمجتمع الإنساني بلا مراء- هو الذي ينادي بأن لا إكراه في الدين؛ وهو الذي يبين لأصحابه قبل سواهم أنهم ممنوعون من إكراه الناس على هذا الدين.
فكيف بالمذاهب والنظم الأرضية القاصرة المعتسفة وهي تفرض فرضًا بسلطان الدولة؛ ولا يسمح لمن يخالفها بالحياة؟!
والتعبير هنا يرد في صورة النفي المطلق: {لا إكراه في الدين}.. نفي الجنس كما يقول النحويون.. أي نفي جنس الإكراه. نفي كونه ابتداء. فهو يستبعده من عالم الوجود والوقوع. وليس مجرد نهي عن مزاولته. والنهي في صورة النفي- والنفي للجنس- أعمق إيقاعًا وآكد دلالة.
ولا يزيد السياق على أن يلمس الضمير البشري لمسة توقظه، وتشوقه إلى الهدى، وتهديه إلى الطريق، وتبين حقيقة الإيمان التي اعلن أنها أصبحت واضحة وهو يقول: {قد تبين الرشد من الغي}.
فالإيمان هو الرشد الذي ينبغي للإنسان أن يتوخاه ويحرص عليه. والكفر هو الغي الذي ينبغي للإنسان أن ينفر منه ويتقي أن يوصم به.
والأمر كذلك فعلًا. فما يتدبر الإنسان نعمة الإيمان، وما تمنحه للإدراك البشري من تصور ناصع واضح،، وما تمنحه للقلب البشري من طمأنينة وسلام، وما تثيره في النفس البشرية من اهتمامات رفيعة ومشاعر نظيفة، وما تحققه في المجتمع الإنساني من نظام سليم قويم دافع إلى تنمية الحياة وترقية الحياة.. ما يتدبر الإنسان نعمة الإيمان على هذا النحو حتى يجد فيها الرشد الذي لا يرفضه إلا سفيه، يترك الرشد إلى الغي، ويدع الهدى إلى الضلال، ويؤثر التخبط والقلق والهبوط والضآلة على الطمأنينة والسلام والرفعة والاستعلاء!
ثم يزيد حقيقة الإيمان إيضاحًا وتحديدًا وبيانًا:
{فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها}.
إن الكفر ينبغي أن يوجه إلى ما يستحق الكفر، وهو {الطاغوت}. وإن الإيمان يجب أن يتجه إلى من يجدر الإيمان به وهو {الله}.
والطاغوت صيغة من الطغيان، تفيد كل ما يطغى على الوعي، ويجور على الحق، ويتجاوز الحدود التي رسمها الله للعباد، ولا يكون له ضابط من العقيدة في الله، ومن الشريعة التي يسنها الله، ومنه كل منهج غير مستمد من الله، وكل تصور أو وضع أو أدب أو تقليد لا يستمد من الله. فمن يكفر بهذا كله في كل صورة من صوره ويؤمن بالله وحده ويستمد من الله وحده فقد نجا.. وتتمثل نجاته في استمساكه بالعروة الوثقى لا انفصام لها.
وهنا نجدنا أمام صورة حسية لحقيقة شعورية، ولحقيقة معنوية.. إن الإيمان بالله عروة وثيقة لا تنفصم أبدًا.. إنها متينة لا تنقطع.. ولا يضل الممسك بها طريق النجاة.. إنها موصولة بمالك الهلاك والنجاة.. والإيمان في حقيقته اهتداء إلى الحقيقة الأولى التي تقوم بها سائر الحقائق في هذا الوجود.. حقيقة الله.. واهتداء إلى حقيقة الناموس الذي سنه الله لهذا الوجود، وقام به هذا الوجود.
والذي يمسك بعروته يمضي على هدى إلى ربه؛ فلا يرتطم ولا يتخلف ولا تتفرق به السبل ولا يذهب به الشرود والضلال.
{والله سميع عليم}.
يسمع منطق الألسنة، ويعلم مكنون القلوب. فالمؤمن الموصول به لا يُبخس ولا يظلم ولا يخيب.
ثم يمضي السياق يصور في مشهد حسي حي متحرك طريق الهدى وطريق الضلال؛ وكيف يكون الهدى وكيف يكون الضلال.. يصور كيف يأخذ الله- ولي الذين آمنوا- بأيديهم، فيخرجهم من الظلمات إلى النور. بينما الطواغيت- أولياء الذين كفروا- تأخذ بأيدهم فتخرجهم من النور إلى الظلمات!
إنه مشهد عجيب حي موح. والخيال يتبع هؤلاء وهؤلاء، جيئة من هنا وذهابًا من هناك. بدلًا من التعبير الذهني المجرد، الذي لا يحرك خيالًا ولا يلمس حسًا ولا يستجيش وجدانًا ولا يخاطب إلا الذهن بالمعاني والألفاظ.
فإذا أردنا أن ندرك فضل طريقة التصوير القرآنية، فلنحاول أن نضع في مكان هذا المشهد الحي تعبيرًا ذهنيًا أيًا كان. لنقل مثلًا: الله ولي الذين آمنوا يهديهم إلى الإيمان. والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يقودونهم إلى الكفران.. إن التعبير يموت بين أيدينا، ويفقد ما فيه من حرارة وحركة وإيقاع!
وإلى جانب التعبير المصور الحي الموحي نلتقي بدقة التعبير عن الحقيقة: {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات}.
إن الإيمان نور.. نور واحد في طبيعته وحقيقته.. وإن الكفر ظلمات.. ظلمات متعددة متنوعة. ولكنها كلها ظلمات.
وما من حقيقة أصدق ولا أدق من التعبير عن الإيمان بالنور، والتعبير عن الكفر بالظلمة.
إن الإيمان نور يشرق به كيان المؤمن أول ما ينبثق في ضميره. تشرق به روحه فتشف وتصفو وتشع من حولها نورًا ووضاءة ووضوحًا.. نور يكشف حقائق الأشياء وحقائق القيم وحقائق التصورات، فيراها قلب المؤمن واضحة بغير غبش، بينة بغير لبس، مستقرة في مواضعها بغير أرجحة؛ فيأخذ منها ما يأخذ ويدع منها ما يدع في هوادة وطمأنينة وثقة وقرار لا أرجحة فيه.. نور يكشف الطريق إلى الناموس الكوني فيطابق المؤمن بين حركته وحركة الناموس الكوني من حوله ومن خلاله؛ ويمضي في طريقه إلى الله هينًا لينًا لا يعتسف ولا يصطدم بالنتوءات، ولا يخبط هنا وهناك. فالطريق في فطرته مكشوف معروف.
وهو نور واحد يهدي إلى طريق واحد. فأما ضلال الكفر فظلمات شتى منوعة.. ظلمة الهوى والشهوة. وظلمة الشرود والتيه. وظلمة الكبر والطغيان. وظلمة الضعف والذلة. وظلمة الرياء والنفاق. وظلمة الطمع والسعر. وظلمة الشك والقلق... وظلمات شتى لا يأخذها الحصر تتجمع كلها عند الشرود عن طريق الله، والتلقي من غير الله، والاحتكام لغير منهج الله.. وما يترك الإنسان نور الله الواحد الذي لا يتعدد.
نور الحق الواحد الذي لا يتلبس. حتى يدخل في الظلمات من شتى الأنواع وشتى الأصناف.. وكلها ظلمات..!
والعاقبة هي اللائقة بأصحاب الظلمات: {أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}.. وإذ لم يهتدوا بالنور، فليخلدوا إذن في النار!
إن الحق واحد لا يتعدد والضلال ألوان وأنماط.. فماذا بعد الحق إلا الضلال؟
وقبل أن ننتقل من هذا الدرس يحسن أن نقول كلمة عن قاعدة: {لا إكراه في الدين} إلى جوار فرضية الجهاد في الإسلام، والمواقع التي خاضها الإسلام. وقوله تعالى في آية سابقة: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله}.
إن بعض المغرضين من أعداء الإسلام يرمونه بالتناقض؛ فيزعمون أنه فرض بالسيف، في الوقت الذي قرر فيه: أن لا إكراه في الدين.. أما بعضهم الآخر فيتظاهر بأنه يدفع عن الإسلام هذه التهمة؛ وهو يحاول في خبث أن يخمد في حس المسلم روح الجهاد؛ ويهون من شأن هذه الأداة في تاريخ الإسلام وفي قيامه وانتشاره. ويوحي إلى المسلمين- بطريق ملتوية ناعمة ماكرة- أن لا ضرورة اليوم أو غدًا للاستعانة بهذه الأداة! وذلك كله في صورة من يدفع التهمة الجارحة عن الإسلام!..
وهؤلاء وهؤلاء كلاهما من المستشرقين الذين يعملون في حقل واحد في حرب الإسلام، وتحريف منهجه، وقتل إيحاءاته الموحية في حس المسلمين، كي يأمنوا انبعاث هذا الروح، الذي لم يقفوا له مرة في ميدان! والذي أمنوا واطمأنوا منذ أن خدروه وكبلوه بشتى الوسائل، وكالوا له الضربات الساحقة الوحشية في كل مكان! وألقوا في خلد المسلمين أن الحرب بين الاستعمار وبين وطنهم ليست حرب عقيدة أبدًا تقتضي الجهاد! إنما هي فقط حرب أسواق وخامات ومراكز وقواعد ومن ثم فلا داعي للجهاد!
لقد انتضى الإسلام السيف، وناضل وجاهد في تاريخه الطويل. لا ليكره أحدًا على الإسلام ولكن ليكفل عدة أهداف كلها تقتضي الجهاد.
جاهد الإسلام أولا ليدفع عن المؤمنين الأذى والفتنة التي كانوا يسامونها؛ وليكفل لهم الأمن على أنفسهم وأموالهم وعقيدتهم. وقرر ذلك المبدأ العظيم الذي سلف تقريره في هذه السورة- في الجزء الثاني- {والفتنة أشد من القتل}. فاعتبر الاعتداء على العقيدة والإيذاء بسببها، وفتنة أهلها عنها أشد من الاعتداء على الحياة ذاتها. فالعقيدة أعظم قيمة من الحياة وفق هذا المبدأ العظيم. وإذا كان المؤمن مأذونًا في القتال ليدفع عن حياته وعن ماله، فهو من باب أولى مأذون في القتال ليدفع عن عقيدته ودينه.. وقد كان المسلمون يسامون الفتنة عن عقيدتهم ويؤذون، ولم يكن لهم بد أن يدفعوا هذه الفتنة عن أعز ما يملكون. يسامون الفتنة عن عقيدتهم، ويؤذون فيها في مواطن من الأرض شتى. وقد شهدت الأندلس من بشاعة التعذيب الوحشي والتقتيل الجماعي لفتنة المسلمين عن دينهم، وفتنة أصحاب المذاهب المسيحية الأخرى ليرتدوا إلى الكثلكة، ما ترك اسبانيا اليوم ولا ظل فيها للإسلام! ولا للمذاهب المسيحية الأخرى ذاتها! كما شهد بيت المقدس وما حوله بشاعة الهجمات الصليبية التي لم تكن موجهة إلا للعقيدة والإجهاز عليها؛ والتي خاضها المسلمون في هذه المنطقة تحت لواء العقيدة وحدها فانتصروا فيها؛ وحموا هذه البقعة من مصير الأندلس الأليم.
وما يزال المسلمون يسامون الفتنة في أرجاء المناطق الشيوعية والوثنية والصهيونية والمسيحية في أنحاء من الأرض شتى.. وما يزال الجهاد مفروضًا عليهم لرد الفتنة إن كانوا حقًا مسلمين!
وجاهد الإسلام ثانيًا لتقرير حرية الدعوة- بعد تقرير حرية العقيدة- فقد جاء الإسلام بأكمل تصور للوجود والحياة، وبأرقى نظام لتطوير الحياة. جاء بهذا الخير ليهديه إلى البشرية كلها؛ ويبلغه إلى أسماعها وإلى قلوبها. فمن شاء بعد البيان والبلاغ فليؤمن ومن شاء فليكفر. ولا إكراه في الدين. ولكن ينبغي قبل ذلك أن تزول العقبات من طريق إبلاغ هذا الخير للناس كافة؛ كما جاء من عند الله للناس كافة. وأن تزول الحواجز التي تمنع الناس أن يسمعوا وأن يقتنعوا وأن ينضموا إلى موكب الهدى إذا أرادوا. ومن هذه الحواجز أن تكون هناك نظم طاغية في الأرض تصد الناس عن الاستماع إلى الهدى وتفتن المهتدين أيضًا. فجاهد الإسلام ليحطم هذه النظم الطاغية؛ وليقيم مكانها نظامًا عادلًا يكفل حرية الدعوة إلى الحق في كل مكان وحرية الدعاة.. وما يزال هذا الهدف قائمًا، وما يزال الجهاد مفروضًا على المسلمين ليبلغوه إن كانوا مسلمين!
وجاهد الإسلام ثالثًا ليقيم في الأرض نظامه الخاص ويقرره ويحميه.. وهو وحده النظام الذي يحقق حرية الإنسان تجاه أخيه الإنسان؛ حينما يقرر أن هناك عبودية واحدة لله الكبير المتعال؛ ويلغي من الأرض عبودية البشر للبشر في جميع أشكالها وصورها. فليس هنالك فرد ولا طبقة ولا أمة تشرع الأحكام للناس، وتستذلهم عن طريق التشريع. إنما هنالك رب واحد للناس جميعًا هو الذي يشرع لهم على السواء، وإليه وحده يتجهون بالطاعة والخضوع، كما يتجهون إليه وحده بالإيمان والعبادة سواء. فلا طاعة في هذا النظام لبشر إلا أن يكون منفذًا لشريعة الله، موكلًا عن الجماعة للقيام بهذا التنفيذ. حيث لا يملك أن يشرع هو ابتداء، لأن التشريع من شأن الألوهية وحدها، وهو مظهر الألوهية في حياة البشر، فلا يجوز أن يزاوله إنسان فيدعي لنفسه مقام الألوهية وهو واحد من العبيد!
هذه هي قاعدة النظام الرباني الذي جاء به الإسلام. وعلى هذه القاعدة يقوم نظام أخلاقي نظيف تكفل فيه الحرية لكل إنسان، حتى لمن لا يعتنق عقيدة الإسلام، وتصان فيه حرمات كل أحد حتى الذين لا يعتنقون الإسلام، وتحفظ فيه حقوق كل مواطن في الوطن الإسلامي أيا كانت عقيدته.
ولا يكره فيه أحد على اعتناق عقيدة الإسلام، ولا إكراه فيه على الدين إنما هو البلاغ.
جاهد الإسلام ليقيم هذا النظام الرفيع في الأرض ويقرره ويحميه. وكان من حقه أن يجاهد ليحطم النظم الباغية التي تقوم على عبودية البشر للبشر، والتي يدعي فيها العبيد مقام الألوهية ويزاولون فيها وظيفة الألوهية- بغير حق- ولم يكن بد أن تقاومه تلك النظم الباغية في الأرض كلها وتناصبه العداء. ولم يكن بد كذلك أن يسحقها الإسلام سحقًا ليعلن نظامه الرفيع في الأرض.. ثم يدع الناس في ظله أحرارًا في عقائدهم الخاصة. لا يلزمهم إلا بالطاعة لشرائعه الاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية والدولية. أما عقيدة القلب فهم فيها أحرار. وأما أحوالهم الشخصية فهم فيها أحرار، يزاولونها وفق عقائدهم؛ والإسلام يقوم عليهم يحميهم ويحمي حريتهم في العقيدة ويكفل لهم حقوقهم، ويصون لهم حرماتهم، في حدود ذلك النظام.
وما يزال هذا الجهاد لإقامة هذا النظام الرفيع مفروضًا على المسلمين: {حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله}.. فلا تكون هناك ألوهة للعبيد في الأرض، ولا دينونة لغير الله..
لم يحمل الإسلام السيف إذن ليكره الناس على اعتناقه عقيدة؛ ولم ينتشر السيف على هذا المعنى كما يريد بعض أعدائه أن يتهموه! إنما جاهد ليقيم نظامًا آمنًا يأمن في ظله أصحاب العقائد جميعًا، ويعيشون في إطاره خاضعين له وإن لم يعتنقوا عقيدته.
وكانت قوة الإسلام ضرورية لوجوده وانتشاره واطمئنان أهله على عقيدتهم، واطمئنان من يريدون اعتناقه على أنفسهم. وإقامة هذا النظام الصالح وحمايته. ولم يكن الجهاد أداة قليلة الأهمية، ولا معدومة الضرورة في حاضره ومستقبله كما يريد أخبث أعدائه أن يوحوا للمسلمين!..
لابد للإسلام من نظام ولابد للإسلام من قوة، ولابد للإسلام من جهاد. فهذه طبيعته التي لا يقوم بدونها إسلام يعيش ويقود.
{لا إكراه في الدين}.. نعم ولكن: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم} وهذا هو قوام الأمر في نظر الإسلام.. وهكذا ينبغي أن يعرف المسلمون حقيقة دينهم، وحقيقة تاريخهم؛ فلا يقفوا بدينهم موقف المتهم الذي يحاول الدفاع؛ إنما يقفون به دائما موقف المطمئن الواثق المستعلي على تصورات الأرض جميعًا، وعلى نظم الأرض جميعًا، وعلى مذاهب الأرض جميعًا.. ولا ينخدعوا بمن يتظاهر بالدفاع عن دينهم بتجريده في حسهم من حقه في الجهاد لتأمين أهله؛ والجهاد لكسر شوكة الباطل المعتدي؛ والجهاد لتمتيع البشرية كلها بالخير الذي جاء به؛ والذي لا يجني أحد على البشرية جناية من يحرمها منه، ويحول بينها وبينه. فهذا هو أعدى أعداء البشرية، الذي ينبغي أن تطارده البشرية لو رشدت وعقلت. وإلى أن ترشد البشرية وتعقل، يجب أن يطارده المؤمنون، الذين اختارهم الله وحباهم بنعمة الإيمان، فذلك واجبهم لأنفسهم وللبشرية كلها، وهم مطالبون بهذا الواجب أمام الله. اهـ.