فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمنوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3)}.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
في الباطل وجوه الأول: ما لا يجوز وجوده. وذلك لأنهم اتبعوا إلها غير الله. وإله غير الله محال الوجود. وهو الباطل وغاية الباطل. لأن الباطل هو المعدوم. يقال بطل كذا. أي عدم. والمعدوم الذي لا يجوز وجوده ولا يمكن أن يوجد. ولا يجوز أن يصير حقًا موجودًا. فهو في غاية البطلان. فعلى هذا فالحق هو الذي لا يمكن عدمه وهو الله تعالى. وذلك لأن الحق هو الموجود. يقال تحقق الأمر. أي وجد وثبت. والموجود الذي لا يجوز عدمه هو في غاية الثبوت الثاني: الباطل الشيطان بدليل قوله تعالى: {لأَمْلأن جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 85] فبيّن أن الشيطان متبوع وأتباعه هم الكفار والفجار. وعلى هذا فالحق هو الله. لأنه تعالى جعل في مقابلة حزب الشيطان حزب الله الثالث: الباطل. هو قول كبرائهم ودين آبائهم. كما قال تعالى عنهم: {إِنَّا وَجَدْنَا ءَابَاءنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على آثارهم مهتدون} [الزحرف: 22] ومقتدون فعلى هذا الحق ما قاله النبي عليه السلام عن الله الرابع: الباطل كل ما سوى الله تعالى. لأن الباطل والهالك بمعنى واحد.
و{كُلُّ شَيْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88] وعلى هذا فالحق هو الله تعالى أيضًا.
المسألة الثانية:
لوقال قائل من ربهم لا يلائم إلا وجهًا واحدًا من أربعة أوجه. وهو قولنا المراد من الحق هو ما أنزل الله وما قال النبي عليه السلام من الله. فأما على قولنا الحق هو الله فكيف يصح قوله: {اتبعوا الحق مِن رَّبّهِمْ} نقول على هذا {مِّن رَّبِّهِمُ} لا يكون متعلقًا بالحق. وإنما يكون تعلقه بقوله بقوله تعالى: {اتبعوا} أي اتبعوا أمر ربهم. أي من فضل الله أوهداية ربهم اتبعوا الحق. وهو الله سبحانه.
المسألة الثالثة:
إذا كان الباطل هو المعدوم الذي لا يجوز وجوده. فكيف يمكن اتباعه؟ نقول لما كانوا يقولون إنما يفعلون للأصنام وهي الهة وهي تؤجرهم بذلك كانوا متبعين في زعمهم. ولا متبع هناك.
المسألة الرابعة:
قال في حق المؤمنين {اتبعوا الحق مِن رَّبّهِمْ} وقال في حق الكفار {اتبعوا الباطل} من الهتهم أو الشيطان. نقول أما الهتهم فلانهم لا كلام لهم ولا عقل. وحيث ينطقهم الله ينكرون فعلهم. كما قال تعالى: {وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} [فاطر: 14] وقال تعالى: {وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كافرين} [الأحقاف: 6] والله تعالى رضي بفعلهم وثبتهم عليه. ويحتمل أن يقال قوله: {مّن رَّبّهِمُ} عائد إلى الأمرين جميعًا. أي من ربهم اتبع هؤلاء الباطل. وهؤلاء الحق. أي من حكم ربهم. ومن عند ربهم.
ثم قال تعالى: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ الله لِلنَّاسِ أمثالهم} وفيه أيضًا مسائل:
المسألة الأولى:
أي مثل ضربه الله تعالى حتى يقول: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ الله لِلنَّاسِ أمثالهم}؟ نقول فيه وجهان أحدهما: إضلال أعمال الكفار وتكفير سيئات الأبرار الثاني: كون الكافر متبعًا للباطل. وكون المؤمن متبعًا للحق. ويحتمل وجهين آخرين أحدهما: على قولنا {مّن رَّبّهِمُ} أي من عند ربهم اتبع هؤلاء الباطل وهؤلاء الحق. نقول هذا مثل يضرب عليه جميع الأمثال. فإن الكل من عند الله الإضلال وغيره والاتباع وغيره وثانيهما: هو أن الله تعالى لما بيّن أن الكافر يضل الله عمله والمؤمن يكفر الله سيئاته. وكان بين الكفر والإيمان مباينة ظاهرة فإنهما ضدان. نبه على أن السبب كذا أي ليس الإضلال والتكفير بسبب المضادة والاختلاف بل بسبب اتباع الحق والباطل. وإذا علم السبب فالفعلان قد يتحدان صورة وحقيقة وأحدهما يورث إبطال الأعمال والآخر يورث تكفير السيئات بسبب أن أحدهما يكون فيه اتباع الحق والآخر اتباع الباطل. فإن من يؤمن ظاهرًا وقلبه مملوء من الكفر. ومن يؤمن بقلبه وقلبه مملوء من الإيمان اتحد فعلاهما في الظاهر. وهما مختلفان بسبب اتباع الحق واتباع الباطل. لابدع من ذلك فإن من يؤمن ظاهرًا وهو يسر الكفر. ومن يكفر ظاهرًا بالإكراه وقلبه مطمئن بالإيمان اختلف الفعلان في الظاهر. وإبطال الأعمال لمن أظهر الإيمان بسبب أن اتباع الباطل من جانبه فكأنه تعالى قال الكفر والإيمان مثلأن يثبت فيهما حكمان وعلم سببه. وهو اتباع الحق والباطل. فكذلك اعلموا أن كل شيء اتبع فيه الحق كان مقبو لا مثابًا عليه. وكل أمر اتبع فيه الباطل كان مردودًا معاقبًا عليه فصار هذا عامًا في الأمثال. على أنا نقول قوله: {كذلك} لا يستدعي أن يكون هناك مثل مضروب بل معناه أنه تعالى لما بيّن حال الكافر وإضلال أعماله وحال المؤمن وتكفير سيئاته وبيّن السبب فيهما. كان ذلك غاية الإيضاح فقال: {كذلك} أي مثل هذا البيان {يَضْرِبُ الله لِلنَّاسِ أمثالهم} ويبين لهم أحوالهم.
المسألة الثانية:
الضمير في قوله: {أمثالهم} عائد إلى من؟ فيه وجهان: أحدهما: إلى الناس كافة قال تعالى: {يَضْرِبُ الله لِلنَّاسِ أمثالهم} على أنفسهم وثانيهما: إلى الفريقين السابقين في الذكر معناه: يضرب الله للناس أمثال الفريقين السابقين. اهـ.

.قال ابن عطية:

قوله تعالى: {الذين كفروا} الآية. إشارة إلى أهل مكة الذين أخرجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله: {والذين آمنوا} الآية إشارة إلى الأنصار أهل المدينة الذين أو وه. وفي الطائفتين نزلت الآيتان. قاله ابن عباس ومجاهد. ثم هي بعد تعم كل من دخل تحت ألفاظها. وقوله: {وصدوا} يحتمل أن يريد الفعل المجاوز. فيكون المعنى: {وصدوا} غيرهم. ويحتمل أن يكون الفعل غير متعد. فيكون المعنى: {وصدوا} أنفسهم. و: {سبيل الله} شرعه وطريقه الذي دعا إليه.
وقوله: {أضل أعمالهم} أي أتلفها. لم يجعل لها غاية خير ولا نفعًا. وروي أن هذه الآية نزلت بعد بدر. وأن الإشارة بقوله: {أضل أعمالهم} هي إلى الإنفاق الذي أنفقوه في سفرتهم إلى بدر. وقيل المراد بالأعمال: أعمالهم البرة في الجاهلية من صلة رحم ونحوه. واللفظ يعم ذلك.
وقرأ الناس: {نُزّل} بضم النون وشد الزاي.
وقرأ الأعمش: {أنزل} معدى بالهمزة وقوله تعالى: {وأصلح بالهم} قال قتادة معناه: وأصلح حالهم. وقرأ ابن عباس {أمرهم}. وقال مجاهد: شأنهم.
وتحرير التفسير في اللفظة أنها بمعنى الفكر والموضع الذي فيه نظر الإنسان وهو القلب. فإذا صلح ذلك صلحت حاله. فكأن اللفظة مشيرة إلى صلاح عقيدتهم وغير ذلك من الحال تابع. فقولك: خطر في بالي كذا. وقولك: أصلح الله بالك: المراد بهما واحد. ذكره المبرد. والبال: مصدر كالحال والشأن. ولا يستعمل منها فعل. وكذلك عرفه أن لا يثنى ولا يجمع. وقد جاء مجموعًا لكنه شاذ. فإنهم قالوا بالات.
وقوله تعالى: {ذلك بأن الذين كفروا} الإشارة إلى هذه الأفعال التي ذكر الله أنه فعلها بالكفار وبالمؤمنين. و: {الباطل} الشيطان وكل ما يأمر به. قاله مجاهد. و: {الحق} هنا هو الشرع ومحمد عليه السلام.
وقوله: {كذلك} يبين أمر كل فرقة ويجعل لها ضربها من القول وصنفها. وضرب المثل مأخوذ من الضريب والضرب الذي هو بمعنى النوع. اهـ.

.قال القرطبي:

{الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1)}.
قال ابن عباس ومجاهد: هم أهل مكة كفروا بتوحيد الله. وصدّوا أنفسهم والمؤمنين عن دين الله وهو الإسلام بنهيهم عن الدخول فيه؛ وقاله السدّي.
وقال الضحاك: {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} عن بيت الله بمنع قاصديه.
ومعنى {أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ}: أبطل كيدهم ومكرهم بالنبيّ صلى الله عليه وسلم. وجعل الدائرة عليهم؛ قاله الضحاك.
وقيل: أبطل ما عملوه في كفرهم بما كانوا يسمونه مكارم؛ من صلة الأرحام وفَكّ الأسارى وقِرَى الأضياف وحفظ الجوار.
وقال ابن عباس: نزلت في المُطْعِمِين ببدر. وهم اثنا عشر رجلًا: أبو جهل. والحارث بن هشام. وعتبة وشيبة ابنا ربيعة. وأُبَيّ وأُمَيّة ابنا خلف. ومُنَبِّه ونُبَيْه ابنا الحجاج. وأبو البَخْتَريّ بن هشام. وزمعة بن الأسود. وحكيم بن حزام. والحارث بن عامر بن نوفل.
قوله تعالى: {والذين آمنوا وَعَمِلُواْ الصالحات وَآمنوا بِمَا نُزِّلَ على مُحَمَّدٍ}.
قال ابن عباس ومجاهد: هم الأنصار.
وقال مقاتل: إنها نزلت خاصة في ناس من قريش.
وقيل: هما عامّتان فيمن كفر وامن.
ومعنى {أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ}: أبطلها.
وقيل: أضلهم عن الهدى بما صرفهم عنه من التوفيق.
{وَعَمِلُواْ الصالحات} من قال إنهم الأنصار فهي المواساة في مساكنهم وأموالهم.
ومن قال إنهم من قريش فهي الهجرة.
ومن قال بالعموم فالصالحات جميع الأعمال التي ترضي الله تعالى {وَآمنوا بِمَا نُزِّلَ على مُحَمَّدٍ} لم يخالفوه في شيء؛ قاله سفيان الثوريّ.
وقيل: صدّقوا محمدًا صلى الله عليه وسلم فيما جاء به.
{وهو الحق مِن رَّبِّهِمْ} يريد أن إيمانهم هو الحق من ربهم.
وقيل: أي إن القرآن هو الحق من ربهم. نسخ به ما قبله {كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} أي ما مضى من سيئاتهم قبل الإيمان.
{وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} أي شأنهم؛ عن مجاهد وغيره.
وقال قتادة: حالهم.
ابن عباس: أمورهم.
والثلاثة متقاربة وهي متأولة على إصلاح ما تعلق بدنياهم.
وحكى النقاش أن المعنى أصلح نياتهم؛ ومنه قول الشاعر:
فإن تُقبلي بالودّ أقبل بمثله ** وإن تدبري أذهب إلى حال باليا

وهو على هذا التأويل محمول على صلاح دينهم.
{والبال} كالمصدر. ولا يعرف منه فعل. ولا تجمعه العرب إلا في ضرورة الشعر فيقولون فيه: بالات.
المبرد: قد يكون البال في موضع آخر بمعنى القلب؛ يقال: ما يخطر فلان على بالي؛ أي على قلبي.
الجوهري: والبال رخاء النفس؛ يقال فلان رخيّ البال.
والبال: الحال؛ يقال ما بالك.
وقولهم: ليس هذا من بالي؛ أي مما أباليه.
والبال: الحوت العظيم من حيتان البحر؛ وليس بعربي.
والبالة: وعاء الطِّيب؛ فارسي معرّب؛ وأصله بالفارسية بيلة.
قال أبوذؤيب:
كأن عليها بالةً لَطَمِيّة ** لها من خلال الدَّأْيَتَيْن أرِيج

قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ اتبعوا الباطل وَأَنَّ الذين آمنوا اتبعوا الحق مِن رَّبِّهِمْ} {ذلِك} في موضع رفع؛ أي الأمر ذلك. أوذلك الإضلال والهدى المتقدم ذكرهما سببه هذا.
فالكافر اتبع الباطل. والمؤمن اتبع الحق.
والباطل: الشرك.
والحق: التوحيد والإيمان.
{كَذَلِكَ يَضْرِبُ الله لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} أي كهذا البيان الذي بُيّن يُبَيّن الله للناس أمر الحسنات والسيئات.
والضمير في {أَمْثَالَهُمْ} يرجع إلى الذين كفروا والذين آمنوا. اهـ.

.قال الألوسي:

{الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله} أي أعرضوا عن الإسلام وسلوك طريقه أو منعوا غيرهم عن ذلك على أن صد لازم أو متعد. قال في الكشف: والأول أظهر لأن الصد عن سبيل الله هو الاعراض عما أتى به محمد صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: {قُلْ هذه سَبِيلِى أَدْعُوإلى الله} [يوسف: 108] فيطابق قوله تعالى: {والذين ءآمنوا وَعَمِلُواْ الصالحات وَءآمنوا بِمَا نُزّلَ على مُحَمَّدٍ} [محمد: 2] وكثير من الآثار تؤيد الثاني. وفسر الضحاك {سَبِيلِ الله} ببيت الله عز وجل. وقال: صدهم عنه منعهم قاصديه وليس بذلك.
والآية عامة لكل من اتصف بعنوان الصلة. وقال ابن عباس: هم أي الذين كفروا وصدوا على الوجه الثاني في {صدوا} المطعون يوم بدر الكبرى. وكأنه عني من يدخل في العموم دخولا أوليًا. فإن أولئك كانوا صادين بأموالهم وأنفسهم فصدهم أعظم من صد غيرهم ممن كفر وصد عن السبيل. وأول من أطعم منهم على ما نقل عن سيرة ابن سيد الناس أبو جهل عليه اللعنة نحر لكفار قريش حين خرجوا من مكة عشرا من الإبل. ثم صفوان بن أمية نحر تسعا بعسفان. ثم سهل بن عمرونحر بقديد عشرا ثم شيبة بن ربيعة وقد ضلوا الطريق نحر تسعا ثم عبتة بن ربيعة نحر عشرا. ثم مقيس الجمهى بالأبواء نحر تسعا. ثم العباس نحر عشرا. والحرث بن عامر نحر تسعا. وأبو البختري على ماء بدر نحر عشرا. ومقيس تسعا؛ ثم شغلتهم الحرب فأكلوا من أزوادهم. وقيل: كانوا ستة نفر نبيه ومنبه ابنا الحجاج وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل والحرث ابنا هشام.
وضم مقاتل إليهم ستة أخرى وهم عامر بن نوفل. وحكيم بن حزام وزمعة بن الأسود والعباس بن عبد المطلب وصفوان بن أمية وأَبُو سُفْيَان بن حرب أطعم كل واحد منهم يومًا الاحابيش والجنود يستظهرون بهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا ينافي عد أبي سفيان أن صحت الرواية من أولئك كونه مع العير لأن المراد بيوم بدر زمن وقعتها فيشمل من أطعم في الطريق وفي مدتها حتى انقضت. وقال مقاتل: هم اثنا عشر رجلًا من أهل الشرك كانوا يصدون الناس عن الإسلام وأمرونهم بالكفر. وقيل: هم شيئاطين من أهل الكتاب صدوا من أراد منهم أو من غيرهم عن الدخول في الإسلام.