فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فهذا محمد بن سيرين كان أبوه سيرين عبدًا لأنس بن مالك.
وهذا مكحول كان عبدًا لامرأة من هذيل فأعتقته.
ومثل هذا أكثر من أن يحصى كما هو معلوم.
واعلم أن ما يدعيه بعض من المتعصبين. لنفي الرق في الإسلام من أن آية القتال هذه دلت على نفي الرق من أصله. لأنها أوجبت واحدًا من أمرين لا ثالث لهما. وهما المن والفداء فقط فهو استدلال ساقط من وجهين:
أحدهما أن فيه استدلالًا بالآية. على شيء لم يدخل فيها. ولم تتناوله أصلا. والاستدلال إن كان كذلك فسقوطه كما ترى.
وإيضاح ذلك أن هذه الآية اتي فيها تقسيم حكم الأسارى. إلى من وفداء. لم تتناول قطعًا إلا الرجال المقاتلين من الكفار لأن قوله: {فَضَرْبَ الرقاب}. وقوله: {حتى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ}. صريح ي ذلك كما ترى.
وعلى إثخان هؤلاء المقاتلينَ رتب بالفاء قوله: {فَشُدُّواْ الوثاق} الآية.
فظهر أن الآية لم تتناول أنثى ولا صغيرًا ألبتة.
ويزيد ذلك إيضاحًا أن النهي عن قتل نساء الكفار وصبيانهم ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم ن وأكثر أهل الرق في أقطار الدنيا إنما هو من النساء والصبيان.
ولوكان الذي يدعي نفي الرق من أصله يعترف بأن الآية. لا يمكن أن يستدل بها على شيء غير الرجال المقاتلين. لقصر نفي الرق الذي زعمه على الرجال الذين أسروا. في حال كونهم مقاتلين. ولوقصره على هؤلاء. لم يمكنه أن يقول بنفي الرق من ًاله كما ترى.
الوجه الثاني: هو ما قدمنا من الأدلة على ثبوت الرق في الإسلام. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة:
{حتى تَضَعَ الحرب أَوْزَارَهَا} أي إذا لقيتم الكفار فاضربوا أعناقهم {حتى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ} قتلًا فأسروهم {حتى تَضَعَ الحرب أَوْزَارَهَا} أي حتى تنتهى الحرب.
وأظهر الأقوال في معنى وضع الحرب أوزارها أنه وضع السلاح. والعرب تسمي السلاح وزرًان وتطلق العرب الأوزار على الا الحرب وما يساعد فيها كالخيل. ومنه قول الأعشى:
وأعددت للحرب أوزارها ** رماحًا طوالًا وخيلًا ذكورا

وفي معنى أوزار الحرب. أقوال أخر معروفة تركناها. لأن هذا أظهرها عندنا. والعلم عند الله تعالى. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ}.
لا شك أن هذه الآية نزلت بعد وقعة بدر لأن فيها قوله: {حتى إذا أثخنتموهم فشُدُّوا الوثاق}.
وهوالحكم الذي نزل فيه العقاب على ما وقع يوم بدر من فداء الأسرى التي في قوله تعالى: {ما كان لنبيء أن يكون له أسرى حتى يُثْخِن في الأرض} [الأنفال: 67] الآية إذ لم يكن حكم ذلك مقررًا يومئذٍ. وتقدم في سورة الأنفال.
والفاء لتفريع هذا الكلام على ما قبله من إثارة نفوس المسلمين بتشنيع حال المشركين وظهور خيبة أعمالهم وتنويه حال المسلمين وتوفيق ارائهم.
والمقصود: تهوين شأنهم في قلوب المسلمين وإغراؤهم بقطع دابرهم ليكون الدين كله لله. لأن ذلك أعظم من منافع فداء أسراهم بالمال ليعبد المسلمون ربهم آمنين.
وذلك ناظر إلى آية سورة الأنفال وإلى ما يفيده التّعليل من قوله: {حتى تضع الحرب أوزارها}.
و(إذ) ظرف للمستقبل مضمنة معنى الشرط. وذلك غالب استعمالها وجواب الشرط قوله: {فضَرْب الرقاب}.
واللقاء في قوله: {فإذا لقِيتم الذين كفروا}: المقابلة. وهو إطلاق شهير للقاء. يقال: يوم اللقاء. فلا يفهم منه إلا لقاء الحرب. ويقال: إن لقيت فلانا لقيت منه أسدًا. وقال النابغة:
تجنب بني حُنّ فإن لقاءهم ** كريهٌ وإن لم تلْق إلا بصائر

فليس المعنى: إذا لقيتم الكافرين في الطريق. أونحوذلك وبذلك لا يحتاج لذكر مخصص لفعل {لقيتم}.
والمعنى: فإذا قاتلتم المشركين في المستقبل فأمعنوا في قتلهم حتى إذا رأيتم أن قد خضّدتم شوكتهم. فاسروا منهم أسرى.
وضرب الرقاب: كناية مشهورة يعبر بها عن القتل سواء كان بالضرب أم بالطعن في القلوب بالرماح أوبالرمي بالسهام. وأوثرت على كلمة القتل لأن في استعمال الكناية بلاغة ولأن في خصوص هذا اللفظ غلظة وشدة تناسبان مقام التحريض.
والضرب هنا بمعنى: القطع بالسيف. وهو أحد أحوال القتال عندهم لأنه أدل على شجاعة المحارب لكونه مواجِهَ عدوه وجهًا لوجه.
والمعنى: فاقتلوهم سواء كان القتَل بضرب السيف. أوطعن الرّماح. أو رشق النبال. لأن الغاية من ذلك هو الإثخان.
والذين كفروا: هم المشركون لأن اصطلاح القرآن من تصاريف مادة الكفر. نحو: الكافرين. والكفار. والذين كفروا. هو الشرك.
و{حتى} ابتدائية.
ومعنى الغاية معها يؤول إلى معنى التفريع.
والإثخان: الغلبة لأنها تترك المغلوب كالشيء المثخن وهو الثقيل الصُلب الذي لا يخف للحركة ويوصف به المائع الذي جمد أوقارب الجمود بحيث لا يسيل بسهو لة. ووصف به الثوب والحبل إذا كثرت طاقاتهما بحيث يعسر تفككها.
وغلب إطلاقه على التوهين بالقتل. وكلا المعنيين في هذه الآية. فإذا فسر بالغلبة كان المعنى حتى إذا غلبتم منهم من وقعوا في قبضتكم أسرى فشدوا وثاقهم وعليه فجواز المنّ والفداءِ غيرُ مقيّد.
وإذا فسّر الإثخان بكثرة القتل فيهم كان المعنى حتى إذا لم يبق من الجيش إلا القليل فأسروا حينئذٍ. أي أبقوا الأسرى. وكلا الاحتمالين لا يخلومن تأويل في نظم الآية إلا أن الاحتمال الأول أظهر.
وتقدم بيانه في سورة الأنفال في قوله: {حتى يُثخن في الأرض}.
وانتصب {ضرب الرقاب} على المفعولية المطلقة على أنه بدل من فِعله ثم أضيف إلى مفعوله. والتقدير: فاضربوا الرقاب ضربًا. فلما حذف الفعل اختصارًا قدم المفعول المطلق على المفعول به وناب مناب الفعل في العمل في ذلك المفعول وأضيف إلى المفعول إضافة الأسماء إلى الأسماء لأن المصدر راجح في الاسمية.
والشَدّ: قوة الربط. وقوة الإمساك.
والوثاق بفتح الواو: الشيء الذي يوثق به. ويجوز فيه كسر الواو ولم يقرأ به.
وهوهنا كناية عن الأسر لأن الأسر يستلزم الوضع في القيد يشد به الأسير.
والمعنى: فاقتلوهم. فإن أثخنتم منهم فأسروا منهم.
وتعريف {الرقاب} و{الوثاق} يجوز أن يكون للعهد الذهني. ويجوز أن يكون عوضًا عن المضاف إليه. أي فضربَ رقابِهم وشُدُّوا وثاقهم.
والمنُّ: الأنعام.
والمراد به: إطلاق الأسير واسترقاقه فإن الاسترقاق منٌّ عليه إذ لم يُقتل. والفداء: بكسر الفاء ممدودًا تخليص الأسير من الأسر بعوض من مال أو مبادلة بأسرى من المسلمين في يدي العدّو.
وقدم المن على الفداء ترجيحًا له لأنه أعون على امتلاك ضمير الممنون عليه ليستعمل بذلك بغضه.
وانتصب {منّا} و{فداء} على المفعولية المطلقة بدلًا من عامليهما. والتقدير: إما تمّنون وإما تُفدون.
وقوله: {بعْدُ} أي بعد الإثخان وهذا تقييد لإباحة المنّ والفداء.
وذلك موكو ل إلى نظر أمير الجيش بحسب ما يراه من المصلحة في أحد الأمرين كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بعد غزوة هو ازن.
وهذا هو ظاهر الآية والأصل عدم النسخ. وهذا رأي جمهور أئمة الفقه وأهل النظر.
فقوله: {الذين كفروا} عام في كل كافر. أي مشرك يشمل الرجال وهم المعروف حَربهم ويشمل من حارَب معهم من النساء والصبيان والرهبان والأحبار.
وهذه الآية لتحديد أحوال القتال وما بعده. لا لبيان وقت القتال ولا لبيان من هم الكافرون. لأن أوقات القتال مبينة في سورة براءة.
ومعرفة الكافرين معلومة من اصطلاح القرآن بقوله: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} [التوبة: 5].
ثم يظهر أن هذه الآية نزلت بعد آية {ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض} في سورة الأنفال (67).
واختلف العلماء في حكم هذه الآية في القتل والمن والفداء والذي ذهب إليه مالك والشافعي والثوري والأوزاعي وهو أحدُ قولين عن أبي حنيفة رواه الطحاوي. ومِن السلف عبدُ الله بن عمر. وعطاءُ. وسعيدُ بن جبير: أن هذه الآية غير منسوخة. وأنها تقتضي التخيير في أسرى المشركين بين القتل أو المن أو الفداء. وأمير الجيش مخيّر في ذلك.
ويشبه أن يكون أصحاب هذا القول يرون أن مورد الآية الإذنُ في المنّ أو الفداء فهي ناسخة أو منهية لحكم قوله تعالى: ما كانَ لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض إلى قوله: {لمسَّكُم فيما أخذتم عذاب عظيم} في سورة الأنفال (67. 68).
وهذا أولى من جعلها ناسخة لقوله تعالى: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} لما علمت من أن مورد تلك هو تعيين أوقات المتاركة. وأوقات المحاربة. فلذلك لم يقل هؤلاء بحَظْر قتل الأسير في حين أن التخيير هنا وارد بين المنّ والفداء. ولم يذكر معهما القتل.
وقد ثبت في (الصحيح) ثبوتًا مستفيضًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَتل من أسرى بدر النضر بنَ الحارث وذلك قبل نزول هذه الآية. وعقبة بن أبي معيط وقتل أسرى قريظة الذين نزلوا على حكم سعد بن معاذ. وقتل هلال بن خطل ومقيس بن حبابة يوم فتح مكة. وقتل بعد أحد أبا عزّة الجمعي الشاعر وذلك كله لا يعارض هذه الآية لأنها جعلت التخيير لو لي الأمر.
وأيضًا لم يذكر في هذه الآية جواز الاسترقاق. وهو الأصل في الأسرى. وهو يدخل في المنّ إذا اعتبر المن شاملًا لترك القتل. ولأن مقابلة المن بالفداء تقتضي أن الاسترقاق مشروع.
وقد روى ابن القاسم وابن وهب عن مالك: أنَّ المنّ من العتق.
وقال الحسن وعطاء: التخيير بين المنّ والفداء فقط دون قتل الأسير. فقتل الأسير يكون محظورًا.
وظاهر هذه الآية يعضد ما ذهب إليه الحسن وعطاء.
وذهب فريق من أهل العلم إلى أن هذه الآية منسوخة وأنه لا يجوز في الأسير المشرك إلا القتل بقوله تعالى: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} [التوبة: 5].
وهذا قول مجاهد وقتادة والضحاك والسدّي وابن جريج. ورواه العَوفي عن ابن عباس وهو المشهور عن أبي حنيفة. وقال أبويوسف ومحمد من أصحاب أبي حنيفة: لا بأس أن يُفادى أسرى المشركين الذين لم يسلموا بأسرى المسلمين الذين بيد المشركين.
وروى الجصّاص أن النبي صلى الله عليه وسلم فدى أسيرين من المسلمين بأسير من المشركين في ثقيف.
والغاية المستفادة من {حتى} في قوله: {حتى تضع الحرب أوزارها} للتعليل لا للتقييد. أي لأجل أن تضع الحرب أوزارها. أي ليكفّ المشركون عنها فتآمنوا من الحرب عليكم وليست غاية لحكم القتال.
والمعنى يستمر هذا الحكم بهذا ليهِن العدوفيتركوا حربكم. فلا مفهو م لهذه الغاية. فالتعليل متصل بقوله: {فضرب الرقاب} وما بينهما اعتراض.
والتقدير: فضرب الرقاب. أي لا تتركوا القتل لأجل أن تضع الحرب أوزارها. فيكون واردًا مورد التعليم والموعظة. أي فلا تشتغلوا عند اللقاء لا بقتل الذين كفروا لتضع الحرب أوزارها فإذا غلبتموهم فاشتغلوا بالإبقاء على من تغلبونه بالأسر ليكون المنّ بعد ذلك أو الفداء.
والأوزار: الأثقال. ووضع الأوزار تمثيل لأنتهاء العمل فشبهت حالة انتهاء القتال بحالة وضع الحمّال أو المسافر أثقاله. وهذا من مبتكرات القرآن.
وأخذ منه عبد ربه السُلمى. أوسُليم الحنفي قوله:
فألقت عصاها واستقرّ بها النوَى ** كما قرّ عينا بالإياب المسافر

فشبه حالة المنتهي من كلفة بحالة السائر يلقي عصاه التي استصحبها في سيره.
{أَوْزَارَهَا ذلك ولويَشَاءُ اللَّهُ لأنتَصَرَ مِنْهُمْ ولكن لِّيَبْلُوبَعْضَكُمْ}.
أعيد اسم الإشارة بعد قوله آنفًا: {ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل} [محمد: 3] للنكتة التي تقدمت هنالك. وهو خبر لمبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوف.
وتقدير المحذوف: الأمر ذلك. والمشار إليه ما تقدم من قوله: {فضرب الرقاب} إلى هنا. ويفيد اسم الإشارة تقرير الحكم ورسوخه في النفوس.
والجملة من اسم الإشارة والمحذوف معترضة و{لويشاء الله لأنتصر منهم} في موضع الحال من الضمير المرفوع المقدر في المصدر من قوله: {فضَرْبَ الرقاب}. أي أمرتم بضرب رقابهم. والحال أن الله لوشاء لاستأصلهم ولم يكلفكم بقتالهم. ولكن الله ناط المسببات بأسبابها المعتادة وهي أن يبلو بعضكم ببعض.
وتعدية (انتصر) بحرف (من) مع أن حقه أن يعدّى بحرف (على) لتضمينه معنى: انتقم.
والاستدراك راجع إلى ما في معنى المشيئة من احتمال أن يكون الله ترك الأنتقام منهم لسبب غير ما بعدَ الاستدراك.
والبَلْوحقيقته: الاختبار والتجربة. وهو هنا مجاز في لازمه وهو ظهور ما أراده الله من رفع درجات المؤمنين ووقع بأسهم في قلوب أعدائهم ومن إهانة الكفار. وهو أن شأنهم بمرأى ومسمع من الناس.
هذا من مظاهر بلوى بعضهم ببعض وهو مقابل ما في قوله: {فضرب الرقاببِبَعْضٍ والذين قُتِلُواْ في سَبِيلِ الله فَلَن يُضِلَّ أعمالهم سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الجنة عَرَّفَهَا لَهُمْ يا أيها الذين ءآمنوا إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} إلى قوله: {وإما فداء}. فإن ذلك من مظاهر إهانة الذين كفروا فذُكر هنا ما هو من رفعة الذين قاتلوا في سبيل الله من المؤمنين بعناية الله بهم.