فصل: الحكم الثاني: ما المراد من قوله تعالى: {فضرب الرقاب} في الآية الكريمة؟

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



2- القول الثاني: أن المراد بهم كل من خالف دين الإسلام من مشرك. أوكتابي إذا لم يكن صاحب عهد ولا ذمة. فيدخل فيه كل الكفار بدون استثناء وهو ظاهر الآية. واختيار جمهور المفسرين.
قال ابن العربي: وهو الصحيح لعموم الآية فيه. والتخصيص لا دليل عليه.

.الحكم الثاني: ما المراد من قوله تعالى: {فضرب الرقاب} في الآية الكريمة؟

ذهب (السدي) وجمهور المفسرين إلى أن المراد منه (قتل الأسير صبرا).
والراجح هو الأول: لأن الآية الكريمة وهي قوله تعالى: {فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق} قد جعلت (الإثخان) وهو الإضعاف لشوكة العدوغاية لضرب الرقاب. فأين هو قتل الأسير صبرا؟ مع العلم بأنه إنما يقع في الأسر بعد إثخانه وضعفه. فيكون قول جمهور المفسرين هو الأرجح. بل هو الصحيح.

.الحكم الثالث: ما المراد من الفداء وما هي أنواعه؟

ذهب بعض المفسرين إلى أن المراد إطلاق سراح الأسير في مقابل ما يأخذه المسلمون منهم. وقد يكون المقابل (أسرى) من المسلمين عند الكفار بطريق التبادل.
وقد يكون المقابل (مالا) أو عتادا يأخذه المسلمون في نظير إطلاق الأسرى.
وقد يكون العوض (منفعة) كما كان في غزوة بدر. فقد كان من ليس عنده مال يفدي به نفسه أمره عليه الصلاة والسلام أن يعلم عشرة من أولاد المسلمين القراءة والكتابة.
فالمراد من الفداء كل ما يأخذه المسلمون من أعدائهم من مال. أو عتاد. أو منفعة. أو مبادلة أسرى بأسرى وغير ذلك.

.الحكم الرابع: ما معنى قوله تعالى: {حتى تضع الحرب أوزارها}؟

اختلف المفسرون في معنى الآية الكريمة على عدة أقوال:
أ- قال ابن عباس: تحتى لا يبقى أحد من المشركين يقاتل.
بـ:- وقال مجاهد: حتى لا يكون دين إلا دين الإسلام.
ج- وقال سعيد بن جبير: حتى ينزل المسيح بن مريم وحينئذ ينتهي القتال.
والقول الأخير ضعيف. لأن نزول عيسى ابن مريم ليس في الآية ما يدل عليه. وإنما يؤخذ من الأحاديث الشريفة. فبنزوله يدخل الناس في الإسلام ولا يبقى على ظهر الأرض كافر. كما دلت عليه السنة المطهرة. ولكن الآية ليس فيها ما يشير إلى هذا المراد من قريب أوبعيد.
ومما يدل على أن المراد بالآية الكريمة ظهور الإيمان. واندحار الكفر بحيث تكون كلمة الله هي العليا. وكلمة الذين كفروا هي السفلى قوله تعالى: في سورة الأنفال [39]: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله}.

.الحكم الخامس: هل يجوز قتل الأسير؟

اتفق الفهاء على جواز قتل الأسير. حتى قال: الجصاص لا نعلم في ذلك خلافا فيه. وقد تواترت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم في قتله لبعض الأسرى منها:
أ- ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل (أبا عزة) الشاعر يوم أحد.
بـ:- وقتل (عقبة بن أبي معيط) صبرا. و(النضر بن الحارث) بعد الأسر في بدر.
ج- وقتل (بني قريظة) بعد نزولهم على حكم (سعد بن معاذ) الذي حكم فيهم بالقتل. وسبي الذرية.
د- وفتح صلى الله عليه وسلم خيبر بعضها صلحا. وبعضها عنوة. وشرط على (ابن أبي الحقيق) ألا يكتم شيئا. فلما ظهر على خيانته وكتمانه قتله عليه السلام.
هـ- وفتح مكة وأمر بقتل (هلال بن خطل) و(عبد الله بن أبي سرح) و(مقيس بن حبابة) وقال: اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة.
فكل هذه الأخبار تدل على جواز قتل الأسير. ولأن في قتله حسم مادة الفساد في الأرض.
قال الألوسي: وليس لواحد من الغزاة أن يقتل أسيرا بنفسه. فإن فعل كان للإمام أن يعزره. ولكن لا يضمن شيئا. وإن أسلم الأسارى بعد الأسر لا يقتلهم. لأندفاع شرهم بالإسلام. ولكن يجوز استرقاقهم. فإن الإسلام لا ينافي الرق جزاء على الكفر الأصلي. بخلاف ما لواسلموا من قبل الأخذ فإنهم يكونون أحرارا. لأنه إسلام قبل انعقاد سبب الملك فيهم.
وقال القرطبي: وقيل: ليس للإمام أن يقتل الأسير. وقد روي عن الحجاج أنه دفع أسيرا إلى (عبد الله بن عمر) ليقتله فأبى وقال: ليس بهذا أمرنا الله. وقرأ {حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق}.
قلنا: قد قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله. وليس في تفسير الله للمن والفداء منع من غيره. ولعل ابن عمر كره ذلك من بد الحجاج فاعتذر بما قال وربك أعلم.

.الحكم السادس: هل يجوز أخذ الفداء من الأسير؟

اختلف الفقهاء في أخذ الفاء من الأسير على أقوال:
أولا: مذهب الحنفية: أن الأسير لا يفادى بالمال. ولا يباع لأهل الحرب. لأنه يرجع حربا علينا. أما فداؤه بأسرى من المسلمين فجائز عند الصاحبين (أبي يوسف ومحمد) وقال: (أبو حنيفة): لا يفادون بأسرى المسلمين أيضا.
ثانيا: مذهب الجمهور (الشافعي ومالك وأحمد) جواز أخذ الفداء من الأسرى.
دليل الحنفية:
استدل الحنفية على عدم جواز الفداء بما يلي:
أ- قالوا: إن الآية الكريمة: {فإما منا بعد وإما فداء} منسوخة بقوله تعالى: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} [التوبة: 5] وبقوله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر} [التوبة: 29] نقل ذلك عن مجاهد.
وروي عن (قتادة) أنه قال: نسختها آية الأنفال [57]: {فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم} ووجه الاستدلال: أن سورة براءة من آخر ما نزل. فوجب أن يقتل كل مشرك. إلا من قامت الدلالة على تركه من النساء والصبيان. ومن يؤخذ منه الجزية. والمتأخر ينسخ المتقدم كما هو المعلوم من أصو ل الشريعة الغراء.
بـ:- وقالوا: لا يجوز المن ولا الفداء. لأن فيه تقوية لأهل الشرك على أهل الإسلام. حيث يرجعون حربا علينا. وقد أمرنا بتطهير الأرض من الكفر ومن رجس المشركين.
ج- وقالوا: إن ما روي في (أسرى بدر) منسوخ أيضا بما تلونا. سيما وأنه قد نزل العتاب في قوله تعالى: {ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض} [الأنفال: 67].
فلا يجوز الاستدلال به على جواز أخذ الفداء.
د- وقالوا: إن ما كان من النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية: أن من جاء منهم رددناه عليهم إنما كان في بدء الدعوة. وقد نسخ ذلك. ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الإقامة بين أظهر المشركين وقال: «من أقام بين أظهر المشركين فقد برئت منه الذمة».
أدلة الجمهور:
واستدل الجمهور على جواز فداء الأسير بعدة أدلة نوجزها فيما يلي:
أ- قوله تعالى: {فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء} فقد أجازت الآية الكريمة الفداء مطلقا بدون قيد ولا شرط. فللإمام أن يمن أو يفدي. أو يسترق. عملا بالآية الكريمة.
بـ:- وقالوا: إن الآية محكمة ولا نسخ فيها. لأن النسخ إنما يكون لشيء قاطع. فإذا أمكن العمل بالآيتين فلا معنى للقول بالنسخ. والجمع ممكن فإن آية براءة وهي قوله تعالى: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} [التوبة: 5] أمر لنا بقتل المشركين عند اللقاء. فإذا وقعوا في الأسر كففنا عن القتل إلى المن أو الفداء عملا بقوله تعالى: {فإما منا بعد وإما فداء}.
ج- واستدلوا أيضا بأن النبي صلى الله عليه وسلم فادى أسرى بدر بالمال. ومن لم يكن عنده مال منهم أمره عليه السلام بتعليم عشرة من أبناء المسلمين القراءة والكتابة. وهذا قد ثبت بفعله عليه الصلاة والسلام.
د- واستدلوا بما روى ابن المبارك عن عمران بن حصين أنه قال: أسرت ثقيف رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأسر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من بني عامر بن صعصعة فمر به النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الأسر فقال الأسير: علام أحبس؟ فقال: بجريرة حلفائك. فقال: إني مسلم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لوقلتها وأنت تملك أمرك لأفلحت كل الفلاح. ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فناداه الأسير. فقال: إني جائع فأطعمني! فقال النبي صلى الله عليه وسلم نعم هذه حاجتك.. ثم فداه بالرجلين اللذين كانت ثقيف أسرتهما.
قالوا: فهذا دليل على جواز فداء المسلم بغيره من المشركين.
هـ- واستدلوا با رواه مسلم عن عمران بن الحصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فدى رجلين من المسلمين برجل من المشركين.
و- واستدلوا بما رواه مسلم أيضا عن (إياس بن سلمة) عن أبيه قال: خرجنا مع أبي بكر رضي الله عنه. وأمره علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن قال: فلقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغد في السوق فقال يا سلمة: هب لي المرأة- يعني التي نفله أبو بكر إياها- فقلت يا رسول الله: لقد أعجبتني وما كشفت لها ثوبا.
ثم لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغد في السوق. فقال يا سلمة: هب لي المرأة لله أبوك!! فقلت: هي لك يا رسول الله. فوالله ما كشفت لها ثوبا.. فبعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ففدى بها ناسا من المسلمين أسروا بمكة.
ز- واستدلوا بالمعقول وهو: أن تخليص المسلم أولى من قتل الكافر. للأنتفاع بالمسلم. لأن حرمته عظيمة. وأما الضرر الذي يعود إلينا بدفعه إلى المشركين. فيدفعه نفع المسلم الذي يتخلص من فتنتهم وعذابهم. وضرر واحد يقوم بدفعه واحد مثله فيتكافئان. وتبقى فضيلة تخليص المسلم وتمكينه من عبادة الله تعالى. وفيها زيادة ترجيح.
هذه خلاصة أدلة الجمهور بالنسبة (للفداء) سواء كان بالمال أوبالرجال على ما عرفت.
وأما (المن) على الأسارى وهو أن يطلقهم إلى دار الحرب من غير شيء فلا يجوز (عند أبي حنيفة. ومالك. وأحمد) وأجازه الإمام الشافعي لما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم من على (ثمامة بن أثال) سيد أهل اليمامة ثم أسلم وحسن إسلامه. وقال صلى الله عليه وسلم: «لوكان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى- يعني أسارى بدر- لتركتهم له». فقوله صلى الله عليه وسلم ذلك دليل على جواز المن على الأسرى.
الترجيح:
وبعد استعراض هذه الأدلة من الفريقين نرى أن الأرجح أن يفوض أمر الحرب لأهل الاختصاص من ذوي الرأي والبصر. يفعلون ما تقتضي به المصلحة العامة. فإن رأوا قتل الأسرى قتلوهم. وإن رأوا أخذ الفداء بالمال أوبالأسرى. فادوهم. وإن رأوا إبقاءهم في الأسر تركوهم تحت أيدي المسلمين. فيترك لهم تقدير المصلحة حسب الظروف التي هم فيها. وهذه من (السياسة الحكيمة) التي ينبغي أن تتوفر في قادة المسلمين.
والرسول صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك كله. فأسر من أسر. وقتل من قتل. وفادى منهم. وأطلق سراح من أطلق دون مال ولا فداء. وما نزل من آيات العتاب في سورة الأنفال فإنما كان بتوجيه إلهي حكيم- حسب المصلحة أيضا- حيث نزلت هذه الآيات الكريمة في (غزوة بدر) وهي أول حرب يخوضها المسلمون مع أعدائهم. فكانت المصلحة تقضي بترجيح جانب الشدة على جانب الرحمة. بالقتل. والإثخان. وإراقة الدماء. حتى لا يطمع المشركون بالإقدام على حرب المسلمين مرة أخرى. وحتى تقلم أظافر الكفر منذ اللحظة الأولى. فإذا علم المشركون أن لا رحمة في قلوب المسلمين عليهم. هابوهم وتخوفوا من الإقدام على حربهم. وهذا ما كان قد أشار به الفاروق عمر رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن موافقا لرأية.
ولما كثر عدد المسلمين. وقويت شوكتهم. وأصبحت الدو لة بأيديهم نزل القرآن الكريم بالمن والفداء على الأسرى. بعد أن توطدت دعائم الدو لة الإسلامية. وأصبح صرح الإسلام شامخا عتيدا. فكان المن عن قوة. لا عن ضعف. وعن عزة. لا عن ذلة واستكانة.
فالمصلحة العامة هي التي ينبغي أن تراعى في مثل هذه الحالات. والحرب مكر وخديعة. ولا عزة للضعفاء المستكينين.

.ما ترشد إليه الآيات الكريمة:

أولا: المؤمن يقاتل في سبيل الله. لإعلاء كلمة الله. فينبغي أن يكون شجاعا مقداما.
ثانيا: إثخان العدوبكثرة القتل فيهم والجروح. من أجل إضعاف شوكتهم وتوهين قوتهم.
ثالثا: الحرب في الإسلام حرب مقدسة. غرضها تطهير الأرض من رجس الكفرة المشركين.
رابعا: الاكتفاء بالأسر بعد إثخان العدومظهر من مظاهر رحمة الإسلام بأعدائه.
خامسا: إطلاق سراح الأسرى بدون عوض. أوأخذ الغداء منهم يبنغي أن تراعى فيه مصلحة المسلمين.
سادسا: الجهاد في سبيل الله ماض في هذه الأمة حتى لا يبقى على وجه الأرض مشرك.
سابعا: الله جل ثناؤه قادر على أن ينتقم من المشركين ولكنه أراد أن ينيل المؤمنين أجر الاستشهاد في سبيله.
ثامنا: الحياة ابتلاء للمؤمن والكافر. يبتلي بعضهم ببعض ليعذب الكافر ويثيب المؤمن.

.حكمة التشريع:

أقر الإسلام الحرب- مع علمه بما تجره على البلاد من ويلات ونكبات- لضرورة وقائية. وعلاج اضطراري. لا مناص منه لمجابهة الطغيان. ودفع الظلم والعدوان. وتطهير الأرض من رجس المشركين الغادرين. على حد قول القائل:
إذا لم تكن إلا الأسنة مركبا ** فلا بد للمضطر إلا ركوبها

ولكن الإسلام في الوقت الذي يدعوفيه إلى الجهاد. ويحض على القتال. ويبيح الحرب كضرورة من الضرورات. تجده يأمر بالرحمة والشفقة في (معاملة الأسرى) الواقعين في أسر العبودية. فيحرم تعذيبهم أوإيذاءهم كما يحرم التمثيل بالقتلى. أو الإجهاز على الجرحى. أوتقتيل النساء والصبيان.
إن الغرض من الجهاد ليس إراقة الدماء. وسلب الأموال. وتخريب الديار. ولكنه غرض إنساني نبيل. هو حماية المستضعفين في الأرض. ودفع عدوان الظالمين. وتأمين الدعوة. والوقوف في وجه الاستعلاء والطغيان كما قال جل ثناؤه {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز} [الحج: 40].
ولقد كان من وصايا النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم. للجند والجيش المجاهدين في سبيل الله. أن يأمرهم بطاعة الله. وعدم الغدر والخيانة حتى بالأعداء. فقد روى مسلم في صحيحة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أمر أميرا على جيش أوسرية. أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله. ومن معه من المسلمين خيرا. ثم قال: «أغزوا باسم الله في سبيل الله. قاتلوا من كفر بالله. أغزوا ولا. تغلوا. ولا تغدروا. ولا تمثلوا. ولا تقتلوا وليدا».