فصل: قال أبو حيان في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وضمير {أمثالها} عائد إلى {عاقبة الذين من قبلهم} باعتبار أنها حالة سوء.
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مولى الَّذِينَ آمنوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مولى لَهُمْ (11)}.
أعيد اسم الإشارة للوجه الذي تقدم في قوله: {ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل} [محمد: 3] وقوله: {ذلك ولويشاء الله لأنتصر منهم} [محمد: 4].
واسم الإشارة منصرف إلى مضمون قوله: {وللكافرين أمثالها} [محمد: 10] بتأويل: ذلك المذكور. لأنه يتضمن وعيدًا للمشركين بالتدمير. وفي تدميرهم انتصار للمؤمنين على ما لَقُوا منهم من الأضرار. فأفيد أن ما توعدهم الله به مسبب على أن الله نصير الذين آمنوا وهو المقصود من التعليل وما بعده تتميم.
والمولى. هنا: الولي والناصر.
والمعنى: أن الله ينصر الذين ينصرون دينه وهم الذين آمنوا ولا ينصر الذين كفروا به. فأشركوا معه في إلهيته وإذا كان لا ينصرهم فلا يجدون نصيرًا لأنه لا يستطيع أحد أن ينصرهم على الله. فنفي جنسُ المولى لهم بهذا المعنى من معاني المولى.
فقوله: {وأن الكافرين لا مولى لهم} أفاد شيئين: أن الله لا ينصرهم. وأنه إذا لم ينصرهم فلا ناصر لهم. وأما إثبات المولى للمشركين في قوله تعالى: {ثم نقول للذين أشركوا مكانكم} إلى قوله: {ورُدُّوا إلى الله مو لاهم الحق} [يونس: 28 30] فذلك المولى بمعنى آخر. وهو معنى: المالك والرب. فلا تعارض بينهما. اهـ.

.قال أبو حيان في الآيات السابقة:

{الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1)}.
هذه السورة مدنية عند الأكثر.
وقال الضحاك. وابن جبير. والسدي: مكية.
وقال ابن عطية: مدنية بإجماع. وليس كما قال. وعن ابن عباس. وقتادة: أنها مدنية. إلا آية منها نزلت بعد حجة. حين خرج من مكة وجعل ينظر إلى البيت. وهي: {وكأين من قرية} الآية.
ومناسبة أولها لاخر ما قبلها واضحة جدًّا.
{الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله}: أي أعرضوا عن الدخول في الإسلام. أوصدوا غيرهم عنه. وهم أهل مكة الذين أخرجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن عباس: وهم المطعمون يوم بدر.
وقال مقاتل: كانوا اثني عشر رجلًا من أهل الشرك. يصدون الناس عن الإسلام ويأمرونهم بالكفر. وقيل: هم أهل الكتاب. صدوا من أراد منهم ومن غيرهم أن يدخل في الإسلام.
وقال الضحاك: {عن سبيل الله}: عن بيت الله. يمنع قاصديه. وهو عام في كل من كفر وصد.
{أضل أعمالهم}: أي أتلفها. حيث لم ينشأ عنها خير ولا نفع. بل ضرر محض.
وقيل: نزلت هذه الآية ببدر. وأن الإشارة بقوله: {أضل أعمالهم} إلى الاتفاق الذي اتفقوه في سفرهم إلى بدر.
وقيل: المراد بالأعمال: أعمالهم البرة في الجاهلية. من صلة رحم وفك عان ونحوذلك؛ واللفظ يعم جميع ذلك.
{والذين آمنوا وعملوا الصالحات}: هم الأنصار.
وقال مقاتل: ناس من قريش.
وقيل: مؤمنوأهل الكتاب.
وقيل: هو عام؛ وعلى تقدير خصوص السبب في القبيلتين. فاللفظ عام يتناول كل كافر وكل مؤمن.
{وآمنوا بما نزل على محمد}: تخصيصه من بين ما يجب الإيمان به. تعظيم لشأن الرسول. وإعلام بأنه لا يصح الإيمان ولا يتم إلا به.
وأكد ذلك بالجملة الأعتراضية التي هي: {وهو الحق من ربهم}.
وقيل: {وهو الحق}: ناسخ لغيره ولا يرد عليه النسخ.
وقرأ الجمهور: نزل مبنيًا للمفعول؛ وزيد بن علي. وابن مقسم: نزل مبنيًا للفاعل؛ والأعمش: أنزل معدى بالهمزة مبنيًا للمفعول.
وقرىء: نزل ثلاثيًا.
{كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم}: أي حالهم. قاله قتادة؛ وشأنهم. قاله مجاهد؛ وأمرهم. قاله ابن عباس.
وحقيقة لفظ البال أنها بمعنى الفكر. والموضع الذي فيه نظر الإنسان وهو القلب.
فإذا صلح ذلك. فقد صلحت حاله. فكأن اللفظ مشير إلى صلاح عقيدتهم. وغير ذلك من الحال تابع.
{ذلك}: إشارة إلى ما فعل بالكفار من إضلال أعمالهم. وبالمؤمنين من تكفير سيآتهم وإصلاح حالهم.
وذلك مبتدأ وما بعده الخبر. أي كائن بسبب اتباع هؤلاء الباطل وهؤلاء الحق.
وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون ذلك خبر مبتدأ محذوف تقديره الأمر ذلك. أي كما ذكر بهذا السبب. فيكون محل الجار والمجرور منصوبًا. انتهى.
ولا حاجة إلى الإضمار مع صحة الوجه وعدم الإضمار.
والباطل: ما لا ينتفع به.
وقال مجاهد: الشيطان وكل ما يأمر به؛ والحق: هو الرسول والشرع. وهذا الكلام تسميه علماء البيان: التفسير.
{كذلك يضرب}: قال ابن عطية: الإشارة إلى اتباع المذكورين من الفريقين. أي كما اتبعوا هذين السبيلين. كذلك يبين أمر كل فرقة. ويجعل لها ضربها من القول وصفها؛ وضرب المثل من الضرب الذي هو بمعنى النوع.
وقال الزمخشري: كذلك. أي مثل ذلك الضرب.
{يضرب الله للناس أمثالهم} لأجل الناس ليعتبروا بهم.
فإن قلت: أين ضرب الأمثال؟ قلت: في أن جعل اتباع الباطل مثلًا لعمل الكفار. واتباع الحق مثلًا لعمل المؤمنين؛ أو في أن جعل الإضلال مثلًا لخيبة الكفار. وتكفير السيئات مثلًا لفوز المؤمنين.
{فإذا لقيت الذين كفروا}: أي في أي زمان لقيمتوهم. فاقتلوهم.
وفي قوله: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} أي في أي مكان. فعم في الزمان وفي المكان.
وقال الزمخشري: لقيتم. من اللقاء. وهو الحرب. انتهى.
{فضرب الرقاب}: هذا من المصدر النائب مناب فعل الأمر. وهم مطرد فيه. وهو منصوب بفعل محذوف فيه. واختلف فيه إذا انتصب ما بعده فقيل: هو منصوب بالفعل الناصب للمصدر؛ وقيل: هو منصوب بنفس المصدر لنيابته عن العامل فيه. ومثاله: ضربًا زيدًا. كما قال الشاعر:
على حين ألهى الناس جل أمورهم ** فندلًا زريق المال ندل الثعالب

وهذا هو الصحيح. ويدل على ذلك قوله: {فضرب الرقاب}. وهو إضافة المصدر للمفعول. ولولم يكن معمو لا له. ما جازت إضافته إليه.
وضرب الرقاب عبارة عن القتل؛ ولما كان القتل للأنسان أكثر ما يكون بضرب رقبته. عبر بذلك عن القتل. ولا يراد خصوصية الرقاب. فإنه لا يكاد تتأتى حالة الحرب أن تضرب الرقاب. وإنما يتأتى القتال في أي موضع كان من الأعضاء.
ويقال: ضرب الأمير رقبة فلان. وضرب عنقه وعلاوته وما فيه عيناه. إذا قتله. كما عبر بقوله: {بما كسبت أيديكم} عن سائر الأفعال. لما كان أكثر الكسب منسوبًا إلى الأيدي.
قال الزمخشري: وفي هذه العبارة من الغلظة والشدة ما ليس في لفظ القتل. لما فيه من تصوير القتل بأشنع صورة. وهو حز العنق وإطارة العضوالذي هو رأس البدن وعلوه وأوجه أعضائه.
وقد زاد في هذه في قوله: {فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان} انتهى.
ولما في ذلك من تشجيع المؤمنين. وأنهم من الكفار بحيث هم متمكنون منهم إذا أمروا بضرب رقابهم.
{حتى إذا أثخنتموهم}: أي أكثرتم القتل فيهم. وهذه غاية للضرب. فإذا وقع الإثخان وتمكنوا من أخذ من لم يقتل وشدوا وثاق الأسرى. {فإما منًا} بالإطلاق. {وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها}: أي أثقالها والاتها.
ومنه قول عمرو بن معدي كرب:
وأعددت للحرب أوزارها ** رماحًا طوالًا وخيلًا ذكورا

أنشده ابن عطية لعمروهذا. وأنشده الزمخشري للأعشى.
وقيل: الأوزار هنا: الاثام. لأن الحرب لابد أن يكون فيها اثام في أحد الجانبين. وهذه الغاية.
قال مجاهد: حتى ينزل عيسى بن مريم.
وقال قتادة: حتى يسلم الجميع: وقيل: حتى تقتلوهم.
وقال ابن عطية: وظاهر اللفظ أنها استعارة يراد بها التزام الأمر أبدًا. وذلك أن الحرب بين المؤمنين والكافرين لا يضيع أوزارها. فجاء هذه. كما تقول: أنا أفعل كذا وكذا إلى يوم القيامة. فإنما تريد أنك تفعله دائمًا.
وقال الزمخشري: وسميت. يعني الات الحرب من السلاح والكراع. أوزارها. لأنه لما لم يكن لها بد من جرها. فكأنها تحملها وتستقل بها؛ فإذا انقضت. فكأنها وضعتها.
وقيل: أوزارها: اثامها. يعني حتى يترك أهل الحرب. وهم المشركون. شركهم ومعاصيهم. بأن يسلموا.
والظاهر أن ضرب الرقاب. وهو القتل مغيًا بشد الوثاق وقت حصو ل الإثخان. وأن قوله: {فإما منًا بعد}. أي بعد الشذ. {وإما فداء}. حالتان للمأسور. إما أن يمن عليه بالإطلاق. كما منّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بإطلاق ثمامة بن أثال الحنفي. وإما أن يفدى. كما روي عنه عليه السلام أنه فودي منه رجلان من الكفار برجل مسلم.
وهذه الآية معارض ظاهرها لقوله تعالى: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} فذهب ابن عباس. وقتادة. وابن جريج. والسدي. والضحاك. ومجاهد. إلى أنها منسوخة بقوله: {فاقتلوا المشركين} الآية. وأن الأسر والمن والفداء مرتفع. فإن وقع أسير قتل ولا بد إلا أن يسلم.
وروي نحوه عن أبي بكر الصديق. وذهب ابن عمر. وعمر بن عبد العزيز. وعطاء. والحسن. إلى أن هذه مخصصة لعموم تلك. والمنّ والفداء ثابت.
وقال الحسن: لا يقتل الأسير إلا في الحرب. يهيب بذلك على العدو.
وذهب أكثر العلماء إلى أن أهل الكتاب فيهم المنّ والفداء وعباد الأوثان. ليس فيهم إلا القتل. فخصصوا من المشركين أهل الكتاب. وخصص من الكفار عبدة الأوثان.
وأما مذهب الأئمة اليوم: فمذهب أبي حنيفة أن الإمام يخير في القتل والاسترقاق؛ ومذهب الشافعي أنه مخير في القتل والاسترقاق والفداء والمن؛ ومذهب مالك أنه مخير في واحد من هذه الأربعة. وفي ضرب الجزية.
والظاهر أن قوله: {وإما فداء}. يجوز فداؤه بالمال وبمن أسر من المسلمين.
وقال الحسن: لا يفدى بالمال.
وقرأ السلمي: فشدوا. بكسر الشين. والجمهور: بالضم.
والوثاق: بفتح الواو. وفيه لغة الوثاق. وهو اسم لما يوثق به. وانتصب منًا وفداء بإضمار فعل يقدر من لفظهما. أي فإما تمنون منًا. وإما تفدون فداء. وهو فعل يجب إضماره. لأن المصدر جاء تفصيل عاقبة. فعامله مما يجب إضماره. ونحوه قول الشاعر:
لأجهدنّ فإما درء واقعة ** تخشى وإما بلوغ السؤل والأمل

أي: فإما أدرأ درأ واقعة. وإما أبلغ بلوغ السؤل.
وقال أبو البقاء: ويجوز أن يكونا مفعولين. أي أدوهم منا واقبلوا. وليس إعراب نحوي.
وقرأ ابن كثير في رواية شبل: وإما فدى بالقصر.
قال أبو حاتم: لا يجوز قصره لأنه مصدر فاديته. وهذا ليس بشيء. فقد حكى الفراء فيه أربع لغات: فداء لك بالمد والإغراء. وفدى لك بالكسر بياء والتنوين. وفدى لك بالقصر. وفداء لك.
والظاهر من قوله: {فإما منًا}: المن بالإطلاق. كما منّ الرسول عليه الصلاة والسلام على ثمامة. وعلى أبي عروة الحجبي.
وفي كتاب الزمخشري: كما منّ على أبي عروة الحجبي. وأثال الحنفي. فغير الكنية والاسم. ولعل ذلك من الناسخ. لا في أضل التصنيف.
وقيل: يجوز أن يراد بالمنّ: أي يمنّ عليهم بترك القتل ويسترقوا. أو يمن عليهم فيخلوا لقبولهم الجزية وكونهم من أهل الذمة.
والظاهر أن قوله: {حتى تضع الحرب أوزارها} غاية لقوله: {فشدوا الوثاق}. لأنه قد غيا فضرب الرقاب بشد الوثاق وقت الإثخان.
فلا يمكن أن يغيا بغاية أخرى لتدافع الغايتين. إلا إن كانت الثانية مبينة للأولى ومؤكدة. فيجوز. لأن شد الوثاق للأسرى لا يكون إلا حتى تضع الحرب أوزارها.
إذا فسرنا ذلك بانتفاء شوكة الكفار الملقيين إذ ذاك. ويكون الحرب المراد بها التي تكون وقت لقاء المؤمنين للكفار. ويجوز أن يكون المغيا محذوفًا يدل عليه المعنى. التقدير: الحكم ذلك حتى تضع الحرب أوزارها. أي لا يبقى شوكة لهم.
أوكما قال ابن عطية: إنها استعارة بمعنى إلى يوم القيامة. أي اصنعوا ذلك دائمًا.
وقال الزمخشري: فإن قلت: حتى بم تعلقت؟ قلت: لا يخلومن أن تتعلق إما بالضرب والشد. أوبالمنّ والفداء.
فالمعنى على كلا المتعلقين عند الشافعي رحمه الله: أنهم لا يزالون على ذلك أبدًا إلى أن يكون حرب مع المشركين. وذلك إذا لم يبق لهم شوكة.
وقيل: إذا نزل عيسى بن مريم؛ وعند أبي حنيفة رحمه الله: إذا علق بالضرب والشد.
فالمعنى: أنهم يقتلون ويؤسرون حتى تضع جنس الحرب الأوزار. وذلك حتى لا يبقى شوكة للمشركين.
وإذا علق بالمن والفداء. فالمعنى: أنهم يمن عليهم ويفادون حتى تضع حرب بدر أوزارها. إلى أن تناول المن والفداء. يعني: بتناول المن بأن يتركوا عن القتل ويسترقوا. أي بالتخلية بضرب الجزية بكونهم من أهل الذمة. وبالعذاب أن يفادى بأسارى المشركين أسارى المسلمين.
وقد رواه الطحاوي مذهبًا لأبي حنيفة؛ والمشهور أنه لا يرى فداءهم بمال ولا غيره. خيفة أن يعودوا حدبًا للمسلمين.