فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهواءَهُمْ (14)}.
اعلم أن هذا إشارة إلى الفرق بين النبي عليه السلام والكفار ليعلم أن إهلاك الكفار ونصرة النبي عليه السلام في الدنيا محقق. وأن الحال يناسب تعذيب الكافر وإثابة المؤمن. وقوله: {على بَيّنَةٍ} فرق فارق. وقوله: {مّن رَّبّهِ} مكمل له. وذلك أن البينة إذا كانت نظرية تكون كافية للفرق بين المتمسك بها وبين القائل قولا لا دليل عليه. فإذا كانت البينة منزلة من الله تعالى تكون أقوى وأظهر فتكون أعلى وأبهر. ويحتمل أن يقال قوله: {مّن رَّبّهِ} ليس المراد إنزالها منه بل المراد كونها من الرب بمعنى قوله: {يَهْدِي مَن يَشَاء} [المدثر: 31] وقولنا الهداية من الله. وكذلك قوله تعالى: {كَمَن زُيّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} فرق فارق. وقوله: {واتبعوا أَهواءَهُمْ} تكملة وذلك أن من زين له سوء عمله وراجت الشبهة عليه في مقابلة من يتبين له البرهان وقبله. لكن من راجت الشبهة عليه قد يتفكر في الأمر ويرجع إلى الحق. فيكون أقرب إلى من هو على البرهان. وقد يتبع هواه ولا يتدبر في البرهان ولا يتفكر في البيان فيكون في غاية البعد. فإذن حصل النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمن مع الكافر في طرفي التضاد وغاية التباعد حتى مدهم بالبينة. والكافر له الشبهة وهو مع الله وأولئك مع الهوى وعلى قولنا {مّن رَّبّهِ} معناه الإضافة إلى الله. كقولنا الهداية من الله. فقوله: {اتبعوا أَهواءهُمْ} مع ذلك القول يفيد معنى قوله تعالى: {مَّا أصابك مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَمَا أصابك مِن سَيّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} [النساء: 79] وقوله: {كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} بصيغة التوحيد محمول على لفظة من. وقوله: {واتبعوا أَهواءهُمْ} محمول على معناه فإنها للجميع والعموم. وذلك لأن التزيين للكل على حد واحد فحمل على اللفظ لقربه منه في الحس والذكر. وعند اتباع الهوى كل أحد يتبع هوى نفسه. فظهر التعدد فحمل على المعنى. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين آمنوا وَعَمِلُواْ الصالحات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار}.
تقدّم في غير موضع.
{والذين كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ} في الدنيا كأنهم أنعام. ليس لهم همّة إلا بطونهم وفروجهم. ساهون عما في غدِهم.
وقيل: المؤمن في الدنيا يتزوّد. والمنافق يتزين. والكافر يتمتع.
{والنار مَثْوًى لَّهُمْ} أي مقام ومنزل.
قوله تعالى: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ} تقدّم الكلام في {كَأَيِّنْ} في (آل عمران).
وهي هاهنا بمعنى كم؛ أي وكم من قرية.
وأنشد الأخفش قول لبيد:
وكائن رأينا من ملوك وسُوقة ** ومفتاحِ قَيْد للأسير المكبل

فيكون معناه: وكم من أهل قرية.
{هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ التي أَخْرَجَتْكَ} أي أخرجك أهلها.
{أَهْلَكْنَاهُمْ فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ} قال قتادة وابن عباس:
لما خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم من مكة إلى الغار التفت إلى مكة وقال: «اللَّهُمّ أنتِ أحبّ البلاد إلى الله وأنت أحبّ البلاد إليّ ولولا المشركون أَهْلُكِ أخرجوني لما خرجت منك» (فنزلت الآية)؛ ذكره الثعلبي. وهو حديث صحيح.
قوله تعالى: {أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ} الألف ألف تقرير.
ومعنى {على بينةٍ} أي على ثبات ويقين؛ قاله ابن عباس.
أبو العالية: وهو محمد صلى الله عليه وسلم.
والبينة: الوَحْيُ.
{كَمَن زُيِّنَ لَهُ سواء عَمَلِهِ} أي عبادة الأصنام. وهو أبو جهل والكفار.
{واتبعوا أَهواءَهُمْ} أي ما اشتهوا.
وهذا التزيين من جهة الله خلقًا.
ويجوز أن يكون من الشيطان دعاءً ووسوسة.
ويجوز أن يكون من الكافر؛ أي زيّن لنفسه سوء عمله وأصرّ على الكفر.
وقال: {سُوءُ} على لفظ {مَن} {وَاتَّبَعُوا} على معناه. اهـ.

.قال الألوسي:

{إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين ءآمنوا وَعَمِلُواْ الصالحات جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار}.
بيان لحكم ولايته تعالى لهم وثمرتها الآخروية {والذين كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ} أي ينتفعون بمتاع الدنيا أيامًا قلائل {وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنعام} الكاف في موضع نصب إما على الحال من ضمير المصدر كما يقول سيبويه أي يأكلونه أي الأكل مشبهًا أكل الأنعام. وإما على أنه نعت لمصدر محذوف كما يقول أكثر المعربين أي أكلًا مثل أكل الأنعام. والمعنى أن أكلهم مجرد من الفكر والنظر كما تقول للجاهل تعيش كما تعيش البهيمة لا تريد التشبيه في مطلق العيش ولكن في خواصه ولوازمه. وحاصله أنهم يأكلون غافلين عن عواقبهم ومنتهى أمورهم. وقوله تعالى: {والنار مَثْوًى لَّهُمْ} أي موضع إقامة لهم. حال مقدر من واو {يَأْكُلُونَ}.
وجوز أن يكون استئنافًا وكان قوله تعالى: {يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ} في مقابلة قوله سبحانه: {وَعَمِلُواْ الصالحات} لما فيه من الايماء إلى أنهم عرفوا أن نعيم الدنيا خيال باطل وظل زائل. فتركوا الشهوات وتفرغوا للصالحات. فكان عاقبتهم النعيم المقيم في مقام كريم وهؤلاء غفلوا عن ذلك فرتعوا في دمنهم كالبهائم حتى ساقهم الخذلان إلى مقرهم من درك النيران. وهذا ما ذكره العلامة الطيبي في بيان التقابل بين الآيتين. وقال بعض الأجلة: في الكلام احتباك وذلك أنه ذكر الأعمال الصالحة ودخول الجنة أولا دليلًا على حذف الأعمال الفاسدة ودخول النار ثانيًا وذكر التمتع والمثوى ثانيًا دليلًا على حذف التقلل والمأوى أولا والأول أحسن وأدق. وأسند إدخال الجنة إلى الله تعالى ولم يسلك نحوهذا المسلك في قوله تعالى: {والنار مَثْوًى لَّهُمْ} وخو لف بين الجملتين فعلية واسمية للإيذان بسبق الرحمة والإعلام بمصير المؤمنين والوعد بأن عاقبتهم أن الله سبحانه يدخلهم جنات وأن الكافرين مثواهم النار وهم الأن حاضرون فيها ولا يدرون وكالبهائم يأكلون.
{وَكَأَيّن} بمعنى كم الخبرية وهي مبتدأ. وقوله تعالى: {مِن قَرْيَةٍ} تمييز لها. وقوله سبحانه: {هِىَ أَشَدُّ قُوَّةً مّن قَرْيَتِكَ} صفة لقرية كما أن قوله عز وجل: {التى أَخْرَجَتْكَ} صفة لقريتك. وقد حذف عنهما المضاف وأجرى أحكامه عليهما كما يفصح عنه الخبر الذي هو قوله تعالى: {أهلكناهم} أي وكم من أهل قرية هم أشد قوة من أهل قريتك الذين أخرجوك أهلكناهم بأنواع العذاب. وجوز أن لا يكون هناك حذف وإنما أطلق المحل وأريد الحال مجازًا. وإسناد الآخراج إلى أهل قريته صلى الله عليه وسلم وهي مكة المكرمة مجاز من باب الإسناد إلى السبب لأنهم عاملوه صلى الله عليه وسلم بما عاملوه فكانوا بذلك سببًا لإخراجه حين أذن الله تعالى له عليه الصلاة والسلام بالهجرة منها. ونظير ذلك أقدمني بلدك حق لي عليك.
وأنت تعلم أنه على ما حققه الأجلة يحتمل أوجهًا ثلاثة:
مجازًا في الإسناد إذا كان الإقدام مستعملًا في معناه الذي وضع له وإن كان موهومًا.
ومجازًا في الطرف إذا كان مستعملًا في معنى الحمل على القدوم.
واستعارة باكلناية إن كان الحق مستعملًا في المقدم. والشيخ يقول في مثل ذلك: إن الفعل المتعدي موهوم لا فاعل له ليصير الإسناد إليه حقيقة فلا إقدام مثلًا في قصد المتكلم وإنما هو تصوير القدوم بصورة الإقدام. وإسناده إلى الحق المصور بصورة المقدم مبالغة في كونه داعيًا للقدوم. وارتضاه السالكوتي في (حواشي شرح مختصر التلخيص) وذب عنه القال والقيل. وتمام الكلام هناك. والكلام في الآية على طرز ذاك. ووصف القرية الأولى بشدة القوة للإيذان بأولوية الثانية منها بالأهلاك لضعف قوتها كما أن وصف الثانية بإخراجه عليه الصلاة والسلام للإيذان بأولويتهابه لقوة جنايتها. وعلى طريقته قول النابغة:
كليب لعمري كان أكثر ناصرا ** وأيسر جرمًا منك ضرح بالدم

وقوله تعالى: {فَلاَ ناصر لَهُمْ} بيان لعدم خلاصهم بواسطة الأعوان والأنصار إثر بيان عدم خلاصهم منه بأنفسهم. والفاء لترتيب ذكر ما بالغير على ذكر ما بالذات وخوحكاية حال ماضية كما في قوله تعالى: {فأغشيناهم فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} [يس: 9] ولا نسلم أن اسم الفاعل إذا لم يعمل حقيقة في الماضي. والآية تسلية له صلى الله عليه وسلم.
فقد أخرج عبد بن حميد وأبويعلى وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج من مكة إلى الغار التفت إلى مكة وقال: «أنت أحب بلاد الله تعالى إلى الله وأنت أحب بلاد الله تعالى إلي ولولا أن أهلك أخرجوني منك لم أخرج منك» فأعدى الأعداء من عدا على الله تعالى في حرمه أوقتل غير قاتله أوقتل بدخول أهل الجاهلية فأنزل الله سبحانه: {وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ} الخ. وقد تقدم ما يتعلق بذلك أول السورة فتذكر.
{أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ}.
تقرير لتباين حال الفريقين المؤمنين والكافرين وكون الأولين في أعلى عليين والآخرين في أسفل سافلين وبيان لعلة ما لكل منهما من الحال. والهمزة لأنكار استوائهما أولأنكار كون الأمر ليس كما ذكر. والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام وقد قرىء بدونها. و{مِنْ} عبارة عن المؤمنين المتمسكين بأدلة الدين كما أنها في قوله تعالى: {كَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ} عبارة عن أضدادهم من المشركين.
وأخرج جماعة عن ابن عباس أن {مَن كَانَ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ} هو رسول الله صلى الله عليه وسلم و{مّن زِينَةِ لَهُ سُوء عَمَلِهِ} هم المشركون. وروى عن قتادة نحوه وإليه ذهب الزمخشري.
وتعقب بأن التخصيص لا يساعده النظم الكريم ولا داعي إليه. وقيل: ومثله كون {مِنْ} الأولى عبارة عنه صلى الله عليه وسلم وعن المؤمنين. والمعنى أيستوي الفريقان أو اليس الأمر كما ذكر فمن كان ثابتًا على حجة ظاهرة وبرهان نير من مالك أمره ومربيه وهو القرآن العظيم وسائر المعجزات والحجج العقلية كمن زين له الشيطان عمله السيء من الشرك وسائر المعاصي كإخراجك من قريتك مع كون ذلك في نفسه أقبح القبائح {واتبعوا} في ذلك العمل السيء. وقيل: بسبب ذلك التزيين {أَهواءهُمْ} الزائغة من غير أن يكون لهم شبهة توهم صحة ما هم عليه فضلًا عن حجة تدل عليها.
وجمع الضميرين الأخيرين باعتبار معنى {مِنْ} كما أن افراد الأولين باعتبار لفظها. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ}.
استئناف بياني جواب سؤال يخطر ببال سامع قوله: {بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم} [محمد: 11] عن حال المؤمنين في الآخرة وعن رزق الكافرين في الدنيا. فبيّن الله أن من ولايته المؤمنين أن يعطيهم النعيم الخالد بعد النصر في الدنيا. وأنّ ما أعطاه الكافرين في الدنيا لا عبرةَ به لأنهم مسلوبون من فهم الإيمان فحظهم من الدنيا أكل وتمتع كحظ الأنعام. وعاقبتهم في عالم الخلود العذاب. فقوله: {والنار مثوًى لهم} في معنى قوله في سورة آل عمران (196. 197) {لا يغرنك تقلُّب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد}.
وهذا الاستئناف وقع اعتراضًا بين جملة {أفلم يسيروا في الأرض} [محمد: 10] وجملة {وكأين من قرية} [محمد: 13] الآية.
والمجرور من قوله: {كما تأكل الأنعام} في محل الحال من ضمير {يأكلون}. أو في محل الصفة لمصدر محذوف هو مفعول مطلق لـ: {يأكلون} لبيان نوعه.
والتمتع: الأنتفاع القليل بالمتاع. وتقدم في قوله: {متاع قليل} في سورة آل عمران (197). وقوله: {ومتاع إلى حين} في سورة الأعراف (24).
والمثوى: مكان الثواء. والثواء: الاستقرار. وتقدم في قوله: {قال النار مثواكم} في الأنعام (128).
وعدل عن الإضافة فقيل {مثوًى لهم} بالتعليق باللام التي شأنها أن تنون في الإضافة ليفاد بالتنوين معنى التمكّن من القرار في النار مثوى. أي مثوى قويًا لهم لأن الإخبار عن النار في هذه الآية حصل قبل مشاهدتها. فلذلك أضيفت في قوله: {قال النار مثواكم} لأنه إخبار عنها وهم يشاهدونها في المحشر.
{وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13)}.
عطف على جملة {أفلم يسيروا في الأرض} [محمد: 10]. وما بينهما استطراد اتصل بعضه ببعض.
وكلمة {كأيّن} تدلّ على كثرة العدد. وتقدم في سورة آل عمران وفي سورة الحج.
والمراد بالقرية: أهلها. بقرينة قوله: {أهلكناهم}. وإنما أجري الإخبار على القرية وضميرها لإفادة الإحاطة بجميع أهلها وجميع أحوالهم وليكون لإسناد إخراج الرسول إلى القرية كلها وقع من التبعة على جميع أهلها سواء منهم من تو لى أسباب الخروج. ومن كان ينظر ولا ينهى قال تعالى: {وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم} [الممتحنة: 9].
وهذا إطناب في الوعيد لأن مقام التهديد والتوبيخ يقتضي الإطناب. فمفاد هذه الآية مؤكد لمفاد قوله: {فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمرَّ الله عليهم وللكافرين أمثالها} [محمد: 10]. فحصل توكيد ذلك بما هو مقارب له من إهلاك الأمم ذوات القُرى والمُدننِ بعد أن شمل قوله: {الذين من قبلهم} من كان من أهل القرى. وزاد هنا التصريح بأن الذين من قبلهم كانوا أشد قوة منهم ليفهموا أن إهلاك هؤلاء هيّن على الله. فإنه لما كان التهديد السابق تهديدًا بعذاب السيف من قوله: {فإذا لقيتم الذين كفروا فضربَ الرقاب} [محمد: 4] الآيات. قد يُلقي في نفوسهم غرورًا فتعذّر استئصالهم بالسيف وهم ما هم من المَنعة وأنهم تمنعهم قريتهم مكةُ وحرمتُها بين العرب فلا يقعدون عن نصرتهم. فربّما استخفَّوا بهذا الوعيد ولم يستكينوا لهذا التهديد. فأعلمهم الله أن قرى كثيرة كانت أشد قوة من قريتهم أهلكهم الله فلم يجدوا نصيرا.
وبهذا يظهر الموقع البديع للتفريع في قوله: {فلا ناصر لهم} وزاد أيضًا إجراءُ الإضافة في قوله: {قريتك}. ووصفها بـ {التي أخرجتك} لما تفيده إضافة القرية إلى ضمير الرسول صلى الله عليه وسلم من تعبير أهلها بمذمة القطيعة ولما تؤذن به الصلة من تعليل إهلاكهم بسبب إخراجهم الرسول صلى الله عليه وسلم من قريته قال تعالى: {وأخرجوهم من حيث أخرجوكم} [البقرة: 191].
وإطلاق الآخراج على ما عامل به المشركون النبي صلى الله عليه وسلم من الجفاء والأذى ومقاومة نشر الدين إطلاق من قبيل الاستعارة لأن سوء معاملتهم إياه كان سببًا في خروجه من مكة وهي قريته. فشبه سبب الخروج بالآخراج ثم أطلق عليه فعل {أخرجتك}. وليس ذلك بإخراج وإنما هو خروج فإن المشركين لم يُلجِئوا النبي صلى الله عليه وسلم بالآخراج بل كانوا على العكس يرصدون أن يمنعوه من الخروج خشيَة اعتصامه بقبائل تنصره فلذلك أخفَى على الناس أمر هجرته إلا عن أبي بكر رضي الله عنه. فقوله: {أخرجتك} من باب قولك: أقدمني بلدك حقٌّ لي على فلان. وهو استعارة على التحقيق. وليس مجازًا عقليًا إذ ليس ثمة إخراج حتى يدعى أن سَببه بمنزلة فاعل الآخراج. ولا هو من الكناية وإن كان قد مثل به الشيخ في دلائل الإعجاز للمجاز العقلي. والمثالُ يكفي فيه الفرض والاحتمال.