فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال الواحدي: هذا قول عامة المفسرين.
وقال الحسن: وصف الله لهم الجنة في الدنيا. فلما دخلوها عرفوها بصفتها.
وقيل: فيه حذف. أي: عرفوا طرقها ومساكنها وبيوتها.
وقيل: هذا التعريف بدليل يدلهم عليها. وهو الملك الموكل بالعبد يسير بين يديه حتى يدخله منزله. كذا قال مقاتل.
وقيل: معنى {عَرَّفَهَا لَهُمْ}: طيبها بأنواع الملاذّ. مأخوذ من العرف. وهو الرائحة.
ثم وعدهم سبحانه على نصر دينه بقوله: {يأَيُّهَا الذين ءآمنوا إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ} أي: إن تنصروا دين الله ينصركم على الكفار. ويفتح لكم. ومثله قوله: {وليَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ} [الحج: 40].
قال قطرب: إن تنصروا نبيّ الله ينصركم {وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ} أي: عند القتال. وتثبيت الأقدام عبارة عن النصر. والمعونة في مواطن الحرب. وقيل: على الإسلام. وقيل: على الصراط {والذين كَفَرُواْ فَتَعْسًا لَّهُمْ} الموصول في محل رفع على أنه مبتدأ. وخبره محذوف. تقديره: فتعسوا بدليل ما بعده. ودخلت الفاء تشبيهًا للمبتدأ بالشرط. وانتصاب {تعسًا} على المصدر للفعل المقدّر خبرًا.
قال الفراء: مثل سقيًا لهم ورعيًا. وأصل التعس: الأنحطاط والعثار.
قال ابن السكيت: التعس: أن يجرّ على وجهه. والنكس: أن يجر على رأسه. قال: والتعس أيضًا: الهلاك.
قال الجوهري: وأصله الكبّ. وهو ضد الأنتعاش. ومنه قول مجمع بن هلال:
تقول وقد أفردتها من حليلها ** تعست كما أتعستني يا مجمع

قال المبرّد: أي: فمكروهًا لهم. قال ابن جريج: بعدًا لهم. وقال السديّ: خزيًا لهم.
وقال ابن زيد: شقاءً لهم. وقال الحسن: شتمًا لهم.
وقال ثعلب: هلاكًا لهم. وقال الضحاك: خيبةً لهم. وقيل: قبحًا لهم. حكاه النقاش.
وقال الضحاك: رغمًا لهم.
وقال ثعلب أيضًا: شرًّا لهم.
وقال أبو العالية: شقوةً لهم.
واللام في {لهم} للبيان. كما في قوله: {هَيْتَ لَكَ} [يوسف: 23] وقوله: {وَأَضَلَّ أعمالهم} معطوف على ما قبله داخل معه في خبرية الموصول.
والإشارة بقوله: {ذلك} إلى ما تقدّم مما ذكره الله من التعس والإضلال. أي: الأمر ذلك. أوذلك الأمر {بِأَنَّهُمْ كَرِهواْ مَا أَنزَلَ الله} على رسوله من القرآن. أو ما أنزل على رسله من كتبه لاشتمالها على ما في القرآن من التوحيد والبعث {فَأَحْبَطَ} الله {أعمالهم} بذلك السبب. والمراد بالأعمال: ما كانوا عملوا من أعمال الخير في الصورة. وإن كانت باطلة من الأصل؛ لأن عمل الكافر لا يقبل قبل إسلامه.
ثم خوّف سبحانه الكفار. وأرشدهم إلى الاعتبار بحال من قبلهم. فقال: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ في الأرض} أي: ألم يسيروا في أرض عاد. وثمود. وقوم لوط وغيرهم؛ ليعتبروا {فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلِهِمْ} أي: آخر أمر الكافرين قبلهم. فإن آثار العذاب في ديارهم باقية.
ثم بيّن سبحانه ما صنع بمن قبلهم فقال: {دَمَّرَ الله عَلَيْهِمْ} والجملة مستأنفة جواب سؤال مقدّر. والتدمير: الأهلاك. أي: أهلكهم واستأصلهم. يقال: دمّره ودمر عليه بمعنى. ثم توعد مشركي مكة فقال: {وللكافرين أمثالها} أي: لهؤلاء الكافرين أمثال عاقبة من قبلهم من الأمم الكافرة.
قال الزجاج. وابن جرير: الضمير في {أمثالها} يرجع إلى {عاقبة الذين من قبلهم}. وإنما جمع لأن العواقب متعدّدة بحسب تعدّد الأمم المعذبة. وقيل: أمثال العقوبة. وقيل: الهلكة. وقيل: التدميرة. والأول أولى لرجوع الضمير إلى ما هو مذكور قبله. والإشارة بقوله: {ذلك} إلى ما ذكر من أن للكافرين أمثالها {بِأَنَّ الله مولى الذين آمنوا} أي: بسبب أن الله ناصرهم. {وَأَنَّ الكافرين لاَ مولى لَهُمْ} أي: لا ناصر يدفع عنهم.
وقرأ ابن مسعود (ذلك بأن الله ولي الذين آمنوا) قال قتادة: نزلت يوم أحد.
{إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين ءآمنوا وَعَمِلُواْ الصالحات جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} قد تقدّم تفسير الآية في غير موضع. وتقدّم كيفية جري الأنهار من تحت الجنات. والجملة مسوقة لبيان ولاية الله للمؤمنين {والذين كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنعام} أي: يتمتعون بمتاع الدنيا وينتفعون به؛ كأنهم أنعام ليس لهم همّة إلاّ بطونهم وفروجهم. ساهون عن العاقبة لاهون بما هم فيه {والنار مَثْوًى لَّهُمْ} أي: مقام يقيمون به. ومنزل ينزلونه ويستقرّون فيه. والجملة في محل نصب على الحال. أو مستأنفة.
وقد أخرج الفريابي. وعبد بن حميد. وابن جرير. وابن المنذر. وابن أبي حاتم. والحاكم وصححه. وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله} قال: هم أهل مكة قريش نزلت فيهم: {والذين ءآمنوا وَعَمِلُواْ الصالحات} قال: هم أهل المدينة الأنصار {وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} قال: أمرهم.
وأخرج ابن المنذر عنه في قوله: {أَضَلَّ أعمالهم} قال: كانت لهم أعمال فاضلة لا يقبل الله مع الكفر عملًا.
وأخرج النحاس عنه أيضًا في قوله: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء} قال: فجعل الله النبيّ والمؤمنين بالخيار في الأسارى. إن شاءوا قتلوهم. وإن شاءوا استعبدوهم. وإن شاءوا فادوهم.
وأخرج ابن جرير. وابن مردويه عنه أيضًا في الآية قال: هذا منسوخ نسختها: {فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين} [التوبة: 5].
وأخرج ابن جرير. وابن مردويه عن الحسن قال: أتى الحجاج بأسارى. فدفع إلى ابن عمر رجلًا يقتله. فقال ابن عمر: ليس بهذا أمرنا إنما قال الله: {حتى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ الوثاق فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء}.
وأخرج عبد الرزاق في المصنف. وابن المنذر. وابن مردويه عن ليث قال: قلت لمجاهد: بلغني أن ابن عباس قال: لا يحلّ قتل الأسارى؛ لأن الله قال: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء} فقال مجاهد: لا تعبأ بهذا شيئًا أدركت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكلهم ينكر هذا. ويقول: هذه منسوخة إنما كانت في الهدنة التي كانت بين النبيّ صلى الله عليه وسلم وبين المشركين. فأما اليوم فلا. يقول الله:
{فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5] ويقول: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ فَضَرْبَ الرقاب} فإن كان من مشركي العرب لم يقبل شيء منهم إلاّ الإسلام. فإن لم يسلموا فالقتل. وأما من سواهم فإنهم إذا أسروا. فالمسلمون فيهم بالخيار إن شاءوا قتلوهم. وإن شاءوا استحيوهم. وإن شاءوا فادوهم إذا لم يتحولوا عن دينهم. فإن أظهروا الإسلام لم يفادوا.
ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الصغير. والمرأة. والشيخ الفاني.
وأخرج عبد بن حميد. وابن أبي حاتم. وابن مردويه عن أبي هريرة. عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يوشك من عاش منكم أن يلقى عيسى ابن مريم إمامًا مهديًا وحكمًا عدلًا. فيكسر الصليب. ويقتل الخنزير. وتوضع الجزية. وتضع الحرب أوزارها» وأخرج ابن سعد. وأحمد. والنسائي. والبغوي. والطبراني. وابن مردويه عن سلمة بن نفيل. عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من حديث قال: «لا تضع الحرب أوزارها حتى يخرج يأجوج ومأجوج» وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس {وللكافرين أمثالها} قال: لكفار قومك يا محمد مثل ما دمرت به القرى. فأهلكوا بالسيف. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

قال التستري:
قوله: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ التي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ}.
في الآية دليل على تفضيله على الكليم. لأنه لم يخرج خوفًا منهم. كما خرج موسى عليه السلام. ولكنه خرج كما قال الله تعالى: {أَخْرَجَتْكَ} ولم يقل خرجت ولا جزعت. لأنه لله وبالله في جميع أوقاته. فلم يجز منه التفات إلى الغير بحال ما. اهـ.

.تفسير الآية رقم (15):

قوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسن وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى ولهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هو خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما تكرر ذكر الجنة والنار في هذه السورة إلى أن ختم بهذه الآية التي قسم الناس فيها إلى أولياء مهتدين وأعداء ضالين معتدين. فهدى سياقها إلى أن التقدير: أفمن كان على بينة من ربه أحياه الحياة الطيبة في الدارين. ومن تبع هواه أراده فيها. أتبعه وصف الجنة التي هي دار أوليائه قادهم إليها الهدى. والنار التي هي دار أعدائه ساقهم إليها الضلال المحتم للردى. فقال: {مثل الجنة} أي البساتين العظيمة التي تستر داخلها من كثرة أشجارها.
ولما تكرر وعده سبحانه للذين آمنوا بالجنة بالاسم الأعظم الجامع وبعضها بالضمير العائد إليه. صار الوعد بها في غاية التحقق فعبر عنه هنا بالماضي المبني للمفعول إشارة إلى أنه أمر قد تحقق بأسهل أمر. وفرغ منه إلى أن صار حاضرًا لا مانع منه إلا الوصف الذي علق به الوعد ووصفها بصفات تفيد القطع بأنه لا يقدر عليها إلا الله فصار مجرد ذكرها والإخبار به عنها بصيغة المجهو ل أعلى لأمره فقال: {التي وعد المتقون} أي الذي حملتهم تقواهم بعد الوقوف عن كل فعل لم يدل عليه دليل على أن استمعوا منك فانتفعوا بما دللتهم عليه من أمور الدين حتى انقسم الناس إلى ثلاثة أقسام: مقبل عليه بكليته فهو متبع. ومعرض عنه جملة. ومستمع غير منتفع.
ولما كان التقدير: مثل بستان عظيم لا يسقط ورقه ولا ينقطع ثمره ولا يتفطن نعيمه لما فيه من الأنهار المتنوعة. وكان ما هو بهذه الصفة إنما هو موهوم لنا لا معلوم. طواه وذكره ما دل عليه من صفة الجنة الموعودة المعلومة بوعد الصادق الذي ثبت صدقه بالمعجزات فقال استئنافًا: {فيها} أي الجنة الموعودة.
ولما كان ما يعهدونه من الجنان لا يحتمل أكثر من ثلاثة أنهار. عبر بالجمع الذي يستعار للكثرة إذا دلت قرينة. وهي هنا المدح والامتنان. فقال: {أنهار من ماء} ولما كان ماء الدنيا مختلف الطعوم على ثلاثة: حلو وعذب وملح. مع اتحاد الأرض ببساطتها وشدة اتصالها للدلالة على أن فاعل ذلك قادر مختار. وقد يكون اسنًا أي متغيرًا عن الماء الذي يشرب بريح منتنة من أصل خلقه أو من عارض عرض له من منبعه أو مجراه قال: {غير آسن} أي ثابت له في وقت ما شيء من الطعم أو الريح أو اللون بوجه من الوجوه وإن طالت إقامته وإن أضيف إليه غيره فإنه لا يقبل التغير بوجه.
ولما كان أكثر شرابهم بعد الماء اللبن. ثنى به فقال سبحانه: {وأنهار من لبن} ولما كان التغير غير محمود. وكانوا يعهدون في الدنيا أن اللبن كله على جميع أنواعه طيب حال نزوله من الضرع مع اختلاف ذوات الدر في الأشكال والأنواع والمقادير والأمزجة. ومع انفصال كل واحدة منها من الأخرى. وأنه إنما يتغير بعد حلبه. عبر بما ينفي التغير في الماضي فقال: {لم يتغير طعمه} أي بنفسه عن أصل خلقته وإن أقام مدى الدهر. وهذا يفهم أنهم لوأرادوا تغييره لشهوة اشتهوها تغير. وأنه مع طيبه على أنواع كثيرة كما كان في الدنيا متنوعًا.
ولما كان أكثر ما بعد اللبن الخمر قال: {وأنهار من خمر} ولما كانت الخمر يكثر طعمها. وإنما يشربها شاربوها لأثرها. وأنه متى تغير طعمها زال اسمها. عرف أن كل ما في خمر الجنة في غاية الحسن غير متعرض لطعم فقال: {لذة} أي ثابتة لها اللذة ودائمة حال شربها وعبده {للشاربين} في طيب الطعم وحسن العاقبة.
ولما كان العسل أعزها وأقلها. آخِره وإن كان أجلها فقال: {وأنهار من عسل} ولما كان عسل الدنيا لا يوجد إلا مخلوطًا بالشمع وغيره من القذى قال: {مصفى} أي هو صاف صفاء ما اجتهد في تصفيته من ذلك. وهذا الوصف ثابت له دائمًا لا انفكاك له عنه في وقت ما. فقد حصل بهذا غاية التشويق إلى الجنة بالتمثيل بما يستلذ به من أشربة الدنيا لأنه غاية ما نعلم من ذلك مجردًا عما ينقصه أو ينغصه مع الوصف بالغزارة والاستمرار قال البغوي: قال كعب الأحبار: نهر دجلة نهر ماء أهل الجنة. ونهر الفرات نهر لبنهم. ونهر مصر نهر خمرهم. ونهر سبحان نهر عسلهم.
وهذه الأنهار الأربعة تخرج من نهر الكوثر.
وقال ابن عبد لحكم في فتوح مصر: حدثنا عثمان بن صالح ثنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب أن معاوية بن أبي سفيان- رضى الله عنهما- سأل كعب الأحبار- رضى الله عنه: هل تجد لهذا النيل في كتاب الله تعالى خبرًا؟ قال: أي والذي فلق البحر لموسى. إني لأجده في يكتاب الله أن الله عز وجل يوحي إليه في كل عام مرتين. يوحي إليه عن جريه أن الله يأمرك أن تجري. فيجري ما كتب الله له ثم يوحي إليه بعد ذلك: يا نيل غر حميدًا.
حدثنا عبد الله بن صالح حدثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن كعب الأحبار أنه كان يقول: أربعة أنها من الجنة وضعها الله عز وجل في الدنيا.
فالنيل نهر العسل في الجنة. والفرات نهر الخمر في الجنة.
وسيحان نهر الماء في الجنة.
وجيحان نهر اللبن في الجنة.
حدثنا سعيد بن أبي مريم حدثنا الليث بن سعد وعبد الله بن لهيعة قالا حدثنا يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن أبي جنادة الكناني أنه سمع كعبًا يقول: النيل في الآخرة عسلًا أغزر ما يكون من الأنهار التي سمى الله عز وجل. ودجلة في الآخرة لبنًا أغزر ما يكون من الأنهار التي سمى الله عز وجل. والفرات خمرًا أغزر ما يكون من الأنهار التي سمى الله عز وجل. وجيحان ماء أغزر ما يكون من الأنهار التي سمى الله وأصل هذا كله ما في الصحيح في صفة الجنة عن أبي هريرة- رضى الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم: «سيحان وجيحان والنيل والفرات من أنهار الجنة» وقال أبو حيان في حكمة ترتيبها غير ما تقدم: إنه بدئ بالماء الذي لا يستغنى عنه في المشروبات. ثم باللبن إذ كان يجري مجرى المطعومات في كثير من أقوات العرب وغيرهم. ثم بالخمر لأنه إذا حصل الري والمطعوم تشوفت النفس إلى ما يتلذذ به. ثم بالعسل لأن فيه الشفاء في الدنيا مما يعرض من المطعوم والمشروب- انتهى.
وأحسن منه أنه لما كان السياق للتعجب في ضرب المثل لأنه قول لا ينفك عن غرابة بدأ بأنهار الماء لغرابتها في بلادهم وشدة حاجتهم إليها. ولما كان خلوها عن تغير أغرب نفاه. ولما كان اللبن أقل فكان جريه أنهارًا أغرب. ثنى به. ولما كان الخمر أعز ثلث به. ولما كان العسل أشرفها وأقلها ختم به. ونبه- مع هذا التذكير بقدرته تعالى- على ما يريد بسبب وبغير سبب فإن هذه المشروبات الثلاثة التي وبعضها متمحض للشرابية كالخمر وبعضها في غذائية وهي فيه أغلب. وهو العسل. وبعضها ينزع إلى كل منهما وهو اللبن كلها من الماء مع تمايزها مذاقًا وأثرًا في الغذاء والدواء وغير ذلك. فإن الماء أصل النبات. ومن النبات يكون اللبن والخمر والعسل بما لا يخفى من الأسباب. وأما الآخرة فغنية عن الأسباب لظهور اسمه الظاهر سبحانه هناك لأنه لا ابتلاء فيها. وبهذا فهم للترتيب سر آخر وهو أنه تعالى قدم الماء لأنه الأصل لها. وتلاه بأقرب الأشيئاء إليه في الشرابية والطبع: اللبن. ثم بما هو أقرب إلى اللبن من جهة أنه شراب فقط. ثم بالعسل لأنه أبعدها منه.