فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وما في المواقف والمقاصد وشرح المختصر العضدي وغيرها من كتب الكلام والأصو ل من أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يعلمون أنهم أي العوام واجلاف العرب يعلمون الأدلة إجمالًا كما قال الأعرابي: البعرة تدل على البعير وأثر الاقدام على المسير أفسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج لا تدل على اللطيف الخبير أي فلذلك لم يلزموهم النظر ولا سألوهم عنه ولا أرجؤوا أمرهم وكل ما كان كذلك لم يكن اكتفاؤهم بمجرد الإقرار دليلًا على أن النظر ليس واجبًا على الأعيان ولا على أن تاركه غير اثم دعوى لا دليل عليها. وحكاية الأعرابي ان كانت مسوقة للاستدلال لا تدل غاية ما في الباب أن ذلك الأعرابي كان عالمًا لدليل إجمالي. ولا يلزم منه أن جميع الأجلاف والعوام كانوا عالمين بالأدلة الإجمالية في عهد النبوة وغيره وإلا لكانت حجة على أنه لا مقلد في الوجود. على أن بعضهم أسند ذلك القول إلى قس بن ساعدة وكان في الفترة.
والجلال المحلي ذكره لأعرابي قاله في جواب الأصمعي وكان في زمن الرشيد بل قد يقال: إن ظاهر كثير من الآيات والأخبار يدل على أن كثيرًا من المشركين في عهده عليه الصلاة والسلام لم يكونوا عالمين بأدلة التوحيد مطلقًا. وذلك كقوله تعالى: حكاية عنهم: {أَجَعَلَ الالهة إلها واحدا إِنَّ هذا لَشَىْء عُجَابٌ} [ص: 5] {إِنَّهُمْ كَانُواْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إله إِلاَّ الله يستكبرون وَيَقولونَ أئنا لَتَارِكُوءالِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ} [الصافات: 35. 36] وقول بعضهم في بعض الحروب: أعل هبل اعل هبل؛ وما ذكره المحقق العضد في (شرح المختصر) من الدليل على عدم جواز التقليد حيث قال: إن الأمة أجمعوا على وجوب معرفة الله تعالى وأنها لا تحصل بالتقليد لثلاثة أوجه.
أحدها انه يجوز الكذب على المخبر فلا يحصل بقوله العلم ثانيها أنه لوأفاد العلم لأفاده بنحوحدوث العالم من المسائل المختلفة فيها فإذا قلد واحد في الحدوث والآخر في القدم كانا عالمين بهما فيلزم حقيقتهما وأنه محال.
ثالثها أن التقليد لوحصل العلم فالعلم بأنه صدق فيما أخبر به إما أن يكون ضروريًا أونظريًا لا سبيل إلى الأول بالضرورة فلا بد له من دليل والمفروض أنه لا دليل إذ لوعلم صدقه بدليله لم يبق تقليدًا تعقبه العلامة الكوراني فقال: فيه بحث. أما الوجه الأول فلان من جوز التقليد مثل المقلد بمن نشأ ععلى شاهق جبل ولم ينظر في ملكوت السموات والأرض وأخبره غيره بما يلزمه اعتقاده وصدقه بمجرد اخباره من غير الفكر وتدبر وهو صريح في أن الكلام في مقلد أخبره غيره بما يلزمه اعتقاده وما يلزمه اعتقاده لا يكون إلا صدقًا فإن الكذب لا يلزم أحدًا اعتقاده. وأما من أخبر بالاكاذيب فاعتقادها فهو لم يعتقد إلا أكاديب والأكاذيب ليست من معرفة الله تعالى في شيء فكيف يحكم عليه أحد من العقلاء بأنه مؤمن بالله تعالى عارف به مع أنه لم يعتقد إلا الأكاذيب وهو ظاهر. وأما في الوجه الثاني فلمثل ما مر لأنا لا نقول: إن كل تقليد مفيد للعلم ولا أن كل مقلد عالم كيف وليس كل نظر مفيدًا للعلم ولا كل ناظر مصيبًا. فإذا لم يكن النظر موجبًا للعلم مطلقًا وإنما الموجب النظر الصحيح فكذلك نقول: ليس كل تقليد مفيدًا للعلم وإنما المفيد التقليد الصحيح. وهو أن يقلد عالمًا بمسائل معرفة الله تعالى صادقًا فيما يخبره به فإن الكلام إنما هو في صحة إيمان مثل هذا المقلد لا مطلقًا. وأما في الثالث فلانا نختار أن عمله بأنه صدق فيما أخبر به ضروري قولكم لا سبيل إليه بالضرورة قلنا: ممنوع لقوله تعالى: {فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسلام} [الأنعام: 125] وقد روي مرفوعًا أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن شرح الصدر فقال عليه الصلاة والسلام: «نور يقذفه الله في قلب المؤمن فينفسح» فصرح صلى الله عليه وسلم بأنه نور لا يحصل من دليل وإنما يقذفه الله تعالى في قلبه فلا يقدر على دفعه من غير فكر ولا روية ولا نظر ولا استدلال. وقد صرح بعض أكابر المحققين بأن توحيد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عن علم ضروري وجدوه في نفوسهم لم يقدروا على دفعه وبأن من أهل الفترة من وجد كذلك بل قد صرح بأن الإيمان علم ضروري يجده المؤمن في قلبه لا يقدر على دفعه فكم من امن بلا دليل ومن لم يؤمن مع الدليل. وقلما يوثق بإيمان من امن عن دليل فإنه معرض للشبه القادحة فيه.
وفي الباب المائة والاثنين والسبعين والمائتين والسابع والسبعين من الفتوحات المكية ما يؤيد ذلك. وقال الإمام حجة الإسلام في فيصل التفرقة: من أشد الناس غلوا وانحرافًا طائفة من المتكلمين كفروا عوام المسلمين وزعموا أن من لا يعرف الكلام معرفتنا ولم يعرف الأدلة الشرعية بأدلتنا التي حرزناها فهو كافر فهؤلاء ضيقوا رحمة الله تعالى الواسعة على عباده أولا. وجعلوا الجنة وقفًا على شرذمة يسيرة من المتكلمين. ثم جهلوا ما تواترت به السنة ثانيًا إذ ظهر من عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعصر الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين حكمهم باسلام طوائف من اجلاف العرب كانوا مشغو لين بعبادة الوثن ولم يشتغلوا بتعليم الدلائل ولواشتغلوا بها لم يفهموها. ومن ظن أن مدرك الإيمان الكلام والأدلة المحررة والتقسيمات المرتبة فقد أبعد. لابل الإيمان نور يقذفه الله تعالى في قلب عبده عطية وهداية من عنده. تارة بتنبه في الباطن لا يمكن التعبير عنه. وتارة بسبب رؤيا في المنام. وتارة بمشاهدة حال رجل متدين وسراية نوره إليه عند صحبته ومجالسته. وتارة بقرينة حال. فقد جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جاحدًا له منكرًا فلما وقع بصره على طلعته البهية وغرته الغريرة السنية فراها يتلألأ منها نور النبوة قال: والله ما هذا وجه كذاب. وسأله أن يعرض عليه السلام فأسلم. وجاء آخر فقال: أنشدك الله بعثك الله نبينا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «بلى إني والله الله بعثني نبيا» فصدقه بيمينه وأسلم. فهذا وأمثاله أكثر من أن يحصى ولم يشتغل واحد منهم قط بالكلام وتعلم الأدلة بل كان تبدوأنوار الإيمان أولا بمثل هذه القرأئن في قلوبهم لمعة بيضاء ثم لا تزال تزداد وضوحًا وإشراقًا بمشاهدة تلك الأحوال العظيمة وبتلاوة القرآن وتصفية القلوب. وليت شعري من نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة إحضاره أعرابيًا أسلم وقوله الدليل على أن العالم حادث لأنه لا يخلوعن الأعراض وما لا يخلوعن الحوادث فهو حادث. وأن الله تعالى عالم بعلم وقادر بقدره كلاهما زائد على الذات لا هو ولا غيره إلى غير ذلك من رسوم المتكلمين. ولست أقول: لم تجر هذه الألفاظ بل لم يجر أيضًا ما معناه معنى هذه الألفاظ بل كان لا تنكشف ملحمة إلا عن جماعة من الأجلاف يسلمون تحت ظلال السيوف وجماعة من الأساري يسلمون واحدًا واحدًا بعد طو ل الزمان أو على القرب وكانوا إذا نطقوا بكلمة الشهادة علموا الصلاة والزكاة وردوا إلى صناعتهم من رعاية الغنم أو غيرها.
نعم لست أنكر أنه يجوز أن يكون ذكر أدلة المتكلمين أحد أسباب الإيمان في حق بعض الناس ولكن ذلك ليس بمقصور عليه وهو نادر أيضًا وساق الكلام إلى أن قال: والحق الصريح أن كل من اعتقد أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم واشتمل عليه القرآن حق اعتقادًا جزمًا فهو مؤمن وإن لم يعرف أدلته. فالإيمان المستعار من الدلائل الكلامية ضعيف جدًّا مشرف على التزلزل بكل شبهة بل الإيمان الراسخ إيمان العوام الحاصل في قلوبهم في الصبا بتواتر السماع والحاصل بعد البلوغ بقرأئن لا يمكن العبارة عنها اه.
وفيه فوائد شتى ولذا نقلناه بطو له. ومتى جاز أن يقذف الله تعالى في قلب العبد نور الإيمان فيؤمن بلا نظر واستدلال جاز أن يقذف سبحانه في قلبه صدق المخبر بحيث لا يقدر على دفعه ولا يدري أنه من أين جاء لاسيما إذا كان المخبر هو النبي صلى الله عليه وسلم. فإن من لازم قذف نور الإيمان في قلب المؤمن به عليه الصلاة والسلام أن يقذف في قلبه صدقه صلى الله عليه وسلم لأن الإيمان لا يتم إلا بذلك. فقد ظهر أن دعوى الضرورة في أنه لا سبيل إلى العلم بصدق المخبر فيما أخبر به علمًا ضروريًا إن لم تكن مكابرة فمنعها ليس مكابرة أيضًا. فإن الدليل قد قام على جواز حصو ل العلم الضروري بصدقه بل على وقوعه فليست تلك الدعوى من المقدمات الضرورية التي يكون منعها مكابرة غير مسموعة. وقد اتضح من جميع ما ذكر أن ما قاله السعد في (شرح المقاصد) من أن الحق أن المعرفة بدليل إجمالي يرفع الناظر من حضيض التقليد فرض عين لا مخرج عنه لأحد من المكلفين وبدليل تفصيلي يتمكن معه من ازاحة الشبه وإلزام المنكرين وإرشاد المسترشدين فرض كفاية لابد من أن يقوم به البعض لا يخلوعن نظر على ما قيل. لكن الظاهر عندي أن الحق مع السعد من جهة أن الإيمان بمعنى التصديق مكلف به وشرط المكلف به كونه اختياريًا. وقد صرحوا أن التكليف بما ليس باختياري تكليف في الحقيقة بما يتوقف عليه من الأمور الاختيارية وان التصديق نفسه لكونه غير اختياري كان التكليف به في الحقيقة تكليفًا بما يتوقف هو عليه من النظر الاختياري. فالإيمان الذي يحصل بقذفه تعالى النور في القلب من غير فكر ولا روية ولا نظر ولا استدلال ليس اختياريًا بنفسه ولا باعتبار ما يحصل هو منه فكيف يكون مكلفًا به. وما مراد السعد ومن وافقه بالمعرفة إلا المعرفة من حيث أنها مكلف بها كما يشير إليه قوله: لا مخرج عنه لأحد من المكلفين. وكون ذلك مكلفًا به باعتبار أمر اختياري غير النظر كتحصيل الاستعداد لإفاضة النور وخلق العلم الضروري في قلب العبد غير ظاهر.
نعم لست أنكر إن من المعرفة ما لا يتوقف على نظر في دليل إجمالي أو غيره كمعرفة الأنبياء عليهم السلام على ما سمعت عن بعضهم. وكمعرفة من شاء الله تعالى من عباده سبحانه غيرهم ولا أسمي نحوهذه المعرفة تقليدية. وكذا لا أنكر أن المعرفة الحاصلة من قذف النور فوق المعرفة الحاصلة من النظر في الدليل فإنها يخشى عليها من عواصف الشبه. وأذهب إلى أن النظر في الدليل مطلقًا واجب على من لم يحصل له العقد الجازم إلا به. وأما من حصل له ذلك بأي طريق كان دونه فلا يجب عليه وكذا لا يأثم بتركه. وحكاية الإجماع على إثمه به لا يخفى ما فيها. وتوجيه ذلك بأن جزم المؤمن حينئذ لا ثقة به إذ لوعرضت له شبهة فات وبقي مترددًا بخلاف الجزم الناشيء عن الاستدلال فإنه لا يفوت بذلك غير ظاهر لأنه إذا سلم أن من تم جزمه من غير نظر فقد أتى بواجب الايمان فلا وجه لتأثيمه بترك النظر بناء على مجرد احتمال عروض شبهة مشوشة لجزمه لأنه إذا سلم أن الواجب عليه ليس إلا أن يجزم وقد جزم فقد أدى واجب الوقت وما ترك منه شيئًا. وكل من لم يترك واجبًا معينًا في وقت معين لا معنى لتأثيمه في ذلك الوقت من جهة ذلك الواجب. وكما يحتمل عقلًا إن تعرض له شبهة تشوش عليه الجزم لعدم الدليل كذلك يحتمل عقلًا أن يحصل له الدليل على ما جزم به قبل عروض شبهة ولعل هذا الاحتمال أقوى وأقرب إلى الوقوع.
وإذا أحطت خبرًا بجميع ما ذكرنا علمت أن الاستدلال بقوله تعالى: {فاعلم أَنَّهُ لاَ إله إِلائَ الله} على وجوب النظر في نظر لتوقفه على صحة قولهم: إن العلم لا يحصل إلا بالنظر وقد سمعت ما فيه.
ويقوى ذلك إذا قلنا: إن علمه صلى الله عليه وسلم بالوحدانية ضروري إذ يكون المراد الأمر بالثبات والاستمرار على ما هو صلى الله عليه وسلم فيه اجتناب ما يخل بالعمل. وقد يقال: يجوز أن يكون الاستدلال نظرًا إلى ظاهر اللفظ من حيث أنه أمر بالعلم بالوحدانية فلا بد أن يكون مقدورًا بنفسه أوباعتبار ما يحصل هو منه. وحيث انتفى كونه مقدورًا بنفسه تعين كونه مقدورًا باعتبار ما يحصل هو منه. والظاهر أنه النظر.
وأنت تعلم أنه إن كان التقليد سببًا من أسباب العلم إيضًا لم يتم هذا وإن لم يكن سببًا تم فتأمل. ثم اعلم أن النظر الذي قالوا به في الأصو ل الاعتقادية أعم من النظر في الأدلة العقلية والنظر في الأدلة السمعية. فإن منها ما ثبت بالسمع كالأمور الآخروية ومدخل العقل فيها ليس إلا بأنها أمور ممكنة أخبر الصادق بوقوعها وكل ممنكن أخبر الصادق بوقوعه واقع فتلك الأمور واقعة. وأما النطر في معرفة الله تعالى أعني التصديق بوجوده تعالى وصفاته العلا فقيل: يتعين أن يكون المراد به النظر في الأدلة العقلية فقط. ولا يجوز أن يكون النظر في الأدلة السمعية طريقًا إليها لاستلزامه الدور.
وفي الجواب العتيد الدور لازم لكن لا مطلقًا بل بالنسبة إلى كل مطلوب يتوقف العلم بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم به. وذلك لأن النظر في الأدلة السمعية إنما يكون طريقًا إلى المعرفة إذا كانت صادقة عند الناظر فيها. وصدقها في علم الناظر موقوف على علمه بأن هذا الذي يدعي أنه رسول الله الذي جاء بها صادقًا في دعواه الرسالة.
وعلمه بذلك موقوف على العلم بأن الله تعالى قد أظهر المعجزات على يده تصديقًا له في دعواه وعلمه بذلك موقوف على العلم بأن ثمت إلهًا على صفة يمكن بها أن يبعث رسولا ككونه حيًا عالمًا مريدًا قادرًا وهو من معرفة الإله سبحانه فلواستفدنا العلم بوجود الله تعالى وبتلك الصفات من الدلائل السمعية الموقوفة على صدق الرسول عليه الصلاة والسلام لزم الدور كما ترى.
نعم إذا قيل: إن المكلف بعدما امن بالرسول صلى الله عليه وسلم واعتقد اعتقادًا جازمًا بصدقه في جميع ما جاء به من عند الله تعالى بأي وجه كان ذلك الجزم بالضرورة أوبالنظر أوبالتقليد فله أن يأخذ عقيدته من القرآن من غير تأويل ولا ميل من غير أن ينظر في دليل عقلي كان ذلك كلامًا صحيحًا لا غبار عليه. ولا يلزم منه تحصيل للحاصل بالنسبة إلى ما حصله أولا من المسائل التي يتوقف عليها صدق الرسول عليه الصلاة والسلام لأن التحصيل الثاني من حيث أن الجائي بدلائلها صادق فيها والتحصيل الأول كان بالنظر العقلي من غير اعتبار صدق الرسول عليه الصلاة والسلام فاختلفت الحيثية فليفهم والله تعالى أعلم.
{والله يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ} في الدنيا {ومثوياكم} في الآخرة. وخص المتلقب بالدنيا والمثوى بالآخرة لأن كل أحد متحرك في الدنيا دائمًا نحومعاده غير قار وفي الآخرة مقيم لا حركة له نحو دار وراءها. والمراد من علمه تعالى بذلك تحذيرهم من جزائه وعقابه سبحانه أو الترغيب في امتثال ما يأمرهم جل شأنه به والترهيب عما ينهاهم عز وجل عنه على طريق الكناية. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: متقلبكم تصرفكم في حياتكم الدنيا ومثواكم في قبوركم واخرتكم. وقال عكرمة: متقلبكم في أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات ومثواكم إقامتكم في الأرض؛ وقال الطبري: وغيره: متقلبكم تصرفكم في يقظتكم ومثواكم منامكم. وقيل: متقلبكم في معايشكم ومتاجركم ومثواكم حيث تستقرون من منزلكم. وقيل: متقلبكم في أعمالكم ومثواكم من الجنة والنار.
واختار أبو حيان عمومهما في كل متقلب وفي كل إقامة. ونحوه ما قيل: المراد يعلم جميع أحوالكم فلا يخفى عليه سبحانه شيء منها.
وقرأ ابن عباس {منقلبكم} بالنون. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قال آنفًا}.
ضمير {ومنهم} عائد إلى {الذين كفروا} [محمد: 12] الذين جرى ذكرهم غير مرة من أول السورة. أي ومن الكافرين قوم يستمعون إليك. وأراد بمن يستمع معهم المنافقين بقرينة قوله: {قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال} وقوله: {خرجوا من عندك}.
وليس المراد مجرد المستمعين مثل ما في قوله: {ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تُسمع الصم} [يونس: 42] وقوله: {ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة} [الأنعام: 25] للفرق الواضح بين الأسلوبين. وهذا صنف آخر من الكافرين الذين أسرّوا الكفر وتظاهروا بالإيمان. وقد كان المنافقون بعد الهجرة مقصودين من لفظ الكفار.