فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الماوردي:

{واللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} يحتمل وجهين:
أحدهما: لا يعينهم على نصرة الظلم.
والثاني: لا يُخلِّصُهم من عقاب الظلم. ويحتمل الظلم هنا وجهين:
أحدهما: أنه الكفر خاصة.
والثاني: أنه التعدي من الحق إلى الباطل. اهـ.

.قال أبو حيان:

{والله لا يهدي القوم الظالمين} إخبار من الله تعالى بأن الظالم لا يهديه، وظاهره العموم، والمراد هداية خاصة، أو ظالمون مخصوصون، فما ذكر في الهداية الخاصة أنه لا يرشدهم في حجتهم، وقيل: لا يهديهم إلى الثواب في الآخرة ولا إلى الجنة، وقيل: لا يلطف بهم ولا يلهم ولا يوفق، وخص الظالمون بمن يوافي ظالمًا أي كافرًا.
والذي يظهر أن هذا إخبار من الله بأن من حكم عليه، وقضى بأن يكون ظالمًا أي كافرًا وقدّر أن لا يسلم، فإنه لا يمكن أن يقع هداية من الله له {أفمن حقت عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار}.
ومناسبة هذه الآية بهذا الإخبار ظاهرة، لأنه ذكر حال مدّع شركة الله في الإحياء والإماتة، مموّهًا بما فعله أنه إحياء وإماتة، ولا أحد أظلم ممن يدعي ذلك، فأخبر الله تعالى: أن من كان بهذه الصفة من الظلم لا يهديه الله إلى اتباع الحق، ومثل هذا محتوم له عدم الهداية، مختوم له بالكفر، لأن مثل هذه الدعوى ليست مما يلتبس على مدّعيها، بل ذلك من باب الزندقة والفلسفة والسفسطة، فمدّعيها إنما هو مكابر مخالف للعقل، وقد منع الله هذا الكافر أن يدعي أنه هو الذي يأتي بالشمس من المشرق إذ من كابر في ادّعاء الإحياء والإماتة قد يكابر في ذلك ويدعيه. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وإنّما انتفى هدي الله للقوم الظالمين لأنّ الظلم حائل بين صاحبه وبين التنازل إلى التأمّل من الحجج وإعمال النظر فيما فيه النفع؛ إذ الذهن في شاغل عن ذلك بزهوه وغروره. اهـ.

.أسئلة وأجوبة:

.سؤال: فإن قلت: كيف جاز أن يؤتي الله الملك الكافر؟

قلت: فيه قولان: آتاه ما غلب به وتسلط من المال والخدم والأتباع، وأما التغليب والتسليط فلا، وقيل: ملكة امتحانًا لعباده. اهـ.

.سؤال عن سبب تقديم ذكر الحياة على الموت في هذه الآية:

لقائل أن يقول: إنه تعالى قدم الموت على الحياة في آيات منها قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنتُمْ أمواتا فأحياكم} [البقرة: 28] وقال: {الذى خَلَقَ الموت والحياة} [الملك: 2] وحكي عن إبراهيم أنه قال في ثنائه على الله تعالى: {والذى يُمِيتُنِى ثُمَّ يُحْيِينِ} [الشعراء: 81] فلأي سبب قدم في هذه الآية ذكر الحياة على الموت، حيث قال: {رَبّيَ الذي يُحْىِ وَيُمِيتُ}.
والجواب: لأن المقصود من ذكر الدليل إذا كان هو الدعوة إلى الله تعالى وجب أن يكون الدليل في غاية الوضوح، ولا شك أن عجائب الخلقة حال الحياة أكثر، واطلاع الإنسان عليها أتم، فلا جرم وجب تقديم الحياة هاهنا في الذكر. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

عَجَّل الحق سبحانه لأعدائه عقوبة الفرقة قبل أن يعاقبهم بالحرقة، وهذه العقوبة أشد أثرًا في التحقيق- لو كانت لهم عين البصيرة. وإن الحق سبحانه أخبر أن إبراهيم عليه السلام انتقل مع العدو اللعين من الحجة الصحيحة إلى أخرى، أَوْضَحَ منها- لا لِخَلَلٍ في الحجة- ولكنْ لقصورٍ في فهم الكافر، ومحكُّ مَنْ سُدَّتْ بصائره عن التحقيق تضييعُ الوقت بلا فائدة تُجدِي، لا بمقدار ما يكون من الحاجة لأمرٍ لابد منه. اهـ.

.فصل في جواز تسمية الكافر مَلِكًا:

قال القرطبي:
هذه الآية تدل على جواز تسمية الكافر مَلِكًا إذا آتاه الله المُلْك والعِزّ والرِّفعة في الدنيا، وتدلّ على إثبات المناظرة والمجادلة وإقامة الحجة.
وفي القرآن والسنة من هذا كثير لمن تأمّله؛ قال الله تعالى: {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111].
{إِنْ عِندَكُمْ مِّن سُلْطَانٍ} [يونس: 68] أي من حجة.
وقد وصف خصومة إبراهيم عليه السلام قومه وردّه عليهم في عبادة الأوثان كما في سورة الأنبياء وغيرها.
وقال في قصة نوح عليه السلام: {قَالُواْ يا نوح قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} [هود: 32] الآياتِ إلى قوله: {وَأَنَاْ بريء مِّمَّا تُجْرَمُونَ} [هود: 35].
وكذلك مجادلة موسى مع فرعون إلى غير ذلك من الآي.
فهو كله تعليم من الله عز وجل السؤال والجواب والمجادلة في الدِّين؛ لأنه لا يظهر الفرق بين الحق والباطل إلا بظهور حجة الحق ودحض حجة الباطل.
وجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب وباهَلَهُم بعد الحجة، على ما يأتي بيانه في آل عمران.
وتحَاجّ آدم وموسى فغلبه آدم بالحجة. وتجادل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم السّقِيفَة وتدافعوا وتقرّروا وتناظروا حتى صدر الحق في أهله، وتناظروا بعد مبايعة أبي بكر في أهل الردّة، إلى غير ذلك مما يكثر إيراده.
وفي قول الله عز وجل: {فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} [آل عمران: 66] دليل على أن الاحتجاج بالعلم مباح شائع لمن تدبر.
قال المُزنِيّ صاحب الشافعيّ: ومِن حق المناظرة أن يراد بها الله عز وجل وأن يُقبل منها ما تبيّن.
وقالوا: لا تصح المناظرة ويظهر الحق بين المتناظرين حتى يكونوا متقاربين أو مستويين في مرتبة واحدة من الدين والعقل والفهم والإنصاف، وإلاّ فهو مِرَاءٌ ومكابرة. اهـ.

.قال القرطبي:

ذكر الأصوليون في هذه الآية أن إبراهيم عليه السلام لما وصف ربه تعالى بما هو صفة له من الإحياء والإماتة لكنه أمر له حقيقة ومجاز، قصد إبراهيم عليه السلام إلى الحقيقة، وفَزِع نمروذ إلى المجاز ومَوّه على قومه؛ فسلّم له إبراهيم تسليم الجدل وانتقل معه من المثال وجاءه بأمر لا مجاز فيه {فَبُهِتَ الذي كَفَرَ} أي انقطعت حجته ولم يمكنه أن يقول أنا الآتي بها من المشرق؛ لأن ذوي الألباب يكذبونه. اهـ.

.قال الجصاص:

وَفِي حِجَاجِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهَذَا أَلْطَفُ دَلِيلٍ وَأَوْضَحُ بُرْهَانٍ لِمَنْ عَرَفَ مَعْنَاهُ وَذَلِكَ أَنَّ الْقَوْمَ الَّذِينَ بُعِثَ فِيهِمْ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانُوا صَابِئِينَ عَبَدَةَ أَوْثَانٍ عَلَى أَسْمَاءِ الْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ، وَقَدْ حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ وَلَمْ يَكُونُوا يُقِرُّونَ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَكَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ حَوَادِثَ الْعَالَمِ كُلَّهَا فِي حَرَكَاتِ الْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ وَأَعْظَمُهَا عِنْدَهُمْ الشَّمْسُ وَيُسَمُّونَهَا وَسَائِرَ الْكَوَاكِبِ آلِهَةً وَالشَّمْسُ عِنْدَهُمْ هُوَ الْإِلَهُ الْأَعْظَمُ الَّذِي لَيْسَ فَوْقَهُ إلَهٌ، وَكَانُوا لَا يَعْتَرِفُونَ بِالْبَارِي جَلَّ وَعَزَّ وَهُمْ لَا يَخْتَلِفُونَ وَسَائِرُ مَنْ يَعْرِفُ مَسِيرَ الْكَوَاكِبِ أَنَّ لَهَا وَلِسَائِرِ الْكَوَاكِبِ حَرَكَتَيْنِ مُتَضَادَّتَيْنِ: إحْدَاهُمَا مِنْ الْمَغْرِبِ إلَى الْمَشْرِقِ وَهِيَ حَرَكَتُهَا الَّتِي تَخْتَصُّ بِهَا لِنَفْسِهَا، وَالْأُخْرَى تَحْرِيكُ الْفُلْكِ لَهَا مِنْ الْمَشْرِقِ إلَى الْمَغْرِبِ وَبِهَذِهِ الْحَرَكَةُ تَدُورُ عَلَيْنَا كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ دَوْرَةً، وَهَذَا أَمْرٌ مُقَرَّرٌ عِنْدَ مَنْ يَعْرِفُ مَسِيرَهَا؛ فَقَالَ لَهُ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إنَّك تَعْتَرِفُ أَنَّ الشَّمْسَ الَّتِي تَعْبُدُهَا وَتُسَمِّيهَا إلَهًا لَهَا حَرَكَةُ قَسْرٍ لَيْسَ هِيَ حَرَكَةَ نَفْسِهَا بَلْ هِيَ بِتَحْرِيكِ غَيْرِهَا لَهَا يُحَرِّكُهَا مِنْ الْمَشْرِقِ إلَى الْمَغْرِبِ، وَاَلَّذِي أَدْعُوك إلَى عِبَادَتِهِ هُوَ فَاعِلُ هَذِهِ الْحَرَكَةِ فِي الشَّمْسِ، وَلَوْ كَانَتْ إلَهًا لَمَا كَانَتْ مَقْسُورَةً وَلَا مُجْبَرَةً.
فَلَمْ يُمْكِنْهُ عِنْدَ ذَلِكَ دَفْعَ هَذِهِ الْحِجَاجِ بِشُبْهَةٍ وَلَا مُعَارَضَةٍ إلَّا قَوْلَهُ: {حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} وَهَاتَانِ الْحَرَكَتَانِ الْمُتَضَادَّتَانِ لِلشَّمْسِ وَلِسَائِرِ الْكَوَاكِبِ لَا تُوجَدَانِ لَهَا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ، لِاسْتِحَالَةِ وُجُودِ ذَلِكَ فِي جِسْمٍ وَاحِدٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَلَكِنَّهَا لابد مِنْ أَنْ تَتَخَلَّلَ إحْدَاهَا سُكُونٌ فَتُوجَدَ الْحَرَكَةُ الْأُخْرَى فِي وَقْتٍ لَا تُوجَدُ فِيهِ الْأُولَى. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ}.
وساعة تسمع {ألم تر}؛ فأنت تعلم أنها مكونة من همزة هي أو حرف نفي وهو لم، ومنفي هو تر والهمزة: تأتي هنا للإنكار، والإنكار نفي بتقريع، ولكنها لم تدخل على فعل مثبت حتى يقال: إنها أنكرت الفعل بعدها، مثلما تقول للولد: أتضرب أباك! هنا الهمزة جاءت لا لتستفهم وإنما أتت تنكر هذه الفعلة، لأن الفعل بعدها مثبت وهو تضرب، وجاءت الهمزة قبله فتسمى همزة إنكار للتقريع. إذن فالإنكار: نفي بتقريع إذا دخلت على فعل منفي.
ومادام الإنكار نفيا والفعل بعدها منفي فكأنك نفيت النفي، إذن فقد أثبته، كأنه سبحانه عندما يقول للرسول صلى الله عليه وسلم: {ألم تر} فالمقصود أنت رأيت. ولماذا لم يقل له: أرأيت. لقد جاء بها بأسلوب النفي كي تكون أوقع، فقد يكون مجيء الإثبات تلقينًا للمسئول، فعندما يقول لك صديق: أنت لم تسأل عني وأنت تهملني. فأنت قد ترد عليه قائلا: ألم أساعدك وأنت ضعيف؟ ألم آخذ بيدك وأنت مريض؟
لقد سبق أن قدمت خدماتك لهذا الصديق، ولكنك تريد أن تنكر النفي الذي يقوله هو، وهكذا نعلم أن نفي النفي إثبات، ولذلك فنحن نأخذ من قوله تعالى من هذه العبارة {ألم تر} على معنى: أنت رأيت، والرؤية تكون بالعين. فهل رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم- وهو المخاطب الأول بالقرآن الكريم من ربه- هل رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الحادثة أيام إبراهيم؟ طبعا لا، فكأن {ألم تر} هنا تأتي بمعنى: ألم تعلم.
ولماذا جاء ب {ألم تر} هنا؟ لقد جاء بها لنعلم أن الله حين يقول: ألم تعلم فكأنك ترى ما يخبرك به، وعليك أن تأخذه على أنه مصدق كأنك رأيته بعينك. فالعين هي حاسة من حواسك، والحاسة قد تخدع، ولكن ربك لا يخدع، إذن ف {ألم تر} تعني: ألم تعلم علم اليقين، وكأنك قد رأيت ما يخبرك به الله، ولذلك يقول تعالى للرسول: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1)} سورة الفيل.
والرسول ولد عام الفيل، فلم ير هذه الحادثة، وكأن الله يخبره بها ويقول له: ألم تعلم، وكأنه يقول له: اعلم علمًا يقينا كأنك تراه؛ لأن ربك أوثق من عينيك، وعندما يقال: {ألم تر} فالمراد بها ألم تر كذا، لكن الحق قال: {ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه} واستعمال حرف إلى هنا يشير إلى أمر عجيب قد حدث ومثال ذلك ما نقوله أحيانا: ألم تر إلى زيد يفعل كذا. فكأن ما فعله زيد أمر عجيب، وكأنه ينبه هنا إلى الالتفات إلى نهاية الأمر، لأن إلى تفيد الوصول إلى غاية، فكأنها مسألة بلغت الغاية في العجب، فلا تأخذها كأنك رأيتها فقط، ولكن انظر إلى نهايتها فيما حدث.
والحق يقول هنا: {ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه} وإلى جاءت هنا لتدل على أنه أمر بلغ من العجب غاية بعيدة، وهو بالفعل قد بلغ من العجب غاية بعيدة، والحق سبحانه وتعالى لم يقل لنا من هو ذلك الإنسان الذي حاج إبراهيم في ربه، لأنه لا يعنينا التشخيص سواءً كان النمروذ أو غيره.
فإذا ذهب بعض المفسرون إلى القول: إنه ملك واسمه النمروذ. فإننا نقول لهم شكرًا لاجتهادكم، ولكن لو شاء الله تحديد اسم الرجل لحدده لنا، والذي يهمنا هو أنه واحد خرج على رسول اله إبراهيم عليه السلام وجادله في هذه المسألة، والتشخيص هنا ليس ضروريًا، والحق سبحانه وتعالى حينما يريد شيوع الأمر وإمكان حدوثه في أي زمان أو مكان فإن الله لا يشخص الأمر، فأي إنسان في أي مكان قد يحاجج أي مؤمن. وليس كذلك الأمر بالنسبة لأي تشخيص أو تحديد، ومثال ذلك هؤلاء الذين يريدون أن يعرفوا قصة أهل الكهف، ويتساءلون: أين ومتى، وكم عددهم، ومن هم؟
ونقول: لو جاءت واحدة من هؤلاء لفسدت القصة؛ لأنه لو حددنا زمانها سيأتي واحد يقول لك: مثل ذلك الزمان الذي حدثت فيه القصة كان يسمح بها. ولو حددنا المكان سيقول آخر: إن المكان كان يسمح بهذه المسألة. ولو حددنا الأشخاص بأسمائهم فلان وفلان، فسيقول ثالث: إن مثل هذه الشخصيات يمكن أن يصدر منها مثل هذا السلوك وأني لنا بقوة إيمان هؤلاء؟ والحق لم يحدد الزمان والمكان والأشخاص وجاء بها مبهمة ليدل على أن أي فتية في أي زمان وفي أي مكان يقولون ما يقولون، ولو شخصها في واحد لفسد المراد. للنظر إلى دقة الحق حين ضرب مثلا للذين كفروا بامرأة نوح وامرأة لوط حين قال جل وعلا: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)} سورة التحريم.
ولم يحدد لنا اسم امرأة من هاتين المرأتين، بل ذكر الأمر المهم فقط؛ وهو أن كلا منهما زوجة لرسول كريم، ولكن كلا منهما أصرت على الكفر فدخلتا النار. ولكن الحق سبحانه وتعالى حين أراد التخصيص بحادث لن يتكرر في أي زمان أو مكان جاء بذكر السيدة مريم بالتشخيص والتحديد الواضح حين قال: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)} سورة التحريم.
تحديد الحق لمريم بالاسم والحادث لماذا؟ لأن الواقعة غير قابلة للتكرار من آية امرأة أخرى. التشخيص هنا واجب؛ لأنه لن تلد امرأة من غير زوج إلا هذه، إنما إذا كانت المسألة ستتكرر في أي زمان أو مكان فهو سبحانه يأتي بوصفها العام، ومثال ذلك قول الحق: {ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم} فلم يقل لنا: من هو؟ حاج أصلها حاجج، مثل قاتل وشارك. وعندما يكون هناك حرفان مثلان، فنحن نسكن الأول وندغم الثاني فيه وذلك للتخفيف، فتصير حاج، وحاج من مادة فاعل التي تأتي للمشاركة، وحتى نفهم معنى المشاركة. إليكم هذا المثال: نحن نقول: قاتل زيد عمرًا، أو نقول: قاتل عمرو زيدًا، ومعنى ذلك أن كلًا منهما قد تقاتل، وكلاهما فاعل ومفعول في الوقت نفسه، لكننا غلبنا جانب الفاعل في واحد، وجانب المفعول في الثاني. برغم أن كلا منهما فاعل ومفعول معا.
ومثال آخر، حين نقول: شارك زيد عمرًا، وشارك عمرو زيدًا، إذن فالمفاعلة جاءت من الاثنين، هذا فاعل وهذا مفعول، لكننا عادة نغلب الفاعلية فيمن بدأ، والمفعولية في الثاني، وإن كان الثاني فاعلا أيضا. ولذلك يقول الشاعر عندما يريد أن يشرح حال إنسان يمشي في مكان فيه حيات كثيرة ومتحرزًا من أن حية تلدغه فقال:
قد سالم الحيات منه القدم ** الأفعوان والشجاع القشعما

إن الشاعر هنا يصف لنا إنسانًا سار في مكان مليء بالحيات، وعادة ما يخاف الإنسان أن تلدغه حية، لكن هذا الإنسان الموصوف في هذا البيت نجد أن الحيات قد سالمت قدمه، أي لم تلدغه لأنه لم يهجها، والثعابين عادة لا تلدغ إلا من يبدأها بالإهاجة، نجد هنا أن الفاعل هو الحيات؛ لأنها سالمت قدمه. ويصح أيضا أن نقول: إن القدم هي التي سالمت الحيات. ونحن نعرف من قواعد اللغة ما درسناه قديما ما يسمى البدل، والبدل يأخذ حكم المبدل منه، فإن كان المبدل منه مجرورًا كان البدل كذلك. هنا جاءت الحيات في هذا البيت من الشعر مرفوعة ولكن الأفعوان جاءت في البيت منصوبة مع أنها بدل من مرفوع هو الحيات لأنه لاحظ ما فيها أيضًا من المفعولية فأتى بها منصوبة. كما أن بالإمكان أن تقرأ الحيات بالنصب والقدم بالرفع لأن كلا منهما فاعل ومفعول من حيث المسالمة.
وكذلك في قول الحق سبحانه: {ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه} نحن نلاحظ أن كلمة إبراهيم تأتي في الآية الكريمة منصوبة بالفتحة، أي يغلب عليها المفعولية. فمن إذن الذي حاج إبراهيم؟ إنه شخص ما، وهو الفاعل؛ لأنه الذي بدأ بالمحاجة، وهكذا تدلنا الآية الكريمة، وتصف الآية ذلك الرجل {أن آتاه الله الملك} أي أن الرجل هو الذي بدأ الحجاج قائلا لإبراهيم: من ربك؟
فقال إبراهيم عليه السلام: {ربي الذي يحيي ويميت} وهذه هي براعة القرآن في أن يترك الشيء ثقة بأن السامع يرد كل شيء إلى أصله، فقوله الحق: {إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت} فكأن الذي حاج إبراهيم سأله: من ربك؟ فقال إبراهيم: {ربي الذي يحيي ويميت}. ولنا أن نلحظ أن هذه الآية قد جاءت بعد قوله الحق في الآية السابقة: {الله ولي الذين آمنوا}، والولاية هي النصر والمحبة والمعونة، فيريد سبحانه أن يبين لنا كيف أعان الله إبراهيم على من حاجه، إلا أن الذي حاج إبراهيم دخل في متاهات السفسطة بعد أن سمع قول إبراهيم: {ربي الذي يحيي ويميت}، وقد جاء الحق ب {يحيي ويميت}؛ لأن تلك القضية هي التي لم يدع أحد أنه فعلها، ولم يدع أحد أنه شريك فيها، حتى الكافرون إذا سألتهم: من الذي خلق؟ يقولون الله.
اذن فهذه قضية ثابتة. إلا أن الخصم الذي حاج إبراهيم أراد أن ينقل المحاجة نقلة سفسطائية. والسفسطة كما نعلم هي الكلام الذي يطيل الجدل بلا نهاية. وقال الرجل الذي يحاج إبراهيم عليه السلام: إذا كان ربك الذي يحيي ويميت فأنا أحيي وأميت. فسأله إبراهيم عليه السلام؛ كيف تحيي أنت وتميت؟ قال الرجل: أنا أقدر أن أقتل ما عندي من مساجين وأقدر ألا أقتلهم، فالذي لم أقتله كأنني أحييته، والذي قتلته فقد أمته.
ولم يقل سيدنا إبراهيم لنتفق أولا ما الحياة؟ وما الموت؟ ذلك أن إبراهيم خليل الرحمن لم يشأ أن يطيل هذه المجادلة، فجاء له بأمر يلجمه من البداية وينتهي الجدل، فقال له: {إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر}. وهكذا أنهى سيدنا إبراهيم هذا الجدل. كان من الممكن أن يدخل معه سيدنا إبراهيم في جدل، ويقول له: ما هي الحياة؟
ونحن نعرف أن الحياة هي إعطاء المادة ما يجعلها متحركة حساسة مريدة مختارة أما الموت فهو إخراج الروح من الجسد، فالذي يقتل إنسانًا؛ إنما يخرج روحه من جسده، والقتل يختلف عن الموت؛ لأن الموت خروج الروح من الجسد بدون جرح، أو نقض بنية، أو عمل يفعله الإنسان في بدنه كالانتحار. وقد يكون الإنسان جالسا مكانه وينتهي عمره فيموت، ولا أحد قادر قبل ذلك أن يقول له: مت فيموت، هذا هو الموت، لكن إزهاق الروح بجرح جسيم أو نقض بنية فهذا هو القتل وليس الموت، ولذلك يجعل الله القتل مقابلا للموت، في قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلًا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)} سورة آل عمران.
وقد أوضح لنا الله سبحانه وتعالى الفرق بين الموت والقتل، وجعل كلا منهما مقابلًا للآخر، فعندما أشيع أن رسول الله قد قتل، هم بعض المسلمين بالارتداد إلى الكفر، فأنكر الله عليهم ذلك قائلا: إن محمدًا رسول من عند الله قد مات من قبله المرسلون أفإن مات أو قتل رجعتم عن الإيمان للكفر، ومن يفعل ذلك فإنما يضر نفسه، والثواب عند الله للثابتين على منهج الله الشاكرين لنعمه، أوضح لنا الحق أن موت أي إنسان لا يمكن أن يحدث إلا بإذن الله، وقد كتب الله ذلك في كتاب مشتمل على الآجال.
ويريد الله أن ينبهنا ويلفتنا إلى حقيقة هامة وهي أن الرسل في جدلهم مع أممهم أو مع المناقشين لهم لا يكون الهدف أن النبي يظفر بالغلبة وإنما يكون الهدف بالنسبة للرسول أو النبي أن يصل إلى الحقيقة، ولذلك لم يتوقف إبراهيم عليه السلام مع الرجل الذي يحاجه في الله عند نقطة الإحياء والإماتة؛ لأنه رأى في مناقشة الرجل لونا من السفسطة. وعلينا ونحن نتدبر آيات القرآن بالخواطر الإيمانية أن نفهم الفرق بين الإماتة والقتل. الصحيح أن الإماتة والقتل يشتركان في أمر واحد وهو خروج الروح من الجسد. والإماتة تختلف عن القتل بأنه لا يقدر عليها إلا واهب الحياة الذي وضع مقومات خاصة في البنية الإنسانية حتى تسكنها الروح، وهو القادر على أن يسلب الروح بأمر غير محس.
أما القتل فهو أن تجرح إنسانًا فيموت، أو تنقض بنيته، تكسر له رأسه مثلًا، أما الإماتة فهي أن تنقبض حياته بمجرد الأمر دون أن تقربه، هل أحد من البشر يقدر على هذه؟ لا. إذن فالذي حاج إبراهيم لم يحي الذي قال: إنه سيتركه بدون عقوبة، إنه لم يقتله، لكنه أبقى الحياة التي كانت فيه، هذا إذا أردنا أن ندخل في جدل. والله قد جعل القتل مقابلًا للموت، صحيح أنهما ينتهيان بأن لا روح، لكن هناك فرق بين أن تؤخذ الروح بدون هذه الوسائل. وأن تترك الروح البدن لأن بنيته قد تهدمت. وإياك أن تظن أن الروح لا تخضع لقوانين معينة، إن الروح لا تحل إلا في مادة خاصة، فإذا انتهت المقومات الخاصة في المادية فالروح لا تسكنها، فلا تقل: إنه عندما ضربه على رأسه أماته! لا، هو لم يخرج الروح لأن الروح بمجرد ما انتهت البنية تختفي.
والمثال الذي يوضح ذلك: لنفترض أن أمامنا نورًا، إذا كسرت الزجاجة يذهب النور. هل الزجاجة هي النور؟ لا، لكن الكهرباء لا تظهر إلا في هذه الزجاجة، كذلك الروح لا توجد إلا في بنية لها مواصفات خاصة، إذن فالقاتل لا يخرج الروح ولكنه يهدم البنية بأمر محس؛ فالأمر الغيبي وهو الروح لا يسكن في بنية مهدومة.
{ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك}، انظر إلى الطغيان أتجعل إيتاء الملك وهو نعمة وسيلة إلى التمرد على من أنعم عليك بهذا؟ أتجعل شكر النعمة بأنك تخالف المنعم؟ من الذي أبطره؟ أأبطره أن آتاه الله الملك؟ وكيف يعين الله واحدًا ليس مؤمنا به؟ والملك- بمعنى الأمر والنهي- إنما يكون للمبلغ عن الله، إنما الملك الآخر ملك السلطان بأن يحكم إنسانا على جماعة، فمن الجائز أن يكون مؤمنا، وأن يكون كافرًا.
وقوله: {أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت} هو جواب على من قال: {من ربك} فجاءته إجابة إبراهيم عليه السلام {ربي الذي يحيي ويميت فقال أنا أحيي وأميت} وعرفنا ما في هذا الأمر من سفسطة، فلم يقل له إبراهيم: أأنت تحيي وتميت، بل ينقله إلى أمر آخر، كأنه قد قال له: اترك الأمر الغيبي وهو الروح، وتعالى للأمر المشهود {قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر}. ولأن الله ولي الذي آمنوا فهو سبحانه لم يلهم المحاج أن يرد؛ كان يستطيع أن يقول له: اجعل من يأتي بها من المشرق يأت بها من المغرب، لكنه لم يقلها! مما يدل على أنه غبي! أو يكون ذكيا فيقول: إن الرب الذي معه بهذا الشكل قد يفعلها، فخاف. إذن ف {الله ولي الذين آمنوا} حقا. وهو سبحانه {يخرجهم من الظلمات إلى النور}.
وما معنى كلمة {بهت}؟ إن البهت يأخذ ثلاث صور: الصورة الأولى: الدهشة؛ نقله فيما يمكن أن تحدث فيه مماحكة إلى مالا تحدث فيه مماحكة وجدال، أراد أن يجد أمرًا يرد به فلم يقدر، مثلما قال: أنا أحيي وأميت، لقد هش، وأول ما فاجأه هو الدهش، ثم كان التحير، أراد أن يجد أي مخرج من هذه الورطة فلم يجد، إذن فقد هزم. فهذه هي نهاية البهت. ف {بهت} تعني أنه دهش أولا، فتحير في أن يرد ثانيا، فكان نتيجة ذلك أنه هزم ثالثا، وهذا أمر ليس بعجيب؛ لأنه مادام كافرًا فليس له ولي، أو وليه من لا يقدر {أولياؤهم الطاغوت}، أما إبراهيم خليل الرحمن فوليه الله.
ويختم الحق الآية بقوله: {والله لا يهدي القوم الظالمين} لا يهديهم إلى برهان، ولا إلى دليل، ولا إلى حجة، لأن وليهم الشيطان، {والله لا يهدي القوم الظالمين} والآية التي تأتي من بعد ذلك كلها ستتدخل في الحياة والموت، ومن المهم أن الآية تدخل في الحياة والموت كي لا نفهم أن إبراهيم إنما ترك المحاجة مع ذلك الذي حاجه في أمر الموت والحياة هربا من الكلام فيها، لذلك يريد الله أن يستوفي تلك القضية استيفاء في قصص متعددة، ويبسط الحق القضية التي عدل عنها إبراهيم وهي الموت والحياة فيقول سبحانه: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا}. اهـ.