فصل: تفسير الآيات (31- 35):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه. وأنه محبط أعمالهم.
فاحذر كل الحذر من الدخول في الذين قالوا: سنطيعكم في بعض الأمر. اهـ.

.تفسير الآيات (31- 35):

قوله تعالى: {ولنبلونكم حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوأَخْبَارَكُمْ (31) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرسول مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمنوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرسول ولا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ ولنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أخبر سبحانه أنه يعرفهم لنبيه صلى الله عليه وسلم. أتبعه الإخبار بأنه يعرفهم لكافة المؤمنين أيضًا. فقال مؤكدًا لأجل ظنهم أن عندهم من الملكة الشديدة والعقل الرصين ما يخفون به أمورهم: {ولنبلونكم} أي نعاملكم معاملة المبتلى بأن تخالطكم بما لنا من صفات العظمة بالأوامر الشديدة على النفوس النواهي الكريهة إليها والمصائب. خلطة مميلة محيلة. وهكذا التقدير في الفعلين الاتيين في قراءة الجماعة بالنون جريًا على الأسلوب الأول. وفي قراءة أبي بكر عن عاصم بالياء الضمير لله تعالى الذي هو محيط بصفات العظمة الراجعة إلى القهر وغيرها من صفات الإكرام الائلة إلى الأنعام. فهو في غاية الموافقة لقراءة النون {حتى نعلم} بالابتلاء علمًا شهوديًا يشهده غيرنا مطابقًا لما كنا تعلمه علمًا غيبيًا فنستخرج من سرائركم ما كوناه فيكم وجبلناكم عليه مما لا يعلمه أحد منكم بل ولا تعلمونه أنتم حق علمه {المجاهدين منكم} في القتال وفي سائر الأعمال والشدائد والأهوال امتثالًا للأمر بذلك.
ولما كان عماد الجهاد الصبر على المكاره قال تأكيدًا لأمره: {والصابرين} أي على شدائد الجهاد وغيره من الأنكاد. قال القشيري: فبالابتلاء والامتحان تتبين جواهر الرجال. فيظهر المخلص ويتضح المماذق وينكشف المنافق.
ولما نصب معيارًا للعلم بالذوات. أتبعه مسبارًا للمعرفة للأخيار. فقال عاطفًا على (نعلم) في رواية الجماعة وعلى {نبلو} في الرواية عن يعقوب بإسكان الواو: {ونبلوا أخباركم} أي نخالطها بأن نسلط عليها من يحرفها فيجعل حسنها قبيحًا وقبيحًا مليحًا ليظهر للناس العامل لله والعامل للشيطان. فإن العامل لله إذا سمى قبيحه باسم الحسن علم أن ذلك إحسان من الله إليه فيستحيي منه ويرجع إليه. وإذا سمى حسنه باسم القبيح واشتهر به علم أن ذلك لطف من الله به كيلا يدركه العجب أو يهاجمه الرياء فيزيد في إحسانه. والعامل للشيطان يزداد في القبائح.
لأن شهرته عند الناس محط نظره. ويرجع عن الحسن لأنه لم يوصله إلى ما أراد به من ثناء الناس عليه بالخبر ولم يؤكد بنا. وفي قراءة يعقوب إشارة إلى أن إحالة حال المخبر بعد ظهور خبره أسهل من إحالته قبل ظهوره. وعن الفضيل أنه كان إذا قرأ هذه الآية بكى وقال: اللهم لا تبلنا فإنك إن بلوتنا هتكت أستارنا وفضحتنا.
ولما جرت العادة بأن الإنسان لا يعذب ولا يهدد إلى من ضره كما تقدم من الإخبار بنكالهم وقبيح أعمالهم مهيئًا للسؤال عن ذلك فاستأنف قوله مؤكدًا لظنهم أنهم هم الغالبون لحزب الله: {إن الذين كفروا} أي غطوا من دلت عليه عقولهم من ظاهر آيات الله لاسيما بعد إرسال الرسول المؤيد بواضح المعجزات صلى الله عليه وسلم {وصدوا} أي امتنعوا ومنعوا غيرهم زيادة في كفرهم {عن سبيل الله} أي الطريق الواضح الذي نهجه الملك الأعظم.
ولما كان أكثر السياق للمساترين بكفرهم. أدغم في قوله: {وشاقوا الرسول} أي الكامل في الرسلية المعروفة غاية المعرفة.
ولما كان سبحانه قد عفا عن إهمال الدليل العقلي على الوحدانية قبل الإرسال. قال مثبتًا الجار إعلامًا بأنه لا يغفر لمضيعه بعد الإرسال ولوفي أدنى وقت: {من بعد ما تبين} أي غاية التبين بالمعجز {لهم الهدى} بحيث صار ظاهرًا بنفسه غير محتاج بما أظهره الرسول من الخوارق إلى مبين. ومنه ما أخبرت به الكتب القديمة الإليهة.
ولما كان المناصب للرسول إنما ناصب من أرسله. دل على ذلك بقوله معريًا له من الفاء دلالة على عدم التسبيب بمعنى أن عدم هذا الضر موجود عملوا أولم يعملوا وجدوا أولم يوجدوا {لن يضروا الله} أي ملك الملوك. ولم يقل: الرسول {شيئًا} أي كثيرًا ولا قليلًا من ضرر بما تجمعوا عليه من الكفر والصد.
ولما كان التقدير: إنما ضروا أنفسهم ناجزًا بأنهم أتعبوها مما لم يغن عنهم شيئًا.
عطف عليه: {وسيحبط} أي يفسد فيبطل بوعد لا خلق فيه {أعمالهم} من المحاسن لبنائها من المنافق على غير أساس ثابت. فهو إنما يرائي بها. ومن المجاهر على غير أساس أصلًا. فلا ينفعهم شيء منها. ومن المكائد التي يريدون بها توهين الإسلام ونجعل تدميرهم بها في تدبيرهم وإن تناهوا في إحكامها. فلا تثمر لهم إلا عكس مرادهم سواء.
ولما حدى ما تقدم كله من ترغيب المخلص وترهيب المتردد والمبطل إلى الإخلاص ودعا إلى ذلك مع بيان أنه لا غرض أصلًا. وإنما هو رحمة ولطف وإحسان ومنّ. أنتج قوله مناديًا من احتاج إلى النداء من نوع بعد لاحتياجه إلى ذلك وعدم مبادرته قبله: {يا أيها الذين آمنوا} أي أقروا بألسنتهم {أطيعوا الله} أي الملك الأعظم تصديقًا لدعواكم طاعته بشدة الاجتهاد فيها أنها خالصة. وعظم الرسول الله صلى الله عليه وسلم بإفراده فقال تعالى: {وأطيعوا الرسول} لأن طاعته من طاعة الذي أرسله. فإذا فعلتم ذلك حققتم أنفسكم وأعمالكم كما مضى أول السورة. فتكون صحيحة ببنائها على الطاعة بتصحيح النيات وتصفيتها مع الإحسان للصورة في الظاهر ليكمل العمل صورة وروحًا.
ولما كانت الطاعة قد تحمل على إقامة الصورة الظاهرة. قال منبهًا على الإخلاص لتكمل حسًا ومعنى: {ولا تبطلوا أعمالكم} أي بمعصيتهما. فإن الأعمال الصالحة إذا نوى لها ما لا يرضيهما بطلب وإن كانت في الذروة من حسن الصورة. فكانت صورة بلا معنى. فهي مما يكون هباء منثورًا مثل ما فعل أولئك المظهرون للإيمان المبطنون للمشاققة بالنفاق والرياء والعجب والملء والأذى ونحوذلك من المعاصي. ولكن السياق بسياقه ولحاقه يدل على أن الكفر هو المراد الأعظم بذلك. والآية من الاحتباك: ذكر الطاعة أولا دليلًا على المعصية ثانيًا. والإبطال ثانيًا دليلًا على الصحة أولا. وسره أنه أمر بمبدأ السعادة ونهى عن نهاية الفساد ثانيًا. لأنه أعظم في النهي عن الفساد لما فيه من تقبيح صورته وهتك سريرته.
ولما دل ما أخبر به أولا عن المشاققين على أنهم مغلوبون في الدنيا خاسرون في الآخرة. وكانت الخسارة في الآخرة مشروطة بشرط. علل ما أمر به المؤمنون هنا من الطاعة ونهوا عنه من إبطال الأعمال بالمعصية. زيادة في حثهم على ما أمر به بعلتين كل منها مستقل بامتثال أمره واجتناب نهيه: إحدهما عدم المغفرة. والثانية بطلأن الأعمال والأموال بكون الدنيا لا حقيقة لها. وقدم الأولى لأن الثانية- وهي أن الدنيا لعب- كالعلة الحاصلة على ما أوجبها. ومن حسن التعليم بيان الحكم ثم تعليله بأقرب ما يحمل عليه أو يصد عنه. فكأنه قيل: لا تبطلوها بالصد عن سبيل الله الحامل عليه الإقبال على الدنيا التي هي عين الباطل. فإنكم إن فعلتم ذلك فاتتكم المغفرة. وذلك من معنى قوله تعالى مؤكدًا لإنكارهم مضمونه: {إن الذين كفروا} أي أوقعوا الكفر بفعلهم فعل الساتر لما دله عليه عقله من آيات الله المرئية ثم المسموعة {وصدوا عن سبيل الله} أي طريق الملك الأعلى الواضح المستقيم الموصل إلى كل ما ينبغي أن يقصد كل من أراده بتماديهم على باطلهم وأذاهم لمن خالفهم.
ولما كان هذا أمرًا قبيحًا من جهات عديد لما فيه من مخالفة الملك الأعظم المرهوب بطشه المحذورة سطوته. ومن ترك الواسع إلى الضيق والمستقيم إلى المعوج والموصل إلى الفوز إلى الموصل إلى الخيبة. فكان التمادي فيه في غاية البعد. نبه على ذلك بأداة التراخي فقال: {ثم ماتوا} أي بعد المدلهم في مضمارهم بالتطويل في أعمارهم {وهم} أي والحال أنهم {كفار} ولما كان السبب الأعظم في الإحباط الموت على الكفر. نبه عليه بالفاء الدالة على ربط الجزاء بالشرط وتسببه عنه فقال مؤكدًا له لإنكارهم ذلك: {فلن يغفر الله} أي المحيط بجميع صفات الكمال التي تمنع من تسوية المسيء بالمحسن {لهم} فلا يمحوذنوبهم ولا يستر عيوبهم. بل يفضح سرائرهم ويوهن كيدهم ويردهم على أعقابهم في كل ما يتقلبون فيه لأنهم قد أبطلوا أعمالهم بالخروج عن دائرة الطاعة. فلم يبق لهم ما يغفر لهم بسببه. وقد دلت هذه الآية على ما دلت عليه آية البقرة من أن إحباط العمل في المرتد مشروط بالموت على الكفر.
ولما قدم سبحانه ذم الكفرة وأنه عليهم وأنه يبطل أعمالهم في الدنيا في الحرب وغيرها. وختم بأن عداوته لهم متحتمة لا انفكاك لها. وكان ذلك موجبًا للاجتراء عليهم. سبب عنه قوله مرغبًا لهم في لزوم الجهاد محذرًا من تركه: {فلا تهنوا} أي تضعفوا ضعفًا يؤدي بكم إلى الهوان والذل {وتدعوا} أي أعداءكم {إلى السلم} أي المسالمة وهي الصلح {وأنتم} أي والحال أنكم {الأعلون} على كل من ناواكم لأن الله عليهم. ثم عطف على الحال قوله: {والله} أي الملك الأعظم الذي لا يعجزة شيء ولا كفوء له {معكم} أي بنصره ومعونته وجميع ما يفعله الكرمي إذا كان مع غيره. ومن علم أن سيده معه وعلم أنه قادر على ما يريد لم يبال بشيء أصلًا {ولن يتركم أعمالكم} أي فيسلبكموها فيجعلكم وترًا منها بمعنى أنه يبطلها كما يفعل مع أعدائكم في إحباط أعمالهم فيصيرون مفردين عنها لأنكم لم تبطلوا أعمالكم بجعل الدنيا محط أمركم. فلا يجوز لإمام المسلمين أن يجيب إلى مسالمة الكفار وبه قوة على مدافعتهم. ولا يحل له ترك الجهاد إلا لمعنى يظهر فيه النظر للمسلمين. ومتى لم يجاهد في سبيل الله انصرف بأسه إلى المسلمين. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{ولنبلونكم حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوأَخْبَارَكُمْ (31)} أي لنأمرنكم بما لا يكون متعينًا للوقوع. بل بما يحتمل الوقوع ويحتمل عدم الوقوع كما يفعل المختبر. وقوله تعالى: {حتى نَعْلَمَ المجاهدين} أي نعلم المجاهدين من غير المجاهدين ويدخل في علم الشهادة فإنه تعالى قد علمه علم الغيب وقد ذكرنا ما هو التحقيق في الابتلاء. وفي قوله: {حتى نَعْلَمَ} وقوله: {المجاهدين} أي المقدمين على الجهاد {والصابرين} أي الثابتين الذين لا يولون الأدبار وقوله: {وَنَبْلُوأخباركم} يحتمل وجوهًا أحدها: قوله: {امنا} [البقرة: 8] لأن المنافق وجد منه هذا الخبر والمؤمن وجد منه ذلك أيضًا. وبالجهاد يعلم الصادق من الكاذب. كما قال تعالى: {أولئك هُمُ الصادقون} [الحجرات: 15] وثانيها: إخبارهم من عدم التو لية في قوله: {ولقد كَانُواْ عاهدوا الله مِن قَبْلُ لاَ يُولونَ الأدبار} [الأحزاب: 15] إلى غير ذلك. فالمؤمن وفى بعهده وقاتل مع أصحابه في سبيل الله كأنهم بنيان مرصوص والمنافق كان كالهباء ينزعج بأدنى صيحة وثالثها: المؤمن كان له أخبار صادقة مسموعة من النبي عليه السلام كقوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام} [الفتح: 27]. {لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِي} [المجادلة: 21]. و{إن جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} [الصافات: 173] وللمنافق أخبار أراجيف كما قال تعالى في حقهم {والمرجفون فِي المدينة} [الأحزاب: 60] فعند تحقق الإيجاف. يتبين الصدق من الإرجاف.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرسول مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32)}.
فيه وجهان أحدهما: هم أهل الكتاب قريظة والنضير والثاني: كفار قريش يدل على الأول قوله تعالى: {مّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهدى} قيل أهل الكتاب تبين لهم صدق محمد عليه السلام. وقوله: {لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئًا} تهديد معناه هم يظنون أن ذلك الشقاق مع الرسول وهم به يشاقونه وليس كذلك. بل الشقاق مع الله فإن محمدًا رسول الله ما عليه إلا البلاغ فإن ضروا يضروا الرسل لكن الله منزه عن أن يتضرر بكفر كافر وفسق فاسق. وقوله: {وَسَيُحْبِطُ أعمالهم} قد علم معناه.
فإن قيل قد تقدم في أول السورة أن الله تعالى أحبط أعمالهم فكيف يحبط في المستقبل؟ فنقول الجواب عنه من وجهين أحدهما: أن المراد من قوله: {الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله} [محمد: 1] في أول السورة المشركون. ومن أول الأمر كانوا مبطلين. وأعمالهم كانت على غير شريعة. والمراد من الذين كفروا ههنا أهل الكتاب وكانت لهم أعمال قبل الرسول فأحبطها الله تعالى بسبب تكذيبهم الرسول ولا ينفعهم إيمانهم بالحشر والرسل والتوحيد. والكافر المشرك أحبط عمله حيث لم يكن على شرع أصلًا ولا كان معترفًا بالحشر الثاني: هو أن المراد بالأعمال ههنا مكايدهم في القتال وذلك في تحقق منهم والله سيبطله حيث يكون النصر للمؤمنين. والمراد بالأعمال في أول السورة هو ما ظنوه حسنة.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمنوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرسول ولا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33)}.
العطف ههنا من باب عطف المسبب على السبب يقال اجلس واسترح وقم وامش لأن طاعة الله تحمل على طاعة الرسول. وهذا إشارة إلى العمل بعد حصو ل العلم. كأنه تعالى قال: يا أيها الذين آمنوا علمتم الحق فافعلوا الخير. وقوله: {ولاَ تُبْطِلُواْ أعمالكم} يحتمل وجوهًا أحدها: دوموا على ما أنتم عليه ولا تشركوا فتبطل أعمالكم. قال تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] الوجه الثاني: {لاَ تُبْطِلُواْ أعمالكم} بترك طاعة الرسول كما أبطل الكتاب أعمالهم بتكذيب الرسول وعصيانه. ويؤيده قوله تعالى: {يا أيها الذين ءَآمنوا لاَ تَرْفَعُواْ أصواتكم} إلى أن قال: {أَن تَحْبَطَ أعمالكم وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 2] الثالث: {لاَ تُبْطِلُواْ صدقاتكم بالمن والأذى} [البقرة: 264] كما قال تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إسلامكم} [الحجرات: 17] وذلك أن من يمن بالطاعة على الرسول كأنه يقول هذا فعلته لأجل قلبك. ولولا رضاك به لما فعلت. وهو مناف للاخلاص. والله لا يقبل إلا العمل الخالص.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34)}.
بيّن أن الله لا يغفر الشرك وما دون ذلك يغفره إن شاء حتى لا يظن ظان أن أعمالهم وإن بطلت لكن فضل الله باق يغفر لهم بفضله. وإن لم يغفر لهم بعملهم.
{فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ ولنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35)}.
لما بيّن أن عمل الكافر الذي له صورة الحسنات محبط. وذنبه الذي هو أقبح السيئات غير مغفور. بين أن لا حرمة في الدنيا ولا في الآخرة. وقد أمر الله تعالى بطاعة الرسول بقوله: {وَأَطِيعُواْ الرسول} [النساء: 59] وأمر بالقتال بقوله: {فَلاَ تَهِنُواْ} أي لا تضعفوا بعد ما وجد السبب في الجد في الأمر والاجتهاد في الجهاد فقاله {فَلاَ تَهِنُواْ وَتَدْعُواْ إِلَى السلم} وفي الآيات ترتيب في غاية الحسن. وذلك لأن قوله: {أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول} يقتضي السعي في القتال لأن أمر الله وأمر الرسول ورد بالجهاد وقد أمروا بالطاعة. فذلك يقتضي أن لا يضعف المكلف ولا يكسل ولا يهن ولا يتهاون. ثم إن بعد المقتضي قد يتحقق مانع ولا يتحقق المسبب. والمانع من القتال إما أخروي وإما دنيوي. فذكر الآخروي وهو أن الكافر لا حرمة له في الدنيا والآخرة. لأنه لا عمل له في الدنيا ولا مغفرة له في الآخرة. فإذا وجد السبب ولم يوجد المانع ينبغي أن يتحقق المسبب. ولم يقدم المانع الدنيوي على قوله: {فَلاَ تَهِنُواْ} إشارة إلى أن الأمور الدنيوية لا ينبغي أن تكون مانعة من الإتيان. فلا تهنوا فإن لكم النصر. أو عليكم بالعزيمة على تقدير الاعتزام للهزيمة.