فصل: قال ابن عطية في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقد فسرناه آنفًا بما يشفي وبقي علينا قوله: {ها أنتم هؤلاء تُدْعَوْن لتنفقوا} الخ كيف موقعه بعد قوله: {ولا يسألكم أموالكم} فإن الدعوة للأنفاق عين سؤال الأموال فكيف يجمع بين ما هنا وبين قوله آنفًا {ولا يسألكم أموالكم}.
فيجوز أن يكون المعنى: تُدْعَون لتنفقوا في سبيل الله لتدفعوا أعداءكم عنكم وليس ذلك لينتفع به الله كما قال: {والله الغني وأنتم الفقراء}.
ونظم الكلام يقتضي أن هذه دعوة للأنفاق في الحال وليس إعلامًا لهم بأنهم سيدعون للأنفاق فهو طلبٌ حاصل.
ويحمل {تدْعَون} على معنى تؤمرون أي أمر إيجاب.
ويجوز أن يحمل {تدعون} على دعوة الترغيب. فتكون الآية تمهيدًا للآيات المقتضية إيجاب الإنفاق في المستقبل مثل آية {وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله} [التوبة: 41] ونحوها. ويجوز أن يكون إعلامًا بأنهم سيدعون إلى الإنفاق في سبيل الله فيما بعد هذا الوقت فيكون المضارع مستعملًا في زمن الاستقبال والمضارع يحتمله في أصْل وضعه.
وعلى الاحتمالين فقوله: {فمنكم من يبْخل ومن يبْخل فإنما يبْخل عن نفسه} إما مسوق مساق التوبيخ أو مساق التنبيه على الخطأ في الشح ببذل المال في الجهاد الذي هو محلّ السياق لأن المرء قد يبخل بُخلًا ليس عائدًا بخلُه عن نفسه.
ومعنى قوله: {فإنما يبخل عن نفسه} على الاحتمال الأول فإنما يبْخل عن نفسه إذ يتمكن عدّوه من التسلط عليه فعاد بُخله بالضر عليه. وعلى الاحتمال الثاني فإنما يبْخل عن نفسه بحرمانها من ثواب الإنفاق.
والقصر المستفاد من {إنما} قصر قلب باعتبار لازم بُخله لأن الباخل اعتقد أنه منع من دَعاه إلى الإنفاق ولكن لازم بخله عاد عليه بحرمان نفسه من منافع ذلك الإنفاق. فالقصر مجاز مرسل مركَّب.
وفعل (بخل) يتعدى بـ {عن} لما فيه من معنى الإمساك ويتعدى بـ (على) لما فيه من معنى التضييق على المبخو ل عليه.
وقد عدي هنا بحرف {عن}.
{وها أنتم هؤلاء} مركب من كلمة (ها) تنبيه في ابتداء الجملة. ومن ضمير الخطاب ثم من (هَا) التنبيه الداخلة على اسم الإشارة المفيدة تأكيد مدلو ل الضمير.
ونظيرُه قوله: {ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا} في سورة النساء (109).
والأكثر أن يكون اسم الإشارة في مثله مجردًا عن (ها) اكتفاء بـ (هاء) التنبيه التي في أول التركيب كقوله تعالى: {ها أنتم أولاء تحبونهم} في سورة آل عمران (119).
وجملة {تُدْعَون} في موضع الحال من اسم الإشارة. ومجموع ذلك يفيد حصو ل مدلو ل جملة الحال لصاحبها حصو لا واضحًا.
وزعم كثير من النحاة أن عدم ذكر اسم الإشارة بعد (ها أنا) ونحوه لحن. لأنه لم يسمع دخول (ها) التنبيه على اسم غير اسم الإشارة كما ذكره صاحب (مغني اللبيب). بناء على أن (ها) التنبيه المذكورة في أول الكلام هي التي تدخل على أسماء الإشارة في نحو: هذا وهؤلاء. وأن الضمير الذي يذكر بعدها فصل بينها وبين اسم الإشارة.
ولكن قد وقع ذلك في كلام صاحب (المغني) في ديباجة كتابه إذ قال: وها أنا بائح بما أسررته. وفي موضعين آخرين منه نبه عليهما بدر الدين الدماميني في شرحه (المزج على المغني). وذكر في شرحه الذي بالقول المشتهر بـ: (الحواشي الهندية) أن تمثيل الزمخشري في (المفصل) بقوله: ها إن زيدًا منطلق يقتضي جواز: ها أنا أفعل. لكن الرضِيّ قال: لم أعثر بشاهد على وقوع ذلك.
وجملة {والله الغني وأنتم الفقراء} تذييل للشيء قبلها فالله الغني المطلق. والغني المطلق لا يسأل الناس مالًا في شيء. والمخاطبون فقرأء فلا يطمع منهم البذل فتعين أن دعاءهم لينفقوا في سبيل الله دعاء بصرف أموالهم في منافعهم كما أشار إلى ذلك قوله: {ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه}.
والتعريف باللام في {الغني} وفي {الفقراء} تعريف الجنس. وهو فيهما مؤذن بكمال الجنس في المخبر عنه. ولما وقعا خبرين وهما معرفتان أفادا الحصْر. أي قصر الصفة على الموصوف. أي قصر جنس الغنِيّ على الله وقصر جنس الفقراء على المخاطبين بـ {أنتم} وهو قصر ادعائي فيهما مرتب على دلالة ال على معنى كمال الجنس. فإن كمال الغنى لله لا محالة لعمومه ودوامه. وإن كان يثبت بعض جنس الغني لغيره.
وأما كمال الفقر للناس فبالنسبة إلى غنى الله تعالى وإن كانوا قد يغْنَون في بعض الأحوال لكن ذلك غنًى قليل وغير دائم.
{وَأَنتُمُ الفقراء وَإِن تَتَولواْ يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ}.
عطف على قوله: {وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم} [محمد: 36].
والتو لي: الرجوع. واستعير هنا لاستبدال الإيمان بالكفر. ولذلك جعل جزاؤه استبدال قوم غيرهم كما استبدلوا دينَ الله بدين الشرك.
والاستبدال: التبديل. فالسين والتاء للمبالغة. ومفعوله {قومًا}.
والمستبدَل به محذوف دل على تقديره قوله: {غيركم}. فعلم أن المستبدل به هو ما أضيف إليه (غير) لِتعيّن انحصار الاستبدال في شيئين. فإذا ذكر أحدهما علم الآخر.
والتقدير: يستبدل قومًا بكم لأن المستعمَل في فعل الاستبدال والتبديل أن يكون المفعول هو المعوَّض ومجرور الباء هو العوَض كقوله: {أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير} تقدم في سورة البقرة (61).
وإن كان كلا المتعلقين هو في المعنى معوض وعوض باختلاف الاعتبار. ولذلك عدل في هذه الآية عن ذكر المجرور بالباء مع المفعول للإيجاز.
والمعنى: يتخذ قومًا غيركم للإيمان والتقوى. وهذا لا يقتضي أن الله لا يوجد قومًا آخرين إلاّ عند ارتداد المخاطبين. بل المراد: أنكم إن ارتددتم عن الدين كان لله قوم من المؤمنين لا يرتدون وكان لله قوم يدخلون في الإيمان ولا يرتدون.
روى الترمذي عن أبي هريرة قال: تَلا رسول الله هذه الآية {وإن تتولوا يستبدل قومًا غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم}.
قالوا: ومن يُستبدَل بنا؟ قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على منكب سَلْمان الفارسي ثم قال: هذا وقومُه. هذا وقومه قال الترمذي حديث غريب.
وفي إسناده مقال.
وروى الطبراني في (الأوسط): هذا الحديث على شرطِ مسلم وزاد فيه «والذي نفسي بيده لوكان الإيمانُ منوطًا بالثريا لتناوله رجال من فارس»
وأقول هو يدل على أن فارس إذا آمنوا لا يرتدون وهو من دلائل نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم فإن العرب ارتد منهم بعض القبائل بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وارتدّ البربر بعد فتح بلادهم وإيمانهم ثنتي عشرة مرة فيما حكاه الشيخ أبو محمد ابن أبي زيد. ولم يرتد أهل فارس بعد إيمانهم.
و{ثم} للترتيب الرتبي لإفادة الاهتمام بصفة الثبات على الإيمان وعلوّها على مجرد الإيمان. أي ولا يكونوا أمثالكم في التو لي.
والجملة معطوفة بـ (ثم) على جملة {يستبدل قومًا غيركم} فهي في حيّز جواب الشرط والمعطوف على جواب الشرط بحرف من حروف التشريك يجوز جزمه على العطف. ويجوز رفعه على الاستئناف.
وقد جاء في هذه الآية على الجزم وجاء في قوله تعالى: {وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون} [آل عمران: 111] على الرفع.
وأبدى الفخر وجهًا لإيثار الجزم هنا وإيثار الاستئناف هنالك فقال: وهو مع الجواز فيه تدقيق وهو أن ههنا لا يكون متعلقًا بالتو لي لأنهم إن لم يتولوا يكونون ممن يأتي الله بهم على الطاعة. وإن تولوا لا يكونون مثلهم لكونهم عاصين وكون من يأتي الله بهم مطيعين. وأما هنالك فسواء قاتلوا أولم يقاتلوا لا يُنصرون فلم يكن للتعليق أي بالشرط هنالك وجه فرفع بالابتداء وههنا جُزم للتعليق اهـ.
وهودقيق ويزاد أن الفعل المعطوف على الجزاء في آية آل عمران وقع في آخر الفاصلة التي جرت أخواتها على حرف الواو والنون فلوأوثر جزم الفعل لأزيلت النون فاختلّت الفاصلة. اهـ.

.قال ابن عطية في الآيات السابقة:

{ولنبلونكم حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ والصابرين}.
وقرأ جمهور القراء: {ولنبلونكم} بالنون. وكذلك {نعلم} وكذلك {نبلوا}. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر: {وليبلونكم الله}. وكذلك {يعلم} و{يبلو}.
وروى رويس عن يعقوب: {ويبلو} بالرفع على القطع والإعلام بأن ابتلاءه دائم. وكان الفضيل بن عياض إذا قرأ هذه الآية بكى. وقال: اللهم لا تبتلنا. فإنك إن ابتليتنا فضحتنا وهتكت أستارنا.
وقوله تعالى: {حتى نعلم المجاهدين} أي حتى يعلمهم مجاهدين قد خرج جهادهم إلى الوجود وبان تكسبهم الذي به يتعلق ثوابهم. وعلم الله بالمجاهدين قديم أزلي. وإنما المعنى ما ذكرناه.
وقوله تعالى: {وصدوا} يحتمل أن يكون المعنى: {وصدوا} غيرهم. ويحتمل أن يكون غير متعد. بمعنى: وصدوهم في أنفسهم.
وقوله: {وشاقوا الرسول} معناه: خالفوه. فكانوا في شق وهو في شق. وقوله: {من بعد ما تبين لهم الهدى} قالت فرقة: نزلت في قوم من بني إسرائيل فعلوا هذه الأفاعيل بعد تبينهم لأمر محمد عليه السلام من التوراة. وقالت فرقة: نزلت في قوم من المنافقين حدث النفاق في نفوسهم بعد ما كان الإيمان داخلها. وقال ابن عباس: نزلت في المطعمين سفرة بدر. و: {تبين الهدى} هو وجوده عند الداعي إليه. وقالت فرقة: بل هي عامة في كل كافر. وألزمهم أنه قد {تبين لهم الهدى} من حيث كان الهدى بينًا في نفسه. وهذا كما تقول لأنسان يخالفك في احتجاج على معنى التوبيخ له: أنت تخالف في شيء لا خفاء به عليك. بمعنى أنه هكذا هو في نفسه. وقوله: {لن يضروا الله} تحقير لهم.
وقوله: {وسيحبط أعمالهم} إما على قول من يرى أن أعمالهم الصالحة من صلة رحم ونحوه تكتب فيجيء هذا الإحباط فيها متمكنًا. وإما على قول من لا يرى ذلك. فمعنى {وسيحبط أعمالهم} أنها عبارة عن إعدامه أعمالهم وإفسادها. وأنها لا توجد شيئًا منتفعًا به. فذلك إحباط على تشبيه واستعارة.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمنوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرسول ولا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33)}.
روي أن هذه الآية نزلت في بني أسد من العرب. وذلك أنهم أسلموا وقالوا لرسول الله عليه السلام: نحن قد اثرناك على كل شيء وجئناك بنفوسنا وأهلنا. كأنهم منوا بذلك. فنزل فيهم: {يمنون عليك أن أسلموا} [الحجرات: 17] ونزلت فيهم هذه الآية.
قال القاضي أبو محمد: فإن كان هذا فالإبطال الذي نهوا عنه ليس بمعنى الإفساد التام. لأن الإفساد التام لا يكون إلا بالكفر. وإلا فالحسنات لا تبطلها المعاصي. وإن كانت الآية عامة على ظاهرها نهي الناس عن إبطال أعمالهم بالكفر. والإبطال هو الإفساد التام.
وقوله تعالى: {إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار} روي أنها نزلت بسبب عدي بن حاتم قال: يا رسول الله إن حاتمًا كانت له أفعال بر فما حاله؟ فقال رسوله الله صلى الله عليه وسلم «هوفي النار». فبكى عدي وو لى. فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: «أبي وابوك وأبوإبراهيم خليل الرحمن في النار» ونزلت هذه الآية في ذلك. وظاهر الآية العموم في كل ما تناولته الصفة.
وقوله تعالى: {فلا تهنوا} معناه: فلا تضعفوا. من وهن الرجل إذا ضعف.
وقرأ جمهور الناس: {وتدعوا} وقرأ أبو عبد الرحمن: {وتدّعوا} بشد الدال. وقرأ جمهور القراء: {إلى السَلم} بفتح السين. وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم: {إلى السِلم} بكسر السين. وهي قراءة الحسن وأبي رجاء والأعمش وعيسى وطلحة وهو بمعنى المسالمة. وقال الحسن بن أبي الحسن وفرقة ممن كسر السين إنه بمعنى إلى الإسلام. أي لا تهنوا وتكونوا داعين إلى الإسلام فقط دون مقاتلين بسببه. وقال قتادة معنى الآية: لا تكونوا أول الطائفتين ضرعت للأخرى.
قال القاضي أبو محمد: وهذا حسن ملتئم مع قوله: {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها} [الأنفال: 61].
وقوله: {وأنتم الأعلون} يحتمل موضعين أحدهما: أن يكون في موضع الحال. المعنى: لا تهنوا وأنتم في هذه الحال. والمعنى الثاني: أن يكون إخبارًا بنصره ومعونته. و(يتر). معناه ينقص ويذهب. ومنه قوله عليه السلام: «من ترك صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله» أي ذهب بجميع ذلك على جهة التغلب والقهر. والمعنى: لن يتركم ثواب أعمالكم وجزاء أعمالكم. واللفظة مأخوذة من الوتر الذي هو الدحل. وذهب قوم إلى أنه مأخوذ من الوتر الذي هو الفرد. المعنى لن يفردكم من ثواب أعمالكم. والأول أصح. وفسر ابن عباس وأصحابه {يتركم} بيظلمكم.
قوله تعالى: {إنما الحياة الدنيا لعب ولهو} تحقير لأمر الدنيا. أي فلا تهنوا في الجهاد بسببها. ووصفها باللعب واللهوهو على أنها وما فيها مما يختص بها لعب. وإلا ففي الدنيا ما ليس بلعب ولا لهو. وهو الطاعة وأمر الآخرة وما جرى مجراه.
وقوله تعالى: {وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم} معناه هذا هو المطلوب منكم لا غيره. لا تسألون أموالكم أن تنفقوها في سبيل الله. وقال سفيان بن عيينة: لا يسألكم كثيرًا من أموالكم إحفاء إنما يسألكم غيضًا من فيض ربع العشر فطيبوا أنفسكم. ثم قال تعالى منبهًا على خلق ابن آدم {إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا} والإحفاء هو أشد السؤال وهو المخجل المخرج ما عند المسؤو ل كرهًا. ومنه حفاء الرجل. والتحفي من البحث عن الشيء. وقوله: {تبخلوا} جزم على جواب شرط.
وقرأ جمهور القراء: {ويخرجْ} جزمًا على {تبخلوا}. وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو: {ويخرجُ} بالرفع على القطع. بمعنى هو يخرج. وحكاها أبو حاتم عن عيسى وقرأت فرقة: {و} بالنصب على معنى: يكن بخل وإخراج. فلما جاءت العبارة بفعل دل على أن التي مع الفعل بتأويل المصدر الذي هو الآخراج. والفاعل في قوله: {ويخرج} على كل الاختلافات يحتمل أن يكون الله. ويحتمل أن يكون البخل الذي تضمنه اللفظ. ويحتمل أن يكون السؤال الذي يتضمنه اللفظ أيضًا. وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن سيرين وابن محيصن وأيوب: {يخرج} بفتح الياء {أضغانُكم} رفعًا على أنها فاعلة وروي عنهم: {وتُخرَج} بضم التاء وفتح الراء على ما لم يسم فاعله.