فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

أجمعوا على أن قائل هذا القول هو الله تعالى وإنما عرف أن هذا الخطاب من الله تعالى، لأن ذلك الخطاب كان مقرونًا بالمعجز، ولأنه بعد الإحياء شاهد من أحوال حماره وظهور البلى في عظامه ما عرف به أن تلك الخوارق لم تصدر إلا من الله تعالى. اهـ.

.قال القرطبي:

اختُلف في القائل له {كم لبثت}؛ فقيل: الله جل وعز؛ ولم يقل له إن كنت صادقًا كما قال للملائكة على ما تقدّم.
وقيل: سمع هاتفًا من السماء يقول له ذلك.
وقيل؛ خاطبه جبريل.
وقيل: نبيّ.
وقيل: رجل مؤمن ممن شاهده من قومه عند موته وعمر إلى حين إحيائه فقال له: كم لبثت.
ويقال: كان هذا السؤال بواسطة الملك على جهة التقرير.
ثم قال رحمه الله:
قلت: والأظهر أن القائل هو الله تعالى؛ لقوله: {وانظر إِلَى العظام كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا} والله أعلم. اهـ. بتصرف يسير.

.قال أبو حيان:

ولا نص في الآية على أن الله كلَّمه شفاهًا. اهـ.

.قال الفخر:

في الآية إشكال، وهو أن الله تعالى كان عالمًا بأنه كان ميتًا وكان عالمًا بأن الميت لا يمكنه بعد أن صار حيًا أن يعلم أن مدة موته كانت طويلة أم قصيرة، فمع ذلك لأي حكمة سأله عن مقدار تلك المدة.
والجواب عنه: أن المقصود من هذا السؤال التنبيه على حدوث ما حدث من الخوارق. اهـ.

.قال القرطبي:

{قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} إنما قال هذا على ما عنده وفي ظنه، وعلى هذا لا يكون كاذبًا فيما أخبر به؛ ومثله قول أصحاب الكهف {قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف: 19] وإنما لبثوا ثلاثمائة سنة وتسع سنين على ما يأتي ولم يكونوا كاذبين لأنهم أخبروا عما عندهم، كأنهم قالوا: الذي عندنا وفي ظنوننا أننا لبثنا يومًا أو بعض يوم.
ونظيره قول النبيّ صلى الله عليه وسلم في قصة ذي اليَدَين: «لم أقصر ولم أَنْس» ومن الناس من يقول: إنه كذبٌ على معنى وجود حقيقة الكذب فيه ولكنه لا مؤاخذة به، وإلا فالكذب الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو عليه وذلك لا يختلف بالعلم والجهل، وهذا بيّن في نظر الأُصول.
فعلى هذا يجوز أن يقال: إن الأنبياء لا يُعصمون عن الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو عليه إذا لم يكن عن قصد، كما لا يعصمون عن السهو والنسيان.
فهذا ما يتعلق بهذه الآية، والقول الأول أصح.
قال ابن جُريج وقَتادة والربيع: أماته الله غُدوةَ يومٍ ثم بُعث قبل الغروب فظن هذا اليومَ واحدًا فقال: لبثتُ يومًا، ثم رأى بقيةً من الشمس فخشي أن يكون كاذبًا فقال: أو بعض يوم. اهـ.

.قال أبو حيان:

وذكر تعيين المدة هنا في قوله: بل لبثت مائة عام، ولم يذكر تعيينها في قوله: {إن لبثتم إلاَّ قليلًا} وإن اشتركوا في جواب: {لبثنا يومًا أو بعض يوم} لأن المبعوث في البقرة واحد فانحصرت مدّة إماتة الله إياه، وأولئك متفاوتو اللبث تحت الأرض نحو من مات في أول الدنيا، ومن مات في آخرها، فلم ينحصروا تحت عدد مخصوص، فلذلك أدرجوا تحت قوله: إلاَّ قليلًا، لأن مدة الحياة الدنيا بالنسبة إلى حياة الآخرة قليلة، والله تعالى محيط علمه بمدة لبث كل واحد واحد، فلو ذكر مدة كل واحد واحد لاحتيج في عدة ذلك إلى أسفار كثيرة. اهـ.
وقال أبو حيان:
{فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه} في قصة عزير أنه لما نجا من بابل ارتحل على حمار له حتى نزل دير هرقل على شط دجلة، فطاف في القرية فلم ير فيها أحدًا، وعامة شجرها حامل، فأكل من الفاكهة واعتصر من العنب فشرب منه، وجعل فضل الفاكهة في سلة وفضل العنب في زق، فلما رأى خراب القرية وهلاك أهلها قال: أنى يحيي؟ على سبيل التعجب، لا شكًا في البعث، وقيل: كان شرابه لبنًا.
قيل: وجد التين والعنب كما تركه جنيًا، والشراب على حاله. اهـ.

.قال الفخر:

اختلف القراء في إثبات الهاء في الوصل من قوله: {لَمْ يَتَسَنَّهْ} و{اقتده} و{مَالِيَهْ} و{سلطانيه} و{ماهيه} بعد أن اتفقوا على إثباتها في الوقف، فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم هذه الحروف كلها بإثبات الهاء في الوصل، وكان حمزة يحذفهن في الوصل وكان الكسائي يحذف الهاء في الوصل من قوله: {وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} و{اقتده} ويثبتها في الوصل في الباقي ولم يختلفوا في قوله: {لَمْ أُوتَ كتابيه وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ} [الحاقة: 25، 26] أنها بالهاء في الوصل والوقف.
إذا عرفت هذا فنقول: أما الحذف ففيه وجوه:
أحدها: أن اشتقاق قوله: {يَتَسَنَّهْ} من السنة وزعم كثير من الناس أن أصل السنة سنوة، قالوا: والدليل عليه أنهم يقولون في الاشتقاق منها أسنت القوم إذا أصابتهم السنة، وقال الشاعر:
ورجال مكة مسنتون عجاف

ويقولون في جمعها: سنوات وفي الفعل منها: سانيت الرجل مساناة إذا عامله سنة سنة، وفي التصغير: سنية إذا ثبت هذا كان الهاء في قوله: {لَمْ يَتَسَنَّهْ} للسكت لا للأصل.
وثانيها: نقل الواحدي عن الفرّاء أنه قال: يجوز أن تكون أصل سنة سننة، لأنهم قالوا في تصغيرها: سنينة وإن كان ذلك قليلًا، فعلى هذا يجوز أن يكون {لَمْ يَتَسَنَّهْ} أصله لم يتسنن، ثم أسقطت النون الأخيرة ثم أدخل عليها هاء السكت عن الوقف عليه كما أن أصل لم يتقض البازي لم يتقضض البازي ثم أسقطت الضاد الأخيرة، ثم أدخل عليه هاء السكت عند الوقف، فيقال: لم يتقضه.
وثالثها: أن يكون {لَمْ يَتَسَنَّهْ} مأخوذًا من قوله تعالى: {مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} [الحجر: 26] والسن في اللغة هو الصب، هكذا قال أبو علي الفارسي، فقوله: لم يتسنن.
أي الشراب بقي بحاله لم ينضب، وقد أتى عليه مائة عام، ثم أنه حذفت النون الأخيرة وأبدلت بها السكت عند الوقف على ما قررناه في الوجه الثاني، فهذه الوجوه الثلاثة لبيان الحذف، وأما بيان الإثبات فهو أن {لَمْ يَتَسَنَّهْ} مأخوذ من السنة، والسنة أصلها سنهه، بدليل أنه يقال في تصغيرها: سنيهة، ويقال: سانهت النخلة بمعنى عاومت، وآجرت الدار مسانهة، وإذا كان كذلك فالهاء في {لَمْ يَتَسَنَّهْ} لام الفعل، فلا جرم لم يحذف ألبتة لا عند الوصل ولا عند الوقف. اهـ.
وقال الفخر:
أما قوله تعالى: {وانظر إلى حِمَارِكَ} فالمعنى أنه عرفه طول مدة موته بأن شاهد عظام حماره نخرة رميمة، وهذا في الحقيقة لا يدل بذاته، لأنه لما شاهد انقلاب العظام النخرة حيًا في الحال علم أن القادر على ذلك قادر على أن يميت الحمار في الحال ويجعل عظامه رميمة نخرة في الحال، وحينئذ لا يمكن الاستدلال بعظام الحمار على طول مدة الموت، بل انقلاب عظام الحمار إلى الحياة معجزة دالة على صدق ما سمع من قوله: {بَل لَّبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٍ}.
قال الضحاك: معنى قوله أنه لما أحيى بعد الموت كان دليلًا على صحة البعث، وقال غيره: كان آية لأن الله تعالى أحياه شابًا أسود الرأس، وبنو بنيه شيوخ بيض اللحى والرؤوس. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وانظر إلى حِمَارِكَ} قال وهب بن مُنْبّه وغيره: وانظر إلى اتصال عظامه وإحيائه جزءًا جزءًا.
ويُروى أنه أحياه الله كذلك حتى صار عظامًا ملتئمة، ثم كساه لحمًا حتى كمل حمارًا، ثم جاءه ملَك فنفخ فيه الروح فقام الحمار ينْهَق؛ على هذا أكثر المفسرين.
ورُوي عن الضحّاك ووهب بن منبّه أيضًا أنهما قالا: بل قيل له: وانظر إلى حمارك قائمًا في مربطه لم يصبه شيء مائةَ عام؛ وإنما العظام التي نظر إليها عظام نفسه بعد أن أحيا الله منه عينيه ورأسَه، وسائرُ جسده ميتٌ، قالا: وأعمى الله العيون عن إرمياء وحماره طول هذه المدة. اهـ.

.قال الزمخشري:

وذلك من أعظم الآيات أن يعيشه مائة عام من غير علف ولا ماء، كما حفظ طعامه وشرابه من التغير. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقد جمع الله له أنواع الإحياء إذْ أحيى جسده بنفخ الروح عن غير إعادة وأحيى طعامه بحفظه من التغيّر وأحيى حماره بالإعادة فكان آية عظيمة للناس الموقنين بذلك، ولعلّ الله أطْلَع على ذلك الإحياءِ بعض الأحياء من أصفيائه. اهـ.

.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ} فقد بينا أن المراد منه التشريف والتعظيم والوعد بالدرجة العالية في الدين والدنيا، وذلك لا يليق بمن مات على الكفر والشك في قدرة الله تعالى. اهـ.

.قال القرطبي:

قال الأعمش: موضع كونه آيةً هو أنه جاء شابًا على حاله يوم مات، فوجد الأبناء والحَفَدة شيوخًا.
عِكرمة: وكان يوم مات ابنَ أربعين سنة.
ورُوي عن علي رضوان الله عليه أن عُزيرًا خرج من أهله وخلّف امرأته حاملًا، وله خمسون سنة فأماته الله مائةَ عام، ثم بعثه فرجع إلى أهله وهو ابن خمسين سنة وله ولد من مائة سنة فكان ابنه أكبر منه بخمسين سنة.
ورُوي عن ابن عباس قال: لما أحيا الله عُزيرًا ركب حماره فأتى مَحلّته فأنكر الناسَ وأنكروه، فوجد في منزله عجوزًا عمياء كانت أمَة لهم، خرج عنهم عُزير وهي بنت عشرين سنة، فقال لها: أهذا منزل عُزير؟ فقالت نعم! ثم بكت وقالت: فارقنا عُزير منذ كذا وكذا سنة! قال: فأنا عُزير؛ قالت: إن عزيرًا فقدناه منذ مائة سنة.
قال: فالله أماتني مائة سنة ثم بعثني.
قالت: فعزير كان مستجاب الدعوة للمريض وصاحبِ البلاء فيُفيق، فادع الله يرد عليّ بصري؛ فدعا الله ومسح على عينيها بيده فصحّت مكانها كأنها أُنْشطت من عِقَال.
قالت: أشهد أنك عُزير! ثم انطلقت إلى ملإ بني إسرائيل وفيهم ابنٌ لعزير شيخٌ ابن مائة وثمانية وعشرين سنة، وبنو بنيه شيوخ، فقالت: يا قوم، هذا والله عُزير! فأقبل إليه ابنه مع الناس فقال ابنه: كانت لأبي شامة سوداء مثل الهلال بين كتفيه؛ فنظرها فإذا هو عُزير.
وقيل: جاء وقد هلك كل من يعرف، فكان آيةً لمن كان حيًّا من قومه إذ كانوا موقنين بحاله سماعًا. اهـ.