فصل: من فوائد الجصاص في السورة الكريمة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) ولو نشاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ ولتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) ولنبلونكم حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوأَخْبَارَكُمْ (31) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرسول مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32)}.
قوله جلّ ذكره: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ في قُلُوبِهِم مَّرَضُ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ}.
ليس الأمرُ كما تَتوَهَّموه. بل لله يفضحهم ويكشف تلبيسَهم. ولقد أخبر الرسول عنهم. وعرَّفه أعيانهم.
قوله جلّ ذكره: {ولو نشاء لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ ولتَعْرِفَنَّهُمْ في لَحْنِ القول}.
أي في معنى الخطاب. فالأَسِرَّةُ تَدُلُّ على السريرة. وما يخامر القلوبَ فَعَلى الوجوهِ يلوحُ أثرُه:
لستُ ممن ليس يدري ** ما هو ان من كرامة

إنَّ للحبِّ وللبغضِ على لوجه علامة

والمؤمنُ ينظر بنور الفراسة. والعارفُ ينظر بنورِ التحقيق. والموحِّدُ ينظر بالله فلا يستتر عليه شيء. ويقال: بصائرُ الصديقين غيرُ مُغَطَّاة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سدوا كل خوخة غير خوخة أبي بكر».
قوله جلّ ذكره: {ولنبلونكم حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرينَ وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ}.
بالابتلاء والامتحان تتبين جواهرُ الرجال. فيظهر المخلصُ. ويفتضح الماذقُ. وينكشف المنافق. فالذين آمنوا وأخلصوا نجوا وتخلصوا. والذين كفروا ونافقوا وقعوا في الهوان وأُذِلُّوا. ووسِموا بالشَقاوة وقُطعوا.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمنوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرسول ولا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33)}.
{ولاَ تُبْطِلُواْ أَعْمَالَكُمْ}: بالرياء والإعجاب والملاحظة.
{ولاَ تُبْطِلُواْ أَعْمَالَكُمْ}: بالمساكنة إليها.
{ولاَ تُبْطُلواْ أَعْمَالَكُمْ} بطلب الأعواض عليها.
{ولاَ تُبْطِلُواْ أَعْمَالَكُمْ}: بتوهمكم أنه يجب بها شيء دون فضل الله.
{فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ ولنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35) إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ ولهو وإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ ولا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الفقراء وَإِنْ تَتَولوا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)}.
قوله جلّ ذكره: {فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَهُ مَعَكُمْ}.
أي لا تميلوا إلى الصلح مع الكفار وأنتم الأَعلون بالحجة.
أنتم الأعلون بالنصرة. قوله: {وَاللَّهُ مَعَكُمْ}. أي بالنصرة ويقال: لا تضعفوا بقلوبكم. وقوموا بالله؛ لأنكم- والله معكم- لا يخفى عليه شيءٌ منكم. فهو على الدوام يراكم. ومَنْ عَلِمَ انَّ سَيِّدَه يراه يتحمل كلَّ مشتغلًا برؤيته:
{ولن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ}.
أي لا ينقصكم أَجْرَ أعمالكم.
قوله جلّ ذكره: {إِنَّمَا الْحَياَةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ ولهو وإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ ولا يَسْئَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ}.
تجنبوا الشِّركَ والمعاصي حتى يَفِيَكُم أجورَكم.
واللَّهُ لا يسألكم من أموالكم. إلا اليسير منها وهو مقدار الزكاة.
{إِن يَسْئَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ}.
(الإحفاء) الإلحاح في المسألة وهذا إنما يقوله لمن لم يُوقَ شُحَّ نَفْسه. فأمَّا الإخوان ومَنْ عََلَتْ رتبتُهم في باب حرية القلب فلا يُسامَحون في استيفاءِ ذَرَّةٍ. ويُطالَبون ببذل الرُّوح. والتزام الغرامات.
قوله جلّ ذكره: {هَا أَنتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ في سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ}.
البخلُ مَنْعُ الواجب. وواذا بخل فإنما يبخل عن نفسه لأنه لو لم يفعل ذلك لَحَصَلَ له الثراء- هكذا يظن.
قوله جلّ ذكره: {وَاللَّهُ الْغَنِىُّ وَأَنتُمُ الفقراء}.
{غنيٌّ} بنفسه على قول. وغنيٌّ بوصفه على القول الثاني. وغناه كونه لا تتقيد مراداتُه. أمَّا البعدُ فهو فقيرٌ بنفسه؛ لأنه لا يستغني عن مو لاه؛ في الابتداء منذ خَلْقه إلى الأنتهاء. وهو في دوام الاوقات مفتقرٌ إلى مو لاه.
والفقيرُ الصادقُ مَنْ يشهد افتقارَه إلى الله. وصِدْقُ الفقير في شهود فقره إلى الله. ومَنْ افتقر إلى الله استغنى بالله. ومَنْ افتقر إلى غير الله وقع في الذُّلِّ والهوان.
ويقال: اللَّهُ غنيٌّ عن طاعتِكم. وأنتم الفقراء إلى رحمتِه.
ويقال: اللَّهُ غنيٌّ لا يحتاج إليكم. وأنتم الفقراء لأنكم لابديلَ لكم عنه.
قوله جلّ ذكره: {وَإِن تَتَولواْ يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَالَكُم}.
يستبدل قومًا غيركم يكونون أشدَّ منكم طاعةً. وأصدقَ منكم وفاءً؛ فهو قادرٌ على خَلْق أمثالَكم ثم لا يكونون أمثالكم في العصيانِ والإعراضِ وتَرْكِ الشكرِ والوفاءِ بل سيكونون خيرًا منكم. اهـ.

.من فوائد الجصاص في السورة الكريمة:

قال رحمه الله:
وَمِنْ سُورَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم قال اللَّهُ تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} قال أبو بكر: قَدْ اقْتَضَى ظَاهِرُهُ وُجُوبَ الْقَتْلِ لَا غَيْرُ إلَّا بَعْدَ الْإِثْخَانِ. وهو نَظِيرُ قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ}.
حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ قال: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْيَمَانِ قال: حَدَّثَنَا أبو عبَيْدٍ قال: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} قال: ذَلِكَ يَوْمُ بَدْرٍ وَالْمُسْلِمُونَ يَوْمَئِذٍ قَلِيلٌ. فَلَمَّا كَثُرُوا وَاشْتَدَّ سُلْطَانُهُمْ أَنْزَلَ اللَّهُ- تعالى- بَعْدَ هَذَا فِي الْأُسَارَى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} فَجَعَلَ اللَّهُ النَّبِيَّ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي الْأُسَارَى بِالْخِيَارِ. إنْ شَاءُوا قَتَلُوهُمْ. وَإِنْ شَاءُوا اسْتَعْبَدُوهُمْ. وَإِنْ شَاءُوا فَادُوهُمْ شَكَّ أبو عبَيْدٍ فِي. وَإِنْ شَاءُوا اسْتَعْبَدُوهُمْ.
وَحَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قال: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قال: حَدَّثَنَا أبو عبَيْدٍ قال: حَدَّثَنَا أبو مهْدِيٍّ وَحَجَّاجٌ كِلَاهُمَا عَنْ سُفْيَانَ قال: سَمِعْت السُّدِّيَّ يَقول فِي قوله: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} قال: هِيَ مَنْسُوخَةٌ نَسَخَهَا قوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} قال أبو بكر: أَمَّا قوله: {فَإِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ}.
وَقوله: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} وَقوله: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ} فَإِنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ حُكْمًا ثَابِتًا غَيْرَ مَنْسُوخٍ وَذَلِكَ؛ لأن اللَّهَ- تعالى- أَمَرَ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم بِالْإِثْخَانِ بِالْقَتْلِ وَحَظَرَ عَلَيْهِ الْأَسْرَ إلَّا بَعْدَ إذْلَالِ الْمُشْرِكِينَ وَقَمْعِهِمْ. وَكَانَ ذَلِكَ فِي وَقْتِ قِلَّةِ عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ وَكَثْرَةِ عَدَدِ عَدُوِّهِمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ. فَمَتَى أُثْخِنْ الْمُشْرِكُونَ وَأُذِلُّوا بِالْقَتْلِ وَالتَّشْرِيدِ جَازَ الِاسْتِبْقَاءُ.
فَالْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا حُكْمًا ثَابِتًا إذَا وُجِدَ مِثْلُ الْحَالِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ فِي أول الْإِسْلَامِ وَأَمَّا قوله: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَحَدَ شَيْئَيْنِ مِنْ مَنٍّ أَوفِدَاءٍ. وَذَلِكَ يَنْفِي جَوَازَ الْقَتْلِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي ذَلِكَ. حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قال: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْيَمَانِ قال: حَدَّثَنَا أبو عبَيْدٍ قال: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنْ مُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَرِهَ قَتَلَ الْأَسِيرِ وَقال: مُنَّ عَلَيْهِ أَوفَادِهِ.
وَحَدَّثَنَا جَعْفَرٌ قال: حَدَّثَنَا جَعْفَرٌ قال: حَدَّثَنَا أبو عبَيْدٍ قال: أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ قال: أَخْبَرَنَا أَشْعَثُ قال: سَأَلْت عَطَاءً عَنْ قَتْلِ الْأَسِيرِ. فَقال: مُنَّ عَلَيْهِ أَوفَادِهِ قال: وَسَأَلْت الْحَسَنَ. قال: يُصْنَعُ بِهِ مَا صَنَعَ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِأُسَارَى بَدْرٍ. يُمَنُّ عَلَيْهِ أو يفَادَى بِهِ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ دُفِعَ إلَيْهِ عَظِيمٌ مِنْ عُظَمَاءِ إصْطَخْرَ لِيَقْتُلَهُ. فَأَبَى أَنْ يَقْتُلَهُ وَتَلَا قوله: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً}.
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ مُجَاهِدٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ كَرَاهَةَ قَتْلِ الْأَسِيرِ. وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ السُّدِّيِّ أَنَّ قوله: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} مَنْسُوخٌ بِقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ. حَدَّثَنَا جَعْفَرٌ قال: حَدَّثَنَا جَعْفَرٌ قال: حَدَّثَنَا أبو عبَيْدٍ قال: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قال: هِيَ مَنْسُوخَةٌ.
وَقال: قَتَلَ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ يَوْمَ بَدْرٍ صَبْرًا قال أبو بكر: اتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى جَوَازِ قَتْلِ الْأَسِيرِ لَا نَعْلَمُ بَيْنَهُمْ خِلَافًا فِيهِ. وَقَدْ تَوَاتَرَتْ الْأَخْبَارُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي قَتْلِهِ الْأَسِيرَ. مِنْهَا قَتْلُهُ عَقَبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ وَالنُّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ بَعْدَ الْأَسْرِ يَوْمَ بَدْرٍ. وَقَتَلَ يَوْمَ أُحُدٍ أَبَا عَزَّة الشَّاعِرَ بَعْدَمَا أُسِرَ. وَقَتَلَ بَنِي قُرَيْظَةَ بَعْدَ نزولهِمْ عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ.
فَحَكَمَ فِيهِمْ بِالْقَتْلِ وَسَبْيِ الذُّرِّيَّةِ وَمَنَّ عَلَى الزُّبَيْرِ بْن بَاطَا مِنْ بَيْنِهِمْ. وَفَتَحَ خَيْبَرَ بَعْضَهَا صُلْحًا وَبَعْضَهَا عَنْوَةً. وَشَرَطَ عَلَى ابْنِ أَبِي الْحَقِيقِ أَنْ لَا يَكْتُمَ شَيْئًا فَلَمَّا ظَهَرَ عَلَى خِيَانَتِهِ وَكِتْمَانِهِ قَتَلَهُ. وَفَتَحَ مَكَّةَ وَأَمَرَ بِقَتْلِ هِلَالِ بْنِ خَطَلٍ وَمَقِيسِ بْنِ صَبَابَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْح وَآخرين وَقال: «اُقْتُلُوهُمْ. وَإِنْ وَجَدْتُمُوهُمْ مُتَعَلِّقِينَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ» وَمَنَّ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ ولم يَغْنَمْ أَمْوَالَهُمْ.
وَرُوِيَ عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ يَقول: وَدِدْتُ أَنِّي يَوْمَ أُتِيتُ بِالْفُجَاءَةِ لَمْ أَكُنْ أَحْرَقْتُهُ وَكُنْتُ قَتَلْتُهُ صَرِيحًا أَوأَطْلَقْتُهُ نَجِيحًا وَعَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ قَتَلَ دِهْقَانَ السُّوسِ بَعْدَمَا أَعْطَاهُ الْأَمَانَ عَلَى قَوْمٍ سَمَّاهُمْ وَنَسِيَ نَفْسَهُ فَلَمْ يُدْخِلْهَا فِي الْأَمَانِ فَقَتَلَهُ فَهَذِهِ آثار مُتَوَاتِرَةٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَنْ الصَّحَابَةِ فِي جَوَازِ قَتْلِ الْأَسِيرِ وَفِي اسْتِبْقَائِهِ وَاتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى ذَلِكَ. وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي فِدَائِهِ. فَقال أَصْحَابُنَا جَمِيعًا: يُفَادَى الْأَسِيرُ بِالْمَالِ ولا يُبَاعُ السَّبْيُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فَيَرُدُّوا حَرْبًا وَقال أبو حنِيفَةَ: لَا يُفَادُونَ بِأَسْرَى الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا ولا يُرَدُّونَ حَرْبًا أَبَدًا وَقال أَبُويُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا بَأْسَ أَنْ يُفَادَى أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ بِأَسْرَى الْمُشْرِكِينَ وهو قول الثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَقال الْأَوْزَاعِيُّ: لَا بَأْسَ بِبَيْعِ السَّبْيِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ ولا يُبَاعُ الرِّجَالُ إلَّا أَنْ يُفَادَى بِهِمْ الْمُسْلِمُونَ وَقال الْمُزَنِيّ عَنْ الشَّافِعِيِّ: لِلْإِمَامِ أَنْ يَمُنَّ عَلَى الرِّجَالِ الَّذِينَ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ أو يفَادِي بِهِمْ فَأَمَّا الْمُجِيزُونَ لِلْفِدَاءِ بِأَسْرَى الْمُسْلِمِينَ وَبِالْمَالِ فَإِنَّهُمْ احْتَجُّوا بِقوله: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً}. وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي جَوَازَهُ بِالْمَالِ وَبِالْمُسْلِمِينَ. وَبِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم {فَدَى أُسَارَى بَدْرٍ بِالْمَالِ} وَيَحْتَجُّونَ لِلْفِدَاءِ بِالْمُسْلِمِينَ بِمَا رَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قلابة عَنْ أَبِي الْمُهَلَّبِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حَصِينٍ قال: أَسَرَتْ ثَقِيفُ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَسَرَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ. فَمُرَّ بِهِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وهو مُوثَقٌ. فَأَقْبَلَ إلَيْهِ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقال: عَلَامَ أُحْبَسُ؟ قال: بِجَرِيرَةِ حُلَفَائِك فَقال الْأَسِيرُ: إنِّي مُسْلِمٌ. فَقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَوقُلْتَهَا وَأَنْتَ تَمْلِكُ أَمْرَك لَأَفْلَحَتْ كُلَّ الْفَلَاحِ» ثُمَّ مَضَى رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَنَادَاهُ أَيْضًا. فَأَقْبَلَ فَقال: إنِّي جَائِعٌ فَأَطْعِمْنِي فَقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «هَذِهِ حَاجَتُك». ثُمَّ إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَدَاهُ بِالرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ كَانَتْ ثَقِيفٌ أَسَرَتْهُمَا.
وَرَوَى ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قلابة عَنْ أَبِي الْمُهَلَّبِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حَصِينٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَدَى رَجُلَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِرَجُلٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ مِنْ بَنِي عَقِيلٍ ولم يَذْكُرْ إسْلَامَ الْأَسِيرِ. وَذَكَرَهُ فِي الْحَدِيثِ الأول ولا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يُفَادَى الأن عَلَى هَذَا الْوَجْهِ؛ لأن الْمُسْلِمَ لَا يُرَدُّ إلَى أَهْلِ الْحَرْبِ. وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم شَرَطَ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ لِقُرَيْشٍ أَنَّ مَنْ جَاءَ مِنْهُمْ مُسْلِمًا رَدَّهُ عَلَيْهِمْ. ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ وَنَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْإِقَامَةِ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ وَقال: أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مَعَ مُشْرِكٍ وَقال: مَنْ أَقَامَ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ.
وَأَمَّا مَا فِي الآية مِنْ ذِكْرِ الْمَنِّ أو الفِدَاءِ وَمَا رُوِيَ فِي أُسَارَى بَدْرٍ. فَإِنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ بِقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَاتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ}.
وَقَدْ رَوَيْنَا ذَلِكَ عَنْ السُّدِّيِّ وَابْنِ جُرَيْجٍ وقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ ولا بِالْيَوْمِ الآخر} إلَى قوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} فَتَضَمَّنَتْ الْآيتان وُجُوبَ الْقِتَالِ لِلْكُفَّارِ حَتَّى يُسْلِمُوا أو يؤَدُّوا الْجِزْيَةَ. وَالْفِدَاءُ بِالْمَالِ أَوبِغَيْرِهِ يُنَافِي ذَلِكَ ولم يَخْتَلِفْ أَهْلُ التَّفْسِيرِ وَنَقَلَةُ الآثار أَنَّ سُورَةَ بَرَاءَةٍ بَعْدَ سُورَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ فِيهَا نَاسِخًا لِلْفِدَاءِ الْمَذْكُورِ فِي غَيْرِهَا.
قوله تعالى: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} قال الْحَسَنُ: حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ ولا يُشْرَكَ بِهِ غَيْرُهُ وَقال سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: خُرُوجُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ وَيَلْقَى الذِّئْبُ الشَّاةَ فَلَا يَعْرِضُ لَهَا ولا تَكُونُ عَدَاوَةٌ بَيْن اثْنَيْنِ وَقال الْفَرَّاءُ: اثَامُهَا وَشِرْكُهَا حَتَّى لَا يَكُونَ إلَّا مُسْلِمٌ أو مسَالِمٌ قال أبو بكر: فَكَأَنَّ مَعْنَى الآية عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ إيجَابُ الْقِتَالِ إلَى أَنْ لَا يَبْقَى مَنْ يُقَاتِلُ.
وقوله تعالى: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ الْأَعْلَوْنَ وَاَللَّهُ مَعَكُمْ} رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ: لَا تَضْعُفُوا عَنْ الْقِتَالِ وَتَدْعُوا إلَى الصُّلْحِ وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قال: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ الجرجاني قال: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قوله تعالى: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إلَى السَّلْمِ} قال: لَا تَكُونُوا أول الطَّائِفَتَيْنِ ضَرَعَتْ إلَى صَاحِبَتِهَا {وَأَنْتُمْ الْأَعْلَوْنَ} قال: أَنْتُمْ أولى بِاَللَّهِ مِنْهُمْ قال أبو بكر: فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى امْتِنَاعِ جَوَازِ طَلَبِ الصُّلْحِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ.
وَهوبَيَانٌ لِمَا أَكَّدَ فَرْضَهُ مِنْ قِتَالِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ حَتَّى يُسْلِمُوا وَقِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمُشْرِكِي الْعَجَمِ حَتَّى يُسْلِمُوا أو يعْطُوا الْجِزْيَةَ. وَالصُّلْحُ عَلَى غَيْرِ إعْطَاءِ الْجِزْيَةِ خَارِجٌ عَنْ مُقْتَضَى الآيات الْمُوجِبَةِ لِمَا وَصَفْنَا. فَأَكَّدَ النَّهْيَ عَنْ الصُّلْحِ بِالنَّصِّ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الآية. وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَدْخُلْ مَكَّةَ صُلْحًا. وَإِنَّمَا فَتَحَهَا عَنْوَةً؛ لأن اللَّهَ قَدْ نَهَاهُ عَنْ الصُّلْحِ فِي هَذِهِ الآية وَأَخْبَرَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ هُمْ الْأَعْلَوْنَ الْغَالِبُونَ. وَمَتَى دَخَلَهَا صُلْحًا بِرِضَاهُمْ فَهُمْ مُتَسَاو ونَ؛ إذْ كَانَ حُكْمُ مَا يَقَعُ بِتَرَاضِي الْفَرِيقَيْنِ فَهُمَا مُتَسَاوِيَانِ فِيهِ لَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأولى بِأَنْ يَكُونَ غَالِبًا عَلَى صَاحِبِهِ مِنْ الآخر.
وقوله تعالى: {ولا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} يُحْتَجُّ بِهِ فِي أَنَّ كُلَّ مَنْ دَخَلَ فِي قُرْبَةٍ لَا يَجُوزُ لَهُ الْخُرُوجُ مِنْهَا قَبْلَ إتْمَامِهَا لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ عَمَلِهِ نَحْوالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِهِ.