فصل: من فوائد ابن العربي في السورة الكريمة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



آخر سُورَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. اهـ.

.من فوائد ابن العربي في السورة الكريمة:

قال رحمه الله:
سورة مُحَمَّدٍ:
فِيهَا ثَلَاثُ آيات:
الآية الأولى قوله تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ ولويَشَاءُ اللَّهُ لأنتَصَرَ مِنْهُمْ ولكن لِيَبْلُوبَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَاَلَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ}.
فِيهَا تِسْعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الأولى فِي إعْرَابِهَا: قال الْمُعْرِبُونَ: هو منصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَصْدَرُ. تَقْدِيرُهُ فَاضْرِبُوا الرِّقَابَ ضَرْبًا.
وَعِنْدِي أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِقولك: اقْصِدُوا ضَرْبَ الرِّقَابِ. وَكَذَلِكَ فِي قوله: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} مَعْنَاهُ افْعَلُوا ذَلِكَ.
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي رِسَالَةٍ الْإِلْجَاءِ.
المسألة الثَّانِيَةُ قوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا}: فِيهَا قولان: أَحَدُهُمَا أَنَّهُمْ الْمُشْرِكُونَ؛ قالهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
الثَّانِيَةُ كُلُّ مَنْ لَا عَهْدَ لَهُ ولا ذِمَّةَ؛ وهو الصَّحِيحُ لِعُمُومِ الآية فِيهِ.
المسألة الثَّالِثَةُ فِي الْمُرَادِ بِقوله عَزَّ وَجَلَّ: {ضَرْبَ الرِّقَابِ} قولان: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ الْقِتَالُ؛ قالهُ السُّدِّيُّ.
الثَّانِي: أَنَّهُ قَتْلُ الْأَسِيرِ صَبْرًا.
وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ فِي الْقِتَالِ. وهو اللِّقَاءُ. وَإِنَّمَا نَسْتَفِيدُ قَتْلَ الْأَسِيرِ صَبْرًا مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُ وَأَمْرِهِ بِهِ.
المسألة الرَّابِعَةُ قوله تعالى: {حَتَّى إذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي سُورَةِ الأنفَالِ.
المعنى اُقْتُلُوهُمْ حَتَّى إذَا كَثُرَ ذَلِكَ. وَأَخَذْتُمْ مَنْ بَقِيَ فَأَوْثِقُوهُمْ شَدًّا؛ فَإِمَّا أَنْ تَمُنُّوا عَلَيْهِمْ فَتُطْلِقُوهُمْ بِغَيْرِ شَيْءٍ. وَإِمَّا أَنْ تُفَادُوهُمْ وَهِيَ:
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِأَبِي عِزَّةَ وَبِثُمَامَةَ.
وَقال مُقَاتِلٌ: هو العِتْقُ. وَكَذَلِكَ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ.
وَالأول أَصَحُّ؛ فَإِنَّ الْإِسْقَاطَ وَالتَّرْكَ مَعْنًى. وَالْعِتْقَ مَعْنًى. وَإِنْ كَانَ فِي الْعِتْقِ مَعْنَى التَّرْكِ فَلَيْسَ حُكْمُهُ.
المسألة السَّادِسَةُ {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا}. وَيَعْنِي ثَقَلَهَا. وَعَبَّرَ عَنْ السِّلَاحِ بِهِ لِثِقَلِ حَمْلِهَا. وَفِي ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا حَتَّى يُؤْمِنُوا وَيَذْهَبَ الْكُفْرُ؛ قالهُ الْفَرَّاءُ.
الثَّانِي حَتَّى يُسْلِمَ الْخَلْقُ؛ قالهُ الْكَلْبِيُّ.
الثَّالِثُ حَتَّى يَنْزِلَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ؛ قالهُ مُجَاهِدٌ.
المسألة السَّابِعَةُ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذِهِ الآية هَلْ هِيَ مَنْسُوخَةٌ أو محَكَّمَةٌ؟ فَقِيلَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}؛ قالهُ السُّدِّيُّ.
الثَّانِي: أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ فِي أَهْلِ الْأَوْثَانِ فَإِنَّهُمْ لَا يُعَاهَدُونَ.
وَقِيلَ: إنَّهَا مُحَكَّمَةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ قالهُ الضَّحَّاكُ.
الثَّالِثُ أَنَّهَا مُحَكَّمَةٌ بَعْدَ الْإِثْخَانِ؛ قالهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. لِقوله: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ}.
وَالتَّحْقِيقُ الصَّحِيحُ أَنَّهَا مُحَكَّمَةٌ فِي الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ. حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي.
المسألة الثَّامِنَةُ فِي التَّنْقِيحِ: اعْلَمُوا وَفَّقَكُمْ اللَّهُ أَنَّ هَذِهِ الآية مِنْ أُمَّهَاتِ الآيات وَمُحْكَمَاتِهَا؛ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِيهَا بِالْقِتَالِ. وَبَيَّنَ كَيْفِيَّتَهُ كَمَا بَيَّنَهُ فِي قوله تعالى: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الأنفَالِ؛ فَإِذَا تَمَكَّنَ الْمُسْلِمُ مِنْ عُنُقِ الْكَافِرِ أَجْهَزَ عَلَيْهِ. وَإِذَا تَمَكَّنَ مِنْ ضَرْبِ يَدِهِ الَّتِي يَدْفَعُ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَيَتناول بِهَا قِتَالَ غَيْرِهِ فَعَلَ ذَلِكَ بِهِ؛ فَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ إلَّا ضَرَبَ فَرَسَهُ الَّتِي يَتَوَصَّلُ بِهَا إلَى مُرَادِهِ فَيَصِيرُ حِينَئِذٍ رَاجِلًا مِثْلَهُ أَودُونَهُ. فَإِنْ كَانَ فَوْقَهُ قَصْدَ مُسَاوَاتِهِ. وَإِنْ كَانَ مِثْلَهُ قَصْدَ حَطِّهِ. وَالْمَطْلُوبُ نَفْسُهُ. وَالْمَالُ إعْلَاءُ كَلِمَةِ اللَّهِ تعالى؛ وَذَلِكَ لأن اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَمَرَ بِالْقِتَالِ أولا. وَعَلِمَ أَنْ سَتَبْلُغُ إلَى الْإِثْخَانِ وَالْغَلَبَةِ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ حُكْمَ الْغَلَبَةِ بِشَدِّ الْوَثَاقِ. فَيَتَخَيَّرُ حِينَئِذٍ الْمُسْلِمُونَ بَيْنَ الْمَنِّ وَالْفِدَاءِ.
وَبِهِ قال الشَّافِعِيُّ.
وَقال أبو حنِيفَةَ: إنَّمَا لَهُمْ الْقَتْلُ وَالِاسْتِرْقَاقُ؛ وَهَذِهِ الآية عِنْدَهُ مَنْسُوخَةٌ.
وَالصَّحِيحُ إحْكَامُهَا؛ فَإِنَّ شُرُوطَ النَّسْخِ مَعْدُومَةٌ فِيهَا مِنْ الْمُعَارَضَةِ. وَتَحْصِيلِ الْمُتَقَدِّمِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِ. وَقوله: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} فَلَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لأن التَّشْرِيدَ قَدْ يَكُونُ بِالْمَنِّ وَالْفِدَاءِ وَالْقَتْلِ. فَإِنَّ طَوْقَ الْمَنِّ يُثْقِلُ أَعْنَاقَ الرِّجَالِ. وَيَذْهَبُ بِنَفَاسَةِ نُفُوسِهِمْ. وَالْفِدَاءُ يُجْحِفُ بِأَمْوَالِهِمْ؛ ولم يَزَلْ الْعَبَّاسُ تَحْتَ ثِقَلِ فِدَاءِ بَدْرٍ حَتَّى أَدَّى عَنْهُ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَأَمَّا قوله: {اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} فَقَدْ قال: وَاحْصُرُوهُمْ؛ فَأَمَرَ بِالْأَخْذِ كَمَا أَمَرَ بِالْقَتْلِ.
فَإِنْ قِيلَ: أَمَرَ بِالْأَخْذِ لِلْقَتْلِ.
قُلْنَا: أوللْمَنِّ وَالْفِدَاءِ.
وَقَدْ عَضَّدَتْ السُّنَّةُ ذَلِكَ كُلَّهُ؛ فَرَوَى مُسْلِمٌ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ مِنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ جَارِيَةً فَفَدَى بِهَا نَاسًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ هَبَطَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ قَوْمٌ. فَأَخَذَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَمَنَّ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ مَنَّ عَلَى سِبِّي هو ازِنَ. وَقَتَلَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ صَبْرًا فَقالتْ أُخْتُهُ قُتَيْلَةُ تَرِثِيهِ: يَا رَاكِبًا إنَّ الْأَثِيلَ مَظِنَّةٌ مِنْ صُبْحِ خَامِسَةٍ وَأَنْتَ مُوَفَّقُ أَبْلِغْ بِهَا مَيِّتًا بِأَنَّ تَحِيَّةً مَا إنْ تَزَالُ بِهَا النَّجَائِبُ تَخْفِقُ مِنِّي إلَيْهِ وَعَبْرَةً مَسْفُوحَةً جَادَتْ بِوَاكِفِهَا وَأُخْرَى تَخْنُقُ فَلْيَسْمَعْنِ النَّضْرُ إنْ نَادَيْته إنْ كَانَ يَسْمَعُ مَيِّتٌ أو ينْطِقُ أَمُحَمَّدٌ ولأنتَ ضِنْءُ كَرِيمَةٍ فِي قَوْمِهَا وَالْفَحْلُ فَحْلٌ مُعْرِقُ مَا كَانَ ضَرَّك لَومَنَنْت وَرُبَّمَا مِنْ الْفَتَى وهو الْمَغِيظُ الْمُحْنَقُ لَوكُنْت قَابِلَ فِدْيَةٍ لَفَدَيْتُهُ بِأَعَزِّ مَا يُغْلَى بِهِ مَنْ يُنْفِقُ وَالنَّصْرُ أَقْرَبُ مِنْ أَسَرْت قرابة وَأَحَقُّهُمْ لَو كَانَ عِتْقٌ يُعْتِقُ ظَلَّتْ رِمَاحُ بَنِي أَبِيهِ تَنُوشُهُ لِلَّهِ أَرْحَامٌ هُنَاكَ تُشَقَّقُ صَبْرًا يُقَادُ إلَى الْمَنِيَّةِ مَتْعَبًا رَسْفَ الْمُقَيِّدِ وهو عَانٍ مُوثَقُ فَالنَّظَرُ إلَى الْإِمَامِ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ.
وَأَمَّا قوله تعالى: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} فَمَعْنَاهُ عِنْدَ قَوْمٍ حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ اثَامَهَا يُرِيدُونَ بِأَنْ يُسْلِمَ الْكُلُّ. فَلَا يَبْقَى كَافِرٌ؛ وَيؤول مَعْنَاهُ إلَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ حَتَّى يَنْقَطِعَ الْجِهَادُ؛ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ لِقوله صلى الله عليه وسلم: «الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ الْأَجْرُ وَالْمَغْنَمُ».
وَمَنْ ذَكَرَ نزول عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا هو لأَجْلِ مَا رُوِيَ أَنَّهُ إذَا نَزَلَ لَا يَبْقَى كَافِرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ولا جِزْيَةٌ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَبْقَى مَنْ لَا كِتَابَ لَهُ. ولا يُقْبَلُ مِنْهُ جِزْيَةٌ فِي أَصَحِّ القوليْنِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ.
المسألة التَّاسِعَةُ فِي تَتْمِيمِ القول: قال الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ: فِي الآية تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ: الْمَعْنَى فَضَرْبُ الرِّقَابِ حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا. فَإِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ.
وليس لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَ الْأَسِيرَ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الْحَجَّاجِ أَنَّهُ دَفَعَ أَسِيرًا إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ لِيَقْتُلَهُ. فَأَبَى وَقال: لَيْسَ بِهَذَا أَمَرَنَا اللَّهُ. وَقرأ: {حَتَّى إذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ}.
قُلْنَا: قَدْ قالهُ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفَعَلَهُ. وليس فِي تَفْسِيرِ اللَّهِ لِلْمَنِّ وَالْفِدَاءِ مَنْعٌ مِنْ غَيْرِهِ؛ فَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ فِي الزِّنَا حُكْمَ. الْجَلْدِ. وَبَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حُكْمَ الرَّجْمِ؛ ولعَلَّ ابْنَ عُمَرَ كَرِهَ ذَلِكَ مِنْ يَدِ الْحَجَّاجِ فَاعْتَذَرَ بِمَا قال. وَرَبُّك أَعْلَمُ.
الآية الثَّانِيَةُ قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمنوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرسول ولا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}.
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ افْتَتَحَ نَافِلَةً مِنْ صَوْمٍ أَوصَلَاةٍ. ثُمَّ أَرَادَ تَرْكَهَا قال الشَّافِعِيُّ: لَهُ ذَلِكَ.
وَقال مَالِكٌ وَأبو حنِيفَةَ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لأنهُ إبْطَالٌ لِعَمَلِهِ الَّذِي انْعَقَدَ لَهُ.
وَقال الشَّافِعِيُّ: هو تَطَوُّعٌ فَإِلْزَامُهُ إيَّاهُ يُخْرِجُهُ عَنْ الطَّوَاعِيَةِ.
قُلْنَا: إنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْعَمَلِ. فَإِذَا شُرِّعَ لَزِمَهُ كَالشُّرُوعِ فِي الْمُعَامَلَاتِ.
الثَّانِي: أَنَّهُ لَا تَكُونُ عِبَادَةٌ بِبَعْضِ رَكْعَةٍ ولا بَعْضِ يَوْمٍ فِي صَوْمٍ؛ فَإِذَا قَطَعَ فِي بَعْضِ الرَّكْعَةِ أو في بَعْضِ الْيَوْمِ إنْ قال: إنَّهُ يُعْتَدُّ بِهِ نَاقَضَ الْإِجْمَاعَ. وَإِنْ قال: إنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ فَقَدْ نَقَضَ الْإِلْزَامَ. وَذَلِكَ مُسْتَقْصَى فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ.
الآية الثَّالِثَةُ قوله تعالى: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوَا إلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ الْأَعْلَوْنَ وَاَللَّهُ مَعَكُمْ ولنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ}.
قَدْ بَيَّنَّا حُكْمَ الصُّلْحِ مَعَ الْأَعْدَاءِ فِي سُورَةِ الأنفَالِ.
وَقَدْ نَهَى اللَّهُ تعالى هَاهُنَا عَنْهُ مَعَ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ لِلْكُفَّارِ. وَذَلِكَ بَيِّنٌ. وَإِنَّ الصُّلْحَ إنَّمَا هو إذَا كَانَ لَهُ وَجْهٌ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَيْهِ. وَيُفِيدُ فَائِدَةً. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لَا رَبَّ غَيْرُهُ. ولا خَيْرَ إلَّا خَيْرُهُ. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
سورة محمد صلى الله عليه وسلم:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.
قوله: {الذين كَفَرُواْ}: يجوزُ فيه الرفعُ على الابتداءِ. والخبرُ الجملةُ مِنْ قوله: {أضَلَّ أعمالَهم}. ويجوزُ نصبُه على الاشتغالِ بفعلٍ مقدرٍ يُفَسِّرُه {أضَلَّ} من حيثُ المعنى أي: خَيَّبَ الذين كفروا.
{وَالَّذِينَ آمنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمنوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وهو الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2)}.
قوله: {والذين آمنوا}: يجوز فيه الوجهان المتقدمان. وتقديرُ الفعلِ: رَحِمَ الذين آمنوا.
قوله: {بِمَا نُزِّلَ على مُحَمَّدٍ} العامَّةُ على بنائِه للمفعول مشدَّدًا. وزيد ابن علي وابن مقسم {نَزَّل} مبنيًا للفاعل. وهو اللَّهُ تعالى. والأعمش {أُنْزِل} بهمزة التعدية مبنيًا للمفعول. وقرئ {نَزَلَ} ثلاثيًا مبنيًا للفاعل.
قوله: {وهو الحق} جملةٌ معترضةٌ بين المبتدأ والخبرِ. أوبين المفسَّر والمفسِّر. وتقدَّم تفسيرُ البال في طه.
{ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمنوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3)}.
قوله: {ذَلِكَ}: فيه وجهان. أظهرهما: أنه مبتدأٌ. والخبرُ الجارُّ بعدَه. والثاني: قاله الزمخشري أنَّه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: الأمرُ ذلك بسببِ كذا. فالجارُّ في محلِّ نصبٍ. قال الشيخ: ولا حاجةَ إليه.
قوله: {كذلك يَضْرِبُ} خرَّجَه الزمخشريُّ على: مِثْلَ ذلك الضربِ يَضْرِبُ اللَّهُ للناسِ أمثالَهم. والضميرُ راجعٌ إلى الفريقين أو إلى الناسِ. على معنى: أنه يَضْرِبُ أمثالَهم لأجلِ الناس ليَعْتَبِروا.
{فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ ولويَشَاءُ اللَّهُ لأنتَصَرَ مِنْهُمْ ولكن لِيَبْلُوبَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4)}.
قوله: {فَإِذَا لَقِيتُمُ}: العاملُ في هذا الظرفِ فعلٌ مقدر هو العاملُ في {ضَرْبَ الرِّقاب} تقديرُه: فاضربوا الرقابَ وقتَ ملاقاتِكم العدوَّ. ومنع أبو البقاء أَنْ يكونَ المصدر نفسُه عاملًا قال: لأنه مؤكَّدٌ. وهذا أحدُ القوليْن في المصدرِ النائبِ عن الفعل نحو: ضَرْبًا زيدًا هل العملُ منسوبٌ إليه أم إلى عامِله؟ ومنه:
على حينَ أَلْهى الناسَ جُلُّ أمورِهمْ ** فنَدْلًا زُرَيْقُ المالَ نَدْلَ الثَّعالبِ

فالمالَ منصوبٌ: إمَّا بـ: انْدُلْ أوب نَدْلا. والمصدر هنا أُضيف إلى معمو له. وبه اسْتُدِلَّ على أنَّ العملَ للمصدرِ لإِضافتِه إلى ما بعدَه. ولولم يكنْ عامِلًا لما أُضِيْفَ إلى ما بعده.
قوله: {حتى إذا} هذه غايةٌ للأمرِ بضَرْبِ الرقاب. وقرأ السُّلَمِيُّ {فَشِدُّوا} بكسر الشين. وهي ضعيفةٌ جدًّا. والوَثاق بالفتح- وفيه الكسر- اسمُ ما يُوْثَقُ به.
قوله: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} فيهما وجهان. أشهرهما: أنهما منصوبان على المصدر بفعلٍ لا يجوزُ إظهارُه؛ لأن المصدرَ متى سِيْقَ تفصيلًا لعاقبةِ جملةٍ وَجَبَ نصبُه بإضمارِ فِعْلٍ لا يجوزُ إظهارُه والتقديرُ: فإمَّا أَنْ تَمُنُّوا مَنًّا. وإمَّا تُفادُوا فداءً. ومثله:
لأَجْهَدَنَّ فإمَّا دَرْءُ واقِعَةٍ ** تُخْشَى وإمَّا بلوغُ السُّؤْلِ والأَمَلِ

والثاني:- قاله أبو البقاء- أنهما مفعولأن بهما لعاملٍ مقدرٍ تقديره: أَولوهُمْ مَنًَّا. واقْبَلوا منهم فداءً. قال الشيخ: وليس بإعرابِ نحوي. وقرأ ابن كثير {فِدَى} بالقصر. قال أبو حاتم: لا يجوزُ؛ لأنه مصدرُ فادَيْتُه ولا يُلْتَفت إليه؛ لأن الفراءَ حكى فيه أربعَ لغاتٍ: المشهورةُ المدُّ والإِعرابُ: فداء لك. وفداءٍ بالمد أيضًا والبناء على الكسر والتنوين. وهو غريبٌ جدًّا. وهذا يُشْبه قول بعضِهم هؤلاءٍ بالتنوين. وفِدى بالكسر مع القصر. وفَدَى بالفتح مع القصرِ أيضًا.
والأَوْزارُ هنا: الأَثْقال. وهو مجازٌ. قيل: هو من مجاز الحَذْف أي: أهل الحرب. والأَوْزار عبارةٌ عن الاتِ الحرب. قال الشاعر:
وأَعْدَدْت للحَرْبِ أوزارَها ** رِماحًا طِوالًا وخَيْلًا ذُكورًا

وحتى الأولى غايةٌ لضَرْبِ الرِّقاب. والثانيةُ لـ: {شُدُّوا}. ويجوزُ أَنْ يكونا غايتين لضَرْبِ الرِّقابِ. على أنَّ الثانيةَ توكيدٌ أو بدل.
قوله: {ذلك} يجوزُ أَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي: الأمرُ ذلك. وأَنْ ينتصِبَ بإضمارِ افْعَلوا.
قوله: {ليَبْلُوبَعْضَكم} أي: ولكن أَمَرَكم بالقتال ليَبْلُوَ.
قوله: {قُتِلُوا} قرأ العامَّةُ {قاتلوا} وأبو عمرو وحفص {قُتِلوا} مبنيًا للمفعول على معنى: أنَّهم قُتِلوا وماتوا. أصاب القتلُ بعضَهم كقوله: {قُتِل مَعَهُ رِبِّيُّونَ}. وقرأ الجحدري {قَتَلوا} بفتح القاف والتاءِ خفيفةً. ومفعوله محذوفٌ. وزيد بن ثابت والحسن وعيسى {قُتِّلوا} بتشديد التاء مبنيًا للمفعول.
وقرأ أمير المؤمنين علي {تُضَلَّ} مبنيًا للمفعول {أعمالُهم} بالرفع لقيامِه مَقامَ الفاعلِ. وقرئ {تَضِلَّ} بفتح التاء. {أعمالُهم} بالرفع فاعلًا.
{وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6)}.
قوله: {عَرَّفَهَا}: يجوزُ فيها وجهان. أحدهما: أَنْ تكونَ مستأنفةً. والثاني: أَنْ تكونَ حالًا فيجوزَ أَنْ تُضْمِرَ قد وأن لا تُضْمِرَ. و{عَرَّفها}: من التعريف الذي هو ضدُّ الجهل. وقيل: من الرَّفْع. وقيل: من العَرْف وهو الطِّيب. وقرأ أبو عمرو في رواية {ويُدْخِلْهم} بسكون اللامِ. وكذا ميمُ {نُطْعِمُكُمْ} [الإنسان: 9] وعين {يَجْمَعُكُمْ} [التغابن: 9] كأنه يَسْتَثْقِلُ الحركاتِ. وقد قرأتُ له بذلك في {يُشْعِرُكُمْ} [الأنعام: 109] و{يَنصُرُكُمْ} [الملك: 20] وبابه.