فصل: مطلب فيما امتاز به أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ودينه ووصف أصحابه والتوقي من ذكرهم بسوء:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال تعالى: {بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا} (15) من كلام اللّه مما فيه نفع لهم فقط وهذا هو الذي سبب حرمانهم لا من كون المؤمنين يحمدونهم.
فيا أكمل الرّسل {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى} قتال {قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} وعزم قوي، فإن أطعتم داعيكم إلى قتالهم كنتم مؤمنين حقا ولكم الأجر من الله والنّعمة والمغفرة كما سبق من ذنوبكم كلها إلى يوم تلبيتكم هذه الدّعوة، وإذا أعرضتم وثبّتم على نفاقكم فلكم العذاب الأليم على ما اقترفتموه وهؤلاء الّذين ستدعون إلى قتالهم {تُقاتِلُونَهُمْ} فتقتلونهم {أَوْ يُسْلِمُونَ} فيسلمون لكم ويؤمنون باللّه ورسوله ولكم بذلك الثواب الذي ما فوقه ثواب، لا يقاس بكل الغنائم، قال صلى الله عليه وسلم لأن يهدبك اللّه رجلا خير لك من حمر النّعم.
وفي هذه الآية بشارة لتحقيق أحد الأمرين النّصر والظّفر أو الإسلام والإيمان {فَإِنْ تُطِيعُوا} من يدعوكم لقتالهم {يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا} لقاء إطاعتكم هذه وكذلك كلّ طاعة لرسولكم وإمامكم وأميركم يكون لكم فيها الأجر الحسن والثواب الجليل {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ} عن واقعة الحديبية {يُعَذِّبْكُمْ عَذابًا أَلِيمًا} (16) لا تطيقه أجسامكم، وهؤلاء القوم الّذين وصفهم اللّه بالحزم البالغ هم هوازن وثقيف لأنهم من أشد العرب بأسا، وقد نزلت هذه الآية فيهم، واللّه أعلم، والدّاعي هو رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وهذا التفسير والتأويل أنسب بالمقام لأنه بمعرض الامتحان للمنافقين المذكورين، وان قوله تعالى: {لَنْ تَتَّبِعُونا} مقيد بأمرين في غزوة خيبر لما سبق من أن اللّه تعالى خصص غنائمها لأهل الحديبية، واستمرارهم على النّفاق، وعليه فإنهم إذا آمنوا وصدقوا بقلبهم ولسانهم ونصحوا اللّه ورسوله فلا مانع من اتباعهم لحضرة الرّسول في غزواته الأخر.
وما قاله بعض المفسرين من أن المراد بهم فارس والرّوم حينما دعاهم إلى حربهما عمر رضي اللّه عنه زمن خلافته وإن هذه من قبيل الأخبار بالغيب بعيد عن المعنى المراد بسياق الكلام وسياقه، وأبعد منه القول بأنهم بنو حنيفية أهل اليمامة قوم مسيلمة الكذاب حينما دعاهم لحربهم أبو بكر رضي اللّه عنه في خلافته، لأن ما نحن فيه ينافي هذين الأمرين لما فيه من عود الكلام إلى غير مذكور، ولا يوجد ما يدل عليه، ولا هو معلوم أو مشهور راجع الآية 22 من سورة ص في ج 1 وما هو في معناها مما رمزنا إليه في تفسيرها وإن عود الكلام إلى ما سبق له ذكر كما جرينا عليه أولى بالمقام وأنسب للمعنى المراد وأحسن، ولأن هاتين الحادثتين وقعتا بعد نزول هذه الآية بسنتين وكونها من الأخبار بالغيب جائز ككثير من أمثالها، ولكن مناسبتها لما قبلها يبعد ذلك واللّه أعلم، واعلم أن كلّ من تخلف عن دعوة الإمام إلى الحرب دون عذر شرعي فهو منافق يدخل دخولا أوليا في هذه الآية، لأن تخلفه دليل على عدم نصحه لامامه، وإن ما في قلبه مخالف لما في لسانه، وإن حضرة الرّسول لو لم يدعهم إلى جهاد هوازن وثقيف حينما استنفر النّاس لحرب حنين وبني المصطلق الآتي ذكرهما بعد في سورة التوبة الآتية التي قصد بها اختبارهم وإظهار رجوع من رجع منهم عن نفاقه لما جاز، بل لا متنع أبو بكر وعمر من الاذن لهم بالخروج معهم إلى الجهاد كما امتنعا من أخذ الزكاة من ثعلبة لا متناع رسول اللّه من أخذها منه، وكما امتنعا من إعادة مروان بن الحكم من منفاه لأن حضرة الرّسول طرده من المدينة لأنهم لا يخالفون رسولهم قيد شعرة قولا ولا فعلا حيا كان أو ميتا، وهذا مما يدل على صحة ما ذكرناه وعلى أن الدّاعي هو حضرة الرّسول لا أبو بكر ولا عمر رضي اللّه عنهما.
واعلم أن من قال أن الدّاعيين أبو بكر وعمر استدل على صحة خلافتهما، إذ وعد المدعوين بالثواب على طاعة الدّاعين وليس بشيء، وخلافتهما لا يمتري فيها إلّا منافق أو حسود فاسق.
ولما سمع الزمنى والمرضى والعرج والعميان هذه الآية قالوا كيف حالنا يا رسول اللّه؟ فأنزل اللّه جل شأنه {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} في التخلف عن الجهاد لعدم قدرتهم على الكر والفر ويدخل في هذه الآية الفقير الذي لا يمكنه استصحاب ما يلزمه من أدوات الجهاد ولم يمنحه الإمام أو الأمير شيئا يكفيه لذلك ويدخل في هذه الآية من يمرض المريض كما سيأتي في الآيتين 93 و94 من سورة التوبة الآتية، أما ما جاء في آية النّور 62 المارة المضاهية لهذه الآيات من حيث اللّفظ فهي في حق الأكل لا في حق الجهاد إذ كلّ منها جاءت لمناسبة ما قبلها {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ} عن أمرهما ويعرض عنهما {يُعَذِّبْهُ عَذابًا أَلِيمًا} (17) في الدنيا والآخرة.
قال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ} من الصّدق والإخلاص في بيعتهم لك والوفاء بما عاهدوك به وواثقوك عليه، لأنهم صرحوا بالموت وعدم الفرار في مبايعتهم وما بعد هذا من وفاء كما علم ما في قلوب المنافقين من الشّك والنّفاق والظّن السّيء {فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} وثبتهم واطمأنت نفوسهم {وَأَثابَهُمْ} على ذلك {فَتْحًا قَرِيبًا} (18) لأراضي خيبر وقرأهم {وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها} منها ومن غيرها فيما يأتي من الزمن إلى يوم القيامة إن شاء اللّه {وَكانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (19) ولم يزل كذلك على الدّوام والاستمرار {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ} مغانم خيبر لتسدوا حاجتكم فيها، وهي في جنب ما يأتيكم بعد قليل من كثير، وفيها إشارة إلى كثرة الفتوحات والغنائم التي يعطيهم اللّه تعالى إيّاها في المستقبل {وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ} أي أهل خيبر إذ وقع في قلوبهم الرّعب فلم يجرؤا على قتالكم، وكذلك حلفاؤهم أسد وغطفان كفّهم عنكم وألقى في قلوبهم الرّعب فمالوا إلى الصّلح كما سيلقيه في قلوب أهل مكة فيستسلمون لكم {وَلِتَكُونَ} هذه الفتوحات والغنائم {آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} وعبرة يعرفون بها مكانتهم عند اللّه وضمانة لهم بالنصر والفتح وعظة لأعدائكم كي لا يجرءوا على مقابلتكم، ودلالة على صدق ما وعد الرّسول بذلك وإيقانا بأن إخباره بالغيب حق وصدق ثابت واقع لا مرية فيه، فيزدادوا إيمانا ويقينا بما يخبر {وَيَهْدِيَكُمْ صِراطًا مُسْتَقِيمًا} (20) بمنه وفضله {وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها} فهي مؤخرة تأتيكم بعد {قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها} وحفظها لكم ومنع الغير من تناولها حتى وإن فتحها من قبلكم أيها المؤمنون فتأخذونها أيضا قال ابن عباس هي فارس والرّوم، لأن العرب كانت لا تقدر على قتالهما، وكان ذلك زمن الخلفاء الرّاشدين.
وهذا من الإخبار بالغيب فيدخل فيه كلّ ما وقع من الفتوحات والغنائم بعد نزول هذه الآية، سواء الذي زمن الرّسول صلى الله عليه وسلم أو زمن الخلفاء الرّاشدين فمن بعدهم {وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} (21) بذل لعظمته كلّ شيء ولا يعجزه شيء فتشمل هذه الآية كلّ فتح وغنيمة حازها المسلمون مما وقع ويقع إلى آخر الدّوران، فنسأل اللّه أن يقدرهم على إعادة عزّهم وعلو كلمتهم، ويجمع شملهم، ويوحد خطتهم، إنه على كلّ شيء قدير وبالإجابة جدير، وما شيء على اللّه بعزيز.
قال تعالى: {وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} من أسد وغطفان حلفاء خيبر، وذلك لنهم قالوا لبعضهم إذا اشتغل المسلمون بحرب حلفائنا أهل خيبر نميل عليهم فنسبي ذراريهم فمنعهم اللّه بإلقاء الخوف في قلوبهم ولذلك قال: {لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ} منهزمين {ثُمَّ لا يَجِدُونَ} لو أقدموا على قتالكم {وَلِيًّا} يواليهم عليكم {وَلا نَصِيرًا} (22) ينصرهم أبدا.
واعلموا أن ما يفعله اللّه لأوليائه من النّصر خذلان لأعدائه، وليس هذا بأمر مبتدع بل هو {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ} في نصرة أحبابه وكبح أعدائه الجارية قبل للأنبياء وأتباعهم جارية لك ولأصحابك يا محمد {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا}.
(23) ولا تغييرا بل تبقى مستمرة للرسل وأتباعهم إذا ساروا على سنتهم مادام الملوان، وإن اللّه كما أنجز وعده لمن قبلك منجزه لك، لا يحول دون ما يريده حائل البتة.
ثم شرع يذكر حضرة الرّسول وأصحابه نعمته في صلح الحديبية، فقال: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ} في حرمها، لأن قسما من الحديبية داخل فيه ولو وقع الحرب فيها لامتد إلى نفس البيت حتما {مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} أي مكنكم منهم بالمبايعة الحقيقة الواقعة عن رغبة شديدة في القتال {وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} (24) لا يخفى عليه شيء ولا يفلت منه شيء ولا يغفل عن شيء.
أخرج مسلم عن أنس رضي اللّه عنه أن ثمانين رجلا من أهل مكة (يوم الحديبية) هبطوا على رسول اللّه من جبل النّعيم مسلحين يريدون الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فأخذهم سبايا فاستحياهم وقال عبد اللّه بن معقل المزني هم ثلاثون شابا، فدعا عليهم رسول اللّه فأخذ اللّه أبصارهم وأخذناهم ثم خلى سبيلهم رسول اللّه، فنزلت هذه الآية بمعرض المن على رسول اللّه من ربه عزّ وجل قال تعالى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} ومنعوكم من دخوله {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا} محبوسا وممنوعا عن {أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} الذي يذبح فيه تقربا إلى اللّه {وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ} ستضعفون عند أهل مكة {لَمْ تَعْلَمُوهُمْ} أثناء القتال لو فرض إيقاعه فيوشك {أَنْ تَطَؤُهُمْ} فتوقعوا بهم القتل لعدم معرفتكم بهم بسبب اختلاطهم مع أعدائكم أو تتسببوا بقتلهم من قبل أعدائكم انتقاما {فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ} اثم عظيم بسبب قتلهم وتغريمكم دينهم والزامكم الكفارات بسبب قتلكم إياهم {بِغَيْرِ عِلْمٍ} منكم بأنهم مؤمنون لاختلاطهم مع الكفار، فلولا هذا لما القى في قلوبهم قبول الصّلح الذي فيه اجحاف عليكم فقبلتموه على علاته، والا لأذن لكم بالقتال في بطن مكة ليس في حرمها فقط، ولدخلتم مكة عنوة بإذن اللّه وحاربتموهم في عقر دارهم وتوفقتم عليهم وأديتم الزيارة التي جئتم لأجلها رغما عنهم، ولكن لم بأذن اللّه لكم في ذلك وحال دون هذه الواقعة المنصورة خوف إضرار أولئك المساكين وعدم تأثيمكم، ولوجود أناس من الكفار علم اللّه أنهم سيؤمنون بعد، إذ لم يحن الوقت المقدر لإيمانهم، كما أن فتح مكة لم يأت أجله ولم يفعل اللّه تعالى ذلك إلا {لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ} من أهل مكة الّذين ما نعوكم من دخولها فيهديهم للأسلام، وقد كان ذلك، أما إنهم {لَوْ تَزَيَّلُوا} تفرقوا وامتازوا المؤمن من الكافر وأمن ذلك المحذور {لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابًا أَلِيمًا} (25) بأن هديناكم للقتال ومنعناكم من قبول الصّلح ونصرناكم عليهم سبيا وجلاء وقتالا، ولكن لم يرد اللّه هذا لما ذكر.
ثم ذم اللّه الكفرة على ما وقع منهم أثناء كتابة الصّحيفة بما اتفق عليه من الصّلح بقوله: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ} الأنفه والاستكبار، إذ لم يقروا بسم اللّه الرّحمن الرّحيم، ولا محمد رسول اللّه محتجين بعدم اعترافهم بهما، مع أنهما حق صريح لأن اللّه أنزل البسمة على رسوله وشرفه بالرسالة، وقد أخبرهم بذلك، ولكن تعاظمهم أبى عليهم قبول الحق حتى في الكتابة ثم أنهم لم يتركوهم ليزوروا البيت ويذبحوا هديهم فيه لئلا يقال أنهم غبنوا في ذلك ورغموا عليه ثم انهم اشترطوا على محمد أن يرد من جاءه منهم ولم يردوا من جاءهم من أصحابه.
فكانت هذه الشروط المجحفة {حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ} استولت عليهم فأخذت على قلوبهم بها ليس إلا، وإلّا فماذا يضرهم لو تركوهم يزورون ويذبحون نسكهم ويكتبون اسم اللّه ورسوله ويقابلونهم بالمثل فيمن يأتي من الطّرفين، ولهذا اغتاظ المؤمنون وأبو ألا أن يكون ما رفضوه أو يقاتلونهم {فَأنْزل الله سَكِينَتَهُ} طمأنيته ووقاره وانائته {عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} فأزال غضبهم وحنقهم ووسع صدورهم حتى خضعوا لذلك وعصمهم اللّه من أن يداخل قلوبهم شيء من الأنفة التي أخذت سهيلا ورفاقه الّذين تولوا تدوين شروط المعاهدة المشار إليها في الآية 10 من سورة الممتحنة المارة وقبولها مع الكراهة.
قال تعالى: {فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} الآية 18 من سورة النّساء المارة، وكان كذلك كما ذكرناه في الآية 75 من سورة النّساء أيضا فراجعها {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى} المندرج تحتها السّمع والطّاعة والإخلاص والثبات والصّبر والوفاء وكل خير {وَكانُوا} أصحاب محمد أهل بيعة الرّضوان {أَحَقَّ بِها} بتلك الكلمة المنطوية على فروع كثيرة من كفار المتلبسين بكلمة الكفر {وَأَهْلَها} المؤمنون المتلبسون بها، لأنهم الموحدون اللّه المتصفون بتقواه فهم أولى بالتّسربل بها، لأن اللّه كتبها لهم في علمه الأزلي {وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} (26) ومن جملتها علمه بأن هذا الصّلح الذي يراه المؤمنون مجحفا فيهم خير لهم لما فيه من الفوائد التي سيطلعهم اللّه عليها بعد، والنّوائب للكافرين التي سيريهم إياها.
هذا وكان صلى الله عليه وسلم قبل أن يخرج إلى الحديبية رأى في المنام أنه دخل المسجد الحرام وأصحابه آمنين محلقين رءوسهم ومقصرين، فقصها على أصحابه، فلما كان الصّلح ورجعوا دون أن يدخلوها قال المنافقون أين رؤياه التي رآها؟ فشق ذلك على المسلمين، فأنزل اللّه على طريق الحكاية عن رسوله صلى الله عليه وسلم قوله عز قوله: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ} الذي لا مرية فيه، ثم أقسم جل شأنه تأكيدا لإنجاز وعده هذا لنبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان اللّه عليهم {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ} لا يقوتكم وإرادتكم ولتكونن {آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} منها {لا تَخافُونَ} أحدا أبدا، وهذا الاستثناء في قوله تعالى مع أن وعده حق واخباره صدق لا شبهة فيه عبارة عن تعليم عباده الأدب لئلا يجزموا بشيء مهما كان محققا ومهما كان عزمهم فيه جازما بإنجازه، لأنهم لا يعلمون ما يقدر اللّه من الحوائل دون تنفيذ ما صمموا على إجرائه، ولذلك أراد منهم الاستثناء في كلّ أمورهم بان لا يقسموا على فعل شيء أو يجزموا على اجرائه إلّا أن يقرنوا مشيئه اللّه معه، ولهذا أمرهم بقوله جل قوله: {وَلا تَقولنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ} الآية 24 من سورة الكهف في ج2 {فَعَلِمَ} اللّه تعالى من الخير في هذا الصّلح لكم {ما لَمْ تَعْلَمُوا} أنتم ولا غيركم عاقبته الحسنة، ولو علم أعداؤكم نتيجته كما وقعت لما فعلوه، لأن اللّه كادهم فيه {فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ} قبل نهاية أجل تلك المعاهدة {فَتْحًا قَرِيبًا} (27) عظيما هو فتح مكة المذكور في الآية 75 من سورة النّساء المارة، وقد شرح فيه صدور المؤمنين وروج ما فيها من الاغبرار، ثم رجعوا من العام المقبل ودخلوا مكة محلقين ومقصرين، وأعقبه اللّه بفتح مكة قبل مرور سنتين على ذلك الصّلح، وقد مر سبب نقضه وكيفيته في قصة الحديبية في الآية 10 من سورة الممتحنة المارة، وقصة خيبر وقصة الفتح مرتا آنفا، وإلى هنا تنتهي الآيات النازلة في الطّريق، وإنما كانت متوالية وموضحة للحادثة، ولم تكن بالاشارة والتعريض كغيرها لازالة ما في قلوب المؤمنين من الغيظ الذي لحقهم بسبب تلك الشروط التي أدرجت في صك المعاهدة، لأنهم رأوها منقصة لقدرهم وضارة بهم لعدم علمهم بعاقبتها، إذ وقع الخسار والخيبة والذل لأعدائهم فيها مما لم يتصوروه ولهذا قال بعض المفسرين إن هذه السّورة نزلت كلها في الطّريق تسامحا لنزول هذه الآيات.

.مطلب فيما امتاز به أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ودينه ووصف أصحابه والتوقي من ذكرهم بسوء:

قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ} دين الإسلام دين ابراهيم عليه السلام {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} بحيث لا يبقى على وجه الأرض غيره، وسيكون هذا بعد نزول عيسى عليه السلام فعلا إن شاء اللّه، أما بالقوة فقد ظهرت تعاليمه وعمت وجه الأرض ودان به أهلها من حيث لا يعرفونه، وهذه شهادة من اللّه تعالى لهذا الدّين الحنيف {وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيدًا} (28) على ذلك فلا قيمة لإنكار المنكرين وتكذيب المكذبين مع هذه الشّهادة القيمة.
ثم صرح باسم هذا الرّسول الذي أظهره دينه على الأديان، فقال عز قوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} كما صرح باسمه الشّريف في الآية 144 من آل عمران والآية 2 من سورته المارات أي أن هذا الرّسول العظيم صلى الله عليه وسلم {وَالَّذِينَ مَعَهُ} من أصحابه الكرام والمؤمنين الصّادقين {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ} أوداء رؤفاء بعضهم على بعض بمثابة الوالد على الولد، لا يثنيهم عن مقاتلة الكفار أحد لشدة إيمانهم باللّه ومتانة عزمهم وقوة شكيمتهم واتفاق كلمتهم، وبمقابلة هذه الأوصاف الرّقيقة يقابلون أعداءهم بتلك الأوصاف الغليظة، ومع هذا فإنك {تَراهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} لمرضات ربهم {يَبْتَغُونَ} بتواددهم بعضهم وعبادتهم لربهم جل وعلا {فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانًا} لا سمعة ولا رياء ولا غرضا ولا عوضا {سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ} نورا ساطعا يوم القيامة {مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} غرّة في جباههم وتجميلا في أيديهم وأرجلهم، يسطع نورا أيضا من آثار الوضوء فإنهم يحشرون غرا محجّلين كما جاء في الحديث الصّحيح، لأعضائهم بريق ولمعان يعرفون بهما بين النّاس {ذلِكَ} المثل الموصوف به محمد وأتباعه في هذا القرآن هو {مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ} أيضا، وقد تم الكلام هنا فينبغي أن يوقف عليه ثم يبتدأ القارئ مستأنفا بقوله تعالى: {وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} فراخه وما تفرع عنه في جوانبه أي شواطئه {فَآزَرَهُ} عضده وقواه ومكنّه {فَاسْتَغْلَظَ} ذلك الزرع وقوي وتمكن {فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ} أصوله وقصبه وجذوعه وصار {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ} بادي الرّأي لحسن نباته وكثرة فروعه وقوة جذوره، وهذا مثل ضربه اللّه تعالى إلى سيدنا محمد وأصحابه في الإنجيل بان قوما يخرجون بعد فينبتون نبات الزرع أي يكونون قليلين ثم يكثرون، فالزرع محمد والفروع أصحابه والمؤمنون به، وإنما جعلهم اللّه كذلك {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} ويوقع في قلوبهم الرّعب منهم بسبب اتحادهم ومحبتهم بعضهم لبعض، وتعاونهم على عدوهم، وبذلك {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً} لذنوبهم وسترا لعيوبهم في الدّنيا {وَأَجْرًا عَظِيمًا} (29) في الآخرة، وهذا مما يزيد غيظ الكافرين فضلا عن أنه تعالى وعدهم النصر في الدّنيا والعزة في العقبى.