فصل: قال الثعالبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع، حدثنا أبو بحر، حدثنا شعبة، حدثنا جامع بن شداد، عن عبد الرحمن بن أبي علقمة، قال: سمعت عبد الله بن مسعود يقول: لما أقبلنا من الحديبية أعرسنا فنمنا، فلم نستيقظ إلا بالشمس قد طلعت، فاستيقظنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نائم، قال: فقلنا: «امضوا». فاستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقال: «افعلوا ما كنتم تفعلون وكذلك يفعل من نام أو نسي». قال: وفقدنا ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فطلبنها، فوجدناها قد تعلق خطامها بشجرة، فأتيته بها فركبها، فبينا نحن نسير إذ أتاه الوحي، قال: وكان إذا أتاه الوحي اشتد عليه، فلما سري عنه أخبرنا أنه أنزل عليه: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا}.
وقد رواه أحمد وأبو داود، والنسائي من غير وجه، عن جامع بن شداد به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان عن زياد بن علاقة، قال: سمعت المغيرة بن شعبة يقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي حتى ترم قدماه، فقيل له: أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: «أفلا أكون عبدًا شكورًا».
أخرجاه وبقية الجماعة إلا أبا داود من حديث زياد به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا هارون بن معروف، حدثنا ابن وهب، حدثني أبو صخر، عن ابن قسيط، عن عروة بن الزبير، عن عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى قام حتى تتفطر رجلاه.
فقالت له عائشة: يا رسول الله، أتصنع هذا وقد غفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: «يا عائشة، أفلا أكون عبدا شكورا؟».
أخرجه مسلم في الصحيح من رواية عبد الله بن وهب، به.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا عبد الله بن عون الخراز- وكان ثقة بمكة- حدثنا محمد بن بشر حدثنا مسعر، عن قتادة، عن أنس، قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه- أو قال ساقاه- فقيل له: أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: «أفلا أكون عبدًا شكورًا؟» غريب من هذا الوجه.
فقوله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} أي: بينا ظاهرا، والمراد به صلح الحديبية فإنه حصل بسببه خير جزيل، وآمن الناس واجتمع بعضهم ببعض، وتكلم المؤمن مع الكافر، وانتشر العلم النافع والإيمان.
وقوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}: هذا من خصائصه- صلوات الله وسلامه عليه- التي لا يشاركه فيها غيره. وليس صحيح في ثواب الأعمال لغيره غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. وهذا فيه تشريف عظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو- صلوات الله وسلامه عليه- في جميع أموره على الطاعة والبر والاستقامة التي لم ينلها بشر سواه، لا من الأولين ولا من الآخرين، وهو أكمل البشر على الإطلاق، وسيدهم في الدنيا والآخرة. ولما كان أطوع خلق الله لله، وأكثرهم تعظيما لأوامره ونواهيه. قال حين بركت به الناقة: «حبسها حابس الفيل» ثم قال: «والذي نفسي بيده، لا يسألوني اليوم شيئا يعظمون به حرمات الله إلا أجبتهم إليها» فلما أطاع الله في ذلك وأجاب إلى الصلح، قال الله له: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} أي: في الدنيا والآخرة، {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} أي: بما يشرعه لك من الشرع العظيم والدين القويم.
{وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} أي: بسبب خضوعك لأمر الله يرفعك الله وينصرك على أعدائك، كما جاء في الحديث الصحيح: «وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله». وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: ما عاقبت- أي في الدنيا والآخرة- أحدا عصى الله تعالى فيك بمثل أن تطيع الله فيه.
{هُوَ الَّذِي أَنزلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ}.
يقول تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنزلَ السَّكِينَةَ} أي: جعل الطمأنينة. قاله ابن عباس، وعنه: الرحمة.
وقال قتادة: الوقار في قلوب المؤمنين. وهم الصحابة يوم الحديبية، الذين استجابوا لله ولرسوله وانقادوا لحكم الله ورسوله، فلما اطمأنت قلوبهم لذلك، واستقرت، زادهم إيمانًا مع إيمانهم.
وقد استدل بها البخاري وغيره من الأئمة على تفاضل الإيمان في القلوب.
ثم ذكر تعالى أنه لو شاء لانتصر من الكافرين، فقال: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ} أي: ولو أرسل عليهم ملكا واحدا لأباد خضراءهم، ولكنه تعالى شرع لعباده المؤمنين الجهاد والقتال، لما له في ذلك من الحكمة البالغة والحجة القاطعة، والبراهين الدامغة؛ ولهذا قال: {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}. اهـ.

.قال الثعالبي:

قوله عز وجل: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} الآية، قال قوم: يريد فَتْحَ مَكَّةَ، وقال جمهور الناس، وهو الصحيح الذي تَعْضُدُهُ قصة الحديبية: إنَّ قوله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ} إنَّما معناه هو ما يَسَرَّ اللَّه عز وجل لنبيِّه في تلك الخرجة من الفتح البَيِّنِ الذي استقبله، ونزلت السورة مؤنسة للمؤمنين؛ لأَنَّهم كانوا استوحشوا من رَدِّ قريشٍ لهم ومن تلك المهادنة التي جعلها اللَّه سببًا للفتوحات، واستقبل النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم في تلك السفرة أَنَّهُ هَادَنَ عَدوَّه ريثما يَتَقَوَّى هو، وظهرت على يديه آية الماء في بئر الحديبية؛ حيث وضع فيه سهمه، وثاب الماء حتى كَفَى الجيش، واتَّفَقَتْ بيعةُ الرضوان، وهي الفتح الأعظم؛ قاله جابر بن عبد اللَّه والبَرَاءُ بن عازب، وبلغ هَدْيُهُ مَحِلَّهُ؛ قاله الشَّعْبِيُّ، واستقبل فتح خيبر، وامتلأت أيدي المؤمنين، وظهرت في ذلك الوقت الروم على فارس، فكانت من جملة الفتح؛ فَسُرَّ بها صلى الله عليه وسلم هو والمؤمنون؛ لظهور أهل الكتاب على المجوس، وشَرَّفَه اللَّه بأنْ أخبره أَنَّه قد غفر له ما تقدَّمَ من ذنبه وما تأَخَّرَ، أي: وإِنْ لم يكن ذنب.
ت: قال الثعلبيُّ: قوله: {لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ} قال أبو حاتم: هذه لام القسم، لما حُذِفَتِ النون من فعله كُسِرَتْ، ونُصِبَ فعلها؛ تشبيهًا بلام (كي)، انتهى.
قال عياض: ومقصد الآية أَنَّك مغفور لك، غيرَ مؤاخذ بذنب، إنْ لو كان، انتهى.
قال أبو حيان: (لِيَغْفِرَ) اللام لِلْعِلَّةِ، وقال ع: هي لام الصيرورة، وقيل: هي لام القسم، ورُدَّ بأنَّ لام القسم لا تُكْسَرُ وَلا يُنْصَبُ بها، وأُجِيبَ بأَنَّ الكَسْرَ قد عُلِّلَ بالحمل على (لام كي) وأَمَّا الحركة فليست نصبًا؛ بل هي الفتحة الموجودة مع النون، بَقِيَتْ بعد حذفها دَالَّةً على المحذوف، ورُدَّ باَّنَّهُ لم يُحْفَظْ من كلامهم: واللَّهِ ليقوم ولا باللَّه ليخرج زيد، انتهى.
وفي صحيح البخاريِّ عن أنس بن مالك: {إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًَا مُبِينًا} الحديبية، انتهى.
وقوله سبحانه: {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} أي: بإظهارك وتغليبك على عَدُوِّك، والرُّضْوَانُ في الآخرة والسَّكِينَةُ فعيلة من السكون، وهو تسكين قلوبهم لتلك الهُدْنَةِ مع قريش حتَّى اطمأَنَّتْ، وعلموا أَنَّ وعد اللَّه حق. اهـ.

.قال الألوسي:

{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ} إخبار عن صلح الحديبية عند الجمهور وروى ذلك عن ابن عباس وأنس والشعبي والزهري قال ابن عطية: وهو الصحيح، وأصل الفتح إزالة الإغلاق، وفتح البلد كما في الكشاف الظفر به عنوة أو صلحًا بحرب أو بغيره لأنه منغلق ما لم يظفر به فإذا ظفر به وحصل في اليد فقد فتح، وسمي ذلك الصلح فتحًا لاشتراكهما في الظهور والغلبة على المشركين فإنهم كما قال الكلبي ما سألوا الصلح إلا بعد أن ظهر المسلمون عليهم، وعن ابن عباس أن المسلمين رموهم أي بسهام وحجارة كما قيل حتى ادخلوهم ديارهم أو لأن ذلك الصلح صار سببًا لفتح مكة، قال الزهري: لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية اختلط المشركون بالمسلمين وسمعوا كلامهم وتمكن الإسلام من قلوبهم وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير وكثر بهم سواد الإسلام، قال القرطبي: فما مضت تلك السنون إلا والمسلمون قد جاؤا إلى مكة في عشرة آلاف ففتحوها، والتسمية على الأول من باب الاستعارة التبعية كيفما قررت، وعلى الثاني من باب المجاز المرسل سواء قلنا إنه في مثل ما ذكر تبعي أم لا حيث سمي السبب باسم المسبب، ولا مانع من أن يكون بين شيئين نوعان من العلاقة فيكون استعمال أحدهما في الآخر باعتبار كل نوعًا من المجاز كما في المشفر والشفة الغليظة لإنسان، وإسناد الفتح المراد به الصلح الذي هو فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه عز وجل مجاز من إسناد ما للقابل للفاعل الموجد، وفي ذلك من تعظيم شأن الصلح والرسول عليه الصلاة والسلام ما فيه؛ لا يقال: قد تقرر في الكلام أن الأفعال كلها مخلوقة له تعالى فنسبة الصلح إليه سبحانه إسناد إلى ما هو له فلا مجاز لأنا نقول: ما هو له عبارة عما كان الفعل حقه أن يسند إليه في العرف سواء كان مخلوقًا له تعالى أو لغيره عز وجل كما صرح به السعد في المطول وكيف لا ولو كذلك لكان إسناد جميع الأفعال إلى غيره تعالى مجازًا وإليه تعالى حقيقة كالصلاة والصيام وغيرهما.
وقال المحقق ميرزاجان: يمكن توجيه ما في الآية الكريمة على أنه استعارة مكنية أو على أن يراد خلق الصلح وإيجاده أو على أن يكون المجاز في الهيئة التركيبية الموضوعة للإسناد إلى ما هو له فاستعملت في الإسناد إلى غيره أو على أن يكون من قبيل الاستعارة التمثيلية، والأوجه الأربعة جارية في كل ما كان من قبيل المجاز العقلي كأنبت الربيع البقل، وقد صرح القوم بالثلاثة الأول منها، وزعم بعض أن الصلح مما يسند إليه تعالى حقيقة فلا يحتاج إلى شيء من ذلك وفيه مافيه، ويجوز أن يكون ذلك إخبارًا عن جعل المشركين في الحديبية مغلوبين خائفين طالبين للصلح ويكون الفتح مجازًا عن ذلك وإسناده إليه تعالى حقيقة، وقد خفي كون ما كان في الحديبية فتحًا على بعض الصحابة حتى بينه عليه الصلاة والسلام.
أخرج البيهقي عن عروة قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية راجعًا فقال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله ما هذا بفتح لقد صددنا عن البيت وصد هدينا وعكف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية ورد رجلين من المسلمين خرجًا فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فقال: «بئس الكلام هذا بل هو أعظم الفتح لقد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح عن بلادكم ويسألونكم القضية ويرغبون إليكم في الأمان وقد كرهوا منكم ما كرهوا، وقد أظفركم الله عليهم وردكم سالمين غانمين مأجورين فهذا أعظم الفتح، أنسيتم يوم أحد إذا تصعدون ولا تلون على أحد وأنا أدعوكم في إخراجكم؟ أنسيتم يوم الأحزاب إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذا زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنون؟» قال المسلمون: صدق الله ورسوله هو أعظم الفتوح والله يا نبي الله ما فكرنا فيما ذكرت ولأنت أعلم بالله وبالأمور منا وفائدة الخبر بالفتح على الوجهين بالنسبة إلى غيره عليه الصلاة والسلام لأنه صلى الله عليه وسلم يعلم ذلك وكذا يعلم لازم الفائدة كذا قيل.
وحمل الغير على من لم يحضر الفتح من الصحابة وغيرهم لأن الحاضرين علموا ذلك قبل النزول، وقيل: الحاضر إنما علم وقوع الصلح أو كون المشركين بحيث طلبوه ولم يعلم كونه فتحًا كما يشعر به الخبر، وإن سلم أنه علم ذلك لكنه لم يعلم عظم شأنه على ما يشعر به إسناده إلى نون العظمة والاخبار به بذلك الاعتبار.
وقال بعض المحققين: لعل المقصود بالإفادة كون ذلك للمغفرة وما عطف عليها فيجوز أن تكون الفائدة بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم أيضًا، وأقول: قد صرحوا بأنه كثيرًا ما تورد الجملة الخبرية لأغراض أخر سوى إفادة الحكم أو لازمه نحو {رَبّ إِنّى وَضَعْتُهَا أنثى} [آل عمران: 36] {رَبّ إِنّى وَهَنَ العظم مِنّى} [مريم: 4] {لاَّ يَسْتَوِى القاعدون مِنَ المؤمنين} [النساء: 95] الآية إلى غير ذلك مما لا يحصى فيجوز أن يكون الغرض من إيرادها هاهنا الامتنان دون إفادة الحكم أو لازمه ولا مجاز في ذلك ونحوه على ما أشار إليه العلامة عبد الحكيم السالكوتي في حواشيه على المطول.
وصرح في الرسالة الجندية بأن الهيئة التركيبية الخبرية في نحو ذلك منقولة إلى الإنشائية وإن المجاز في الهيئة فقط لا في الأطراف ولا في المجموع وهو مجاز مفرد عند صاحب الرسالة والكلمة أعظم من اللفظ الحقيقي والحكمي، وبعضهم يقول هو مجاز مركب ولا ينحصر في التمثيلية، وتحقيقه في موضعه.
والتأكيد بأن للاعتناء لا لرد الإنكار وقيل لأن الحكم لعظم شأنه مظنة للإنكار، وقيل: لأن بعض السامعين منكر كون ما وقع فتحًا، ويقال في تكرير الحكم نحو ذلك.
وقال مجاهد: المراد بالفتح فتح خيبر وهي مدينة كبيرة ذات حصون ومزارع على ثمانية برد من المدينة إلى جهة الشام، وكان خروج النبي صلى الله عليه وسلم كما قال ابن إسحاق ورجحه الحافظ ابن حجر في بقية المحرم سنة سبع وأقام يحاصرها بضع عشرة ليالة إلى أن فتحها ونقل عن مالك وجزم به ابن حزم أنه كان في آخر سنة ست، وجمع بأن من أطلق سنة بناه على أن ابتداء السنة من شهر الهجرة الحقيقي وهو شهر ربيع الأول، وقول الشيخ أبي حامد في التعليقة: إن غزوة خيبرة كانت سنة خمس وهم، وقول ابن سعد وابن أبي شيبة رواية عن أبي سعيد الخدري، أنها كانت لثمان عشرة من رمضان خطأ، ولعل الأصل كانت حنين فحرف ومع هذا يحتاج إلى توجيه وقد فتحت على أيدي أهل الحديبية لم يشركهم أحد من المتخلفين عنها فالفتح على حقيقة وإسناده إليه تعالى على حد ما سمعت فيما تقدم، والتأكيد بأن وتكرير الحكم للاعتناء، والتعبير عن ذلك بالماضي مع أنه لم يكن واقعًا يوم النزول بناء على ما روى عن المسور بن مخرمة من أن السورة نزلت من أولها إلى آخرها بين مكة والمدينة من باب مجاز المشارفة نحو من قتل قتيلًا على المشهور أو الأول نحو {إِنّى أَرَانِى أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36] ولا يضر اختلافهما في الفعلية والاسمية؛ وفيه وجه آخر يعلم مما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وذهب جماعة إلى أنه فتح مكة وهو كما في زاد المعاد الفتح الأعظم الذي أعز الله تعالى به دينه واستنقذ في دين الله عز وجل أفواجًا وأشرق وجه الدهر ضياء وابتهاجًا، وكان سنة ثمان وفي رواية ونصف، وقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما أخرجه أحمد بإسناد صحيح عن أبي سعيد لليلتين خلتا من شهر رمضان، وفتح مكة لثلاث عشرة خلت منه على ما روى عن الزهري، وروى عن جماعة أنه كان الفتح في عشر بقيت من شهر رمضان وقيل غير ذلك، وكان معه صلى الله عليه وسلم من المسلمين عشرة آلاف وقيل: إثنا عشر ألفًا والجمع ممكن، وكان الفتح عند الشافعي صلحًا وهي رواية عن أحمد للتأمين في ممر الظهران بمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن، ولعدم قسمة الدور بين الغانمين، وذهب الأكثرون إلى أنه عنوة للتصريح بالأمر بالقتال ووقوعه من خالد بن الوليد وقوله، عليه الصلاة والسلام: «أحلت لي ساعة من نهار» ولا يسمى ذلك التأمين صلحًا إلا إذا التزم من أشير إليه به الكف عن القتال، والأخبار الصحيحة ظاهرة في أن قريشًا لم يلتزموا، وترك القسمة لا يستلزم عدم العنوة فقد تفتح البلدة عنوة ويمن على أهلها وتترك لهم دورهم.
وأقام عليه الصلاة والسلام بعد الفتح خمس عشرة ليلة في رواية البخاري وسبع عشرة في رواية أبي داود وثمان عشرة في رواية الترمذي، وتسع عشرة في رواية بعض، وتمام الكلام في كتب السير، واستظهر هذا القول أبو حيان وذكر أنه المناسب لآخر السورة التي قبل لما قال سبحانه: {هَاأَنتُمْ هَؤُلاَء تُدْعَوْنَ} [محمد: 38] الآية فبين جل وعلا أنه فتح لهم مكة وغنموا وحصل لهم أضعاف ما أنفقوا ولو بخلوا لضاع عليهم ذلك فلا يكون بخلهم إلا على أنفسهم، وأيضًا لما قال سبحانه: {وَأَنتُمُ الاعلون والله مَعَكُمْ} [محمد: 35] بين تعالى برهانه بفتح مكة فإنهم كانوا هم الأعلين، وأيضًا لما قال تعالى: {فَلا فَلاَ تَهِنُواْ وَتَدْعُواْ إِلَى السلم} [محمد: 35] كان ذلك في فتح مك ة ظاهرًا حيث لم يلحقهم وهن ولادعوا إلى الصلح بل أتى صناديد قريش مستأمنين مستسلمين وهذا ظاهر بالنسبة إلى القول بأن المراد به فتح الحديبية، وأما على القول بأن المراد به فتح خيبر فليس كذلك، ورجع بعضهم القول بأنه صلح الحديبية على القول بأنه فتح مكة بأن وعد فتح مكة يجيء صريحًا في هذه السورة الكريمة وذلك قوله تعالى: {لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرؤيا بالحق لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَاء الله ءامِنِينَ} [الفتح: 27] الآية فلو حمل هذا الفتح عليه لكان تأكيدًا بخلاف ما إذا حمل على صلح الحديبية فإنه يكون تأسيسًا والتأسيس خير من التأكيد، ورجحه بعض على القول بأنه فتح خيبر بمثل هذا لأن فتح خيبر مذكور فيما بعد أيضًا، وللبحث في ذلك مجال، وإن والتكرير لما تقدم، وكذا الإسناد إلى ضمير العظمة بل هذا الفتح أولى بالاعتناء وتعظيم الشأن حتى قيل: إن إسناده إليه تعالى لكونه من الأمور الغريبة العجيبة التي يخلقها الله تعالى على يد أنبيائه عليهم السلام كالرمي بالحصى المشار إليه بقوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى} [الأنفال: 17] وهذا خلاف ظاهر، والمشهور أن في الكلام مجازًا عقليًا وفيه الاحتمالات السابقة.