فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال عبد الملك بن هشام النحوي: فذكر وكيع، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي: أن أول من بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان أبو سنان الأسدي.
وقال أبو بكر عبد الله بن الزبير الحميدي: حدثنا سفيان، حدثنا ابن أبي خالد، عن الشعبي، قال: لما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة، كان أول من انتهى إليه أبو سنان الأسدي رضي الله عنه، فقال: ابسط يدك أبايعك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «علام تبايعني؟». فقال أبو سنان: على ما في نفسك. هذا أبو سنان بن وهب الأسدي رضي الله عنه.
وقال البخاري: حدثنا شجاع بن الوليد، سمع النضر بن محمد: حدثنا صخر بن الربيع، عن نافع، قال: إن الناس يتحدثون أن ابن عمر أسلم قبل عمر، وليس كذلك، ولكن عمر يوم الحديبية أرسل عبد الله إلى الفرس له عند رجل من الأنصار أن يأتي به ليقاتل عليه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع عند الشجرة، وعمر لا يدري بذلك، فبايعه عبد الله، ثم ذهب إلى الفرس فجاء به إلى عمر، وعمر يستلئم للقتال، فأخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع تحت الشجرة، فانطلق، فذهب معه حتى بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي التي يتحدث الناس أن ابن عمر أسلم قبل عمر.
ثم قال البخاري: وقال هشام بن عمار: حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا عمر بن محمد العمري، أخبرني نافع، عن ابن عمر، أن الناس كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية قد تفرقوا في ظلال الشجر، فإذا الناس محدقون بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال- يعني عمر: يا عبد الله، انظر ما شأن الناس قد أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم. فوجدهم يبايعون، فبايع ثم رجع إلى عمر فخرج فبايع.
وقد أسنده البيهقي عن أبي عمرو الأديب، عن أبي بكر الإسماعيلي، عن الحسن بن سفيان، عن دحيم: حدثني الوليد بن مسلم فذكره.
وقال الليث، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: كنا يوم الحديبية ألفا وأربعمائة فبايعناه، وعمر آخذ بيده تحت الشجرة وهي سمرة، وقال: بايعناه على ألا نفر، ولم نبايعه على الموت. رواه مسلم عن قتيبة عنه.
وروى مسلم عن يحيى بن يحيى، عن يزيد بن زريع، عن خالد، عن الحكم بن عبد الله بن الأعرج، عن معقل بن يسار، قال: لقد رأيتني يوم الشجرة والنبي صلى الله عليه وسلم يبايع الناس، وأنا رافع غصنا من أغصانها عن رأسه، ونحن أربع عشرة مائة، قال: ولم نبايعه على الموت، ولكن بايعناه على ألا نفر.
وقال البخاري: حدثنا المكي بن إبراهيم، عن يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة بن الأكوع، قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة. قال يزيد: قلت: يا أبا مسلم، على أي شيء كنتم تبايعون يومئذ؟ قال: على الموت.
وقال البخاري أيضا: حدثنا أبو عاصم، حدثنا يزيد بن أبي عبيد عن سلمة، قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ثم تنحيت، فقال: «يا سلمة ألا تبايع؟» قلت: بايعت، قال: «أقبل فبايع». فدنوت فبايعته. قلت: علام بايعته يا سلمة؟ قال: على الموت. وأخرجه مسلم من وجه آخر عن يزيد بن أبي عبيد. وكذا روى البخاري عن عباد بن تميم، أنهم بايعوه على الموت.
وقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو الفضل بن إبراهم، حدثنا أحمد بن سلمة، حدثنا إسحاق بن إبراهم، حدثنا أبو عامر العقدي عبد الملك بن عمرو، حدثنا عكرمة بن عمار اليمامي، عن إياس بن سلمة، عن أبيه سلمة بن الأكوع قال: قدمنا الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن أربع عشرة مائة، وعليها خمسون شاة لا ترويها، فقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على جباها- يعني الركي- فإما دعا وإما بصق فيها، فجاشت، فسقينا واستقينا.
قال: ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا إلى البيعة في أصل الشجرة. فبايعته أول الناس، ثم بايع وبايع، حتى إذا كان في وسط الناس قال صلى الله عليه وسلم: «بايعني يا سلمة». قال: قلت: يا رسول الله، قد بايعتك في أول الناس. قال: «وأيضا».
قال: ورآني رسول الله صلى الله عليه وسلم عزلا فأعطاني حجفة- أو درقة- ثم بايع حتى إذا كان في آخر الناس قال صلى الله عليه وسلم: «ألا تبايع يا سلمة؟» قال: قلت: يا رسول الله، قد بايعتك في أول الناس وأوسطهم. قال: «وأيضا». فبايعته الثالثة، فقال: «يا سلمة، أين حجفتك أو درقتك التي أعطيتك؟». قال: قلت: يا رسول الله، لقيني عامر عزلا فأعطيتها إياه: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «إنك كالذي قال الأول: اللهم أبغني حبيبا هو أحب إلي من نفسي».
قال: ثم إن المشركين من أهل مكة راسلونا في الصلح حتى مشى بعضنا في بعض فاصطلحنا. قال: وكنت خادما لطلحة بن عبيد الله، رضي الله عنه، أسقي فرسه وأحسه وآكل من طعامه، وتركت أهلي ومالي مهاجرا إلى الله ورسوله. فلما اصطلحنا نحن وأهل مكة، واختلط بعضنا ببعض، أتيت شجرة فكسحت شوكها، ثم اضطجعت في أصلها في ظلها، فأتاني أربعة من مشركي أهل مكة، فجعلوا يقعون في رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبغضتهم، وتحولت إلى شجرة أخرى فعلقوا سلاحهم واضطجعوا، فبينما هم كذلك إذ نادى مناد من أسفل الوادي: يا للمهاجرين، قتل ابن زنيم. فاخترطت سيفي، فشددت على أولئك الأربعة وهم رقود، فأخذت سلاحهم وجعلته ضغثا في يدي، ثم قلت: والذي كرم وجه محمد صلى الله عليه وسلم، لا يرفع أحد منكم رأسه إلا ضربت الذي فيه عيناه، قال: ثم جئت بهم أسوقهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وجاء عمي عامر برجل من العَبَلات يقال له: مكرز من المشركين يقوده، حتى وقفنا بهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعين من المشركين، فنظر إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «دعوهم يكن لهم بدء الفجور وثناه»، فعفا عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} الآية [الفتح: 24].
وهكذا رواه مسلم عن إسحاق بن إبراهيم بن راهويه بسنده نحوه، أو قريبا منه.
وثبت في الصحيحين من حديث أبي عوانة، عن طارق، عن سعيد بن المسيب، قال: كان أبي ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة. قال: فانطلقنا من قابل حاجين، فخفي علينا مكانها، فإن كان تبينت لكم، فأنتم أعلم.
وقال أبو بكر الحميدي: حدثنا سفيان، حدثنا أبو الزبير، حدثنا جابر، قال: لما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة، وجدنا رجلا منا يقال له الجد بن قيس مختبئا تحت إبط بعيره.
رواه مسلم من حديث ابن جريج، عن ابن الزبير، به.
وقال الحميدي أيضا: حدثنا سفيان، عن عمرو، سمع جابرا، قال: كنا يوم الحديبية ألفا وأربعمائة، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنتم خير أهل الأرض اليوم».
قال جابر: لو كنت أبصر لأريتكم موضع الشجرة. قال سفيان: إنهم اختلفوا في موضعها. أخرجاه من حديث سفيان.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يونس، حدثنا الليث. عن أبي الزبير، عن جابر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة».
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن هارون الفلاس المخرمي، حدثنا سعد بن عمرو الأشعثي، حدثنا محمد بن ثابت العبدي، عن خداش بن عياش، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يدخل من بايع تحت الشجرة كلهم الجنة إلا صاحب الجمل الأحمر».
قال: فانطلقنا نبتدره فإذا رجل قد أضل بعيره، فقلنا: تعال فبايع. فقال: أصيب بعيري أحب إلي من أن أبايع.
وقال عبد الله بن أحمد: حدثنا عبيد الله بن معاذ، حدثنا أبي حدثنا قرة، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من يصعد الثنية، ثنية المرار، فإنه يحط عنه ما حط عن بني إسرائيل». فكان أول من صعد خيل بني الخزرج، ثم تبادر الناس بعد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلكم مغفور له إلا صاحب الجمل الأحمر». فقلنا: تعال يستغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: والله لأن أجد ضالتي أحب إلي من أن يستغفر لي صاحبكم. فإذا هو رجل ينشد ضالة. رواه مسلم عن عبيد الله، به.
وقال ابن جريج: أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابرا يقول: أخبرتني أم مبشر أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عند حفصة: «لا يدخل النار- إن شاء الله- من أصحاب الشجرة الذين بايعوا تحتها أحد». قالت: بلى يا رسول الله. فانتهرها، فقالت لحفصة: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا} [مريم: 71]، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد قال الله: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم: 72]، رواه مسلم.
وفيه أيضا عن قتيبة، عن الليث، عن أبي الزبير، عن جابر؛ أن عبدًا لحاطب بن أبي بلتعة جاء يشكو حاطبا، فقال: يا رسول الله، ليدخلن حاطب النار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كذبت، لا يدخلها؛ فإنه قد شهد بدرا والحديبية».
ولهذا قال تعالى في الثناء عليهم: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 10]، كما قال تعالى في الآية الأخرى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 18]. اهـ.

.قال الألوسي:

{إِنَّا أرسلناك شاهدا}.
أي على امتك لقوله تعالى: {وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة شاهدًا على أمتك وشاهدًا على الأنبياء عليهم السلام أنهم قد بلغوا {وَمُبَشّرًا} بالثواب على الطاعة {وَنَذِيرًا} بالعذاب على المعصية.
{لّتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته كقوله سبحانه: {يأيُّهَا النبى إِذَا طَلَّقْتُمُ النساء} [الطلاق: 1] وهو من باب التغليب غلب فيه المخاطب على الغيب فيفيد أن النبي عليه الصلاة والسلام مخاطب بالإيمان برسالته لأمة وهو كذلك، وقال الواحدي: الخطاب في {أرسلناك} [الفتح: 8] للنبي صلى الله عليه وسلم وفي {لّتُؤْمِنُواْ} لأمته فعلى هذا إن كان اللام للتعليل يكون المعلل محذوفًا أي لتؤمنوا بالله وكيت وكيت فعل ذلك الإرسال أو للأمر على طريقة {فبذلك فلتفرحوا} [يونس: 58] على قراءة التاء الفوقانية فقيل هو على معنى قل لهم: لتؤمنوا الخ، وقيل: هو للأمة على أن خطابه صلى الله عليه وسلم منزل منزلة خطابهم فهو عينه ادعاء، واللام متعلقة بأرسلنا، ولا يعترض عليه بما قرره الرضى وغيره من أنه يمتنع أن يخاطب في كلام واحد اثنان من غير عطف أو تثنية أو جمع لأنه بعد التنزيل لا تعدد، وجوز أن يكون ذلك لأنهم حينئذ غير مخاطبين في الحقيقة فخطابهم في حكم الغيبة، وقيل: الامتناع المذكور مشروط بأن يكون كل من المخاطبين مستقلًا أما إذا كان أحدهما داخلا في خطاب الآخر فلا امتناع كما يعلم من تتبع كلامهم، وحينئذ يجوز أن يراد خطاب الأمة أيضًا من غير تغليب، والكلام في ذلك طويل وما ذكر سابقًا سالم عن القال والقيل {وَرَسُولِهِ وَتُعَزّرُوهُ} أي تنصروه كما روي عن جابر بن عبد الله مرفوعًا وأخرجه جماعة عن قتادة، والضمير لله عز وجل، ونصرته سبحانه بنصره دينه ورسوله صلى الله عليه وسلم {وَتُوَقّرُوهُ} أي تعظموه كما قال قتادة وغيره، والضمير له تعالى أَيضًا، وقيل: كلا الضميرين للرسول صلى الله عليه وسلم وروي عن ابن عباس، وزعم بعضهم أنه يتعين كون الضمير في {تعزروه} للرسول عليه الصلاة والسلام لتوهم أن التعزير لا يكون له سبحانه وتعالى كما يتعين عند الكل كون الضمير في قوله تعالى: {وَتُوَقّرُوهُ وَتُسَبّحُوهُ} لله سبحانه وتعالى، ولا يخفى أن الأول كون المضيرين فيما تقدم لله تعالى أيضًا لئلا يلزم فك الضمائر من غير ضرورة أي وتنزهوا الله تعالى أو تصلوا له سبحانه من السبحة {بُكْرَةً وَأَصِيلًا} غدوة وعشيا، والمراد ظاهرهما أو جميع النهار ويكنى عن جيمع الشيء بطرفيه كما يقال شرقًا وغربًا لجميع الدنيا، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما صلاة الفجر وصلاة الظهر وصلاة العصر، وقرأ أبو جعفر. وأبو حيوة. وابن كثير. وأبو عمرو الأفعال الأربعة أعني {لتؤمنوا} وما بعده بياء الغيبة، وعن ابن مسعود. وابن جبير كذلك إلا أنهما قرأ {عَبْدُ الله} بالاسم الجليل مكان الضمير، وقرى الجحدري {تعزروه} بفتح التاء الفوقية وضم الزاي مخففًا، وفي رواية عنه فتح الاتء وكسر الزاي مخففًا وروي هذا عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه، وقرئ بضم التاء وكسر الزاي مخففًا.
وقرأ ابن عباس ومحمد بن اليماني {تعززوه} بزاءين من العزة أي تجعلوه عزيزًا وذلك بالنسبة إليه سبحانه بجعل دينه ورسوله صلى الله عليه وسلم كذلك.
وقرئ {وَتُوَقّرُوهُ} من أوقره بمعنى وقره.
{إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ} يوم الحديبية على الموت في نصرتك كما روي عن سلمة بن الأكوع وغيره أو على أن لا يفروا من قريش كما روي عن ابن عمر وجابر رضي الله تعالى عنهم، وسيأتي الكلام في تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى، والمبايعة وقعت قبل نزول الآية فالتعبير بالمضارع لاستحضار الحال الماضية، وهي مفاعلة من البيع يقال: بايع السلطان مبايعة إذا ضمن بذل الطاعة له بما رضخ له، وكثيرًا ما تقال على البيعة المعروفة للسلاطين ونحوهم وإن لم يكن رضخ، وما وقع للمؤمنين قيل يشير إلى ما في قوله تعالى: {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ} [التوبة: 111] الآية {إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} لأن المقصود من بيعة الرسول عليه الصلاة والسلام وإطاعته إطاعة الله تعالى وامتثال أوامره سبحانه لقوله تعالى: {مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله} [النساء: 80] فمبايعة الله تعالى بمعنى طاعته سبحانه مشاكلة أو هو صرف مجاز، وقرئ {إِنَّمَا يُبَايِعُونَ لِلَّهِ} أي لأجل الله تعالى ولوجهه، والمفعول محذوف أي إنما يبايعونك لله {يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} استئناف مؤكد لما قبله لأنه عبارة عن المبايعة، قال في الكشاف لما قال سبحانه: {إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} أكده على طريقة التخييل فقال تعالى: {يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} وانه سبحانه منزه عن الجوارح وصفات الأجسام وإنما المعنى تقرير أن عقد الميثاق مع الرسول صلى الله عليه وسلم كعقده مع الله تعالى من غير تفاوت بينهما.
وفي المفتاح أما حسن الاستعارة التخييلية فبحسب حسن الاستعارة بالكناية متى كانت تابعة لها كما في قولك: فلان بين أنياب المنية ومخالبها ثم إذا انضم إليها المشاكلة كما في {يَدُ الله} الخ كانت أحسن وأحسن، يعني أن في اسم الله تعالى استعارة بالكناية تشبيهًا له سبحانه وتعالى بالمبايع واليد استعارة تخييلية مع أن فيها أيضاف مشاكلة لذكرها مع أيدي الناس، وامتناع الاستعارة في اسم الله تعالى إنما هو في الاستعارة التصريحية دون المكنية لأنه لا يلزم إطلاق اسمه تعالى على غيره سبحانه، وروى الواحدي عن ابن كيسان اليد القوة أي قوة الله تعالى ونصرته فوق قوتهم ونصرتهم أي ثق بنصرة الله تعالى لك لا بنصرتهم وإن بايعوك.
وقال الزجاج: المعنى يد الله في الوفاء فوق أيديهم أو في الثواب فوق أيديهم في الطاعة أو يد الله سبحانه في المنة عليهم في الهداية فوق أيديهم في الطاعة، وقيل: المعنى نعمة الله تعالى عليهم بتوفيقهم لمبايعتك فوق نعمتهم وهي مبايعتهم إياك وأعظم منها، وفيه شيء من قوله تعالى: {قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَىَّ إسلامكم بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ للايمان} [الحجرات: 17] وكل ذلك تأويلات ارتكبها الخلف وأحسنها ما ذكر أولًا، والسلف يمرون الآية كما جاءت مع تنزيه الله عز وجل عن الجوارح وصفات الأجسام وكذلك يفعلون في جميع المتشابهات ويقولون: إن معرفة حقيقة ذلك فرع معرفة حقيقة الذات وأنى ذلك وهيهات هيهات، وجوز أن تكون الجملة خبرًا بعد خبر لإن، وكذا جوز أن تكون حالًا من ضمير الفاعل في {يُبَايِعُونَكَ} وفي جواز ذلك مع كونها اسمية غير مقترنة بالواو كلام {فَمَن نَّكَثَ} نقض العهد {فَإِنَّمَا يَنكُثُ على نَفْسِهِ} فلا يعود ضرر نكثه إلا عليه، وروى الزمخشري عن جابر بن عبد الله أنه ما نكث أحد البيعة إلا جد بن قيس وكان منافقًا، والذي نقله الطيبي عن مسلم يدل على أن الرجل لم يبايع لا أنه بايع ونكث قال: سئل جابر كم كانوا يوم الحديبية؟ قال: كنا أربع عشرة مائة فبايعناه وعمر رضي الله تعالى عنه آخذ بيده صلوات الله تعالى وسلامه عليه تحت الشجرة وهي سمرة فبايعناه غير جد بن قيس الأنصاري اختفى تحت بطن بعيره ولم يسر مع القوم، ولعل هذا هو الأوفق لظاهر قوله تعالى:{لَّقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المؤمنين إِذْ يُبَايِعُونَكَ} [الفتح: 18] الآية.