فصل: قال أبو السعود في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا}: وهذا اعتلال منهم عن تخلفهم، أي لم يكن لهم من يقوم بحفظ أموالهم وأهليهم غيرهم، وبدؤا بذكر الأموال، لأن بها قوام العيش؛ وعطفوا الأهل، لأنهم كانوا يحافظون على حفظ الأهل أكثر من حفظ المال.
وقرئ: {شغلتنا}، بتشديد الغين، حكاه الكسائي، وهي قراءة إبراهيم بن نوح بن باذان، عن قتيبة.
ولما علموا أن ذلك التخلف عن الرسول كان معصية، سألوا أن يستغفر لهم.
{يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم}: الظاهر أنه راجع إلى الجملتين المقولتين من الشغل وطلب الاستغفار، لأن قولهم: شغلتنا، كذب؛ وطلب الاستغفار: خبث منهم وإظهار أنهم مؤمنون عاصون.
وقال الطبري: هو راجع إلى قولهم: فاستغفر لنا، يريد أنهم قالوا ذلك مصانعة من غير توبة ولا ندم.
{قل فمن يملك}: أي من يمنعكم من قضاء الله؟ {إن أراد بكم ضرًا}: من قتل أو هزيمة، {أو أراد بكم نفعًا}، من ظفر وغنيمة؟ أي هو تعالى المتصرف فيكم، وليس حفظكم أموالكم وأهليكم بمانع من ضياعها إذا أراده الله تعالى.
وقرأ الجمهور: {ضرًا}، بفتح الضاد؛ والإخوان: بضمها، وهما لغتان.
ثم بين تعالى لهم العلة في تخلفهم، وهي ظنهم أن الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه لا يرجعون إلى أهليهم.
وتقدم الكلام على أهل، وكيف جمع بالواو والنون في قوله: {ما تطعمون أهليكم} وقرأ عبد الله: {إلى أهلهم}، بغير ياء؛ {وزين}، قراءة الجمهور مبنيًا للمفعول، والفاعل هو الله تعالى.
وقيل غيره ممن نسب إليه التزيين مجازًا.
وقرئ: {وزين} مبنيًا للفاعل.
{وظننتم ظن السوء}: احتمل أن يكون هو الظن السابق، وهو ظنهم أن لا ينقلبوا، ويكون قد ساءهم ذلك الظن وأحزنهم حيث أخلف ظنهم.
ويحتمل أن يكون غيره لأجل العطف، أي ظننتم أنه تعالى يخلف وعده في نصر دينه وإعزاز رسوله صلى الله عليه وسلم.
{بورًا}: هلكى، والظاهر أنه مصدر كالهلك، ولذلك وصف به المفرد المذكر، كقول ابن الزبعري:
يا رسول المليك إن لساني ** راتق ما فتقت إذ أنا بور

والمؤنث، حكى أبو عبيدة: امرأة بور، والمثنى والمجموع.
وقيل: يجوز أن يكون جمع بائر، كحائل، وحول هذا في المعتل، وباذل وبذل في الصحيح، وفسر بورًا: بفاسدين هلكى.
وقال ابن بحر: أشرار.
واحتمل وكنتم، أي يكون المعنى: وصرتم بذلك الظن، وأن يكون وكنتم على بابها، أي وكنتم في الأصل قومًا فاسدين، أي الهلاك سابق لكم على ذلك الظن.
ولما أخبر تعالى أنهم قوم بور، ذكر ما يدل على أنهم ليسوا بمؤمنين فقال: {ومن لم يؤمن بالله ورسوله}، فهو كافر جزاؤه السعير.
ولما كانوا ليسوا مجاهدين بالكفر، ولذلك اعتذروا وطلبوا الاستغفار، مزج وعيدهم وتوبيخهم ببعض الإمهال والترجئة.
وقال الزمخشري: {ولله ملك السموات والأرض}، يدبره تدبير قادر حكيم، فيغفر ويعذب بمشيئته، ومشيئته تابعة لحكمته، وحكمته المغفرة للتائب وتعذيب المصر.
{وكان الله غفورًا رحيمًا}، رحمته سابقة لرحمته، حيث يكفر السيئات باجتناب الكبائر بالتوبة. انتهى.
وهو على مذهب الاعتزال.
{سيقول المخلفون}: روي أن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم يغزو خيبر، ووعده بفتحها، وأعلمه أن المخلفين إذا رأوا مسيره إلى خيبر، وهم عدو مستضعف، طلبوا الكون معه رغبة في عرض الدنيا من الغنيمة، وكان كذلك.
{يريدون أن يبدلوا كلام الله}: معناه أن يغيروا وعده لأهل الحديبية بغنيمة خيبر، وذلك أنه وعدهم أن يعوضهم من مغانم مكة خيبر، إذا قفلوا موادعين لا يصيبون منها شيئًا، قاله مجاهد وقتادة، وعليه عامة أهل التأويل.
وقال ابن زيد: {كلام الله}: قوله تعالى: {قل لن تخرجوا معي أبدًا ولن تقاتلوا معي عدوًا} وهذا لا يصح، لأن هذه الآية نزلت مرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك في آخر عمره.
وهذه السورة نزلت عام الحديبية، وأيضًا فقد غزت مزينة وجهينة بعد هذه المدة معه عليه الصلاة والسلام، وفضلهم بعد على تميم وغطفان وغيرهم من العرب.
وقرأ الجمهور: {كلام الله}، بألف؛ والإخوان: كلم الله، جمع كلمة، وأمره تعالى أن يقول لهم: {لن تتبعونا}، وأتى بصيغة لن، وهي للمبالغة في النفي، أي لا يتم لكم ذلك، إذ قد وعد تعالى أن ذلك لا يحضرها إلا أهل الحديبية فقط.
{كذلكم قال الله من قبل}: يريد وعده قبل اختصاصهم بها.
{بل تحسدوننا}: أي يعز عليكم أن نصيب مغنمًا معكم، وذلك على سبيل الحسد أن نقاسمكم فيما تغنمون.
وقرأ أبو حيوة: بكسر السين، ثم رد عليهم تعالى كلامهم هذا فقال: {بل كانوا لا يفقهون إلا قليلًا} من أمور الدنيا، وظاهره ليس لهم فكر إلا فيها، كقوله: {يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا} والإضراب الأول رد أن يكون حكم الله أن لا يتبعوهم وإثبات الحسد.
والثاني، إضراب عن وصفهم بإضافة الحسد إلى المؤمنين إلى ما هو أطم منه، وهو الجهل وقلة الفقه.
{قل للمخلفين من الأعراب}: أمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم ذلك، ودل على أنهم كانوا يظهرون الإسلام، ولو لم يكن الأمر كذلك، لم يكونوا أهلًا لذلك الأمر.
وأبهم تعالى في قوله: {إلى قوم إولي بأس شديد}.
فقال عكرمة، وابن جبير، وقتادة: هم هوازن ومن حارب الرسول صلى الله عليه وسلم في حنين.
وقال كعب: الروم الذين خرج إليهم عام تبوك، والذين بعث إليهم في غزوة مؤتة.
وقال الزهري، والكلبي: أهل الردة، وبنو حنيفة باليمامة.
وعن رافع بن خديج: إنا كنا نقرأ هذه الآية فيما مضى، ولا نعلم من هم حتى دعا أبو بكر، رضي الله تعالى عنه، إلى قتال بني حنيفة، فعلمنا أنهم أريدوا بها.
وقال ابن عباس، وعطاء بن أبي رباح، ومجاهد، وعطاء الخراساني، وابن أبي ليلى: هم الفرس.
وقال الحسن: فارس والروم.
وقال أبو هريرة: قوم لم يأتوا بعد.
وظاهر الآية يرد هذا القول.
والذي أقوله: إن هذه الأقوال تمثيلات من قائليها، لا أن المعنى بذلك ما ذكروا، بل أخبر بذلك مبهمًا دلالة على قوة الإسلام وانتشار دعوته، وكذا وقع حسن إسلام تلك الطوائف، وقاتلوا أهل الردة زمان أبي بكر، وكانوا في فتوح البلاد أيام عمر وأيام غيره من الخلفاء.
والظاهر أن هؤلاء المقاتلين ليسوا ممن تؤخذ منهم الجزية، إذ لم يذكر هنا إلا القتال أو الإسلام.
ومذهب أبي حنيفة، رحمه الله تعالى ورضي عنه: أن الجزية لا تقبل من مشركي العرب، ولا من المرتدين، وليس إلا الإسلام أو القتل؛ وتقبل ممن عداهم من مشركي العجم وأهل الكتاب والمجوس.
ومذهب الشافعي، رحمه الله تعالى: لا تقبل إلا من أهل الكتاب والمجوس، دون مشركي العجم والعرب.
وقال الزمخشري: وهذا دليل على إمامة أبي بكر الصديق، رضي الله تعالى عنه، فإنهم لم يدعوا إلى حرب في أيام الرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن بعد وفاته. انتهى.
وهذا ليس بصحيح، فقد حضر كثير منهم مع جعفر في موتة، وحضروا حرب هوازن معر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحضروا معه في سفرة تبوك.
ولا يتم قول الزمخشري: إلا على قول من عين أنهم أهل الردة.
وقرأ الجمهور: {أو يسلمون}، مرفوعًا؛ وأبي، وزيد بن علي: بحذف النون منصوبًا بإضمار أن في قول الجمهور من البصريين غير الجرمي، وبها في قول الجرمي والكسائي، وبالخلاف في قول الفراء وبعض الكوفيين.
فعلى قول النصب بإضمار أن هو عطف مصدر مقدر على مصدر متوهم، أي يكون قتال أو إسلام، أي أحد هذين، ومثله في النصب قول امرىء القيس:
فقلت له لا تبك عينك إنما ** نحاول ملكًا أو نموت فنعذرا

والرفع على العطف على تقاتلونهم، أو على القطع، أي أو هم يسلمون دون قتال.
{فإن تطيعوا}: أي فيما تدعون إليه.
{كما توليتم من قبل}: أي في زمان الخروج مع الرسول صلى الله عليه وسلم، في زمان الحديبية.
{يعذبكم}: يحتمل أن يكون في الدنيا، وأن يكون في الآخرة.
{ليس على الأعمى حرج}: نفي الحرج عن هؤلاء من ذوي العاهات في التخلف عن الغزو، ومع ارتفاع الحرج، فجائز لهم الغزو، وأجرهم فيه مضاعف، والأعرج أحرى بالصبر وأن لا يفر.
وقد غزا ابن أم مكتوم، وكان أعمى، في بعض حروب القادسية، وكان رضي الله عنه يمسك الراية، فلو حضر المسلمون، فالغرض متوجه بحسب الوسع في الغزو.
وقرأ الجمهور: {يدخله} و{يعذبه}، بالياء؛ والحسن، وقتادة، وأبو جعفر، والأعرج، وشيبة، وابن عامر، ونافع: بالنون. اهـ.

.قال أبو السعود في الآيات السابقة:

{سَيَقول لَكَ المخلفون مِنَ الأعراب}.
هم أعرابُ غِفارِ ومُزينةَ وجُهينةَ وأشجعَ وأسلمَ والدِّيلِ تخلفُوا عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم حينَ استنفرَ من حولَ المدينةِ من الأعرابِ وأهلِ البوادِي ليخرجُوا معه عند إرادتِه المسيرَ إلى مكةَ عامَ الحديبيةِ معُتمرًا حذرًا من قريشٍ أنْ يتعرضُوا له بحربٍ أو يصدُّوه عن البيتِ وأحرمَ عليه الصلاةُ والسلامُ وساقَ معه الهديَ ليعلم أنَّه لا يريدُ الحربَ وتثاقلُوا عن الخروجِ وقالوا نذهبُ إلى قومٍ قد غزَوه في عقرِ دارِه بالمدينةِ وقتلُوا أصحابَه قنقاتلُهم فأَوْحَى الله تعالى إليه عليهِ الصلاةُ والسلامُ بأنَّهم سيعتلونَ ويقولونَ {شَغَلَتْنَا أموالنا وَأَهْلُونَا} ولم يكُن لنا مَنْ يخلفنَا فيهم ويقومُ بمصالحِهم ويحميهمِ من الضياعِ. وقرئ {شَغَّلتنَا} بالتشديدِ للتكثيرِ {فاستغفر لَنَا} الله تعالى ليغفرَ لنَا تخلفنَا عنْكَ حيثُ لم يكن ذلكَ باختيارٍ بلْ عنِ اضطرارٍ {يَقولونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ في قُلُوبِهِمْ} بدلٌ من سيقول أو استئنافٌ لتكذيبِهم في الاعتذارِ والاستغفارِ.
{قُلْ} رَدًَّا لهم عندَ اعتذارِهم إليكَ بأباطيلِهم.
{فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مّنَ الله شَيْئًا} أي فَمنْ يقدر لأجلكم منْ مشيئةِ الله تعالى وقضائِه على شيءٍ من النفعِ {إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا} أيْ مَا يُضرُّكم من هلاكِ الأهلِ والمالِ وضياعِهما حتَّى تتخلفُوا عنِ الخروجِ لحفظِهما ودفعِ الضررِ عنهُما وقُرئ {ضُرًا} بالضمِّ.
{أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا} أيْ ومَنْ يقدرُ على شيءٍ من الضررِ إنْ أرادَ بكُم ما يُنفعكُم من حفظِ أموالِكم وأهليكِم فأيُّ حاجةٍ إلى التخلفِ لأجلِ القيامِ بحفظِهما وهذا تحقيقٌ للحقِّ ورَدٌّ لهم بموجبِ ظاهرِ مقالتِهم الكاذبةِ، وتعميمُ الضرِّ والنفعِ لما يُتوقع على تقديرِ الخروجِ من القتلِ والهزيمةِ والظفرِ والغنيمةِ يردُّه قوله تعالى: {بَلْ كَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} فإنه إضرابٌ عمَّا قالوا وبيانٌ لكذبِه بعدَ بيانِ فسادِه عَلى تقديرِ صدقهِ أي ليسَ الأمرُ كَما تقولونَ بلْ كانَ الله خبيرًا بجميعِ ما تفعلون من الأعمالِ التي من جُملتها تخلفُكم وما هُو من مباديِه.
وقوله تعالى: {بَلْ ظَنَنْتُمْ} الخ بدلٌ من كانَ الله الخ مفسرٌ لما فيه من الإبهامِ أي بل ظننتُم {أَن لَّن يَنقَلِبَ الرسول والمؤمنون إلى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا} بأن يستأصلَهم المشركون بالمرةِ فخشِيتم إنْ كنتُم معهم أنْ يصيبَكم ما أصابهم فلأجلِ ذلك تخلفتُم لا لما ذكرتُم من المعاذير الباطلةِ. والأهلونَ جمعُ أهلٍ وقد يُجمع على أهلاتٍ كأرضاتٍ على تقديرِ تاءِ التأنيثِ، وأمَّا الأهالي فاسمُ جمعٍ كالليالي. وقرئ {إلى أهلِهم} {وَزُيّنَ ذَلِكَ في قُلُوبِكُمْ} وقبِلتموه واشتغلتُم بشأنِ أنفسِكم غيرَ مُبالينَ بهم. وقرئ {زَيَّنَ} على البناءِ للفاعلِ بإسنادِه إلى الله سبحانه أو إلى الشيطانِ {وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السوء} المرادُ به إما الظنُّ الأولُ، والتكريرُ لتشديدِ التوبيخِ والتسجيلِ عليه بالسوءِ أو ما يعمُّه وغيرَهُ من الظنونِ الفاسدةِ التي من جُمْلتها الظنُّ بعدمِ صحةِ رسالتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ فإنَّ الجازمَ بصحتِها لا يحومُ حولَ فكرِهِ وما ذُكِرَ من الاستئصال.
{وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا} أي هالكينَ عند الله مستوجبينَ لسخطِه وعقابِه على أنه جمعُ بائرٍ كعائذٍ وعوذٍ أو فاسدينَ في أنفسِكم وقلوبِكم ونياتِكم لا خيرَ فيكُم، وقيلَ البُور من بارَ كالهُلك من هلكَ بناءً ومَعنْى ولذلك وصفَ به الواحدُ والجمعُ والمذكرُ والمؤنثُ.
{وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بالله وَرَسُولِهِ} كلامٌ مبتدأٌ من جهتِه تعالى غيرُ داخلٍ في الكلامِ الملقنِ مقررٌ لبوارهم ومبينٌ لكيفيتِه أي ومَنْ لم يؤمنْ بهما كدأبِ هؤلاءِ المخلفينَ.
{فَإِنَّا أَعْتَدْنَا للكافرين سَعِيرًا} أي لَهم، وإنما وضعَ موضعَ الضميرِ الكافرونَ إيذانًا بأنَّ منْ لم يجمعْ بينَ الإيمانِ بالله وبرسولِه فهو كافرٌ وأنه مستوجبٌ للسعيرِ بكفرِه، وتنكيرُ سعيرًا للتهويلِ أو لأنَّها نارٌ مخصوصةٌ.
{وَللَّهِ مُلْكُ السموات والأرض} وما فيهما ينصرفُ في الكلِّ كيفَ يشاءُ.
{يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء} أنْ يغفرَ له {وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء} أنْ يعذَبهُ من غير دخلٍ لأحدٍ في شيءٍ منهُمَا وجُودًا وعدمًا، وفيه حسمٌ لأطماعِهم الفارغة في استغفارِه عليه الصلاةُ والسلامُ لهم {وَكَانَ الله غَفُورًا رَّحِيمًا} مُبالغًا في المغفرةِ والرحمةِ لمن يشاءُ، ولا يشاءُ إلا لمن تقتضِي الحكمةُ مغفرتَهُ ممن يؤمنُ به وبرسولِه وأما من عداهُ من الكافرينَ فهمُ بمعزلٍ من ذلك قطعًا {سَيَقول المخلفون} أي المذكورونَ وقوله تعالى: {إِذَا انطلقتم إلى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا} ظرفٌ لما قبله لا شرطٌ لما بعدَهُ أي سيقولونَ عند انطلاقِكم إلى مغانمِ خيبرَ لتحوزُوها حسبما وعدكُم إيَّاها وخصَّكم بها عوضًا مما فاتكُم من غنائمِ مكةَ {ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ} إلى خيبرَ ونشهدْ معكم قتالَ أهلها {يُرِيدُونَ أَن يُبَدّلُواْ كلام الله} بأنْ يشاركُوا في الغنائمِ التي خصَّها بأهلِ الحديبيةِ فإنه عليه الصلاةُ والسلامُ رجعَ من الحديبيةِ في ذي الحجةِ من سنة ستَ وأقام بالمدينةِ بقيتها وأوائلَ المحرمِ من سنة سبعٍ ثم غزا خيبرَ بمن شهدَ الحديبيةَ ففتحَها وغنم أموالًا كثيرةً فخصَّها بهم حسبما أمره الله عزَّ وجلَّ وقرئ {كلمَ الله} وهو جُمع كِلمةٍ وأيًَّا ما كانَ فالمرادُ ما ذُكِرَ من وعدِه تعالى غنائمَ خيبرَ لأهلِ الحديبيةِ خاصَّة لا قوله تعالى: {لَّن تَخْرُجُواْ مَعِىَ أَبَدًا} فإنَّ ذلكَ في غزوةِ تبوكَ.
{قُلْ} إقناطًا لهم {لَّن تَتَّبِعُونَا} أي لا تتبعونا فإنه نفيٌ في مَعْنى النهي للمبالغةِ {كَذَلِكُمْ قال الله مِن قَبْلُ} أي عندَ الانصرافِ من الحديبيةِ {فَسَيَقولونَ} للمؤمنين عند سماعِ هَذا النهي {بَلْ تَحْسُدُونَنَا} أي ليسَ ذلكَ النهيُ حكمَ الله بل تحسدوننا أن نشارككم في الغنائمِ وقرئ {تحسدوننا} بكسر السين وقوله تعالى: {بَلْ كَانُواْ لاَ يَفْقَهُونَ} أي لا يفهمونَ {إِلاَّ قَلِيلًا} إلا فهمًا قليلًا وهو فطنتُهم لأمورِ الدُّنيا، ردٌّ لقولهم الباطلِ ووصفٌ لهم بما هُو أعظمُ من الحسدِ وأَطمُّ من الجهلِ المفرطِ وسوءِ الفهمِ في أمورِ الدينِ.