فصل: قال الزمخشري:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال الضحاك: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} بغير قتال، وكان الصلح من الفتح، وقال الحسن: فتح الله عليه بالإسلام.
{لِّيَغْفِرَ لَكَ الله} قال أبو حاتم: هذه (لام) القسم، لما حذفت (النون) من فعله كسرت اللام ونُصبَ فعلها بسببها بلام كي، وقال الحسين بن الفضيل: هو مردود إلى قوله: {واستغفر لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات} [محمد: 19] {لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} و{لِّيُدْخِلَ المؤمنين والمؤمنات جَنَّاتٍ تَجْرِي} وقال محمّد بن جرير: هو راجع إلى قوله: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ الله والفتح وَرَأَيْتَ الناس يَدْخُلُونَ فِي دِينِ الله أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واستغفره} [النصر: 1-3] {لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ} قبل الرسالة {وَمَا تَأَخَّرَ} إلى وقت نزول هذه السورة.
أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن محمّد بن عبدالله الحافظ، حدّثنا أبو عمرو عثمان بن عمر ابن حقيف الدرّاج، حدّثنا حامد بن شعيب، حدّثنا شريح بن يونس، حدّثنا محمّد بن حميد، عن سفيان الثوري {مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ} ما عملت في الجاهلية {وَمَا تَأَخَّرَ} كلّ شيء لم تعمله.
وقال عطاء بن أبي مسلم الخرساني: {مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِك} يعني ذنب أبويك آدم وحوّاء ببركتك {وَمَا تَأَخَّرَ} ديوان أُمّتك بدعوتك. سمعت الطرازي يقول: سمعت أبا القاسم النصر آبادي يقول: سمعت أبا علي الرودباري بمصر يقول: في قول الله تعالى: {لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}، قال: لو كان لك ذنب قديم أو حديث لغفرناه.
{وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا} أي ويثبتك عليه، وقيل: يهدي بك.
{وَيَنصُرَكَ الله نَصْرًا عَزِيزًا} غالبًا. وقيل: مُعزًّا.
{هُوَ الذي أَنزَلَ السكينة} الرحمة، والطمأنينة {فِي قُلُوبِ المؤمنين} قال ابن عبّاس: كلّ سكينة في القرآن فهي الطمأنينة إلاّ التي في البقرة.
{ليزدادوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ} قال ابن عبّاس: بعث الله نبيّه صلى الله عليه وسلم بشهادة أن لا إله إلاّ الله، فلمّا صدّقوا فيها زادهم الصلاة، فلمّا صدّقوا زادهم الصيام، فلمّا صدّقوا زادهم الزّكاة، فلمّا صدّقوا زادهم الحجّ، ثمّ زادهم الجهاد، ثمّ أكمل لهم دينهم بذلك، وقوله تعالى: {ليزدادوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ} أي تصديقًا بشرائع الإيمان مع تصديقهم بالإيمان.
وقال الضحاك: يقينًا مع يقينهم، وقال الكلبي: هذا في أمر الحديبية حين صدق الله رسوله الرؤيا بالحقّ.
{وَلِلَّهِ جُنُودُ السماوات والأرض وَكَانَ الله عَلِيمًا حَكِيمًا} أخبرنا عبيد الله بن محمّد الزاهد، أخبرنا أبو العبّاس السرّاج، حدّثنا محمّد بن عبد الله بن المبارك، حدّثنا يونس بن محمّد، حدّثنا شيبان، عن قتادة في قوله سبحانه: {لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} قال أنس بن مالك: إنّها نزلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد مرجعه من الحديبية، وأصحابه مخالطو الحزن والكآبة، قد حيل بينهم وبين مناسكهم ونحروا بالحديبية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «لقد أُنزلت عليَّ آية هي أحبُّ إليَّ من الدُّنيا جميعًا» فقرأها على أصحابه، فقالوا: هنيئًا مريئًا يا رسول الله، قد بيّن الله تعالى ما يفعل بك، فماذا يفعل بنا؟ فأنزل الله تعالى: {لِّيُدْخِلَ المؤمنين والمؤمنات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} قال أهل المعاني: وإنّما كرّر (اللام) في قوله: {لِّيُدْخِلَ المؤمنين والمؤمنات} بتأويل تكرير الكلام مجازه {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} إنّا فتحنا لك {لِّيُدْخِلَ المؤمنين والمؤمنات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ الله فَوْزًا عَظِيمًا وَيُعَذِّبَ المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظآنين بالله ظَنَّ السوء عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السوء} أي لن ينصر الله محمّدًا صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.
{عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السوء} بالذلّ والعذاب {وَغَضِبَ الله عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا وَلِلَّهِ جُنُودُ السماوات والأرض وَكَانَ الله عَزِيزًا حَكِيمًا إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لِّتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ} قرأ ابن كثير وأبو عمرو أربعتها (بالياء) واختاره أبو عبيد، قال: لذكر الله المؤمنين قبله، وبعده، فأمّا قبله فقوله تعالى: {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ} وقرأها الآخرون (بالتاء) واختاره أبو حاتم.
{وَتُعَزِّرُوهُ} وقرأ محمّد بن السميفع (بزايين)، وغيره (بالراء) أي لتعينوه، وتنصروه. قال عكرمة: تقاتلون معه بالسيف، أخبرنا علي بن محمّد بن محمّد بن أحمد البغدادي، أخبرنا أبو محمّد عبد الله بن محمّد الشيباني، أخبرنا عيسى بن عبد الله البصري بهراة، حدّثنا أحمد بن حرب الموصلي، حدّثنا القاسم بن يزيد الحرمي، حدّثنا سفيان بن سعيد الثوري، عن يحيى بن سعيد القطان، حدّثنا سفيان بن عينية، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن عبد الله، قال: لمّا نزلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم {وَتُعَزِّرُوهُ}، قال لنا: ماذا كُم؟ قلنا: الله ورسوله أعلم.
قال: لتنصروه وَتُوَقِّرُوهُ وتعظّموه وتفخموه. وهاهنا وقف تام.
{وَتُسَبِّحُوهُ} أي وتسبحوا الله بالتنزيه والصلاة.
{بُكْرَةً وَأَصِيلًا}.
{إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ} يا محمّد بالحديبية على أن لا يفروا {إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله}.
أخبرنا ابن منجويه، حدّثنا ابن حبش المقري، حدّثنا محمّد بن عمران، حدّثنا أبو عبد الله المخزومي، حدّثنا سفيان بن عينية، عن عمرو بن دينار إنّه سمع جابرًا يقول: كنّا يوم الحديبية ألف وأربعمائة، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنتم اليوم خير أهل الأرض» قال: وقال لنا جابر: لو كنت أبصر لأريتكم موضع الشجرة، وقال: بايعنا رسول الله تحت السمّرة على الموت على أن لا نفرّ، فما نكث أحد منّا البيعة، إلاّ جد بن قيس وكان منافقًا، اختبأ تحت أبط بعيره، ولم يسر مع القوم.
{يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} قال ابن عبّاس: {يَدُ الله} بالوفاء لما وعدهم من الخير {فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} بالوفاء.
وقال السدي: {يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} وذلك إنّهم كانوا يأخذون بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبايعونه، و{يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} عند المبايعة.
وقال الكلبي: معناه نعمة الله عليهم فوق ما صنعوا من البيعة، وقال ابن كيسان: قوّة الله ونصرته فوق قوّتهم ونصرتهم.
{فَمَن نَّكَثَ} يعني البيعة {فَإِنَّمَا يَنكُثُ على نَفْسِهِ} عليه وباله {وَمَنْ أوفى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ الله فَسَيُؤْتِيهِ} قرأ أهل العراق (بالياء)، وغيرهم (بالنون).
{أَجْرًا عَظِيمًا} وهو الجنّة {سَيَقول لَكَ المخلفون مِنَ الأعراب} قال ابن عبّاس ومجاهد: يعني أعراب غفار، ومزينة، وجهينة، وأشجع، وأسلم، والديك، وذلك أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم حين أراد المسير إلى مكّة عام الحديبية معتمرًا استنفر من حول المدينة من الأعراب، وأهل البوادي ليخرجوا معه حذرًا من قريش أن يعرضوا له بحرب ويصدّوه عن البيت، وأحرم هو صلى الله عليه وسلم وساق معه الهدي ليعلم النّاس أنّه لا يريد حربًا، فتثاقل عنه كثير من الأعراب، وقالوا: نذهب معه إلى قوم، قد جاؤوه، فقتلوا أصحابه، فنقاتلهم، فتخلّفوا عنه. واعتلُّوا بالشغل، فأنزل الله تعالى: {سَيَقول لَكَ المخلفون مِنَ الأعراب} الّذين خلّفهم الله عن صحبتك، وخدمتك في حجّتك، وعمرتك إذا انصرفت إليهم، فعاتبتهم على التخلّف عنك.
{شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فاستغفر لَنَا} ثمّ كذّبهم في اعتذارهم واستغفارهم وأخبر عن إسرارهم وإضمارهم، فقال: {يَقولونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مِّنَ الله شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا} قرأ حمزة والكسائي وخلف بضمّ (الضادّ) والباقون بالفتح، واختاره أبو عبيد، وأبو حاتم، قالا: لأنّه قابله بالنفع ضدّ الضرّ.
{أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرسول والمؤمنون إلى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السوء} وذلك بأنّهم قالوا: إنَّ محمّدًا وأصحابه أكلة رأس فلا يرجعون، فأين تذهبون؟ انتظروا ما يكون من أمرهم.
{وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا} هالكين، فاسدين، لا تصلحون لشيء من الخير.
{وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بالله وَرَسُولِهِ فَإِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السماوت والأرض يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَكَانَ الله غَفُورًا رَّحِيمًا سَيَقول المخلفون} عن الحديبية {إِذَا انطلقتم إلى مَغَانِمَ} يعني غنائم خيبر {لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ} إلى خيبر فنشهد معكم، فقال أهلها: {يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ الله} قرأ حمزة والكسائي (كلم الله) بغير (ألف)، وغيرهم (كلام الله)، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، قال الفرّاء: الكلام مصدر، والكلم جمع الكلمة، ومعنى الآية يريدون أن يغيّروا وعد الله الذي وعد أهل الحديبية، وذلك أنّ الله تعالى جعل غنائم خيبر لهم عوضًا من غنائم أهل مكّة، إذا انصرفوا عنهم على صلح، ولم يصيبوا منهم شيئًا، وقال ابن زيد: هو قوله تعالى: {فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّا} [التوبة: 83]. والقول الأوّل أصوب، وإلى الحقّ أقرب، لأنّ عليه عامّة أهل التأويل، وهو أشبه بظاهر التنزيل لأنّ قوله: {فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا} [التوبة: 83] نزلت في غزوة تبوك.
{قُل لَّن تَتَّبِعُونَا} إلى خيبر.
{كذلكم قال الله مِن قَبْلُ} أي من قبل مرجعنا إليكم: إنّ غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية، ليس لغيرهم فيها نصيب.
{فَسَيَقولونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا} أن نصيب معكم من الغنائم.
{بَلْ كَانُواْ لاَ يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلًا قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأعراب سَتُدْعَوْنَ إلى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} قال ابن عبّاس، وعطاء بن أبي رباح، وعطاء الخراساني، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، ومجاهد: هم فارس. كعب: الروم. الحسن: فارس، والروم. عكرمة: هوازن. سعيد بن جبير: هوازن، وثقيف. قتادة: هوازن وغطفان يوم حنين. الزهري، ومقاتل: بنو حنيفة أهل اليمامة، أصحاب مُسيلمة الكذّاب.
قال رافع بن جريج: والله لقد كنّا نقرأ هذه الآية فيما مضى {سَتُدْعَوْنَ إلى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} فلا نعلم من هم حتّى دعا أبو بكر رضي الله عنه إلى قتال بني حنيفة، فعلمنا أنّهم هم، وقال أبو هريرة: لم تأت هذه الآية بعد.
{تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} قرأ العامّة {يسالمون} في محل الرفع عطفًا على قوله: {تُقَاتِلُونَهُمْ}، وفي حرف أُبي (أو يسلموا) بمعنى حتّى يسلموا، كقول امرئ القيس: أو يموت فنعذرا.
{فَإِن تُطِيعُواْ يُؤْتِكُمُ الله أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْاْ كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِّن قَبْلُ} يعني عام الحديبية {يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} وهو النّار. قال ابن عبّاس: فلمّا نزلت هذه الآية قال أهل الزمانة: فكيف بنا رسول الله؟ فأنزل الله سبحانه وتعالى: {لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ} في التخلّف عن الجهاد، والقعود عن الغزو.
{وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ} في ذلك.
{وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا} قرأ أهل المدينة والشام (يدخله) (ويعذّبه) فيهما (بالنون) فيهما وقرأ الباقون (بالياء) فيهما، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، قالا: لِذِكر الله تعالى قبل ذلك. اهـ.

.قال الزمخشري:

سورة الفتح مدنية نزلت في الطريق عند الانصراف من الحديبية، وآياتها 29، نزلت بعد الجمعة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.

.[سورة الفتح: الآيات 1- 3]:

{إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3)}.
هو فتح مكة، وقد نزلت مرجع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن مكة عام الحديبية عدة له بالفتح، وجيء به على لفظ الماضي على عادة رب العزة سبحانه في أخباره، لأنها في تحققها وتيقنها بمنزلة الكائنة الموجودة، وفي ذلك من الفخامة والدلالة على علو شأن المخير ما لا يخفى.
فإن قلت: كيف جعل فتح مكة علة للمغفرة؟ قلت: لم يجعل علة للمغفرة، ولكن لاجتماع ما عدّد من الأمور الأربعة: وهي المغفرة وإتمام النعمة وهداية الصراط المستقيم والنصر العزيز، كأنه قيل: يسرنا لك فتح مكة، ونصرناك على عدوّك، لنجمع لك بين عز الدارين وأغراض العاجل والآجل. ويجوز أن يكون فتح مكة- من حيث إنه جهاد للعدوّ- سببا للغفران والثواب والفتح والظفر بالبلد عنوة أو صلحا بحرب أو بغير حرب، لأنه منغلق ما لم يظفر به، فإذا ظفر به وحصل في اليد فقد فتح. وقيل: هو فتح الحديبية، ولم يكن فيه قتال شديد، ولكن ترام بين القوم بسهام وحجارة. وعن ابن عباس رضي الله عنه: رموا المشركين حتى أدخلوهم ديارهم.
وعن الكلبي: ظهروا عليهم حتى سألوا الصلح. فإن قلت: كيف يكون فتحا وقد أحصروا فنحروا وحلقوا بالحديبية؟ قلت: كان ذلك قبل الهدنة، فلما طلبوها وتمت كان فتحا مبينا. وعن موسى بن عقبة: أقبل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من الحديبية راجعا، فقال رجل من أصحابه: ما هذا بفتح، لقد صدّونا عن البيت وصد هدينا، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «بئس الكلام هذا، بل هو أعظم الفتوح، وقد رضى المشركون أن يدفعوكم عن بلادهم بالراح، ويسألوكم القضية، ويرغبوا إليكم في الأمان، وقد رأوا منكم ما كرهوا».
وعن الشعبي: نزلت بالحديبية وأصاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في تلك الغزوة ما لم يصب في غزوة أصاب: أن بويع بيعة الرضوان، وغفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر، وظهرت الروم على فارس، وبلغ الهدى محله، وأطعموا نخل خيبر، وكان في فتح الحديبية آية عظيمة. وذلك أنه نزح ماؤها حتى لم يبق فيها قطرة، فتمضمض رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ثم مجه فيها، فدرت بالماء حتى شرب جميع من كان معه، وقيل: فجاش الماء حتى امتلأت ولم ينفد ماؤها بعد- وقيل: هو فتح خيبر، وقيل: فتح الروم. وقيل: فتح اللّه له بالإسلام والنبوّة والدعوة بالحجة والسيف، ولا فتح أبين منه وأعظم، وهو رأس الفتوح كلها، إذ لا فتح من فتوح الإسلام إلا وهو تحته ومتشعب منه. وقيل: معناه قضينا لك قضاء بينا على أهل مكة أن تدخلها أنت وأصحابك من قابل لتطوفوا بالبيت: من الفتاحة وهي الحكومة، وكذا عن قتادة {ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ} يريد: جميع ما فرط منك. وعن مقاتل: ما تقدم في الجاهلية وما بعدها. وقيل: ما تقدم من حديث مارية وما تأخر من امرأة زيد {نَصْرًا عَزِيزًا} فيه عز ومنعة- أو وصف بصفة المنصور إسنادا مجازيا أو عزيزا صاحبه.

.[سورة الفتح: الآيات 4- 7]:

{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيمانًا مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيرًا (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7)}.
{السَّكِينَةَ} السكون كالبهيتة للبهتان، أي: أنزل اللّه في قلوبهم السكون والطمأنينة بسبب الصلح والأمن، ليعرفوا فضل اللّه عليهم بتيسير الأمن بعد الخوف، والهدنة غب القتال، فيزدادوا يقينا إلى يقينهم، وأنزل فيها السكون إلى ما جاء به محمد عليه السلام من الشرائع {لِيَزْدادُوا إِيمانًا} بالشرائع مقرونا إلى إيمانهم وهو التوحيد.
عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن أوّل ما أتاهم به النبي صلى الله عليه وسلم التوحيد، فلما آمنوا باللّه وحده أنزل الصلاة والزكاة، ثم الحج، ثم الجهاد، فازدادوا إيمانا إلى إيمانهم. أو أنزل فيها الوقار والعظمة للّه عزّ وجل ولرسوله، ليزدادوا باعتقاد ذلك إيمانا إلى إيمانهم. وقيل: أنزل فيها الرحمة ليتراحموا فيزداد إيمانهم {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} يسلط بعضها على بعض كما يقتضيه علمه وحكمته، ومن قضيته أن سكن قلوب المؤمنين بصلح الحديبية ووعدهم أن يفتح لهم، وإنما قضى ذلك ليعرف المؤمنون نعمة اللّه فيه ويشكروها فيستحقوا الثواب، فيثيبهم ويعذب الكافرين والمنافقين لما غاظهم من ذلك وكرهوه. وقع السوء: عبارة عن رداءة الشيء وفساده، والصدق عن جودته وصلاحه، فقيل في المرضى الصالح من الأفعال: فعل صدق، وفي المسخوط الفاسد منها: فعل سوء. ومعنى {ظَنَّ السَّوْءِ} ظنهم أن اللّه تعالى لا ينصر الرسول والمؤمنين، ولا يرجعهم إلى مكة ظافرين فاتحيها عنوة وقهرا {عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ} أي: ما يظنونه ويتربصونه بالمؤمنين فهو حائق بهم ودائر عليهم- والسوء: الهلاك والدمار. وقرئ: {دائرة السوء} بالفتح، أي: الدائرة التي يذمونها ويسخطونها، فهي عندهم دائرة سوء، وعند المؤمنين دائرة صدق. فإن قلت: هل من فرق بين السوء والسوء؟ قلت: هما كالكرة والكره والضعف والضعف، من ساء، إلا أنّ المفتوح غلب في أن يضاف إليه ما يراد ذمه من كل شيء. وأما السوء بالضم فجار مجرى الشر الذي هو نقيض الخير. يقال: أراد به السوء وأراد به الخير، ولذلك أضيف الظن إلى المفتوح لكونه مذموما، وكانت الدائرة محمودة فكان حقها أن لا تضاف إليه إلا على التأويل الذي ذكرنا وأما دائرة السوء بالضم، فلأن الذي أصابهم مكروه وشدة، فصح أن يقع عليه اسم السوء، كقوله عزّ وعلا {إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً}.