فصل: تفسير الآيات (24- 26):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وجعل صاحب (الكشاف) جملة {ولتكون آية للمؤمنين} معترضة، وعليه فالواو اعتراضية غير عاطفة وأن ضمير {لتكون} عائدًا إلى المرة من فِعل كَف: أي الكَفة.
وعطف عليه {ويهديكم صراطًا مستقيمًا} وهو حكمة أخرى، أي ليزول بذلك ما خامركم من الكآبة والحزن فتتجرد نفوسكم لإدراك الخير المحض الذي في أمر الصلح وإحالتكم على الوعد فتوقنوا أن ذلك هو الحق فتزدادوا يقينًا.
ويجوز أن يكون فعل {ويهديكم} مستعملًا في معنى الإدامة على الهدى وهو: الإيمان الحاصل لهم من قبل على حد قوله: {يا أيها الذين آمَنواْ آمِنوا} [النساء: 136] على أحد تأويلين.
{وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21)}.
هذا من عطف الجملة على الجملة فقوله: {أخرى} مبتدأ موصوف بجملة {لم تقدروا عليها} والخبر قوله: {قد أحاط الله بها}.
ومجموع الجملة عطف على جملة {وعدكم اللَّه مغانم كثيرة} [الفتح: 20] فلفظ {أخرى} صفة لموصوف محذوف دل عليه {مغانم} الذي في الجملة قبلها، أي هي نوع آخر من المغانم صعبة المنال، ومعنى المغانم يقتضي غانمين فعلم أنها لهم، أي غير التي وعدهم الله بها، أي هذه لم يعدهم الله بها، ولم نجعل {وأخرى} عطفا على قوله: {هذه} [الفتح: 20] عطف المفرد على المفرد إذ ليس المراد غنيمة واحدة بل غنائم كثيرة.
ومعنى {لم تقدروا عليها}: أنها موصوفة بعَدم قدرتكم عليها، فلما كانت جملة {لم تقدروا عليها} صفة ل {أخرى} لم يقتض مدلول الجملة أنهم حاولوا الحصول عليها فلم يقدروا، وإنّما المعنى: أن صفتها عدم قدرتكم عليها فلم تتعلّق أطماعكم بأخذها.
والإحاطة بالهمز: جعل الشيء حائطًا أي حافظًا، فأصل همزته للجعل وصار بالاستعمال قاصرًا، ومعناه: احتوى عليه ولم يترك له منصرفًا فول على شدة القدرة عليه قال تعالى: {لتأتنني به إلا أن يُحاط بكم} [يوسف: 66] أي إلا أن تغلَبوا غلبًا لا تستطيعون معه الإتيان به.
فالمعنى: أن الله قدَر عليها، أي قدر عليها فجعلها لكم بقرينة قوله قبله {لم تقدروا عليها}.
والمعنى: ومغانم أخرى لم تقدروا على نيلها قد قدر الله عليها، أي فأنا لكُمْ إيّاها.
وإلا لم يكن لإعلامهم بأن الله قدر على ما لم يقدروا عليه جدوى لأنهم لا يجهلون ذلك، أي أحاط الله بها لأجلكم، وفي معنى الإحاطة إيماء إلى أنها كالشيء المحاط به من جوانبه فلا يفوتهم مكانه، جعلت كالمخبوء لهم.
ولذلك ذُيل بقوله: {وكان اللَّه على كل شيء قديرًا} إذ هو أمر مقرر في علمهم.
فعلم أن الآية أشارت إلى ثلاثة أنواع من المغانم: نوع من مغانم موعودة لهم قريبة الحصول وهي مغانم خيبر، ونوع هو مغانم مرجوة كثيرة غير معين وقت حصولها، ومنها مغانم يوم حنين وما بعده من الغزوات، ونوع هو مغانم عظيمة لا يَخطر ببالهم نوالها قد أعدها الله للمسلمين ولعلها مغانم بلاد الروم وبلاد الفرس وبلاد البربر.
وفي الآية إيماء إلى أن هذا النوع الأخير لا يناله جميع المخاطبين لأنه لم يأت في ذكره بضميرهم، وهو الذي تأوله عُمر في عدم قسمة سواد العراق وقرأ قوله تعالى: {والذين جاءوا من بعدهم} [الحشر: 10].
{وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22)}.
هذا عطف على قوله: {وكف أيدي الناس عنكم} [الفتح: 20] على أن بعضه متعلق بالمعطوف عليه، وبعضه معطوف على المعطوف عليه فما بينهما ليس من الاعتراض.
والمقصود من هذا العطف التنبيه على أن كف أيدي الناس عنهم نعمة على المسلمين باستبقاء قوتهم وعدتهم ونشاطهم.
وليس الكف لدفع غلبة المشركين إياهم لأن الله قدَّر للمسلمين عاقبة النصر فلو قاتلهم الذين كفروا لهزمهم المسلمون ولم يجدوا نصيرًا، أي لم ينتصروا بجمعهم ولا بمن يعينهم.
والمراد بالذين كفروا ما أريد بالناس في قوله: {وكف أيدي الناس عنكم}.
وكان مقتضى الظاهر الإتيان بضمير الناس بأن يقال: ولو قاتلوكم، فعدل عنه إلى الاسم الظاهر لما في الصلة من الإيماء إلى وجه بناء الخبر وهو أن الكفر هو سبب تولية الإدبار في قتالهم للمسلمين تمهيدًا لقوله: {سنة اللَّه التي قد خلت من قبل}.
و{الأدبار} منصوب على أنه مفعول ثان لِ {وَلَّوا} ومفعوله الأول محذوف لدلالة ضمير {قاتلكم الذين كفروا} عليه.
والتقدير: لولوكم الأدبار.
وأل للعهد، أي أدبارهم، ولذلك يقول كثير من النحاة إن أل في مثله عوض عن المضاف إليه وهو تعويض معنوي.
والتولية: جعل الشيء واليًا، أي لجعلوا ظهورهم تَليكم، أي ارتدوا إلى ورائهم فصُرتم وراءهم.
و{ثم} للتراخي الرتبي فإن عدم وجدان الولي والنصير أشد على المنهزم من انهزامه لأن حين ينهزم قد يكون له أمل بأن يستنصر من ينجده فيكُرّ بِهِ على الذين هزموه فإذا لم يجد وليًا ولا نصيرًا تحقق أنه غير منتصر وأصل الكلام لولوا الأدبار وما وجدوا وليًا ولا نصيرًا.
والولي: المُوالي والصديق، وهو أعم من النصير إذ قد يكون الوَلي غير قادر على إيواء وليه وإسعافه.
والسنة: الطريقة والعادة.
وانتصب {سنة اللَّه} نِيابة عن المفعول المطلق الآتي بدلًا من فعله لإفادة معنى تأكيد الفعل المحذوف.
والمعنى: سن الله ذلك سُنة، أي جعله عادة له ينصر المؤمنين على الكافرين إذا كانت نية المؤمنين نصر دين الله كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم} [محمد: 7] وقال: {ولينصرن الله من ينصره} [الحج: 40]، أي أنّ الله ضمن النصر للمؤمنين بأن تكون عاقبة حروبهم نصرًا وإن كانوا قد يُغلبون في بعض المواقع كما وقع يوم أحد وقد قال تعالى: {والعاقبة للمتقين} [القصص: 83] وقال: {والعاقبة للتقوى} [طه: 132].
وإنما يكون كمال النصر على حسب ضرورة المؤمنين وعلى حسب الإيمان والتقوى، ولذلك كان هذا الوعد غالبًا للرسُول ومن معه فيكون النصر تامًا في حالة الخطر كما كان يوم بدر، ويكون سجالًا في حالة السعة كما في وقعة أحد وقد دل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر: «اللهم إن تَهلِك هذه العصابة لا تعبَد في الأرض» وقال الله تعالى: {قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين} [الأعراف: 128]، ويكون لمن بعد الرسول صلى الله عليه وسلم من جيوش المسلمين على حسب تمسكهم بوصايا الرسول صلى الله عليه وسلم ففي (صحيح البخاري) عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم «يأتي زمان يغزُو فآمٌ من الناس فيقال: فيكم من صحب النبي؟ فيقال: نعم، فيفتحُ عليه، ثم يأتي زمان فيُقال: فيكم من صحب أصحاب النبي؟ فيقال: نعم فيفتح ثم يأتي زمان فيقال: فيكم من صَحِب من صَاحَبَ النبي؟ فيقال: نعم فيُفتحُ».
ومعنى {خلت} مضت وسبقت من أقدم عصور اجتلاد الحق والباطل، والمضاف إليه {قبلُ} محذوف نُوِي معناه دون لفظه، أي ليس في الكلام دال على لفظه ولكن يدل عليه معنى الكلام، فلذلك بُني {قبلُ} على الضم.
وفائدة هذا الوصف الدلالة على اطرادها وثباتها.
والمعنى: أن ذلك سنة الله مع الرسل قال تعالى: {كتب الله لأغلِبنّ أنا ورسلي إن الله قوي عزيز} [المجادلة: 21].
ولما وصف تلك السنة بأنها راسخة فيما مضى أعقب ذلك بوصفها بالتحقق في المستقبل تعميمًا للأزمنة بقوله: {ولن تجد لسنة اللَّه تبديلًا} لأن اطراد ذلك النصر في مختلف الأمم والعصور وإخبارَ الله تعالى به على لسان رسله وأنبيائه يدل على أن الله أراد تأييد أحزابه فيعلم أنه لا يستطيع كائن أن يحول دون إرادة الله تعالى. اهـ.

.تفسير الآيات (24- 26):

قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأنْزل الله سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما تقرر أن الكفار مغلوبون وإن قاتلوا، وكان ذلك من خوارق العادات مع كثرتهم دائمًا وقلة المؤمنين حتى يأتي أمر الله موقعًا للعلم القطعي بأنه ما دبره إلا الواحد القهار القادر المختار، عطف عليه عجبًا آخر وهو عدم تغير أهل مكة في هذه العمرة للقتال بعد تعاهدهم وتعاقدهم عليه مع ما لهم من قوة العزائم وشدة الشكائم، فقال عاطفًا على ما تقديره: هو الذي سن هذه السنة العامة: {وهو الذي كف} أي وحده من غير معين له على ذلك {أيديهم} أي الذين كفروا من أهل مكة وغيرهم، فإن الكل شرع واحد {عنكم وأيديكم} أيها المؤمنون {عنهم}.
ولما كان الكفار لو بسطوا أيديهم مع ما حتمه الله وسنه من تولية الكفار دخلوا مكة قال: {ببطن مكة} أي كائنًا كل منكم ومنهم في داخل مكة هم حالًا وأنت مآلًا، وعن القفال أنه قال: يجوز أن يراد به الحديبية لأنها من الحرم- انتهى.
وعبر بالميم دون الباء كما في آل عمران إشارة إلى أنه فعل هنا ما اقتضاه مدلول هذا الاسم من الجمع والنقض والتنقية، فسبب لهم أسباب الاجتماع والتنقية من الذنوب- بما أشارت إليه آية العمرة حالًا وآيات الفتح مآلًا، ووفى بما يدل عليه اسمها من الأهل على خلاف القياس.
ولما كان هذا ليس مستغرقًا لجميع الزمان الآتي، بل لا بد أن يبسط أيدي المؤمنين بها يوم الفتح، أدخل الجار فقال تعالى: {من بعد أن أظفركم} أي أوجد فوزكم بكل ما طلبتم منهم وجعل لكم الطول والعز {عليهم} وذلك فيما رواه أصحاب.
السير قالوا: ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم خراش بن أمية الخزاعي رضي الله عنه فبعثه إلى قريش بمكة وحمله على بعير له فقال له التغلب: ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له فعقروا جمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرادوا قتله، فمنعه الأحابيش فخلوا سبيله حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعثت قريش أربعين رجلًا منهم أو خمسين وأمروهم أن يطوفوا بعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصيبوا لهم من أصحابه أحدًا فأخذوا أخذًا فأتى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعفا عنهم وخلى سبيلهم، وقد كانوا رموا في عسكره بالحجارة والنبل، ثم ذكروا إرساله صلى الله عليه وسلم لعثمان رضي الله عنه إلى مكة ثم إرسال قريش لسهيل بن عمرو في الصلح، وروى مسلم في صحيحه عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: لما اصطلحنا واختلط بعضنا ببعض أتيت شجرة فاضطجعت في أصلها فأتاني أربعة من المشركين من أهل مكة، فجعلوا يقعون في النبي صلى الله عليه وسلم فأبغضتهم، فتحولت إلى شجرة أخرى، وعلقوا سلاحهم واضطجعوا، فبينما هم كذلك إذ نادى مناد من أسفل الوادي: يا آل المهاجرين: قتل ابن زنيم، فاخترطت سيفي ثم شددت على أولئك الأربعة وهم رقود فأخذت سلاحهم، فجعلته ضغثًا في يدي، ثم قلت والذي كرم وجه محمد صلى الله عليه وسلم! لا يرفع أحد منكم رأسه إلا ضربت الذي فيه عيناه ثم جئت بهم أسوقهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء عمي عامر رضي الله عنه برجل من العبلات يقال له مكرز يقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على فرس مجفف في سبعين من المشركين، فنظر إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: دعوهم يكن لهم بدء الفجور وثناه، فعفا عنهم فأنزل الله تعالى: {وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم} الآية- انتهى.
وروى مسلم والنسائي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن ثمانين رجلًا من أهل مكة هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل التنعيم متسلحين، يريدون غرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنه م، وفي رواية النسائي: قالوا: نأخذ محمدًا- صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فأخذهم النبي صلى الله عليه وسلم سلمًا فاستحياهم فأنزل الله عز وجل: {وهو الذي كف أيديهم عنكم} الآية.
ولما كان هذا ونحوه من عنف أهل مكة وغلظتهم وصلابتهم وشدتهم ورفق النبي صلى الله عليه وسلم ولينه لهم مما أحزن أغلب الصحابة رضي الله تعالى عنهم قال تعالى يسليهم: {وكان الله} أي المحيط بالجلال والإكرام {بما يعملون} أي الكفار- على قراءة أبي عمرو بالغيب، وأنتم- على قراءة الباقين بالخطاب في ذلك الوقت وفيما بعده كما كان قبله {بصيرًا} أي محيط العلم ببواطن ذلك كما هو محيط بظواهره فهو يجريه في هذه الدار التي ربط فيها المسببات بأسبابها على أوثق الأسباب في نصركم وغلبكم لهم وقسركم، وستعلمون ما دبره من دخولكم مكة المشرفة آمنين لا تخافون في عمرة القضاء صلحًا ثم في الفتح بجحفل جرار قد نيطت أظفار المنايا بأسنة رماحه، وعادت كؤوس الحمام طوعًا لبيض صفاحه، فيؤمن أكثر أهل مكة وغيرهم ممن هو الآن جاهد عليكم، ويصيرون أحب الناس فيكم يقدمون أنفسهم في جهاد الكفار دونكم، فيفتح الله بكم البلاد، ويظهركم- وهو أعظم المحامين عنكم- على سائر العباد.
ولما كان ما مضى من وصفهم على وجه يشمل غيرهم من جميع الكفار، عينهم مبينًا لسبب كفهم عنهم مع استحقاقهم في ذلك الوقت للبوار والنكال والدمار فقال: {هم} أي أهل مكة ومن لافهم {الذين كفروا} أي أوغلوا في هذا الوصف بجميع بواطنهم وتمام ظواهرهم {وصدوكم} زيادة على كفرهم في عمرة الحديبية هذه {عن المسجد الحرام} أي مكة، ونفس المسجد الحرام، والكعبة، للإخلال بما أنتم فيه من شعائر الإحرام بالعمرة {والهدي} أي وصدوا ما أهديتموه إلى مكة المشرفة لتذبحوه بها وتفرقوه على الفقراء، ومنه أربعون، وفي رواية: سبعون بدنة، كان أهداها النبي صلى الله عليه وسلم {معكوفًا} أي حال كونه مجموعًا محبوسًا مع رعيكم له وإصلاحه لما أهدى لأجله {أن يبلغ محله} أي الموضع الذي هو أولى المواضع لنحره، وهو الذي إذا أطلق انصرف الذهن إليه، وهو في العمرة المروة، ويجوز الذبح في الحج والعمرة في أي موضع كان من الحرم، فالموضع الذي نحر فيه النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المرة عند الإحصار ليس محله المطلق.
ولما كان التقدير: فلولا ما أشار إليه من ربط المسببات بأسبابها لسلطكم عليهم فغلبتموهم على المسجد وأتممتم عمرتكم على ما أردتم، ثم عطف عليه أمرًا أخص منه فقال: {ولولا رجال} أي مقيمون بين أظهر الكفار بمكة {مؤمنون} أي عريقون في الإيمان فكانوا لذلك أهلًا للوصف بالرجولية {ونساء مؤمنات} أي كذلك حبس الكل عن الهجرة العذر لأن الكفار لكثرتهم استضعفوهم فمنعوهم الهجرة، على أن ذلك شامل لمن جبله الله على الخير وعلم منه الإيمان وإن كان في ذلك الوقت مشركًا {لم تعلموهم} أي لم يحط علمكم بهم من جميع الوجوه لتميزوهم بأعيانهم عن المشركين لأنهم ليس لهم قوة التمييز زمنهم بأنفسهم وأنتم لا تعرفون أماكنهم لتعاملوهم بما هم له أهل ولا سيما في حال الحرب والطعن والضرب، ثم أبدل من (الرجال والنساء) قوله: {أن تطؤهم} أي تؤذوهم بالقتل أو ما يقاربه من الجراح والضرب والنهب ونحوه من الوطء الذي هو الإيقاع بالحرب منه قوله- صلى الله عليه وسلم «آخر وطأة وطئها الله بوج» يكون ذلك الأذى منكم لهم على ظن أنهم مشركون أذى الدائس لمدوس وتضغطوهم وتأخذوهم أخذًا شديدًا بقهر وغلبة تصيرون به لا تردون يد لامس ولا تقدرون على مدافعة {فتصيبكم} أي فيتسبب عن هذا الوطء أن يصيبكم {منهم} أي من جهتهم وبسببهم {معرة} أي مكروه وأذى هو كالحرب في انتشاره وأذاه، وإثم وخيانة بقتال دون إذن خاص، وبعدم الإمعان في البحث، وغرم وكفارة ودية وتأسف وتعيير ممن لا علم له، ثم علق بالوطء المسبب عنه إصابة المعرة إتمامًا للمعنى قوله: {بغير علم} أي بأنهم من المؤمنين.