فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ت: وقال الثَّعْلَبِيُّ: قوله: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} يحتمل أنْ يريد بغير علم مِمَّنْ تكلَّم بهذا، والمَعَرَّةُ: المشقة {لِيُدْخِلَ اللَّهُ في رَحْمَتِهِ} أي: في دين الإِسلام {مَنْ يَشَاءُ}: من أهل مكة قبل أن تدخلوها، انتهى.
وقوله تعالى: {لَوْ تَزَيَّلُواْ} أي: لو ذهبوا عن مَكَّةَ؛ تقول: زِلْتُ زيدًا عن موضعه إزالة، أي: أذهبته، وليس هذا الفعل من زَالَ يَزُولُ، وقد قيل: هو منه، وقرأ أبو حياةَ وقتادة: (تَزَايَلُوا) بألف، أي: ذهب هؤلاء عن هؤلاء، وقال النَّحَّاس: وقد قيل: إنَّ قوله: {وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ} الآية: يريدُ: مَنْ في أصلاب الكافرين مِمَّنْ سيُؤْمِنُ في غابر الدهر، وحكاه الثعلبيُّ والنَّقَّاش عن عليِّ بْنِ أبي طالب رضي اللَّه عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعًا، والحَمِيَّةُ التي جعلوها هي حَمِيَّةُ أَهل مكة في الصَّدِّ؛ قال الزُّهْرِيُّ: وهي حمية سُهَيْلٍ ومَنْ شَاهَدَ مِنْهُمْ عقدَ الصُّلْحِ، وجعلها سبحانه حَمِيَّةً جاهلية، لأَنَّها كانت منهم بغير حُجَّةٍ، إذ لم يأت صلى الله عليه وسلم مُحِارِبًا لهم، وإنما جاء معتمرًا معظِّمًا لبيت اللَّه، والسكينة: هي الطَّمْأَنِينَةُ إلى أَمْرِ رسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، والثقةُ بوعد اللَّه، والطاعةُ، وزوالُ الأَنَفَةِ التي لحقت عُمَرَ وغيره، {وكَلِمَةُ التَّقْوَى}: قال الجمهور: هي لا إله إلا اللَّه، ورُوِيَ ذلك عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم وفي مصحف ابن مسعود: {وَكَانُوا أَهْلَهَا وَأَحَقَّ بِهَا} والمعنى: كانوا أهلها على الإطلاق في علم اللَّه وسابق قضائه لهم، وروى أبو أمامة عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال: «إذَا نَادَى المُنَادِي فُتِحَتْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، واسْتُجِيبَ الدُّعَاءُ، فَمَنْ نَزَلَ بِهِ كَرْبٌ أَوْ شِدَّةٌ فَلْيَتَحَيَّنِ المُنَادِيَ، فَإذَا كَبَّرَ كَبَّرَ، وَإذَا تَشَهَّدَ تَشَهَّدَ، وَإذَا قال: حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ، قال: حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ، وَإذَا قال: حَيَّ عَلَى الْفَلاَحِ، قال: حَيَّ عَلَى الفَلاَحِ، ثُمَّ يَقول: رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ الصادِقَةِ المُسْتَجَابِ لَهَا، دَعُوَةِ الحَقِّ وَكَلِمَةِ التقوى، أَحْيِنَا عَلَيْهَا، وَأَمِتْنَا عَلَيْهَا، وَابْعَثْنَا عَلَيْهَا، وَاجْعَلْنَا مِنْ خِيَارِ أَهْلِهَا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًَا، ثُمَّ يَسْأَلُ اللَّهَ حَاجَتَهُ» رواه الحاكم في (المُسْتَدْرَكِ)، وقال: صحيح الإسناد، انتهى من (السِّلاَح).
فقد بَيَّنَ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث معنى {كلمة التقوى} على نحو ما فسرَ به الجمهور، والصحيحِ أنه يعوض عن الحَيْعَلَةِ الحَوْقَلَةُ؛ ففي صحيح مسلم: «ثُمَّ قال: حَيَّ عَلَى الصَلاَةِ، قال: لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ بِاللَّهِ، ثُمَّ قال: حَيَّ عَلَى الْفَلاَحِ، قال: لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ بِاللَّهِ». الحديث. انتهى.
وقوله تعالى: {وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} إشارة إلى علمه بالمؤمنين الذين دفع عن كفار قريش بسببهم، وإلى علمه بوجه المصلحة في صلح الحديبية؛ فيُرْوَى أَنَّهُ لما انعقد الصلحُ أَمِنَ الناسُ في تلك المُدَّةِ الحربَ والفتنةَ، وامتزجوا وعَلَتْ دعوةُ الإسلام، وانقاد إلى الإسلام كُلُّ مَنْ له فهم، وزاد عدد الإسلام في تلك المدة أَضعافَ ما كان قبلَ ذلك؛ قال ع: ويقتضى ذلك أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم، كان في عام الحديبيةِ في أَرْبَعَ عَشْرَةَ مائة، ثم سار إلى مَكَّةَ بعد ذلك بعامين في عَشَرَةِ آلاف فارس صلى الله عليه وسلم.
ت: المعروف عَشَرَةُ آلاف، وقوله فارس ما أَظُنُّهُ يَصِحُّ فتأمله في كتب السيرة. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَهُوَ الذي فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ}.
أي أيدي كفار مكة، وفي التعبير بكف دون منع ونحوه لطف لا يخفى {وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ} يعني الحديبية كما أخرج ذلك عبد بن حميد. وابن جرير عن قتادة.
وقد تقدم أن بعضها من حرم مكة، وأن لم يسلم فالقرب التام كاف ويكون إطلاق {بَطَنَ مَكَّةَ} عليها مبالغة {مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ} مظهرًا لكم {عَلَيْهِمْ} فتعدية الفعل بعلى لتضمنه ما يتعدى به وهو الإظهار والإعلاء أي جعلكم ذوي غلبة تامة.
أخرج الإمام أحمد. وابن أبي شيبة. وعبد بن حميد. ومسلم. وأبو داود. والترمذي. والنسائي في آخرين عن أنس قال: لما كان يوم الحديبية هبط على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثمانون رجلًا من أهل مكة في السلاح من قبل جبل التعيم يريدون غرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا عليهم فأخذوا فعفا عنهم فنزلت هذه الآية {وَهُوَ الذي كَفَّ} الخ.
وأخرج أحمد. والنسائي. والحاكم وصححه. وابن مردويه. وأبو نعيم في (الدلائل) عن عبد الله بن معقل قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصل الشجرة التي قال الله تعالى في القرآن إلى أن قال: فبينا نحن كذلك إذ خرج علينا ثلاثون شابًا عليهم السلاح فثاروا إلى وجوهنا فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ الله تعالى بأسماعهم ولفظ الحاكم بأبصارهم فقمنا إليهم فأخذناهم فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل جئتم في عهد أحد أو هل جعل لكم أحد أمانًا؟» فقالوا: لاف خلي سبيلهم فأنزل الله تعالى: {وَهُوَ الذي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ} الخ.
وأخرج أحمد وغيره عن سلمة بن الأكوع قال: قدمنا الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن أربع عشرة مائة ثم إن المشركين من أهل مكة راسلونا إلى الصلح فلما اصطلحنا واختلط بعضنا ببعض أتيت شحرة فاضطجعت في ظلها فأتاني أربعة من مشركي مكة فجعلوا يقعون في رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبغضتهم وتحولت إلى شجرة أخرى من مشركي أهل مكة فجعلوا يقعون في رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبغضتهم وتحولت إلى شجرة أخرى فعلقوا سلاحهم واضطجعوا فبينما هم كذلك إذ نادى مناد من أسفل ما للمهاجرين قتل بن زنيم فاخترطت سيفي فاشتدت على أولئك الأربعة وهم رقود فأخذت سلاحهم وجعلته في يدي ثم قلت: والذي كرم وجه محمد لا يرفع أحد منكم رأسه إلا ضربت الذي فيه عيناه ثم جئت بهم أسوقهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء عمي عامر برجل يقال له مكرز من المشركين يقوده حتى وقفنا بهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعين من المشركين فنظر إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «دعوهم يكون لهم بدء الفجور وثناه» فعفا عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل الله تعالى: {وَهُوَ الذي كَفَّ} الخ، وهذا كله يؤيد ما قلناه.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن أبزى قال: لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم بالهدي وانتهى إلى ذي الحليفة قال له عمي: يا نبي الله تدخل على قوم لك حرب بغير سلاح ولا كراع فبعث إلى المدينة فلم يدع فيها كراعًا ولا سلاحًا إلا حمله فلما دنا من مكة منعوه أن يدخل فسار حتى أتى مني فنزل بها فأتاه عينه أن عكرمة ابن أبي جهل قد جمع عليك في خمسمائة فقال لخالد بن الوليد: يا خالد هذا ابن عمك قد أتاك في الخيل فقال خالد: أنا سيف الله وسيف رسوله فيومئذ سمي سيف الله يا رسول الله ارم بي إن شئت فبعثه على خيل فلقيه عكرمة في الشعب فهزمه حتى أدخله حيطان مكة فأنزل الله تعالى: {وَهُوَ الذى} الآية.
وفي (البحر) أن خالدًا هزمهم حتى دخلوا بيوت مكة وأسر منهم جملة فسيقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن عليهم وأطلقهم، والخبر غير صحيح لأن إسلام خالد رضي الله تعالى عنه بعد الحديبية قبل عمرة القضاء، وقيل بعدها وهي في السنة السابعة.
وروى ابن إسحق وغيره أن خالدًا كان يوم الحديبية على خيل قريش في مائتي فارس قدم بهم إلى كراع الغميم فدنا حتى نظر إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عباد بن بشر فتقدم بخيله فقام بإزائه وصف أصحابه وحانت صلاة الظهر فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الخوف، وعن ابن عباس أن أهل مكة أرسلوا جملة من الفوارس في الحديبية يريدون الوقيعة بالمسلمين فأظهرهم الله تعالى عليهم بالحجارة حتى أدخلوهم البيوت، وأنكر بعضهم ذلك والله تعالى أعلم بصحة الخبر.
وقيل: كان هذا الكف يوم فتح مكة، واستشهد الإمام أبو حنيفة بما في الآية من قوله تعالى: {مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ} بناء على هذا القول لفتح مكة عنوة.
واعترض القول المذكور والاستشهاد بالآية بناء عليه، أما الأول فلأن الآية نزلت قبل فتح مكة.
وتعقب بأنه إن أريد أنها نزلت بتمامها قبله فليس بثابت بل بعض الآثار يشعر بخلافه وإلا فلا يفيد مع أنه يجوز أن يكون هذا إخبارًا عن الغيب كما قيل ذلك في غيره من بعض آيات السورة، وأما الثاني فلأن دلالتها على العنوة ممنوعة، فقد قال الزمخشري: الفتح هو الظفر بالشيء سواء كان عنوة أو صلحًا، والفرق بين الظفر على الشيء والظفر به من حيث الاستعلاء وهو كائن لأنهم اصطلحوا وهم مضطرون ورسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه مختارون، وفيه دغدغة لا تخفى؛ وكذا فيما تعقب به الأول.
وبالجملة هذا القول وكذا الاستشهاد بما في الآية بناء غير بعيد إلا أن أكثر الأخبار الصحيحة وكذا ما بعد يؤيد ما قلناه أولًا في تفسير الآية {وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ} بعملكم أو بجميع ما تعملونه ومنه العفو ومنه العفو بعد الظفر.
{بَصِيرًا} فيجازيكم عليه.
وقرأ أبو عمرو {يَعْمَلُونَ} بياء الغيبة فالكلام عليه تهديد للكفار.
{هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام} أن تصلوا إليه وتطوفوا به {والهدى} بالنصب عطف على الضمير المنصوب في {صَدُّوكُمْ} أي وصدوا الهدي وهو ما يهدي إلى البيت، قال الأخفش: الواحدة هدية ويقال للأنثى هدى كأنه مصدر وصف به.
وفي (البحر) إسكان داله لغة قريش وبها قرأ الجمهور، وقرأ ابن هرمز. والحسن. وعصمة عن عاصم. واللؤلوى. وخارجة عن أبي عمرو وبكسر الدال وتشديد الياء وذلك لغة، وهو فعيل بمعنى مفعول على ما صرح به غير واحد، وكان هذا الهدي سبعين بدنة على ما هو المشهور، وقال مقاتل: كان مائة بدنة.
وقرأ الجعفي عن أبي عمرو {الهدى} بالجر على أنه عطف على المسجد الحرام بحذف المضاف أي ونحر الهدي.
وقرئ بالرفع على إضمار وصد الهدي، وقوله سبحانه: {مَعْكُوفًا} حال من {الهدى} على جميع القراآت، وقيل: على قراءة الرفع يجوز أن يكون {الهدى} مبتدأ والكلام نحو حكمك مسمطًا، وقوله تعالى: {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} [يوسف: 8] على قراءة النصب وهو كما ترى، والمعكوف المحبوس يقال: عكفت الرجل عن حاجته حبسته عنها، وأنكر أبو علي تعدية عكف وحكاها ابن سيده والأزهري وغيرهما، وظاهر ما في الآية معهم، وقوله تعالى: {أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} بدل اشتمال من {الهدى} كأنه قيل: وصدوا بلوغ الهدى محله أو صدوا عن بلوغ الهدي أو وصد بلوغ الهدي حسب اختلاف القراآت، وجوز أن يكون مفعولًا من أجله للصد أي كراهة أن يبلغ محله، وأن يكون مفعولًا من أجله مجرورًا بلام مقدرة لمعكوفًا أي محبوسًا لأجل أن يبلغ محله ويكون الحبس من المسلمين، وأن يكون منصوبًا بنزع الخافض وهو من أو عن أي محبوسًا من أو عن أن يبلغ محله فيكون الحبس من المشكرين على ما هو الظاهر، ومحل الهدي مكان يحل فيه نحره أي يسوغ أو مكان حلوله أي وجوه ووقوعه كما نقل عن الزمخشري، والمراد مكانه المعهود وهو مني، أما على رأي الشافعي رضي الله تعالى عنه فلأن مكانه لمن منع حيث منع فيكون قد بلغ محله بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه ولذا نحروا هناك أعني في الحديبية، وأما على رأي أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه فلأن مكانه الحرم مطلقًا وبعض الحديبية حرم عنده؛ وقد رووا أن مضارب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت في الحل منها ومصلاه في الحرم والنحر قد وقع فيما هو حرم فيكون الهدي بالغًا محله غير معكوف عن بلوغه فلا بد من إرادة المعهود ليتسنى ذلك، وزعم الزمخشري أن الآية دليل لأبي حنيفة على أن الممنوع محل هديه الحرم ثم تكلم بما لا يخفى حاله على من راجعه.
ومن الناس من قرر الاستدلال بأن المسجد الحرام يكون بمعنى الحرم وهم لما صدوهم عنه ومنعوا هديهم أن يدخله فيصل إلى محله دل بحسب الظاهر على أنه محله، ثم قال: ولا ينافيه أنه عليه الصلاة والسلام نحر في طرف منه كما لا ينافي الصد عنه كون مصلاه عليه الصلاة والسلام فيه لأنهم منعوهم فلم يمتنعوا بالكلية وهو كما ترى.
والإنصاف أنه لا يتم الاستدلال بالآية على هذا المطلب أصلًا.
وطعن بعض أجلة الشافعية في كون شيء من الحديبية من الحرم فقال: إنه خلاف ما عليه الجمهور وحدود الحرم مشهورة من زمن إبراهيم عليه السلام، ولا يعتد بروابة شذبها الواقدي كيف وقد صرح بخلافها البخاري في صحيحه عن الثقات، والرواية عن الزهري ليست بثبت انتهى، ولعل من قال: بأن بعضها من الحرم استند في ذلك إلى خبر صحيح.
ومن قواعدهم أن المثبت مقدم على النافي والله تعالى أعلم {وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مؤمنات لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ} صفة {رِجَالٌ وَنِسَاء} على تغليب المذكر على المؤنث.
وكانوا على ما أخرج أبو نعيم بسند جيد وغيره عن أبي جمعة جنبذ بن سبع تسعة نفر سبعة رجال وهو منهم وامرأتين، وقوله تعالى: {إن} بدل اشتمال منهم وجوز كونه بدلًا من الضمير المنصوب في {لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ} واستبعده أبو حيان، والوطء الدوس واستعير هنا للإهلاك وهي استعارة حسنة واردة في كلامهم قديمًا وحديثا، ومن ذلك قول الحرث بن وعلة الذهلي:
ووطئتنا وطأ على حنق ** وطء المقيد نابت الهرم

وقوله: صلى الله عليه وسلم من حديث: «وإن آخر وطأة وطئها الله تعالى بِوَجّ» وقوله عليه الصلاة والسلام: «اللهم اشدد وطأتك على مضر» {فَتُصِيبَكمْ مّنْهُمْ} أي من جهتهم {مَّعَرَّةٌ} أي مكروه ومشقة مأخوذ من العر والعرة هو الجرب الصعب اللازم، وقال غير واحد: هي مفعلة من عره إذا عراه ودهاه ما يكره، والمراد بها هنا على ما روي عن منذر بن سعيد تعيير الكفار وقولهم في المؤمنين: أنهم قتلوا أهل دينهم، وقيل: التأسف عليهم وتألم النفس مما أصابهم.
وقال ابن زيد: المأثم بقتلهم.
وقال ابن إسحاق: الدية، قال ابن عطية: وكلا القولين ضعيف لأنه لا إثم ولا دية في قتل مؤمن مستور الإيمان بين أهل الحرب: وقال الطبري، هي الكفارة.
وتعقب بعضهم هذا أيضًا بأن في وجوب الكفارة خلافًا بين الأئمة.
وفي الفصول العمادية ذكر في تأسيس النظائر في الفقه قال أصحابنا: دار الحرب تمنع وجوب ما يندرىء بالشبهات لأن أحكامنا لا تجري في دارهم وحكم دارهم لا يجري في دارنا، وعند الشافعي دار الحرب لا تمنع وجوب ما يندرىء بالشبهات، بيان ذلك حربي أسلم في دار الحرب وقتل مسلمًا دخل دارهم بأمان لا قصاص عليه عندنا ولا دية وعند الشافعي عليه القصاص وعلى هذا لو أن مسلمين متسامنين دخلا دار الحرب وقتل أحدهما صاحبه لا قصاص عليه عندنا وعند الشافعي عليه ذلك، ثم ذكر مسألة مختلفًا فيها بين أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد فقال: إذا قتل أحد الأسيرين صاحبه في دار الحرب لا شيء عليه عند أبي حنيفة وأبي يوسف إلا الكفارة لأنه تبع لهم فصار كواحد من أهل الحرب، وعند محمد تجب الدية لأن له حكم نفسه فاعتبر حكم نفسه على حدة انتهى.
ونقل عن الكافي أن من أسلم في دار الحرب ولم يهاجر إلينا وقتله مسلم عمدًا أو خطأ وله ورثة مسلمون ثم لا يضمن شيئًا إن كان عمدًا وإن كان خطأ ضمن الكفارة دون الدية انتهى وتمام الكلام في هذا المقام يطلب في محله، والزمخشري فسر المعرة بوجوب الدية والكفارة وسوء قالة المشركين والمأثم إذا جرى منهم بعض التقصير وهو كما ترى.
{بِغَيْرِ عِلْمٍ} في موضع الحال من ضمير المخاطبين في {فاسمعون قِيلَ} ولا تكرار مع قوله تعالى: {لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ} سواء كان {إن} بدل اشتمال من {رِجَالٌ وَنِسَاء} أو بدلًا من المنصوب في {لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ} أما على الثاني فلأن حاصل المعنى ولولا مؤمنون لم تعلموا وطأتهم وإهلاكهم وأنتم غير عالمين بإيمانهم لأن احتمال أنهم يهلكون من غير شعور مع إيمانهم سبب الكف فيعتبر فيه العلمان فمتعلق العلم في الأول: الوطأة وفي الثاني: أنفسهم باعتبار الإيمان، وأما على الأول فلأن قوله تعالى: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} لما كان حالًا من فاعل {تطؤهم} كان العلم بهم راجعًا إلى العلم باعتبار الإهلاك كما تقول أهلكته من غير علم فلا الإهلاك من غير شعور ولا العلم بإيمانهم حاصل والأمران لكونهما مقصودين بالذات صرح بهما وإن تقاربا أو تلازمًا في الجملة.