فصل: قال أبو السعود في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهذا فيه بعد.
والوطء: الدوس، وعبر به عن الإهلاك بالسيف وغيره.
قال الشاعر:
ووطئتنا وطأ على حنق ** وطء المقيد ثابت الهرم

وفي الحديث: «اللهم اشدد وطأتك على مضر» و{لم تعلموهم}: صفة لرجال ونساء غلب فيها المذكر؛ والمعنى: لم تعرفوا أعيانهم وأنهم مؤمنون.
وقال ابن زيد: المعرة: المأثم.
وقال ابن إسحاق: الدية.
وقال ابن عطية: وهذا ضعيف، لأنه لا إثم ولا دية في قتل مؤمن مستور الإيمان بين أهل الحرب.
وقال الطبري: هي الكفارة.
وقال القاضي منذر بن سعيد: المعرة: أن يعنفهم الكفار، ويقولون قتلوا أهل دينهم.
وقيل: الملامة وتألم النفس منه في باقي الزمن.
ولفق الزمخشري من هذه الأقوال سؤالًا وجوابًا على عادته في تلفق كلامه من أقوالهم وإيهامه أنها سؤالات وأجوبة له فقال: فإن قلت: أي معرة تصيبهم إذا قتلوهم وهم لا يعلمون؟ قلت: يصيبهم وجوب الدية والكفارة، وسوء مقالة المشركين أنهم فعلوا بأهل دينهم ما فعلوا بنا من غير تمييز، والمأثم إذا جرى منهم بعض التقصير. انتهى.
{بغير علم}: أخبار عن الصحابة وعن صفتهم الكريمة من العفة عن المعصية والامتناع من التعدى حتى أنهم لو أصابوا من ذلك أحدًا لكان من غير قصد، كقول النملة عن جند سليمان: {وهم لا يشعرون} وبغير علم متعلق بأن تطؤهم.
وقيل: متعلق بقوله: {فتصيبكم منهم معرّة} من الذين بعدكم ممن يعتب عليكم.
وقرأ الجمهور: لو تزيلوا؛ وابن أبي عبلة، وابن مقسم، وأبو حيوة، وابن عون: لو تزايلوا، على وزن تفاعلوا، ليدخل متعلق بمحذوف دل عليه المعنى، أي كان انتفاء التسليط على أهل مكة، وانتفاء العذاب.
{ليدخل الله في رحمته من يشاء}: وهذا المحذوف هو مفهوم من جواب لو، ومعنى تزيلوا: لو ذهبوا عن مكة، أي لو تزيل المؤمنون من الكفار وتفرقوا منهم، ويجوز أن يكون الضمير للمؤمنين والكفار، أي لو افترق بعضهم من بعض.
{إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية}: إذ معمول لعذبنا، أو لو صدوكم، أو لا ذكر مضمرة.
والحمية: الأنفة، يقال: حميت عن كذا حمية، إذا أنفت عنه وداخلك عار وأنفة لفعله، قال المتلمس:
إلا أنني منهم وعرضي عرضهم ** كذا الرأس يحمي أنفه أن يهشما

وقال الزهري: حميتهم: أنفتهم عن الإقرار لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالرسالة والاستفتاح ببسم الله الرحمن الرحيم، والذي امتنع من ذلك هو سهيل بن عمرو.
وقال ابن بحر: حميتهم: عصبيتهم لآلهتهم، والأنفة: أن يعبدوا وغيرها.
وقيل: قتلوا آباءنا وإخواننا ثم يدخلون علينا في منازلنا، واللات والعزى لا يدخلها أبدًا؛ وكانت حمية جاهلية لأنها بغير حجة وفي غير موضعها، وإنما ذلك محض تعصب لأنه صلى الله عليه وسلم إنما جاء معظمًا للبيت لا يريد حربًا، فهم في ذلك كما قال الشاعر في حمية الجاهلية:
وهل أنا إلا من غزية إن غوت ** غوين وإن ترشد غزية أرشد

وحمية: بدل من الحمية والسكينة الوقار والاطمئنان، فتوقروا وحلموا؛ و{كلمة التقوى}: لا إله إلا الله.
روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبه قال علي، وابن عباس، وابن عمر، وعمرو بن ميمون، وقتادة، ومجاهد، وعكرمة، والضحاك، وسلمة بن كهيل، وعبيد بن عمير، وطلحة بن مصرف، والربيع، والسدي، وابن زيد.
وقال عطاء بن أبي رباح ومجاهد أيضًا: هي لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير.
وقال علي بن أبي طالب، وابن عمر، رضي الله تعالى عنهما: لا إله إلا الله، والله أكبر.
وقال أبو هريرة، وعطاء الخراساني: لا إله إلا الله، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأضيفت الكلمة إلى التقوى لأنها سبب التقوى وأساسها.
وقيل: هو على حذف مضاف، أي كلمة أهل التقوى.
وقال المسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم: كلمة التقوى هنا هي بسم الله الرحمن الرحيم، وهي التي أباها كفار قريش، فألزمها الله المؤمنين وجعلهم أحق بها.
وقيل: قولهم سمعًا وطاعة.
والظاهر أن الضمير في: {وكانوا} عائد على المؤمنين، والمفضل عليهم محذوف، أي {أحق بها} من كفار مكة، لأن الله تعالى اختارهم لدينه وصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم.
وقيل: من اليهود والنصارى، وهذه الأحقية هي في الدنيا.
وقيل: أحق بها في علم الله تعالى.
وقيل: {وأهلها} في الآخرة بالثواب.
وقيل: الضمير في وكانوا عائد على كفار مكة لأنهم أهل حرم الله، ومنهم رسوله لولا ما سلبوا من التوفيق.
{وكان الله بكل شيء عليمًا}، إشارة إلى علمه تعالى بالمؤمنين ورفع الكفار عنهم، وإلى علمه بصلح الكفار في الحديبية، إذ كان سببًا لامتزاج العرب وإسلام كثير منهم، وعلو كلمة الإسلام؛ وكانوا عام الحديبية ألفًا وأربعمائة، وبعده بعامين ساروا إلى مكة بعشرة آلاف.
وقال أبو عبد الله الرازي: في هذه الآية لطائف معنوية، وهو أنه تعالى أبان غاية البون بين الكافر والمؤمن.
باين بين الفاعلين، إذ فاعل جعل هو الكفار، وفاعل أنزل هو الله تعالى؛ وبين المفعولين، إذ تلك حمية، وهذه سكينة؛ وبين الإضافتين، أضاف الحمية إلى الجاهلية، وأضاف السكينة إلى الله تعالى.
وبين الفعل جعل وأنزل؛ فالحمية مجعولة في الحال في العرض الذي لا يبقى، والسكينة كالمحفوظة في خزانة الرحمة فأنزلها.
والحمية قبيحة مذمومة في نفسها وازدادت قبحًا بالإضافة إلى الجاهلية، والسكينة حسنة في نفسها وازدادت حسنًا بإضافتها إلى الله تعالى.
والعطف في فأنزل بالفاء لا بالواو يدل على المقابلة، تقول: أكرمني فأكرمته، فدلت على المجازاة للمقابلة، ولذلك جعل فأنزل.
ولما كان الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي أجاب أولًا إلى الصلح، وكان المؤمنون عازمين على القتال، وأن لا يرجعوا إلى أهلهم إلا بعد فتح مكة أو النحر في المنحر، وأبوا إلا أن يكتبوا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وباسم الله، قال تعالى: {على رسوله}.
ولما سكن هو صلى الله عليه وسلم للصلح، سكن المؤمنون، فقال: {وعلى المؤمنين}.
ولما كان المؤمنون عند الله تعالى، ألزموا تلك الكلمة، قال تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} وفيه تلخيص، وهو كلام حسن. اهـ.

.قال أبو السعود في الآيات السابقة:

{لَّقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المؤمنين} هم الذينَ ذُكِرَ شأنُ مبايعتِهم. وبهذهِ الآيةِ سُميتْ بَيعةَ الرضوانِ. وقوله تعالى: {إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشجرة} منصوبٌ برضي. وصيغةُ المضارعِ لاستحضارِ صورتِها، وتحتَ الشجرِة متعلقٌ به أو بمحذوفٍ هو حالٌ من مفعولِه. رُويَ أنَّه عليه الصلاةُ والسَّلامُ لما نزلَ الحديبية بعثَ خراشَ بنَ أميةَ الخزاعيَّ رسولًا إلى أهلِ مكةَ فهمُّوا بهِ فمنَعُه الأحابيشُ فرجعَ فبعثَ عثمانَ بنَ عفانَ رضيَ الله عنه فأخبرَهُم أنَّه عليه الصلاةُ والسلامُ لم يأتِ لحربٍ وإنما جاء زائرًا لهذا البيتِ مَعظمًا لحرمتِه فوقّرُوه وقالوا إنْ شئتَ أنْ تطوفَ بالبيتِ فافعلْ فقال ما كنتُ لأطوفَ قبلَ أنْ يطوفَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم واحتبسَ عندهُم فأُرْجِفَ بأنَّهم قتلُوه فقال عليه الصلاةُ والسلامُ: «لا نبرحُ حتى نناجزَ القومَ» ودعا الناسَ إلى البيعةِ فبايعُوه تحتَ الشجرةِ وكانتْ سَمُرةً وقيلَ: سِدرةً على أن يقاتِلُوا قريشًا ولا يفرُّوا. ورُويَ على الموتِ دونَهُ وأنْ لا يفرُّوا فقال لهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنتمُ اليومَ خيرُ أهلِ الأرضِ وكانُوا ألفًا وخمسَمائةٍ وخمسةً وعشرينَ.
وقيلَ: ألفًا وأربعمائةِ. وقيلَ ألفًا: وثلثَمائةِ. وقوله تعالى: {فَعَلِمَ مَا في قُلُوبِهِمْ} عطفٌ على يُبايعونك لما عرفتَ من أنَّه بمعنى بايعوكَ لا على رضيَ فإن رضاهُ تعالى عنهم مترتبٌ على علمِه تعالى بما في قلوبِهم من الصدقِ والإخلاصِ عند مبايعتِهم له صلى الله عليه وسلم. وقوله تعالى: {فَأنزَلَ السكينة عَلَيْهِمْ} عطفٌ على رضيَ أي فأنزلَ عليهم الطُّمأنينةَ والأمنَ وسكونَ النفسِ بالربطِ على قلوبِهم وقيلَ: بالصلحِ.
{وأثابهم فَتْحًا قَرِيبًا} هو فتحٌ خيبرَ غِبَّ انصرافِهم من الحديبةِ كما مرَّ تفصيلُه. وقرئ {وآتاهُم}.
{وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا} أي مغانمَ خيبرَ. والالتفاتُ إلى الخطابِ على قراءة الأعمشِ وطلحةَ ونافعٍ لتشريفِهم في مقامِ الامتنانِ.
{وَكَانَ الله عَزِيزًا} غالبًا {حَكِيمًا} مراعيًا لمقتضَى الحكمةِ في أحكامِه وقضاياهُ.
{وَعَدَكُمُ الله مَغَانِمَ كَثِيرَةً} هي ما يُفيؤُه على المؤمنينَ إلى يومِ القيامةِ.
{تَأْخُذُونَهَا} في أوقاتِها المقدرةِ لكلِّ واحدةٍ منها.
{فَعَجَّلَ لَكُمْ هذه} أي غنائمَ خيبرَ {وَكَفَّ أَيْدِىَ الناس عَنْكُمْ} أي أيدِي أهلِ خيبرَ وحلفائِهم من بني أسدٍ وغطفانَ حيثُ جاءُوا لنُصرتِهم فقذفَ الله في قلوبِهم الرعبَ فنكصُوا وقيلَ: أيدِيَ أهلِ مكةَ بالصلحِ {وَلِتَكُونَ ءايَةً لّلْمُؤْمِنِينَ} أمارةً يعرِفونَ بها صدقَ الرسولِ صلى الله عليه وسلم في وعدِه إيَّاهُم عندَ رجوعِه من الحديبيةِ ما ذُكِرَ من المغانمِ وفتحِ مكةَ ودخولِ المسجدِ الحرامِ. واللامُ متعلقةٌ إمَّا بمحذوفٍ مؤخرٍ أي ولتكونَ آيةً لهم فعلُ ما فُعلَ من التعجيلِ والكفِّ أو بَما تعلقَ به علةٌ أخرى محذوفةٌ من أحدِ الفعلينِ أي فعّجل لكم هذه أو كفَّ أيديَ الناسِ لتغتنمُوها ولتكونَ الخ فالواوُ على الأولِ اعتراضيةٌ وعلى الثانِي عاطفةٌ {وَيَهْدِيَكُمْ} بتلك الآيةِ {صراطا مُّسْتَقِيمًا} هو الثقةُ بفضلِ الله تعالى والتوكل عليه في كل ما تذرزن.
{وأخرى} عطف على هذه أي فعجِلَ لكم هذه المغانمَ ومغانمَ أُخرى {لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا} وهي مغانمُ هوازنَ في غزوةِ حُنينٍ ووصفُها بعدمِ القدرةِ عليها لما كانَ فيها من الجولةِ قبل ذلكَ لزيادةِ ترغيبِهم فيها وقوله تعالى: {قَدْ أَحَاطَ الله بِهَا} صفةٌ أُخرى لأُخرى مفيدةٌ لسهولةِ تأتِّيها بالنسبةِ إلى قُدرتِه تعالى بعد بيانِ صعوبةِ منالها بالنظرِ إلى قدرتِهم أي قدَر الله عليها واستولَى وأظهركُم عليها وقيل: حفظَها لكُم ومنعها من غيرِكم هذا وقد قيلَ: إنَّ أُخرى منصوبٌ بمضمرٍ يُفسرِه قد أحاطَ الله بَها أي وقضى الله أُخرى ولا ريبَ في أن الإخبارَ بقضاءِ الله إيَّاها بعد اندراجِها في جُملةِ المغانمِ الموعودةِ بقوله تعالى: {وَعَدَكُمُ الله مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} ليس فيه مزيدُ فائدةٍ وإنما الفائدةُ في بيانِ تعجيلِها.
{وَكَانَ الله على كُلّ شَىْء قَدِيرًا} لأن قدرتَهُ تعالى ذاتيةٌ لا تختصُّ بشيءٍ دونَ شيءٍ.
{وَلَوْ قاتلكم الذين كفَرُواْ} أي أهلُ مكةَ ولم يُصالِحوكُم، وقيلَ: حلفاءُ خيبرَ {لَوَلَّوُاْ الأدبار} مُنهزمينَ {ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيًّا} يحرسُهم {وَلاَ نَصِيرًا} ينصرُهم {سُنَّةَ الله التي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ} أي سنَّ الله غلبةَ أنبيائِه سنةً قديمةً فيمَنْ مَضَى منَ الأممِ.
{وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلًا} أي تغييرًا {وَهُوَ الذي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ} أي أيديَ كُفارِ مكةَ {عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ} أي في داخلِها {مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} وذلكَ (أنَّ عكرمةَ بنَ أبي جهلٍ خرجَ في خمسائةٍ إلى الحديبيةِ فبعثَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خالدَ بنَ الوليدِ على جندٍ فهزَمَهُم حتى أدخلَهُم حيطانَ مكةَ ثم عادَ) وقيلَ: كانَ يومَ الفتحِ وبه استشهدَ أبو حنيفةَ على أنَّ مكةَ فتحتْ عنوةً لا صُلحًا.
{وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ} من مقاتَلتهم وهزمِهم أولًا والكفِّ عنهم ثانيًا لتعظيمِ بيتِه الحرامِ. وقرئ بالياءِ.
{بَصِيرًا} فيجازيكُم بذلكَ أو يجازِيهم {هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام والهدى} بالنصبِ عطفًا على الضميرِ المنصوبِ في صدُّوكم. وقرئ بالجرِّ عطفًا على المسجدِ بحذفِ المضافِ أي ونحرِ الهَدْي، وبالرفعِ على معنى وصُدَّ الهَدْيُ، وقوله تعالى: {مَعْكُوفًا} حالٌ من الهَدْي أي محبوسًا.
وقوله تعالى: {أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} بدلُ اشتمالٍ من الهَدْي أو منصوبٌ بنزعِ الخافضِ أي محبوسًا من أنْ يبلغَ مكانَهُ الذي يحلُّ فيهِ نحرُه، وبه استدلَّ أبُو حنيفةَ رحمَهُ الله تعالى على أنَّ المُحَصَر مَحِلُّ هديهِ الحرمُ، قالوا بعضُ الحديبيةِ منَ الحرمِ. ورَويَ أنَّ خيامَهُ صلى الله عليه وسلم كانت في الحلِّ ومصلاَّهُ في الحرمِ. وهناكَ نحرتْ هداياهُ صلى الله عليه وسلم والمرادُ صدُّها عن محلَّها المعهودِ الذي هُو مِنىً.
{وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مؤمنات لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ} لم تعرفُوهم بأعيانِهم لاختلاطِهم وهو صفةٌ لرجالٌ ونساءٌ. وقوله تعالى: {أَن تَطَئُوهُمْ} أي تُوقعوا بهم وتُهلِكوهُم بدلُ اشتمالٍ منهُم أو من الضميرِ المنصوبِ في تعلمُوهم {فَتُصِيبَكمْ مّنْهُمْ} أي من جهتِهم {مَّعَرَّةٌ} أي مشقةٌ ومكروهٌ كوجوبِ الديةِ أو الكفارةِ بقتلِهم والتأسفِ عليهم وتعييرِ الكفارِ وسوءِ قالتِهم والإثمِ بالتقصيرِ في البحثِ عنهم وهي مَفْعَلةٌ من عَرَّهْ إذا عَرَاهُ ودَهَاهُ ما يكرهُهُ.
{بِغَيْرِ عِلْمٍ} متعلقٌ بأنْ تطؤهم أي غيرَ عالمينَ بهم وجوابُ لَولا محذوفٌ لدلالةِ الكلامِ عليهِ، والمَعْنى لولا كراهةُ أن تُهلكُوا ناسًا مؤمنينَ بين الكافرينَ غبرَ عالمينَ بهم فيصيبَكُم بذلكَ مكروهٌ لَمَا كفَّ أيديَكُم عنْهم. وقوله تعالى: {لّيُدْخِلَ الله في رَحْمَتِهِ} متعلقٌ بما يدلُّ عليهِ الجوابُ المحذوفُ كأنَّه قيل عَقِيبَهُ لكن كفَّها عنهُم ليُدخلَ بذلك الكفِّ المؤدِّي إلى الفتحِ بلا محذورٍ في رحمتِه الواسعةِ بقسميَها.
{مَن يَشَاء} وهم المؤمنونَ فإنَّهم كانُوا خارحينَ من الرحمةِ الدنيويةِ التي منْ جُمْلتِها الأمنُ مستضعفينَ تحت أيدِي الكفرةِ، وأما الرحمةُ الأخرويةُ فهم وإن كانُوا غيرَ محرومينَ منها بالمرةِ لكنهم كانُوا قاصرينَ في إقامةِ مراسمِ العبادةِ كما ينبغي فتوفيقُهم لإقامتِها على الوجهِ الأتمِّ إدخالٌ لهم في الرحمةِ الأخرويةِ وقد جُوِّزَ أنْ يكونَ من يشاءُ عبارةً عمنْ رغبَ في الإسلامِ من المشركينَ ويأباهُ قوله تعالى: {لَوْ تَزَيَّلُواْ} الخ فإن فرضَ التنزيلِ وترتيبَ التعذيبِ عليه يقتضي تحققَ المباينةِ بين الفريقينِ بالإيمانِ والكفرِ قبلَ التزيلِ حتمًا أي لو تفرقُوا وتميَّز بعضُهم من بعضٍ. وقرئ {لو تزايلُوا} {لَعَذَّبْنَا الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} بقتلِ مقاتِلِتهم وسبيِ ذرارِيهم. والجملةُ مُستأنفةٌ مقررةٌ لما قبلَها.
{إِذْ جَعَلَ الذين كَفَرُواْ} منصوبٌ باذكُرْ على المفعوليةِ، أو بعذَّبنَا على الظرفيةِ، وقيلَ: بمضمرٍ هو أحسنَ الله إليكم وأيًا ما كان فوضعُ الموصولِ موضعَ ضميرِهم لذمِّهم بما في حيزِ الصلةِ وتعليلِ الحكمِ بهِ. والجعلُ إمَّا بمعنى الإلقاءِ فقوله تعالى: {فِى قُلُوبِهِمُ الحمية} أي الأنفةَ والتكبرَ متعلقٌ بهِ أو بمعنى التصييرِ فهوُ متعلقٌ بمحذوفٍ هو مفعولٌ ثانٍ له أي جعلُوها ثابتةً راسخةً في قلوبِهم {حَمِيَّةَ الجاهلية} بدلٌ من الحميةَ أي حميةٍ الملَّةِ الجاهليةِ أو الحميةَ الناشئةَ من الجاهليةِ. وقوله تعالى: {فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ وَعَلَى المؤمنين} على الأولِ عطف على جعلَ والمرادُ تذكيرُ حسنِ صنيعِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم والمؤمنينَ بتوفيقِ الله تعالى وسوءِ صنيعِ الكفرةِ وعلى الثَّانِي على ما يدلُّ عليهِ الجملةُ الامتناعيةُ كأنَّه قيلَ: لم يتزيّلوا فلمْ نعذبْ فأنزلَ إلخ. وعلى الثالثِ على المضمرِ تفسيرٌ له. والسكينةُ الثباتُ والوقارُ. يُروى أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لما نزلَ الحديبيةَ بعثتْ قريشٌ سهيلَ بْنَ عمروٍ القُرشيَّ وحُويطبَ بنَ عبدِ العُزَّى ومكرزَ بنَ حفصِ بنِ الأحنفِ على أنْ يعرضُوا على النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنْ يرجعَ من عامهِ ذلكَ عَلى أنْ تخليَ له قريشٌ مكةَ من العامِ القابلِ ثلاثةَ أيامٍ ففعلَ ذلكَ وكتبُوا بينهم كتابًا فقال عليه الصلاةُ والسلامُ لعليَ رضيَ الله عنْهُ اكتبْ بسمِ الله الرَّحمنِ الرَّحيمِ فقالوا ما نعرفُ ما هَذَا اكتبْ باسمِك اللَّهم ثم قال اكتبُ هذا ما صالحَ عليه رسولُ الله أهلَ مكةَ فقالوا لو كُنَّا نعلمُ أنَّك رسولُ الله ما صددناكَ عن البيتِ وما قاتلناكَ اكتُبْ هَذا ما صالحَ عليه محمدُ بن عبدِ اللَّهِ أهلَ مكةَ فقال صلى الله عليه وسلم اكتُبْ ما يُريدونَ فهمَّ المؤمنونَ أن يأْبَوا ذلكَ ويبطشُوا بهم فأنزلَ الله السكينةَ عليهم فتوقَّروا وحَلِمُوا.