فصل: قال الثعالبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أراد من ناحية أمّ أَوْفَى دِمْنَةٌ، أم من منازلها دِمْنَة.
وقال الآخر:
أخُو رغائبَ يعطيها ويسألها ** يأبَى الظُّلامةَ منه النَّوْفَلُ الزُّفَرُ

ف (من) لم تُبَعِّض شيئًا، إذ كان المقصد يأبى الظلامة لأنه نَوْفَلٌ زُفَرُ.
والنَّوْفَل: الكثير العطاء.
والزُّفَر: حامل الأثقال والمؤن عن الناس.
الخامسة روى أبو عروة الزبيريّ من ولد الزبير: كنا عند مالك بن أنس، فذكروا رجلًا ينتقص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ مالك هذه الآية {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ} حتى بلغ {يُعْجِبُ الزراع لِيَغِيظَ بِهِمُ الكفار}.
فقال مالك: مَن أصبح من الناس في قلبه غيظ على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية؛ ذكره الخطيب أبو بكر.
قلت: لقد أحسن مالك في مقالته وأصاب في تأويله.
فمن نقص واحدًا منهم أو طعن عليه في روايته فقد ردّ على الله رَبِّ العالمين، وأبطل شرائع المسلمين؛ قال الله تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكفار} الآية.
وقال: {لَّقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المؤمنين إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشجرة} [الفتح: 18] إلى غير ذلك من الآي التي تضمنت الثناء عليهم، والشهادةَ لهم بالصدق والفلاح؛ قال الله تعالى: {رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ الله عَلَيْهِ} [الأحزاب: 3 2].
وقال: {لِلْفُقراءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ الله وَرِضْوَانًا إلى قوله أولئك هُمُ الصادقون} [الحشر: 8]، ثم قال عز من قائل: {والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان مِن قَبْلِهِمْ إلى قوله فأولئك هُمُ المفلحون} [الحشر: 9].
وهذا كله مع علمه تبارك وتعالى بحالهم ومآل أمرهم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُ الناسِ قَرْنِي ثم الذين يلونهم» وقال: «لا تَسُبُّوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أُحُدٍ ذهبًا لم يدرك مُدَّ أحدهم ولا نَصِيفه» خرجهما البخاري.
وفي حديث آخر: «فلو أن أحدكم أنفق ما في الأرض لم يدرك مُدّ أحدهم ولا نَصيفه» قال أبو عبيد: معناه لم يدرك مدّ أحدهم إذا تصدق به ولا نصف المد؛ فالنصيف هو النصف هنا.
وكذلك يقال لللعُشْر عَشِير، وللخُمس خميس، وللتسع تَسيع، وللثّمن ثَمين، وللسّبع سَبيع، وللسّدس سَدِيس، وللرّبع رَبيع.
ولم تقل العرب للثلث ثليث.
وفي البَزّار عن جابر مرفوعًا صحيحًا: «إن الله اختار أصحابي على العالمين سِوى النبيّين والمرسلين واختار لي من أصحابي أربعة يعني أبا بكر وعمر وعثمان وعليًا فجعلهم أصحابي» وقال: «في أصحابي كلِّهم خير» وروى عُوَيم بن ساعدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عزّ وجل اختارني واختار لي أصحابي فجعل لي منهم وزراء وأختانًا وأصهارًا فمن سَبَّهم فعليه لعنة الله والملائكة والناسِ أجمعين ولا يقبل الله منه يوم القيامة صَرْفًا ولا عَدْلًا» والأحاديث بهذا المعنى كثيرة، فَحذَارِ من الوقوع في أحد منهم، كما فعل مَن طعن في الدين فقال: إن الْمُعَوِّذَتَيْن ليستا من القرآن، وما صحّ حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تثبيتهما ودخولهما في جملة التنزيل إلا عن عقبة بن عامر، وعقبة بن عامر ضعيف لم يوافقه غيره عليها، فروايته مطّرحة.
وهذا ردّ لما ذكرناه من الكتاب والسنّة، وإبطال لما نقلته لنا الصحابة من المِلّة.
فإن عقبة بن عامر بن عيسى الجُهَني ممن روى لنا الشريعة في الصحيحين البخاري ومسلم وغيرهما، فهو ممن مدحهم الله ووصفهم وأثنى عليهم ووعدهم مغفرة وأجرًا عظيمًا.
فمن نسبه أو واحدًا من الصحابة إلى كذب فهو خارج عن الشريعة، مبطل للقرآن طاعن على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومتى ألحِق واحد منهم تكذيبًا فقد سُبّ؛ لأنه لا عار ولا عَيْب بعد الكفر بالله أعظمُ من الكذب، وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من سَبّ أصحابه؛ فالمكذّب لأصغرهم ولا صغير فيهم داخلٌ في لعنة الله التي شهد بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وألزمها كلّ مَن سب واحدًا من أصحابه أو طعن عليه.
وعن عمر بن حبيب قال: حضرت مجلس هارون الرشيد فجرت مسألة تنازعها الحضور وعلت أصواتهم؛ فاحتج بعضهم بحديث يرويه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فرفع بعضهم الحديث وزادت المدافعة والخصام حتى قال قائلون منهم: لا يُقبل هذا الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن أبا هريرة مُتَّهَم فيما يرويه، وصَرّحوا بتكذيبه، ورأيت الرشيد قد نحا نحوهم ونَصَر قولهم فقلت أنا: الحديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو هريرة صحيح النقل صدوق فيما يرويه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وغيره؛ فنظر إليّ الرشيد نظر مُغْضِب، وقمت من المجلس فانصرفت إلى منزلي، فلم ألبث حتى قيل: صاحب البريد بالباب، فدخل فقال لي: أجب أمير المؤمنين إجابة مقتول، وتحنّط وتكفّن! فقلت: اللَّهُم إنك تعلم أني دفعت عن صاحب نبيّك، وأجللت نبيّك أن يطعن على أصحابه، فَسلِّمني منه.
فأدخلت على الرشيد وهو جالس على كرسي من ذهب، حاسر عن ذراعيه؛ بيده السيف وبين يديه النِّطْع؛ فلما بَصُرَ بي قال لي: يا عمر بن حبيب ما تلقّاني (أحد) من الرد والدفع (لقولي بمثل) ما تلقّيتني به! فقلت: يا أمير المؤمنين، إن الذي قلتَه وجادلت عنه فيه ازدراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم (وعلى ما جاء به)؛ إذا كان أصحابه كذابين فالشريعة باطلة، والفرائض والأحكام في الصيام والصلاة والطلاق والنكاح والحدود كلّه مردود غير مقبول! فرجع إلى نفسه ثم قال: أحييتني يا عمر بن حبيب أحياك الله؛ وأمر لي بعشرة آلاف درهم.
قلت: فالصحابة كلّهم عدول، أولياء الله تعالى وأصفياؤه، وخِيرته من خلقه بعد أنبيائه ورسله.
هذا مذهب أهل السنة، والذي عليه الجماعة من أئمة هذه الأمة.
وقد ذهبت شِرذمة لا مبالاة بهم إلى أن حال الصحابة كحال غيرهم، فيلزم البحث عن عدالتهم.
ومنهم من فرق بين حالهم في بُداءة الأمر فقال: إنهم كانوا على العدالة إذ ذاك؛ ثم تغيّرت بهم الأحوال فظهرت فيهم الحروب وسفك الدماء؛ فلا بُدّ من البحث.
وهذا مردود؛ فإن خيار الصحابة وفضلاءهم كعليّ وطلحة والزبير وغيرهم رضي الله عنهم ممن أثنى الله عليهم وزكّاهم ورضي عنهم وأرضاهم ووعدهم الجنة بقوله تعالى: {مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}.
وخاصة العشرة المقطوع لهم بالجنة بإخبار الرسول هم القدوة مع علمهم بكثير من الفتن والأمور الجارية عليهم بعد نبيّهم بإخبارهم لهم بذلك.
وذلك غير مسقط من مرتبتهم وفضلهم، إذ كانت تلك الأمور مبنية على الاجتهاد، وكل مجتهد مصيب.
وسيأتي الكلام في تلك الأمور في سورة (الحجرات) مبيّنة إن شاء الله تعالى. اهـ.

.قال الثعالبي:

وقوله تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله}.
قال جمهور الناس: هو ابتداء وخبر، استوفى فيه تعظيمَ منزلة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: {والذين مَعَهُ} ابتداء، وخبره: {أَشِدَّاءُ} و{رُحَمَاءُ} خبر ثانٍ، وهذا هو الراجح؛ لأَنَّهُ خبر مضاد لقول الكفار: (لا تكتب مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ)، {والذين مَعَهُ} إشارة إلى جميع الصحابة عند الجمهور، وحكى الثعلبيُّ عن ابن عباس أَنَّ الإشارة إلى مَنْ شَهِدَ الحديبية.
ت: ووصف تعالى الصحابة بأَنَّهُمْ رحماء بينهم، وقد جاءت أحاديثُ صحيحةٌ في تراحم المؤمنين؛ حدثنا الشيخ وليُّ الدين العراقيُّ بسنده عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاصي أَنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرحمن؛ ارْحَمُوا مَنْ في الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ» وأخرج الترمذيُّ من طريق أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال: «لاَ تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إلاَّ مِنْ قَلْبٍ شَقِيٍّ» وخَرَّجَ عن جرير بن عبد اللَّه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «مَنْ لاَ يَرْحَمِ النَّاسَ، لاَ يَرْحَمْهُ اللَّهُ» قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وهذا الحديث خَرَّجه مسلم عن جرير، وخَرَّجَ مسلم أيضًا من طريق أبي هريرةَ: «مَنْ لاَ يَرْحَمْ لاَ يُرْحَمْ» انتهى، وبالجملة: فأسباب الألفة والتراحم بين المؤمنين كثيرةٌ، ولو بأَنْ تَلْقَى أخاك بوجه طَلْقٍ، وكذلك بَذْلُ السلام وَطيِّبُ الكلام، فالمُوَفَّقُ لا يحتقر من المعروف شيئًا، وقد روى الترمذي الحكيم في كتاب «ختم الأولياء» له بسنده عن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه قال: سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: «إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ كَان أَحَبَّهُمَا إلَى اللَّهِ سبحانه أَحْسَنُهُمَا بِشْرًا بِصَاحِبِهِ» أوْ قال: «أَكْثَرُهُمَا بِشْرًا بِصَاحِبِهِ، فَإذَا تَصَافَحَا، أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا مِائَةَ رَحْمَةٍ، تِسْعُونَ مِنْهَا لِلَّذِي بَدَأَ، وَعَشَرَةٌ لِلَّذِي صُوفِحَ» انتهى.
وقوله: {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} أي: ترى هاتين الحالتين كثيرًا فيهم و{يَبْتَغُونَ}: معناه: يطلبون.
وقوله سبحانه: {سيماهم في وُجُوهِهِمْ} قال مالك بن أنس: كانت جِبَاهُهُم مَتْرِبَةً من كثرة السجود في التراب؛ وقاله عِكْرِمَةُ، ونحوه لأبي العالية، وقال ابن عباس وخالد الحنفي وعطية: هو وعد بحالهم يومَ القيامة من اللَّه تعالى، يجعل لهم نورًا من أَثر السجود، قال ع: كما يجعل غُرَّةً من أثر الوضوء، حسبما هو في الحديث، ويؤيد هذا التأويلَ اتصالُ القول بقوله: «فَضْلًا مِنَ اللَّهِ» وقال ابن عباس: السَّمْتُ الحَسَنُ هو السيما، وهو خشوع يبدو على الوجه، قال ع: وهذه حالةُ مُكْثِرِي الصلاةَ؛ لأَنَّها تنهاهم عن الفحشاء والمنكر، وقال الحسن بن أبي الحسن، وشِمْرُ بن عَطِيَّةَ: (السيما): بَيَاضٌ وصُفْرَةٌ وتَبْهِيجٌ يعتري الوجوهَ من السَّهَرِ، وقال عطاء بن أبي رباح، والربيع بن أنس: (السِّيمَا): حُسْنٌ يعتري وُجُوهَ المُصَلِّينَ، قال ع: ومن هذا الحديث الذي في (الشِّهاب): «مَنْ كَثُرَتْ صَلاَتُهُ بِاللَّيْلِ حَسُنَ وَجْهُهُ بِالنَّهَارِ» قال ع: وهذا حديث غَلِطَ فيه ثابت بن موسى الزاهد، سَمِعَ شَرِيكَ بنَ عبد اللَّه يقول: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عن أبي سفيانِ، عن جابر، ثم نزع شريك لما رأى ثابتًا الزاهد فقال يعنيه: مَنْ كَثُرَتْ صَلاَتُهُ بِاللَّيْلِ، حَسُنَ وَجْهُهُ بِالنَّهَارِ، فَظَنَّ ثابت أَنَّ هذا الكلام حديث متركِّب على السند المذكور، فَحَدَّثَ به عن شريك.
ت: واعلم أَنَّ اللَّه سبحانه جعل حُسْنَ الثناء علامةً على حسن عُقْبَى الدار، والكون في الجنة مع الأبرار، جاء بذلك صحيح الآثار عن النبي المختار؛ ففي (صحيح البخاري) (ومسلم) عن أنس قال: «مَرُّوا بِجَنَازَةٍ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا، فَقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: وَجَبَتْ، ثُمَّ مَرُّوا بأخرى فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا، فَقال: وَجَبَتْ، فَقال عُمَرُ: مَا وَجَبَتْ؟ فَقال: هَذا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا فَوَجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ، وَهَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ في الأَرْضِ»، انتهى، ونقل صاحب «الكوكب الدُّرِّيِّ» من مسند البَزَّارِ عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّه قال: «يُوشِكُ أَنْ تَعْرِفُوا أَهْلَ الجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَقالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بِمَ؟ قال: بالثَّنَاءِ الحَسَنِ وَالثَّنَاءِ السَّيِّىءِ»، انتهى، ونقله صاحب كتاب «التشوُّف إلى رجال التصوُّف» وهو الشيخ الصالح أبو يعقوب يوسف بن يحيى التالي، عن ابن أبي شيبةَ، ولفظه: وخَرَّجَ أبو بكر بن أبي شيبةَ أَنَّهُ قال صلى الله عليه وسلم في خُطْبَتِهِ: «تُوشِكُوا أَنْ تَعْرِفُوا أَهْلَ الجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، أَوْ قال: خِيَارَكُمْ مِنْ شِرَارِكُمْ، قالوا: بِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قال: بِالثَّنَاءِ الحَسَنِ، وَبِالثَّنَاءِ السَّيِّىءِ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ» ومن كتاب (التشوُّف) قال: وخَرَّجَ البزَّارُ عن أنس قال: «قيل: يا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَهْلُ الجَنَّةِ؟ قال: مَنْ لاَ يَمُوتُ حتى تُمْلأَ مَسَامِعُهُ مِمَّا يُحِبُّهُ، قِيلَ: فَمَنْ أَهْلُ النَّارِ؟ قال: مَنْ لاَ يَمُوتُ حَتَّى تُمْلأَ مَسَامِعُهُ مِمَّا يَكْرَهُ»
قال: وخَرَّج البَزَّارُ عن أبي هريرةَ «أَنَّ رجلًا قال: يا رَسُولَ اللَّهِ، دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ أَدْخُلُ بِهِ الجَنَّةَ، قال: لاَ تَغْضَبْ، وَأَتَاهُ آخَرُ، فَقال: متى أَعْلَمُ أَنِّي مُحْسِنٌ؟ قال: إذَا قال جِيرَانُكَ: إنَّكَ مُحْسِنٌ، فَإنَّكَ مُحْسِنٌ، وَإذَا قالوا: إنَّكَ مُسِيءٌ، فَإنَّكَ مُسِيءٌ» انتهى، ونقل القرطبي في (تذكرته) عن عبد اللَّه بن السائب قال: مَرَّتْ جنازةٌ بابن مسعود فقال لرجُلٍ: قُمْ فانظرْ أَمِنْ أهل الجنَّةِ هُوَ أَمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فقال الرجل: ما يُدْرِينِي أمِنْ أهل الجنة هو أَمْ مِنْ أهل النار؟ قال: انظر ما ثَنَاءُ الناسِ عليه، فأنتم شهداءُ اللَّه في الأرض، انتهى وباللَّه التوفيق، وإياه نستعين.
وقوله سبحانه: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ في التوراة} الآية: قال مجاهد وجماعة من المتأولين: المعنى: ذلك الوصف هو مَثَلُهُمْ في التوراة ومثلهم في الإنجيل، وتم القول، و{كَزَرْعٍ} ابتداءُ تمثيل، وقال الطبريُّ وحكاه عن الضَّحَّاك: المعنى: ذلك الوصف هو مثلهم في التوراة، وتَمَّ القول، ثم ابتدأ {وَمَثَلُهُمْ في الإنجيل كَزَرْعٍ}.
ت: وقيل غير هذا، وأبينها الأَوَّلُ، وما عداه يفتقر إلى سند يقطع الشكِ.
وقوله تعالى: {كَزَرْعٍ} على كل قول هو مَثَلٌ للنبيِّ عليه السلام وأصحابِهِ في أَنَّ النبي عليه السلام بُعِثَ وَحْدَهُ فكان كالزرع حَبَّةً واحدة، ثم كَثُرَ المسلمون فهم كالشطء، وهو فراخ السُّنْبُلَةِ التي تنبت حول الأصل؛ يقال: أشطأتِ الشجرةُ: إذا أخرجت غُصُونَها، وأشطأ الزرع: إذا أخرج شطأه، وحكى النقاش عن ابن عباس أَنَّهُ قال: الزَّرْعُ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، {فَازَرَهُ}: عليُّ بن أبي طالب، {فاستغلظ} بأبي بكر، {فاستوى على سُوقِهِ} بعمر بن الخطاب.
ت: وهذا لَيِّنُ الإسناد والمتن، كما ترى، واللَّه أعلم بِصِحَّتِهِ.
وقوله تعالى: {فَآزَرَهُ} له معنيان:
أحدهما: ساواه طولًا.
والثَّاني: أنَّ: (آزره) و(وَازَرَهُ) بِمعنى: أعانه وَقَوَّاهُ؛ مأخوذٌ من الأَزَرِ، وفَاعِلُ (آزر) يحتملُ أنْ يكون الشَّطْءَ، ويحتمل أَنْ يكون الزَّرْعَ.
وقوله تعالى: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الكفار} ابتداء كلام قبله محذوف، تقديره: جعلهم اللَّه بهذه الصفة؛ ليغيظ بهم الكفار، قال الحسن: مِنْ غَيْظِ الكُفَّارِ قول عُمَرَ بِمَكَّةَ: لاَ يُعْبَدُ اللَّهُ سِرًّا بَعْدَ الْيَوْمِ.
وقوله تعالى: {مِنْهُمْ} هي لبيان الجنس، وليست للتبعيض؛ لأَنَّه وعد مرجٍ للجميع. اهـ.

.قال الألوسي:

{مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله} أي هو أو ذلك الرسول المرسل بالهدي ودين الحق محمد على أن الاسم الشريف خبر مبتدأ محذوف و{رَسُولِ الله} عطف بيان أو نعت أو بدل، والجملة استئناف مبين لقوله تعالى: {هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ} [الفتح: 28] وهذا هو الوجه الأرجح الأنسب بالمساق كما في الكشف ويؤيده نظرًا إلى بعض ما يأتي من الأوجه إن شاء الله تعالى قراءة ابن عامر في رواية {رَّسُولٍ} بالنصب على المدح، وقوله تعالى: {والذين مَعَهُ} مبتدأ خبره قوله سبحانه: {أَشِدَّاء عَلَى الكفار رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} وقال أبو حيان: الظاهر أن {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله} مبتدأ وخبر والجملة عليه مبنية للمشهود به، أما على كونه الرسالة فظاهر، وأما على كونه محقق الوعد فقيل: لأن كينونة ما وعده لازمة لكونه عليه الصلاة والسلام رسول الله إذ هو لا يوعد إلا بما هو محقق ولا يخبر إلا عن كل صدق.
وجوز كون {مُحَمَّدٌ} مبتدأ و{رَّسُولٍ} تابعًا له {والذين مَعَهُ} عطفًا عليه والخبر عنه وعنهم قوله تعالى: {أَشِدَّاء} الخ.
وقرأ الحسن {أَشِدَّاء رُحَمَاء} بنصبهما فقيل على المدح وقيل على الحال، والعامل فيهما العامل في {مَعَهُ} فيكون الخبر على هذا الوجه جملة {تَرَاهُمْ} الآتي وكذا خبر {الذين} على الوجه الأول، والمراد بالذين معه عند ابن عباس من شهد الحديبية، وقال الجمهور: جميع أصحابه صلى الله عليه وسلم ورضي الله تعالى عنهم.