فصل: (سورة الفتح: آية 20):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقيل: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا في أصل الشجرة وعلى ظهره غصن من أغصانها. قال عبد الله بن المغفل: وكنت قائماً على رأسه وبيدي غصن من الشجرة أذب عنه، فرفعت الغصن عن ظهره فبايعوه على الموت دونه، وعلى أن لا يفروا، فقال لهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «أنتم اليوم خير أهل الأرض» وكان عدد المبايعين ألفا وخمسمائة وخمسة وعشرين وقيل: ألفا وأربعمائة. وقيل: ألفا وثلاثمائة {فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ} من الإخلاص وصدق الضمائر فيما بايعوا عليه {فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ} أي: الطمأنينة والأمن بسبب الصلح على قلوبهم {وَأَثابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} وقرئ: {وآتاهم} وهو فتح خيبر غب انصرافهم من مكة. وعن الحسن: فتح هجر، وهو أجلّ فتح: اتسعوا بثمرها زمانا {مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها} هي مغانم خيبر، وكانت أرضا ذات عقار وأموال، فقسمها رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وآله وسلم عليهم، ثم أتاه عثمان بالصلح فصالحهم وانصرف بعد أن نحر بالحديبية وحلق.

.[سورة الفتح: آية 20]:

{وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطًا مُسْتَقِيمًا (20)}.
{وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً} وهي ما يفيء على المؤمنين إلى يوم القيامة {فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ} المغانم يعنى مغانم خيبر {وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ} يعنى أيدى أهل خيبر وحلفاؤهم من أسد وغطفان حين جاءوا لنصرتهم، فقذف اللّه في قلوبهم الرعب فنكصوا. وقيل: أيدى أهل مكة بالصلح {وَلِتَكُونَ} هذه الكفة {آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} وعبرة يعرفون بها أنهم من اللّه تعالى بمكان، وأنه ضامن نصرهم والفتح عليهم. وقيل: رأى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فتح مكة في منامه، ورؤيا الأنبياء صلوات اللّه عليهم وحى، فتأخر ذلك إلى السنة القابلة، فجعل فتح خيبر علامة وعنوانا لفتح مكة {وَيَهْدِيَكُمْ صِراطًا مُسْتَقِيمًا} ويزيدكم بصيرة ويقينا، وثقة بفضل اللّه.

.[سورة الفتح: آية 21]:

{وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21)}.
{وَأُخْرى} معطوفة على هذه، أي: فعجل لكم هذه المغانم ومغانم أخرى {لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها} وهي مغانم هوازن في غزوة حنين، وقال: لم تقدروا عليها لما كان فيها من الجولة {قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها} أي قدر عليها واستولى وأظهركم عليها وغنمكموها. ويجوز في أُخْرى النصب بفعل مضمر، يفسره {قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها} تقديره: وقضى اللّه أخرى قد أحاط بها. وأما {لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها} فصفة لأخرى، والرفع على الابتداء لكونها موصوفة بلم تقدروا، و{قد أحاط اللّه بها}: خبر المبتدإ، والجرّ بإضمار رب. فإن قلت: قوله تعالى: {وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} كيف موقعه؟ قلت: هو كلام معترض. ومعناه: ولتكون الكفة آية للمؤمنين فعل ذلك.
ويجوز أن يكون المعنى: وعدكم المغانم، فعجل هذه الغنيمة وكف الأعداء لينفعكم بها، ولتكون آية للمؤمنين إذا وجدوا وعد اللّه بها صادقا، لأنّ صدق الإخبار عن الغيوب معجزة وآية، ويزيدكم بذلك هداية وإيقانا.

.[سورة الفتح: الآيات 22- 23]:

{وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23)}.
{وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} من أهل مكة ولم يصالحوا. وقيل: من حلفاء أهل خيبر لغلبوا وانهزموا {سُنَّةَ اللَّهِ} في موضع المصدر المؤكد، أي: سن اللّه غلبة أنبيائه سنه، وهو قوله تعالى: {لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي}.

.[سورة الفتح: آية 24]:

{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24)}.
{أَيْدِيَهُمْ} أيدى أهل مكة، أي: قضى بينهم وبينكم المكافة والمحاجزة بعد ما خولكم الظفر عليهم والغلبة، وذلك يوم الفتح. وبه استشهد أبو حنيفة رحمه اللّه، على أنّ مكة فتحت عنوة لا صلحا. وقيل: كان ذلك في غزوة الحديبية لما روى أنّ عكرمة بن أبى جهل خرج في خمسمائة، فبعث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من هزمه وأدخله حيطان مكة.
وعن ابن عباس رضي الله عنه: أظهر اللّه المسلمين عليهم بالحجارة حتى أدخلوهم البيوت.
وقرئ: {تعملون}، بالتاء والياء.

.[سورة الفتح: آية 25]:

{هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابًا أَلِيمًا (25)}.
وقرئ: {والهدى}، {والهدى}: بتخفيف الياء وتشديدها، وهو ما يهدى إلى الكعبة: بالنصب عطفا على الضمير المنصوب في {صدّوكم}. أي: صدّوكم وصدّوا الهدى وبالجر عطفا على المسجد الحرام. بمعنى: وصدّوكم عن نحر الهدى {مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} محبوسا عن أن يباع، وبالرفع على: وصدّ الهدى. و{محله}: مكانه الذي يحل فيه نحره، أي يجب. وهذا دليل لأبى حنيفة على أن المحصر محل هديه الحرم. فإن قلت: فكيف حل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ومن معه وإنما نحر هديهم بالحديبية؟ قلت: بعض الحديبية من الحرم. وروى أن مضارب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كانت في الحل، ومصلاه في الحرم.
فإن قلت: فإذن قد نحر في الحرم، فلم قيل: {مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} قلت: المراد المحل المعهود وهو منى {لَمْ تَعْلَمُوهُمْ} صفة الرجال والنساء جميعا. و{أَنْ تَطَؤُهُمْ} بدل اشتمال منهم أو من الضمير المنصوب في تعلموهم. والمعرة: مفعلة، من عره بمعنى عراه إذا دهاه ما يكره ويشق عليه.
و{بِغَيْرِ عِلْمٍ} متعلق بأن تطؤهم، يعنى: أن تطئوهم غير عالمين بهم. والوطء والدوس: عبارة عن الإيقاع والإبادة. قال:
ووطئتنا وطأ على حنق ** وطأ المقيّد نابت الهرم

وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «و أن آخر وطأة وطئها اللّه بوج» والمعنى: أنه كان بمكة قوم من المسلمين مختلطون بالمشركين غير متميزين منهم ولا معروفى الأماكن فقيل:
ولولا كراهة أن تهلكوا ناسا مؤمنين بين ظهراني المشركين وأنتم غير عارفين بهم، فتصيبكم بإهلاكهم مكروه ومشقة: لما كف أيديكم عنهم، وحذف جواب (لولا) لدلالة الكلام عليه. ويجوز أن يكون {لَوْ تَزَيَّلُوا} كالتكرير للولا رجال مؤمنون، لمرجعهما إلى معنى واحد، ويكون {لَعَذَّبْنَا} هو الجواب. فإن قلت: أي معرة تصيبهم إذا قتلوهم وهم لا يعلمون. قلت: يصيبهم وجوب الدية والكفارة، وسوء قالة المشركين أنهم فعلوا بأهل دينهم مثل ما فعلوا بنا من غير تمييز، والمأثم إذا جرى منهم بعض التقصير.
فإن قلت: قوله تعالى: {لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ} تعليل لماذا؟
قلت: لما دلت عليه الآية وسيقت له: من كف الأيدى عن أهل مكة، والمنع من قتلهم، صونا لمن بين أظهرهم من المؤمنين، كأنه قال: كان الكف ومنع التعذيب ليدخل اللّه في رحمته، أي: في توفيقه لزيادة الخير والطاعة مؤمنيهم. أو ليدخل في الإسلام من رغب فيه من مشركيهم {لَوْ تَزَيَّلُوا} لو تفرقوا وتميز بعضهم من بعض: من زاله يزيله. وقرئ: {لو تزايلوا}.

.[سورة الفتح: آية 26]:

{إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأنْزل الله سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26)}.
{إِذْ} يجوز أن يعمل فيه ما قبله. أي: لعذبناهم أو صدوهم عن المسجد الحرام في ذلك الوقت، وأن ينتصب بإضمار اذكر. والمراد بحمية الذين كفروا وسكينة المؤمنين- والحمية الأنفة والسكينة الوقار- ما روى «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لما نزل بالحديبية بعثت قريش سهيل بن عمرو القرشي وحويطب بن عبد العزى ومكرز بن حفص بن الأخيف، على أن يعرضوا على النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع من عامه ذلك على أن تخلى له قريش مكة من العام القابل ثلاثة أيام، ففعل ذلك، وكتبوا بينهم كتابا، فقال عليه الصلاة والسلام لعلى رضي الله عنه: اكتب بسم اللّه الرحمن الرحيم، فقال سهيل وأصحابه: ما نعرف هذا، ولكن اكتب: باسمك اللهم، ثم قال: اكتب: هذا ما صالح عليه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أهل مكة. فقالوا: لو كنا نعلم أنك رسول اللّه ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد اللّه أهل مكة، فقال عليه الصلاة والسلام: اكتب ما يريدون، فأنا أشهد أنى رسول اللّه وأنا محمد بن عبد اللّه، فهمّ المسلمون أن يأبوا ذلك ويشمئزوا منه، فأنزل اللّه على رسوله السكينة فتوقروا وحلموا». و{كَلِمَةَ التَّقْوى} بسم اللّه الرحمن الرحيم ومحمد رسول اللّه: قد اختارها اللّه لنبيه وللذين معه أهل الخير ومستحقيه ومن هم أولى بالهداية من غيرهم. وقيل: هي كلمة الشهادة. وعن الحسن رضي الله عنه: كلمة التقوى هي الوفاء بالعهد. ومعنى إضافتها إلى التقوى: أنها سبب التقوى وأساسها. وقيل: كلمة أهل التقوى. وفي مصحف الحرث بن سويد صاحب عبد اللّه: {وكانوا أهلها وأحق بها}، وهو الذي دفن مصحفه أيام الحجاج.

.[سورة الفتح: آية 27]:

{لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27)}.
رأى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قبل خروجه إلى الحديبية كأنه وأصحابه قد دخلوا مكة آمنين وقد حلقوا وقصروا، فقصّ الرؤيا على أصحابه، ففرحوا واستبشروا وحسبوا أنهم داخلوها في عامهم، وقالوا: إن رؤيا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حق، فلما تأخر ذلك قال عبد اللّه بن أبىّ وعبد اللّه بن نفيل ورفاعة بن الحرث: واللّه ما حلقنا ولا قصرنا ولا رأينا المسجد الحرام فنزلت. ومعنى {صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا} صدقه في رؤياه ولم يكذبه- تعالى اللّه عن الكذب وعن كل قبيح علوا كبيرا- فحذف الجارّ وأوصل الفعل، كقوله تعالى: {صدقوا ما عاهدوا اللّه عليه}. فإن قلت: بم تعلق {بِالْحَقِّ} قلت: إمّا بصدق، أي: صدقه فيما رأى، وفي كونه وحصوله صدقا ملتبسا بالحق: أي بالغرض الصحيح والحكمة البالغة، وذلك ما فيه من الابتلاء والتمييز بين المؤمن المخلص، وبين من في قلبه مرض. ويجوز أن يتعلق بالرؤيا حالا منها أي: صدقه الرؤيا ملتبسا بالحق، على معنى أنها لم تكن من أضغاث الأحلام. ويجوز أن يكون {بِالْحَقِّ} قسما: إمّا بالحق الذي هو نقيض الباطل. أو بالحق الذي هو من أسمائه.
و{لَتَدْخُلُنَّ} جوابه. وعلى الأوّل هو جواب قسم محذوف. فإن قلت: ما وجه دخول {إِنْ شاءَ اللَّهُ} في أخبار اللّه عز وجل؟ قلت: فيه وجوه: أن يعلق عدته بالمشيئة تعليما لعباده أن يقولوا في عداتهم مثل ذلك، متأدّبين بأدب اللّه، ومقتدين بسنته، وأن يريد: لتدخلنّ جميعا إن شاء اللّه ولم يمت منكم أحدا، أو كان ذلك على لسان ملك، فأدخل الملك إن شاء اللّه.
أو هي حكاية ما قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لأصحابه وقصّ عليهم. وقيل: هو متعلق بآمنين {فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا} من الحكمة والصواب في تأخير فتح مكة إلى العام القابل.
{فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ} أي من دون فتح مكة {فَتْحًا قَرِيبًا} وهو فتح خيبر، لتستروح إليه قلوب المؤمنين إلى أن يتيسر الفتح الموعود.

.[سورة الفتح: آية 28]:

{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28)}.
{بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ} بدين الإسلام {لِيُظْهِرَهُ} ليعليه {عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} على جنس الدين كله، يريد: الأديان المختلفة من أديان المشركين والجاحدين من أهل الكتاب: ولقد حقق ذلك سبحانه، فإنك لا ترى دينا قط إلا وللإسلام دونه العز والغلبة. وقيل: هو عند نزول عيسى حين لا يبقى على وجه الأرض كافر. وقيل: هو إظهاره بالحجج والآيات. وفي هذه الآية تأكيد لما وعد من الفتح وتوطين لنفوس المؤمنين على أنّ اللّه تعالى سيفتح لهم من البلاد ويقيض لهم من الغلبة على الأقاليم ما يستقلون إليه فتح مكة {وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيدًا} على أنّ ما وعده كائن. وعن الحسن رضي الله عنه: شهد على نفسه أنه سيظهر دينك.

.[سورة الفتح: آية 29]:

{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانًا سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)}.
{مُحَمَّدٌ} إما خبر مبتدإ، أي: هو محمد لتقدّم قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ} وإما مبتدأ، ورسول اللّه: عطف بيان. وعن ابن عامر أنه قرأ: {رسول اللّه}، بالنصب على المدح {وَالَّذِينَ مَعَهُ} أصحابه {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ} جمع شديد ورحيم. ونحوه {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ}، {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}. {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ} وعن الحسن رضي الله عنه: بلغ من تشدّدهم على الكفار: أنهم كانوا يتحرّزون من ثيابهم أن تلزق بثيابهم، ومن أبدانهم أن تمس أبدانهم، وبلغ من ترحمهم فيما بينهم أنه كان لا يرى مؤمن مؤمنا إلا صافحه وعانقه، والمصافحة لم تختلف فيها الفقهاء. وأما المعانقة فقد كرهها أبو حنيفة رحمه اللّه، وكذلك التقبيل.
قال لا أحب أن يقبل الرجل من الرجل وجهه ولا يده ولا شيئا من جسده. وقد رخص أبو يوسف في المعانقة. ومن حق المسلمين في كل زمان أن يراعوا هذا التشدّد وهذا التعطف:
فيتشدّدوا على من ليس على ملتهم ودينهم ويتحاموه، ويعاشروا إخوتهم في الإسلام متعطفين بالبر والصلة. وكف الأذى، والمعونة، والاحتمال، والأخلاق السجيحة. ووجه من قرأ: {أشداء}، و{رحماء} بالنصب: أن ينصبهما على المدح، أو على الحال بالمقدّر في {مَعَهُ}، ويجعل {تَراهُمْ} الخبر {سِيماهُمْ} علامتهم. وقرئ {سيماؤهم}، وفيها ثلاث لغات: هاتان. والسيمياء، والمراد بها السمة التي تحدث في جبهة السجاد من كثرة السجود، وقوله تعالى: {مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} يفسرها، أي: من التأثير الذي يؤثره السجود، وكان كل من العليين: علىّ بن الحسين زين العابدين، وعلىّ بن عبد اللّه بن عباس أبى الأملاك، يقال له: ذو الثفنات، لأنّ كثرة سجودهما أحدثت في مواقعه منهما أشباه ثفنات البعير. وقرئ: {من أثر السجود}، و{من آثار السجود}، وكذا عن سعيد ابن جبير: هي السمة في الوجه. فإن قلت: فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم «لا تعلبوا صوركم» وعن ابن عمر رضي الله عنه أنه رأى رجلا قد أثر في وجهه السجود فقال: إن صورة وجهك أنفك، فلا تعلب وجهك، ولا تشن صورتك. قلت: ذلك إذا اعتمد بجبهته على الأرض لتحدث فيه تلك السمة. وذلك رياء ونفاق يستعاذ باللّه منه، ونحن فيما حدث في جبهة السجاد الذي لا يسجد إلا خالصا لوجه اللّه تعالى. وعن بعض المتقدّمين: كنا نصلى فلا يرى بين أعيننا شيء، ونرى أحدنا الآن يصلى فيرى بين عينيه ركبة البعير، فما ندرى أثقلت الأرؤس أم خشنت الأرض وإنما أراد بذلك من تعمد ذلك للنفاق. وقيل: هو صفرة الوجه من خشية اللّه. وعن الضحاك: ليس بالندب في الوجوه، ولكنه صفرة. وعن سعيد بن المسيب: ندى الطهور وتراب الأرض. وعن عطاء رحمه اللّه: استنارت وجوههم من طول ما صلوا بالليل، كقوله: «من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار» ذلِكَ الوصف {مَثَلُهُمْ} أي وصفهم العجيب الشأن في الكتابين جميعا، ثم ابتدأ فقال: {كَزَرْعٍ} يريد: هم كزرع. وقيل: تم الكلام عند قوله: {ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ} ثم ابتدئ {وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ} ويجوز أن يكون ذلك إشارة مبهمة أوضحت بقوله: {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} كقوله تعالى: {وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ}. وقرئ: {الإنجيل}، بفتح الهمزة {شَطْأَهُ} فراخه. يقال: أشطا الزرع إذا فرخ. وقرئ: {شطأه}، بفتح الطاء. و{شطأه}، بتخفيف الهمزة: و{شطاءه}، بالمدّ. و{شطه}، بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى ما قبلها. و{شطوه}، بقلبها واوا {فَآزَرَهُ} من المؤازرة وهي المعاونة. وعن الأخفش: أنه أفعل. وقرئ: {فأزره} بالتخفيف والتشديد، أي: فشدّ أزره وقوّاه. ومن جعل آزر أفعل، فهو في معنى القراءتين {فَاسْتَغْلَظَ} فصار من الدقة إلى الغلظ {فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ} فاستقام على قصبه جمع ساق.