فصل: من فوائد الجصاص في السورة الكريمة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَكَانُواْ أَحَقَّ بِهَا} حسب سابق حُكْمِه وقديم علمه...
{وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمًا}.
ويقال: الإلزامُ في الآية هو إلزامُ إكرامٍ ولطف، لا الإلزام إكراهٍ وعُنْفٍ؛ وإلزامُ برِّ لا إلزام جبر:
وكم باسطين إلى وَصْلنا ** أكفهمو لم ينالوا نصيبا

ويقال كلمة التقوى: التواصي بينهم بحفظ حق الله.
ويقال: هي أن تكون لك حاجةٌ فتسأل الله ولا تُبديها للناس.
ويقال: هي سؤالك من الله أن يحرُسَك من المطامع.
قوله جلّ ذكره: {لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّءْيَا بِالْحَقِّ لَتَدُخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا}.
أي صدقه في رؤياه ولم يكذبه؛ صدقه فيما أره من دخول مكة {ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} كذلك أراه لما خرج إلى الحديبية وأَخبر أصحابه. فوطَّن أصحابه نفوسهم على دخول مكة في تلك السنة. فلمَّا كان من امر الحديبية عاد إلى قلوب بعض المسلمين شيء، حتى قيل لهم لم يكن في الرؤيا دخولهم في هذا العام، ثم أَذن الله في العام القابل، فأنزل الله: {لَّقَدَ صََدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّءْيَا بِالْحَقِّ} فكان ذلك تحقيقًا لما أراه، فرؤياه صلوات الله حق؛ لأن رؤيا الأنبياء حق.
وكان في ذلك نوعُ امتحانٍ لهم: {فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ} أنتم من الحكمة في التأخير.
وقوله: {إِن شَاءَ اللَّهُ} معناه إذا شاء الله كقوله: {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}.
وقيل قالها على جهة تنبيههم إلى التأدُّب بتقديم المشيئة في خطابهم.
وقيل يرجع تقديم المشيئة إلى: إن شاء الله آمنين أو غير آمنين.
وقيل: يرجع تقديم المشيئة إلى دخول كلِّهم أو دخول بعضهم؛ فإنْ الدخول كان بعد سنة، ومات منهم قومٌ.
قوله جلّ ذكره: {هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا}.
أرسل رسولَه محمدًا صلى الله عليه وسلم بالدين الحنفي، وشريعة الإسلام ليظهره على كل ما هو دين؛ فما من دينٍ لقوم إلا ومنه في أيدي المسلمين سِرُّ؛ وللإسلام العزة والغلبة عليه بالحجج والآيات. وقيل: ليظهره وقت نزول عيسى عليه السلام.
وقيل: في القيامة حيث يظهر الإسلامُ على كل الأديان.
وقيل: ليظهره على الدين كله بالحجة والدليل.
قوله جلّ ذكره: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}.
{أَشِدَّاءُ} جمع شديد، أي فيهم صلابةٌ مع الكفار.
{رُحَمَاءُ} جمع رحيم، وصَفَهَم بالرحمة والتوادِّ فيما بينهم.
{تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا}.
تراهم راكعين ساجدين يطلبون من الله الفضل والرضوان.
{سِيمَاهُمْ في وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ}.
أي علامة التخشع التي على الصالحين.
ويقال: هي في القيامة يوم تَبْيَضُّ وجوهٌ، وأنهم يكونون غدًا محجلين.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من كثرت صلاته بالليل حَسُنَ وجههُ بالنهار»
ويقال في التفسير: {معه} أبو بكر، و{أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} عمر؛ و{رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} عثمان، و{تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} عليُّ رضي الله عنهم.
وقيل: الآيةُ عامةٌ في المؤمنين.
{ذَلِكَ مَثَلُهُمْ في التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ في الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْئَهُ فَئَازَرَهُ فَاسْتَغْلَطَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ}.
هذا مثلهم في التوراة، وأما مثلهم في الإنجيل فكزرع أخرج شطأه أي: فراخه.
يقال: أشطأ الزرعُ إذا أخرج صغاره على جوانبه.
{فَئَازَرَهُ} أي عاونه.
{فَاسْتَغْلَظَ} أي غلظُ واستوى على سوقه؛ وآزرت الصغار الكبار حتى استوى بعضه مع بعض. يعجب هذا الزرعُ الزرَّاع ليغيظ بالمسلمين الكفار؛ شَبَّهَ النبي صلى الله عليه وسلم بالزرع حين تخرج طاقة واحدة ينبت حولها فتشتد، كذلك كان وحده في تقوية دينه بمن حوله من المسلمين.
فمَنْ حمل الآية على الصحابة: فمن أبغضهم دخل في الكفر، لأنه قال: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} أي بأصحابه الكفارَ. ومَنْ حمله على لمسلمين ففيه حُجَّة على الإجماع، لأنَّ من خالف الإجماع- فالله يغايظ به الكفارَ- فمخالفُ الإجماع كافرٌ.
قوله جلّ ذكره: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} وَعد المؤمنين والمؤمنات مغفرة للذنوب، وأجرًا عظيمًا في الجنه فقوله: {منهم} للجنس أو للذين ختم لهم منهم بالإيمان. اهـ.
قال الإمام السبكي:
قال الشَّيْخُ الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} بَعْدَ قوله: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ} الْآيَةُ خَطَرَ لِي فِي أَنَّهُ رَدٌّ {لِقول سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو وَمَنْ مَعَهُ فِي قِصَّةِ الْحُدَيْبِيَةِ لَوْ نَعْلَمُ أَنَّك رَسُولُ اللَّهِ مَا قَاتَلْنَاك} كَأَنَّهُ بِلِسَانِ الْحَالِ يَقول مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم رَسُولُ اللَّهِ بِشَهَادَةِ اللَّهِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ شَهَادَةٍ وَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ، وَبِهَذَا يَتَرَجَّحُ أَنْ يَكُونَ (رَسُولُ اللَّهِ) خَبَرًا وَلَا يَكُونُ صِفَةً وَإِنْ كَانَ الزَّمَخْشَرِيُّ لَمْ يَذْكُرْ هَذَا الْإِعْرَابَ؛ وَإِنَّمَا جَعَلَهُ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ أَوْ مُبْتَدًَا وَمَا بَعْدَهُ عَطْفُ بَيَانٍ انْتَهَى. اهـ.

.من فوائد الجصاص في السورة الكريمة:

قال رحمه الله:
وَمِنْ سُورَةِ الْفَتْحِ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.
قولهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إنَّا فَتَحْنَا لَك فَتْحًا مُبِينًا} رُوِيَ أَنَّهُ أَرَادَ فَتْحَ مَكَّةَ، وَقال قَتَادَةُ: «قَضَيْنَا لَك قَضَاءً مُبِينًا» وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ فَتْحُ مَكَّةَ بِالْغَلَبَةِ وَالْقَهْرِ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ لَا يَتَنَاوَلُهُ الْإِطْلَاقُ، وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ فَتْحَ مَكَّةَ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فَتَحَهَا عَنْوَةً؛ إذْ كَانَ الصُّلْحُ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْفَتْحِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يُعَبَّرُ مُقَيَّدًا؛ لِأَنَّ مَنْ قال: فَتَحَ بَلَدَ كَذَا عُقِلَ بِهِ الْغَلَبَةُ وَالْقَهْرُ دُونَ الصُّلْحِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قولهُ فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ: {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا}.
وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ فَتْحُ مَكَّةَ وَأَنَّهُ دَخَلَهَا عَنْوَةً، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قوله تعالى: {إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} لَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ الْمُرَادَ فَتْحُ مَكَّةَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قوله تعالى: {إنَّا فَتَحْنَا لَك} وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} وَذِكْرُهُ ذَلِكَ فِي سِيَاقِ الْقِصَّةِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى: سُكُونُ النَّفْسِ إلَى الْإِيمَانِ بِالْبَصَائِرِ الَّتِي بِهَا قَاتَلُوا عَنْ دَيْنِ اللَّهِ حَتَّى فَتَحُوا مَكَّةَ.
وقوله تعالى: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنْ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} رُوِيَ أَنَّ الْمُرَادَ فَارِسُ وَالرُّومُ، وَرُوِيَ أَنَّهُمْ بَنُو حَنِيفَةَ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ إمَامَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ؛ لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ دَعَاهُمْ إلَى قِتَالِ بَنِي حَنِيفَةَ وَدَعَاهُمْ عُمَرُ إلَى قِتَالِ فَارِسَ وَالرُّومِ، وَقَدْ أَلْزَمَهُمْ اللَّهُ اتِّبَاعَ طَاعَةِ مَنْ يَدْعُوهُمْ إلَيْهِ بِقولهِ: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمْ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} فَأَوْعَدَهُمْ اللَّهُ عَلَى التَّخَلُّفِ عَمَّنْ دَعَاهُمْ إلَى قِتَالِ هَؤُلَاءِ، فَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ إمَامَتِهِمَا، إذْ كَانَ الْمُتَوَلِّي عَنْ طَاعَتِهِمَا مُسْتَحِقًّا لِلْعِقَابِ فَإِنْ قِيلَ: قَدْ رَوَى قَتَادَةُ أَنَّهُمْ هَوَازِنُ وَثَقِيفٌ يَوْمَ حُنَيْنٍ قِيلَ لَهُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الدَّاعِي لَهُمْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم؛ لِأَنَّهُ قال: {فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِي أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوًّا} وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالدُّعَاءِ لَهُمْ غَيْرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَدْعُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إلَّا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وقوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إذْ يُبَايِعُونَك تَحْتَ الشَّجَرَةِ} فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ إيمَانِ الَّذِينَ بَايَعُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ بِالْحُدَيْبِيَةِ وَصِدْقِ بَصَائِرِهِمْ، فَهُمْ قَوْمٌ بِأَعْيَانِهِمْ قال ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانُوا أَلْفَيْنِ وَخَمْسَمِائَةِ، وَقال جَابِرٌ: أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوْلِيَاءَ لِلَّهِ؛ إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُخْبِرَ اللَّهُ بِرِضَاهُ عَنْ قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ إلَّا وَبَاطِنُهُمْ كَظَاهِرِهِمْ فِي صِحَّةِ الْبَصِيرَةِ وَصِدْقِ الْإِيمَانِ، وَقَدْ أَكَّدَ ذَلِكَ بِقولهِ: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} أَخْبَرَ أَنَّهُ عَلِمَ مِنْ قُلُوبِهِمْ صِحَّةَ الْبَصِيرَةِ وَصِدْقَ النِّيَّةِ، وَأَنَّ مَا أَبْطَنُوهُ مِثْلُ مَا أَظْهَرُوهُ.
وقوله تعالى: {فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} يَعْنِي الصَّبْرَ بِصِدْقِ نِيَّاتِهِمْ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّوْفِيقَ يَصْحَبُ صِدْقَ النِّيَّةِ، وَهُوَ مِثْلُ قولهِ: {إنْ يُرِيدَا إصْلَاحًا يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا}.
وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ} الْآيَةَ.
رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَدْ كَانُوا بَعَثُوا أَرْبَعِينَ رَجُلًا لِيُصِيبُوا مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَأُتِيَ بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَسْرَى فَخَلَّى سَبِيلَهُمْ وَرُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي فَتْحِ مَكَّةَ حِينَ دَخَلَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْوَةً فَإِنْ كَانَتْ نَزَلَتْ فِي فَتْحِ مَكَّةَ فَدَلَالَتُهَا ظَاهِرَةٌ عَلَى أَنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً؛ لِقولهِ تعالى: {مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ}، وَمُصَالَحَتُهُمْ لَا ظَفَرَ فِيهَا لِلْمُسْلِمِينَ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ فَتْحُهَا عَنْوَةً.
وقوله تعالى: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يُجِيزُ ذَبْحَ هَدْيِ الْإِحْصَارِ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ، لِإِخْبَارِهِ بِكَوْنِهِ مَحْبُوسًا عَنْ بُلُوغِ مَحِلِّهِ، وَلَوْ كَانَ قَدْ بَلَغَ الْحَرَمَ وَذَبَحَ فِيهِ لَمَا كَانَ مَحْبُوسًا عَنْ بُلُوغِ الْمَحِلِّ.
وَلَيْسَ هَذَا كَمَا ظَنُّوا؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ مَمْنُوعًا بَدِيًّا عَنْ بُلُوغِ الْمَحِلِّ ثُمَّ لَمَّا وَقَعَ الصُّلْحُ زَالَ الْمَنْعُ فَبَلَغَ مَحِلَّهُ وَذُبِحَ فِي الْحَرَمِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إذَا حَصَلَ الْمَنْعُ فِي أَدْنَى وَقْتٍ فَجَائِزٌ أَنْ يُقال قَدْ مُنِعَ كَمَا قال تعالى: {قالوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ} وَإِنَّمَا مُنِعَ فِي وَقْتٍ وَأُطْلِقَ فِي وَقْتٍ آخِرَ وَفِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمَحِلَّ هُوَ الْحَرَمُ؛ لِأَنَّهُ قال: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} فَلَوْ كَانَ مَحِلُّهُ غَيْرَ الْحَرَمِ لَمَا كَانَ مَعْكُوفًا عَنْ بُلُوغِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمَحِلُّ فِي قولهِ: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} هُوَ الْحَرَمُ.
قال أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ وَمُحَمَّدٌ وَالثَّوْرِيُّ: لَا بَأْسَ بِرَمْيِ حُصُونِ الْمُشْرِكِينَ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا أُسَارَى وَأَطْفَالٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُحَرِّقُوا الْحُصُونَ وَيَقْصِدُوا بِهِ الْمُشْرِكِينَ، وَكَذَلِكَ إنْ تَتَرَّسَ الْكُفَّارُ بِأَطْفَالِ الْمُسْلِمِينَ رُمِيَ الْمُشْرِكُونَ، وَإِنْ أَصَابُوا أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ فَلَا دِيَةَ وَلَا كَفَّارَةَ وَقال الثَّوْرِيُّ: فِيهِ الْكَفَّارَةُ وَلَا دِيَةَ فِيهِ وَقال مَالِكٌ: لَا تُحَرَّقُ سَفِينَةُ الْكُفَّارِ إذَا كَانَ فِيهَا أُسَارَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ لِقولهِ تعالى: {لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} إنَّمَا صُرِفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْهُمْ لَمَّا كَانَ فِيهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ تَزَيَّلَ الْكُفَّارُ عَنْ الْمُسْلِمِينَ لَعَذَّبَ الْكُفَّارَ.
وَقال الْأَوْزَاعِيُّ: إذَا تَتَرَّسَ الْكُفَّارُ بِأَطْفَالِ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُرْمَوْا؛ لِقولهِ: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ} الْآيَةَ قال: وَلَا يُحَرَّقُ الْمَرْكَبُ فِيهِ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ، وَيُرْمَى الْحِصْنُ بِالْمَنْجَنِيقِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ أُسَارَى مُسْلِمُونَ، فَإِنْ أَصَابَ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ خَطَأٌ، وَإِنْ جَاءُوا يَتَتَرَّسُونَ بِهِمْ رُمِيَ وَقُصِدَ الْعَدُوُّ، وَهُوَ قول اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَقال الشَّافِعِيُّ: لَا بَأْسَ بِأَنْ يُرْمَى الْحِصْنُ، وَفِيهِ أُسَارَى أَوْ أَطْفَالٌ، وَمَنْ أُصِيبَ فَلَا شَيْءَ فِيهِ، وَلَوْ تَتَرَّسُوا فَفِيهِ قولانِ: أَحَدُهُمَا: يُرْمَوْنَ.
وَالْآخِرُ: لَا يُرْمَوْنَ إلَّا أَنْ يَكُونُوا مُلْتَحِمِينَ، فَيُضْرَبُ الْمُشْرِكُ وَيَتَوَقَّى الْمُسْلِمُ جَهْدَهُ، فَإِنَّ أَصَابَ فِي هَذِهِ الْحَالِ مُسْلِمًا فَإِنْ عَلِمَهُ مُسْلِمًا فَالدِّيَةُ مَعَ الرَّقَبَةِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْهُ مُسْلِمًا فَالرَّقَبَةُ وَحْدَهَا قال أَبُو بَكْرٍ: نَقَلَ أَهْلُ السِّيَرِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَاصَرَ أَهْلَ الطَّائِفِ وَرَمَاهُمْ بِالْمَنْجَنِيقِ مَعَ نَهْيِهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ، وَقَدْ عَلِمَ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَدْ يُصِيبُهُمْ وَهُوَ لَا يَجُوزُ تَعَمُّدُهُمْ بِالْقَتْلِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ كَوْنَ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا بَيْنَ أَهْلِ الْحَرْبِ لَا يَمْنَعُ رَمْيَهُمْ؛ إذْ كَانَ الْقَصْدُ فِيهِ الْمُشْرِكِينَ دُونَهُمْ وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ قال: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَهْلِ الدِّيَارِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ يُبَيَّتُونَ فَيُصَابُ مِنْ ذَرَارِيّهِمْ وَنِسَائِهِمْ، فَقال هُمْ مِنْهُمْ.
وَبَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ فَقال: أَغِرْ عَلَى أُبْنَى صَبَاحًا وَحَرِّقْ، وَكَانَ يَأْمُرُ السَّرَايَا بِأَنْ يَنْتَظِرُوا بِمَنْ يَغْزُو بِهِمْ، فَإِنْ أَذَّنُوا لِلصَّلَاةِ أَمْسَكُوا عَنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعُوا أَذَانًا أَغَارُوا وَعَلَى ذَلِكَ مَضَى الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ أَغَارَ عَلَى هَؤُلَاءِ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يُصِيبَ مِنْ ذَرَارِيّهِمْ وَنِسَائِهِمْ الْمَحْظُورِ قَتْلُهُمْ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ فِيهِمْ مُسْلِمُونَ وَجَبَ أَنْ لَا يَمْنَعَ ذَلِكَ مِنْ شَنِّ الْغَارَةِ عَلَيْهِمْ وَرَمْيِهِمْ بِالنَّشَّابِ وَغَيْرِهِ، وَإِنْ خِيفَ عَلَيْهِ إصَابَةُ الْمُسْلِمِ فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا جَاءَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَرَارِيَ الْمُشْرِكِينَ مِنْهُمْ، كَمَا قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي حديث الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ قِيلَ لَهُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ صلى الله عليه وسلم فِي ذَرَارِيّهِمْ أَنَّهُمْ مِنْهُمْ فِي الْكُفْرِ؛ لِأَنَّ الصِّغَارَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا كُفَّارًا فِي الْحَقِيقَةِ وَلَا يَسْتَحِقُّونَ الْقَتْلَ وَلَا الْعُقُوبَةَ لِفِعْلِ آبَائِهِمْ فِي بَابِ سُقُوطِ الدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ.
وَأَمَّا احْتِجَاجُ مِنْ يَحْتَجُّ بِقولهِ: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ} الْآيَةَ، فِي مَنْعِ رَمْيِ الْكُفَّارِ؛ لِأَجْلِ مَنْ فِيهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ الْآيَةَ لَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى مَوْضِعِ الْخِلَافِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهَا أَنَّ اللَّهَ كَفَّ الْمُسْلِمِينَ عَنْهُمْ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِيهِمْ قَوْمٌ مُسْلِمُونَ لَمْ يَأْمَنْ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَوْ دَخَلُوا مَكَّةَ بِالسَّيْفِ أَنْ يُصِيبُوهُمْ وَذَلِكَ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى إبَاحَةِ تَرْكِ رَمْيِهِمْ وَالْإِقْدَامِ عَلَيْهِمْ، فَلَا دَلَالَةَ عَلَى حَظْرِ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِمْ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ فِيهِمْ مُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يُبِيحَ الْكَفَّ عَنْهُمْ؛ لِأَجْلِ الْمُسْلِمِينَ وَجَائِزٌ أَيْضًا إبَاحَةُ الْإِقْدَامِ عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ، فَإِذًا لَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى حَظْرِ الْإِقْدَامِ فَإِنْ قِيلَ: فِي فَحَوَى الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْحَظْرِ، وَهُوَ قولهُ: {لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} فَلَوْلَا الْحَظْرُ مَا أَصَابَتْهُمْ مَعَرَّةٌ مِنْ قَتْلِهِمْ بِإِصَابَتِهِمْ إيَّاهُمْ قِيلَ لَهُ: قَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى الْمَعَرَّةِ هَهُنَا.
فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّهُ غُرْمُ الدِّيَةِ، وَقال غَيْرُهُ: الْكَفَّارَةُ، وَقال غَيْرُهُمَا: الْغَمُّ بِاتِّفَاقِ قَتْلِ الْمُسْلِمِ عَلَى يَدِهِ؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ يَغْتَمُّ لِذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْهُ وَقال آخَرُونَ: الْعَيْبُ وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قال: الْمَعَرَّةُ الْإِثْمُ، وَهَذَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ- تعالى- قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ لَوْ وَقَعَ كَانَ بِغَيْرِ عِلْمٍ مِنَّا؛ لِقولهِ تعالى: {لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ}، وَلَا مَأْثَمَ عَلَيْهِ فِيمَا لَمْ يَعْلَمْهُ، وَلَمْ يَضَعْ اللَّهُ عَلَيْهِ دَلِيلًا، قال الله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ الْمَأْثَمَ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَانَ خَاصًّا فِي أَهْلِ مَكَّةَ لِحُرْمَةِ الْحَرَمِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسْتَحِقَّ لِلْقَتْلِ إذَا لَجَأَ إلَيْهَا لَمْ يُقْتَلْ عِنْدَنَا؟ وَكَذَلِكَ الْكَافِرُ الْحَرْبِيُّ إذَا لَجَأَ إلَى الْحَرَمِ لَمْ يُقْتَلْ، وَإِنَّمَا يُقْتَلُ مَنْ انْتَهَكَ حُرْمَةَ الْحَرَمِ بِالْجِنَايَةِ فِيهِ فَمَنْعُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِمْ خُصُوصِيَّةٌ لِحُرْمَةِ الْحَرَمِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ: وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٍ قَدْ عُلِمَ أَنَّهُمْ سَيَكُونُونَ مِنْ أَوْلَادِ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ إذَا لَمْ يُقْتَلُوا فَمَنَعَنَا قَتْلَهُمْ لِمَا فِي مَعْلُومِهِ مِنْ حُدُوثِ أَوْلَادِهِمْ مُسْلِمِينَ.