فصل: فصل في التفسير الموضوعي للسورة كاملة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{لِتَعارَفُوا} (13) من الآية الأولى ثم ابتدأت {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ} (13) ولو عملت لقلت أن أكرمكم عند اللّه.
{لا يألتكم من أعمالكم شيئا} (14) أي لا ينقصكم لا يحبس وهو من ألت يألت وقوم يقولون: لات يليت وقال رؤبة:
وليلة ذات ندى سريت ** ولم يلتنى عن سراها ليت

وبعضهم يقول: ألاتنى حقى وألاتنى عن وجهى وعن حاجتى أي صرفنى عنها قال الحطيئة:
أبلغ سراة بنى كعب مغلغلة ** جهد الرسالة لا ألتا ولا كذبا

{ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا} (15) لم يشكّوا. اهـ.

.فصل في التفسير الموضوعي للسورة كاملة:

قال محمد الغزالي:
سورة الحجرات:
من حق الكبار أن يوقَّروا، وأن توفر لهم شارات الاحترام، كما أنه من حق الصغار أن يرحموا وأن تحف بهم أسباب العطف. وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك من أركان المجتمع المسلم «ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه». والرجل في سلطانه لا يفتات عليه ولا يجوز أن يجيء أحد فيحاول في حضرته إثبات نفسه بالأمر والنهى والتقديم والتأخير والاقتراح والاعتراض! وفى سورة الحجرات جملة من الآداب التي تزين الأمة وتصون كيانها، أولها أدب المسلمين مع رسولهم، ثم آداب المسلمين بعضهم مع بعض، ثم علاقة الأمة كلها بسائر الأمم. في أدب المسلمين مع رسولهم يقول جل شأنه: {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض}.
وسبق في سورة النور{لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا}. وللرسول صلى الله عليه وسلم أسلوب خاص في ندائه وفى محادثته يتسم بالتواضع وخفض الصوت والتزام الأدب. إنه مبلغ عن الله ومترجم عن هداه؟ فتوقيره دين، وحسبه من المتاعب ما يلقى من الكفار والمنافقين. والذين يلتزمون الأدب مع رسول الله لهم عند الله مكانتهم وأجرهم، أما الجفاة وفاقدو الخلق فلهم شأن آخر. ومن صدق الإيمان التثبت عند سماع الأخبار، فرب شائعة لا أصل لها أحدثت فتنة بالغة {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين}. والمعروف أن الشيطان يرقب أبناء آدم ويستمع إلى حديثهم يحاول أن ينزغ بينهم، فإذا وجد خطأ صغيرا حاول تنميته ليكون خطيئة ضخمة، وليجعل من الشرر التافه نارا مستعرة. وأكثر القتال الذي يدور بين الناس يتولد من هذا البلاء.
وعلى جماعة المسلمين أن تسارع إلى تدارك الموقف وإصلاح ذات البين، فإذا اعتز أحد بالإثم وحاول البغى تظاهر عليه الجميع ووقفوه عند حده. وقد رأيت معارك نزفت فيها دماء غزيرة وأعقبها خسار واسع لأن المسلمين ضعفوا عن قول الحق للمعتدى وعجزوا عن رد بغيه فكانت النتيجة أن هانت الأمة كلها وطمع فيها أعداؤها {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين}. إن ضعف رباط الأخوة الإسلامية نذير شر، وهو ذريعة إلى تدخل غير المسلمين كى يستغلوا الأوضاع المائلة لمصالحهم الخاصة، والإسلام هو الخاسر أولا وأخرا..! وسورة الحجرات تلفت أنظارنا إلى أخلاق رديئة يجب البعد عنها. فمن الرعونة ومن التطاول الباطل أن تسخر من الآخرين حاسبا نفسك أفضل منهم. إنه لا يعرف حقيقة الفضل إلا الله تعالى. ومكانة أي إنسان تقررها معادلات دقيقة بين وراثته وبيئته، أو بين طباعه الخاصة والتيارات التي تحيط به وتهب عليه. ومن يدرى؟ فقد تسخر من امرئ نجح حيث رسبت أنت! فتقدم وتأخرت! {يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن}. ورفض الإسلام اللمز والتعيير والتجسس وظن السوء والغيبة والنميمة. والمؤسف أن أغلب مجالس الناس لا تخلو من هذه الآفات، ولو كف الناس عنها لقضوا نصف أعمارهم صامتين..! لو غربل الناس كيما يعدموا سقطا لما تحصل شيء في الغرابيل! وعلينا نحن المسلمين أن نعرف رسالتنا بين الناس. إننا لم نخلق لننظر إليهم من أعلى. إننا أصحاب رسالة كلفنا بشرحها بالأدب والحكمة والرحمة والحب. وأخشى أن يكون فشلنا في صبغ العالم بها يرجع إلى سؤ عرضنا وفشل أسلوبنا..! {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم}. وقد ختمت السورة بشرح حالة الأعراب الذين دخلوا في الإسلام دون أن يتقيدوا بآدابه أو يلتزموا بأحكامه. إنهم نموذج لأقوام ورثوا الإسلام عنوانا ولم يحملوه موضوعا، فكانت قلوبهم خالية من اليقين، وكانت أعمالهم بعيدة عن الصلاح.
{قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم}. وقد نبه الله هؤلاء إلى أن عملهم هو الذي يحكم لهم أو عليهم.
{وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا}. فإذا خذلوا الإسلام حين يتطلب النصرة أو تركوا شمائله حين يتطلب الأدب أو ضعف يقينهم حين تعرض الأزمات، فليسوا بمسلمين! {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون}. وفى هذا العصر نجد من عامة المسلمين وخاصتهم من يشبهون أعراب الأمس البعيد، فهم ينتمون إلى الإسلام ولا يلبون له نداء أو يؤازرونه في محنة. اهـ.

.في رياض آيات السورة الكريمة:

.فصل في أسرار ترتيب السورة:

قال السيوطي:
سورة الحجرات:
لا يخفى تآخي هاتين السورتين الفتح والحجرات مع ما قبلهما، لكونهما مدنيتين، ومشتملتين على أحكام فتلك فيها قتال الكفار، وهذه فيها قتال البغاة وتلك ختمت بالذين آمنوا، وهذه افتتحت بالذين آمنوا وتلك تضمنت تشريفًا له صلى الله عليه وسلم، خصوصًا مطلعها، وهذه أيضًا في مطلعها أنواع من التشريف له صلى الله عليه وسلم. اهـ.

.تفسير الآيات (1- 3):

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقول كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
(بسم الله) الملك الجبار المتكبر الذي من أخل بتعظيم رسوله صلى الله عليه وسلم لم يرض عنه عملا (الرحمن) الذي من عموم رحمته إقامة الآداب للتوصل إلى حسن المآب (الرحيم) الذي خص أولي الألباب الإقبال على ما يوجب لهم جميل الثواب.
ولما نوه سبحانه في القتال بذكر النبي صلى الله عليه وسلم في ابتدائها باسمه الشريق وسمى السورة به، وملأ سورة محمد بتعظيمه، وختمها باسمه، ومدح أتباعه لأجله، افتتح هذه باشتراط الأدب معه في القول والفعل للعد من حزبه والفوز بقربه، ومدار ذلك معالي الأخلاق، وهي إما مع الله سبحانه وتعالى أو مع رسوله صلى الله عليه وسلم أو مع غيرهما وإن كان كل قسم لا يخلو عن لحظة الآخر، وغيرهما إما أن يكون داخلًا مع المؤمنين في رتبة الطاعة أو خارجًا عنها، وهو الفاسق، والداخل في طاعة المؤمنين السالك لطريقتهم إما أن يكون حاضرًا عندهم أو غائبًا عنهم، فهذه خمسة أقسام، فصل النداء بسببها خمس مرات، كل مرة لقسم منها، وافتتح بالله لأن الأدب معه هو الأصل الجامع للكل والأس الذي لا يبنى إلا عليه، فقال مناديًا للمتسمين بأول أسنان القلوب تنبيهًا على أن سبب نزولها من أفعالهم لا من أفعال أهل الكمال، فهو هفوة تقال، وما كان ينبغي أن يقال، وليشمل الخطاب المعهود للأدنى- ولو مع النفاق- من فوقه من باب الأولى: {يا أيها الذين آمنوا} أي أقروا بالإيمان {لا تقدموا} وحذف المفعول ليعم كل ما يصح تقديمه فيذهب الوهم كل مذهب، ويجوز أن يكون حذفه من قصد إليه أصلًا، بل يكون النهي موجهًا إلى نفس التقدمة أي لا تتلبسوا بهذا الفعل، ويجوز أن يكون من قدم- بالتشديد بمعنى أقدم وتقدم أي شجع نفسه على التقدم، ومنه مقدمة الجيش، وهم متقدموه، وأشار إلى تهجين ما نهوا عنه وتصوير شناعته، وإلى أنهم في القبضة ترهيبًا لهم فقال: {بين يدي الله} أي الملك الذي لا يطاق انتقامه.
ولما كان السياق للنهي عن التقديم والتقدم، وكان مقتضى الرسالة إنفاذ الأوامر والنواهي عن الملك من غير أن يكون من المرسل إليهم اعتراض أصلًا، وبذلك استحق أن لا يتكلم بحضرته في مهم ولا يفعل مهم إلا بإذنه، لأن العبيد لما لهم من النقص لا استقلال لهم بشيء أصلًا، عبر بالرسول دون النبي بعد أن ذكر اسمه تعالى الأعظم زيادة في تصوير التعظيم فقال: {ورسوله} أي الذي عظمته ظاهرة جدًا، ولذلك قرن اسمه باسمه وذكره بذكره، فهو تمهيد لما يأتي من تعظيمه، فالتعبير بذلك إشارة إلى أن النفس إذا خليت وفطرتها الأولى، امتلأت بمجرد رؤيته هيبة منه، وإجلالًا له، فلا يفعل أحد غير ذلك إلا بتشجيع منه لنفسه وتكليفها ضد ما تدعو إليه الفطرة الأولى القويمة، فالمعنى: لا تكونوا متقدمين في شيء من الأشياء والله يقول الحق ويهدي السبيل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبلغ عنه لا ينطق عن الهوى، فعلى الغير الاقتداء والاتباع، لا الابتداء والابتداع، سواء كان النبي صلى الله عليه وسلم غائبًا أو حاضرًا بموت أو غيره.
فإن آثاره كعينه، فمن بذل الجهد فيها هدي للأصلح، {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} [العنكبوت: 69].
ولما استعار للدلالة على القدرة التعبير باليدين وصور البينة ترهيبًا من انتقام القادر إذا خولف، صرح بذلك بقوله تعالى: {واتقوا الله} أي اجعلوا بينكم وبين غضب الملك الأعظم وقاية، فإن التقوى مانعة من أن تضعيوا حقه وتخالفوا أمره وتقدموا على شيء لم تعلموا رضاه فيه.
ولما كان سبحانه مع كل بعلمه، وأقرب إليه من نفسه، فكان مع ذلك غيبًا محضًا لكونه محتجبًا برداء الكبر وإزار العظمة والقهر، وكان الإنسان لما غاب عنه نساء، ذكره مرهبًا بقوله مستأنفًا أو معللًا مؤكدًا تنبيهًا على ما في ذلك من الغرابة والعظمة التي يحق للإنسان مجاهدة نفسه لأجلها في الإيمان به والمواظبة على الاستمرار على استحضاره، لأن أفعال العاصي أفعال من ينكره: {إن الله} أي الذي له الإحاطة بصفات الكمال.
ولما كان ما يتقدم فيه إما قولا أو فعلًا قال: {سميع} أي لأقوالكم أن تقولوها {عليم} أي بأعمالكم قبل أن تعملوها.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما وصف سبحانه عباده المصطفين صحابه نبيه والمخصوصين بفضيلة مشاهدته وكريم عشرته فقال: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم} [الفتح: 29] إلى آخره، فأثنى سبحانه عليهم وذكر وصفه تعالى بذلك في التوراة والإنجيل، وهذه خصيصة انفردوا بمزية تكريمها وجرت على واضح قوله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف} [آل عمران: 110] إلى آخره، وشهدت لهم بعظيم المنزلة لديه، ناسب هذا طلبهم بتوفية العشب الإيمانية قولا وعملًا ظاهرًا وباطنًا على أوضح عمل وأخلص نية، وتنزيههم عما وقع من قبلهم في مخاطبات أنبيائهم كقول بني إسرائيل {يا موسى ادع لنا ربك} [الأعراف: 134] إلى ما شهد من هذا الضرب بسوء حالهم فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله} الآية و{يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول}- إلى قوله- {والله غفور رحيم} فطلبوا بآداب تناسب عليّ إيمانهم وإن اغتفر بعضه لغيرهم من ليس في درجتهم وقد قيل حسنات الأبرار سيئات المقربين فكأن قد قيل لهم: لا تغفلوا ما منح لكم في التوراة والإنجيل، فإنها درجة لم ينلها غيركم من الأمم فقابلوها بتنزيه أعمالكم عن أن يتوهم في ظواهرها أنها صدرت عن عدم اكتراث في الخطاب، أو سوء قصد في الجواب، وطابقوا بين ظواهركم وبواطنكم وليكن علنكم منبئًا بسليم سرائركم {إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى} ثم عرفوا بسوء حال من عدل به عن هذه الصفة فقال تعالى: {إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون} ثم أمروا بالتثبت عند نزغة الشيطان، أو تقول ذي بهتان {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ} الآية، ثم أمرهم بصلاح ذات بينهم والتعاون في ذلك بقتال الباغين العتاة وتحسين العشرة والتزام ما يثمر الحب والتودد الإيماني والتواضع، وأن الخير كله في التقوى {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} وكل ذلك محذر لعلي صفاتهم التي وصفوا بها في خاتمة سورة محمد.
ولما ثبت إعظام الرسول صلى الله عليه وسلم بأن لا يفتات عليه بأن يتأهب ما هو وظيفته من التقدم في الأمور وقطع المهمات، فلا يكلم إلا جوابًا أو سؤالًا في أمر ضروري لا يمكن تأخيره، وكان من يكلمه لذلك ربما رفع صوته رفعًا الأولى به غيره مما هو دونه، وكان من جملة أحواله أن يوحى إليه بالأمور العظيمة، وكان رفع الصوت إذ ذاك من المشوشات في حسن التلقي للوحي مع ما فيه من قلة الاحترام والإخلاء بالإجلال والإعظام، قال ذاكرًا لثاني الأقسام، وهو ما كان النظر فيه إلى مقامه صلى الله عليه وسلم بالقصد الأول، مستنتجًا مما مضى من وصفه بالرسالة الدالة على النبوة، آمرًا بحفظ حرمته ومراعاة الأدب في خدمته وصحبته بتبجيله وتفخيمه، وإعزازه وتعظيمه، مكررًا لندائهم بما ألزموا أنفسهم به من طاعته بتصديقه واستدعاء لتجديد الاستنصار وتطرية الندب إلى الإنصات وإشارة إلى أن المنادى له أمر يستحق أن يفرد بالنداء ويستقل بالتوصية: {يا أيها الذين آمنوا} مكررًا للتعبير بالأدنى من أسنان القلوب للتنبيه على أن فاعل مثل هذه المنهيات والمحتاج فيها إلى التنبيه بالنهي قد فعل من هذا حاله {لا ترفعوا أصواتكم} أي في شيء من الأشياء {فوق صوت النبي} أي الذي يتلقى عن الله، وتلقيه عنه متوقع في كل وقت، وهذا يدل على أن أذى العلماء الذين هيأهم الله لتلقي فهم دينه عند شديد جدًا، فإن تكدير أوقاتهم يمنعهم عن كثير من ذلك.
ولما بين ما في ذلك لأجل النبوة، بين ما ينبغي في نفسه من المزية فقال: {ولا تجهروا بالقول} أي إذا كلمتموه سواء كان ذلك بمثل صوته أو أخفض من صوته، فإن ذلك غير مناسب لما يهاب به العظماء، ويوقر الكبراء.
ولما شمل هذا كل جهر مخصوص، وهو ما يكون مسقطًا للمزية، قال: {كجهر بعضكم لبعض} أي فإنكم إن لم تفعلوا ذلك لم يظهر فرق بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين غيره.
ولما نهى عن ذلك، بين ضرره فقال مبينًا أن من الأعمال ما يحبط ولا يدرى أنه محبط، ليكون العامل كالماشي في طريق خطر لا يزال يتوقى خطره ويديم حذره: {أن} أي النهي لأجل خشية أن {تحبط} أي تفسد فتسقط {أعمالكم} أي التي هي الأعمال بالحقيقة وهي الحسنات كلها {وأنتم لا تشعرون} أي بأنها حبطت، فإن ذلك إذا اجترأ الإنسان عليه استخف به وإذا استخف به واظب عليه، وإذا واظب عليه أوشك أن يستخف بالمخاطب فيكفر وهو لا يشعر.
ولما تقدم سبحانه في الإخلال بشيء من حرمته صلى الله عليه وسلم ونهى عن رفع الصوت والجهر الموصوف، أنتج المخافة عنده على سبيل الإجلال، فبين ما لمن حافظ على ذلك الأدب العظيم، فقال مؤكدًا لأن في المنافقين وغيرهم من يكذب بذلك، وتنبيهًا.