فصل: من أقوال المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأخيرية صبر في الدين معروفة، وأما في الدنيا فإنهم لو تأدبوا لربهم زادهم النبي صلى الله عليه وسلم في الفضل فأعتق جميع سبيهم وزادهم، والآية في الاحتباك: حذف التعليل بعدم الصبر أولًا لما دل عليه ثانيًا، والعقل ثانيًا لما دل عليه من ذكره أولًا.
ولما ذكر التقدير تأديبًا لنا وتدريبًا على الصفح عن الجاهل وعذره وتعليمه: ولكنهم لم يصبروا وأساؤوا الأدب فكان ذلك شرًا لهم والله عليم بما فعلوا حليم حيث لم يعاجلهم بالعقوبة لإساءتهم الأدب على رسوله صلى الله عليه وسلم، عطف عليه استعطافًا لهم مع إفهامه الترهيب: {والله} أي المحيط بصفات الكمال {غفور} أي ستور لذنب من تاب من جهله {رحيم} يعامله معاملة الراحم فيسبغ عليه نعمه.
ولما تابوا، أعتبهم الله في غلظتهم على خير خلقه أن جعلهم أغلظ الناس على شر الناس: الدجال، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنهم أشد الناس عليه».
ولما أنهى سبحانه ما أراد من النهي عن أذى الرسول صلى الله عليه وسلم في نفسه، وكان من ذلك أذاه في أمته، فإنه عزيز عليه ما عنتوا وكان من آذاه فيهم فاسقًا، وكان أعظم الأذى فيهم ما أورث كربًا فأثار حربًا، وكان ربما اتخذ أهل الأغراض هذه الآداب ذريعة إلى أذى بعض المسلمين فقذفوهم بالإخلال بشيء منها فوقعوا هم فيها فيما قذفوا به غيرهم من الإخلال بحقه والتقيد بولائه ورقه، وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الأخلاق الطاهرة والمعالي الظاهرة ما يؤمن معه أن يوقع شيئًا في غير محله، أن يأمر بأمر من غير حله- هذا مع ما له من العصمة، قال منبهًا على ما في القسم الثالث من مكارم الأخلاق من ترك العجز بالاعتماد على أخبار الفسقة، تخاطبًا لكل من أقر بالإيمان على طريق الاستنتاج مما مضى، نادبًا إلى الاسترشاد بالعقل الذي نفاه عن أهل الآية السالفة، والعفو عن المذنب والرحمة لعباد الله، مناديًا بأداة البعد إشارة إلى أن من احتاج إلى التصريح بمثل هذا التنبيه غير مكتف بما أفاده من قواعد الشرع وضع نفسه في محل بعيد، وتنبيهًا على أن ما في حيزها كلام له خطب عظيم ووقع جسيم: {يا أيها الذين آمنوا} وعبر بالفعل الماضي الذي هو لأدنى أسنان القلوب، وعبر بأداة الشك إيذانًا بقلة الفاسق فيهم وقلة مجيئه إليهم بخبر له وقع، فقال: {إن جاءكم} أي في وقت من الأوقات {فاسق} أي خارج من ربقة الديانة أيّ فاسق كان {بنبأ} أي خبر يعظم خطبه فيؤثر شرًا، أيّ خير كان مما يكون كذلك؟ {فتبينوا} أي عالجوا البيان وهو فصل الخطأ من الصواب، استعمالًا لغريزة العقل المنفي عن المنادين واتصافًا بالغفران والرحمة ليرحمكم الله ويغفر لكم، وهذه القراءة غاية لقراءة حمزة والكسائي بالمثلثة ثم المثناة الفوقية، والسياق مرشد إلى أن خبر الفاسق كالنمام والساعي بالفساد كما أنه لا يقبل فلذلك لا يرد حتى يمتحن، وإلى أن خبر العدل لا وقفة فيه، وإلا لاستوى مع الفاسق، فالتثبت معلل بالفسق، فإذا انتفى ولم توجد علة أخرى توجب التثبت وجب القبول، والمعلق على شيء بكلمة (إن) عدم عند عدمه، والتبين بأحد شيئين: بمراجعة النبي صلى الله عليه وسلم إن كان حاضرًا، وبمراجعة آثاره من كتاب الله وسنته إلى أن تبين الأمر منهما إن كان غائبًا، فإنه لا تكون أبدًا كائنة إلا وفي الكتاب والسنة المخرج منها.
ولما أمر بالتبين، ذكر علته فقال: {أن} أي لأجل كراهة أن {تصيبوا} أي بأذى {قومًا} أي هم مع قوتهم النافعة لأهل الإسلام براء مما نسب إليهم {بجهالة} أي مع الجهل بحال استحاقهم ذلك.
ولما كان الإنسان إذا وضع شيئًا في غير موضعه جديرًا بالندم، سبب عن ذلك قوله: {فتصبحوا} أي فتصيروا، ولكنه عبر بذلك لأن أشنع الندم ما استقبل الإنسان صباحًا وقت انتباهه وفراغه وإقباله على لذاته {على ما فعلتم} أي من إصابتهم {نادمين} أي عريقين في الأسف على ما فات مما يوقع الله في نفوسكم من أمور ترجف القلوب وتخور الطباع، وتلك سنته في كل باطل، فإنه لكونه مزلزلًا في نفسه لا ينشأ عنه إلا الزلزال والندم على ما وقع من تمني أنه لم يقع، وهو غم يصحب الإنسان صحبة لها دوام بما تدور مادته عليه مما يرشد إليه مدن ودمن، وهو ينشأ من تضييع أثقال الأسباب التي أمر الإنسان بالسعي فيها كما أشار إليه حديث «احرص على ما ينفعك ولا تعجز فإن غلبك أمر فقل: قدر الله وما شاء فعل، ولا تقل: لو أني فعلت كذا، فإن لو تفتح عمل الشيطان» والفاسق المذكور في الآية المراد به الجنس، والذي نزل ذلك بسببه هو الوليد بن عقبة، ولم يزل كذلك حتى أن عثمان- رضى الله عنه- ولاه الكوفة فصلى بالناس وهو سكران صلاة الفجر أربعًا ثم قال: هل أزيدكم فعزله عثمان رضى الله عنه. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4)}.
بيانًا لحال من كان في مقابلة من تقدم فإن الأول غض صوته والآخر رفعه، وفيه إشارة إلى أنه ترك لأدب الحضور بين يديه وعرض الحاجة عليه، وأما قول القائل للملك يا فلان من سوء الأدب، فإن قلت كل أحد يقول يا الله مع أن الله أكبر، نقول النداء على قسمين أحدهما: لتنبيه المنادى وثانيهما: لإظهار حاجة المنادي مثال الأول: قول القائل لرفيقه أو غلامه: يا فلان ومثال الثاني: قول القائل في الندبة: يا أمير المؤميناه أو يا زيداه، ولقائل أن يقول: إن كان زيد بالمشرق لا تنبيه فإنه محال، فكيف يناديه وهو ميت؟ فنقول قولنا يا الله لإظهار حاجة الأنفس لا لتنبيه المنادى، وإنما كان في النداء الأمران جميعًا لأن المنادي لا ينادي إلا لحاجة في نفسه يعرضها ولا ينادي في الأكثر إلا معرضًا أو غافلًا، فحصل في النداء الأمران ونداؤهم كان للتنبيه وهو سوء أدب وأما قول أحدنا للكبير يا سيدي ويا مولاي فهو جار مجرى الوصف والإخبار الثاني: النداء من وراء الحجرات فإن من ينادي غيره ولا حائل بينهما لا يكلفه المشي والمجيء بل يجيبه من مكانه ويكلمه ولا يطلب المنادي إلا لالتفات المنادى إليه ومن ينادي غيره من وراء الحائل فكأنه يريد منه حضوره كمن ينادي صاحب البستان من خارج البستان الثالث: قوله: {الحجرات} إشارة إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم في خلوته التي لا يحسن في الأدب إتيان المحتاج إليه في حاجته في ذلك الوقت، بل الأحسن التأخير وإن كان في ورطة الحاجة، وقوله تعالى: {أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} فيه بيان المعايب بقدر ما في سوء أدبهم من القبائح، وذلك لأن الكلام من خواص الإنسان، وهو أعلى مرتبة من غيره، وليس لمن دونه كلام، لكن النداء في المعنى كالتنبيه، وقد يحصل بصوت، يضرب شيء على شي وفي الحيوانات العجم ما يظهر لكل أحد كالنداء، فإن الشاة تصيح وتطلب ولدها وكذلك غيرها من الحيوانات، والسخلة كذلك فكأن النداء حصل في المعنى لغير الآدمي، فقال الله تعالى في حقهم {أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} يعني النداء الصادر منهم لما لم يكن مقرونًا بحسن الأدب كانوا فيه خارجين عن درجة من يعقل وكان نداؤهم كصياح صدر من بعض الحيوان، وقوله تعالى: {أَكْثَرُهُمْ} فيه وجهان أحدهما: أن العرب تذكر الأكثر وتريد الكل، وإنما تأتي بالأكثر احترازًا عن الكذب واحتياطًا في الكلام، لأن الكذب مما يحبط به عمل الإنسان في بعض الأشياء فيقول الأكثر وفي اعتقاده الكل، ثم إن الله تعالى مع إحاطة علمه بالأمور أتى بما يناسب كلامهم، وفيه إشارة إلى لطيفة وهي أن الله تعالى يقول: أنا مع إحاطة علمي بكل شيء جريت على عادتكم استحسانًا لتلك العادة وهي الاحتراز عن الكذب فلا تتركوها، واجعلوا اختياري ذلك في كلامي دليلًا قاطعًا على رضائي بذلك وثانيهما: أن يكون المراد أنهم في أكثر أحوالهم لا يعقلون، وتحقيق هذا هو أن الإنسان إذا اعتبر مع وصف ثم اعتبر مع وصف آخر يكون المجموع الأول غير المجموع الثاني، مثاله الإنسان يكون جاهلًا وفقيرًا فيصير عالمًا وغنيًا فيقال في العرف زيد ليس هو الذي رأيته من قبل بل الآن على أحسن حال، فيجعله كأنه ليس ذلك إشارة إلى ما ذكرنا.
إذا علم هذا فهم، في بعض الأحوال إذا اعتبرتهم مع تلك الحالة، مغايرون لأنفسهم إذا اعتبرتهم مع غيرها فقال تعالى: {أَكْثَرُهُمْ} إشارة إلى ما ذكرناه، وفيه وجه ثالث وهو أن يقال لعل منهم من رجع عن تلك الأهواء، ومنهم من استمر على تلك العادة الرديئة فقال أكثرهم إخراجًا لمن ندم منهم عنهم.
{وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)}.
ثم قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حتى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ} إشارة إلى حسن الأدب الذي على خلاف ما أتوا به من سوء الأدب فإنهم لو صبروا لما احتاجوا إلى النداء، وإذا كنت تخرج إليهم فلا يصح إتيانهم في وقت اختلائك بنفسك أو بأهلك أو بربك، فإن للنفس حقًا وللأهل حقًا، وقوله تعالى: {لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ} يحتمل وجهين أحدهما: أن يكون المراد أن ذلك هو الحسن والخير كقوله تعالى: {خَيْرٌ مستقرا} [الفرقان: 24]، وثانيهما: أن يكون المراد هو أن بالنداء وعدم الصبر يستفيدون تنجيز الشغل ودفع الحاجة في الحال وهو مطلوب، ولكن المحافظة على النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه خير من ذلك، لأنها تدفع الحاجة الأصلية التي في الآخرة وحاجات الدنيا فضلية، والمرفوع الذي يقتضيه كلمة كان إما الصبر وتقديره لو أنهم صبروا لكان الصبر خيرًا، أو الخروج من غير نداء وتقديره لو صبروا حتى تخرج إليهم لكان خروجك من غير نداء خيرًا لهم، وذلك مناسب للحكاية، لأنهم طلبوا خروجه عليه الصلاة والسلام ليأخذوا ذراريهم، فخرج وأعتق نصفهم وأخذوا نصفهم، ولو صبروا لكان يعتق كلهم والأول أصح.
ثم قال تعالى: {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} تحقيقًا لأمرين أحدهما: لسوء صنيعهم في التعجل، فإن الإنسان إذا أتى بقبيح ولا يعاقبه الملك أو السيد يقال ما أحلم سيده لا لبيان حلمه، بل لبيان عظيم جناية العبد وثانيهما: لحسن الصبر يعني بسبب إتيانهم بما هو خير، يغفر الله لهم سيئاتهم ويجعل هذه الحسنة كفارة لكثير من السيئات، كما يقال للآبق إذا رجع إلى باب سيده أحسنت في رجوعك وسيدك رحيم، أي لا يعاقبك على ما تقدم من ذنبك بسبب ما أتيت به من الحسنة ويمكن أن يقال بأن ذلك حث للنبي صلى الله عليه وسلم على الصفح، وقوله تعالى: {أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} كالعذر لهم، وقد ذكرنا أن الله تعالى ذكر في بعض المواضع الغفران قبل الرحمة، كما في هذه السورة وذكر الرحمة قبل المغفرة في سورة سبأ في قوله: {وَهُوَ الرحيم الغفور} [سبأ: 2] فحيث قال: غفور رحيم أي يغفر سيئاته ثم ينظر إليه فيراه عاريًا محتاجًا فيرحمه ويلبسه لباس الكرامة وقد يراه مغمورًا في السيئات فيغفر سيئاته، ثم يرحمه بعد المغفرة، فتارة تقع الإشارة إلى الرحمة التي بعد المغفرة فيقدم المغفرة، وتارة تقع الرحمة قبل المغفرة فيؤخرها، ولما كانت الرحمة واسعة توجد قبل المغفرة وبعدها ذكرها قبلها وبعدها.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)}.
هذه السورة فيها إرشاد المؤمنين إلى مكارم الأخلاق، وهي إما مع الله تعالى أو مع الرسول صلى الله عليه وسلم أو مع غيرهم من أبناء الجنس، وهم على صنفين، لأنهم إما أن يكونوا على طريقة المؤمنين وداخلين في رتبة الطاعة أو خارجًا عنها وهو الفاسق والداخل في طائفتهم السالك لطريقتهم إما أن يكون حاضرًا عندهم أو غائبًا عنهم فهذه خمسة أقسام أحدها: يتعلق بجانب الله وثانيها: بجانب الرسول وثالثها: بجانب الفساق ورابعها: بالمؤمن الحاضر وخامسها: بالمؤمن الغائب فذكرهم الله تعالى في هذه السورة خمس مرات {يا أيها الذين آمنوا} وأرشدهم في كل مرة إلى مكرمة مع قسم من الأقسام الخمسة فقال أولًا: {يا أيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَىِ الله وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1] وذكر الرسول كان لبيان طاعة الله لأنها لا تعلم إلا بقول رسول الله، وقال ثانيًا: {يا أيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تَرْفَعُواْ أصواتكم فَوْقَ صَوْتِ النبي} [الحجرات: 2] لبيان وجوب احترم النبي صلى الله عليه وسلم وقال ثالثًا: {يا أيها الذين ءَامَنُواْ إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} لبيان وجوب الاحتراز عن الاعتماد على أقوالهم، فإنهم يريدون إلقاء الفتنة بينكم وبين ذلك عند تفسير قوله: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا} [الحجرات: 9] وقال رابعًا: {يا أيها الذين ءَامَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مّن قَوْمٍ} [الحجرات: 11] وقال: {وَلاَ تَنَابَزُواْ} [الحجرات: 11] لبيان وجوب ترك إيذاء المؤمنين في حضورهم والازدراء بحالهم ومنصبهم، وقال خامسًا: {يا أيها الذين ءَامَنُواْ اجتنبوا كَثِيرًا مّنَ الظن إِنَّ بَعْضَ الظن إِثْمٌ} [الحجرات: 12] وقال: {وَلاَ تَجَسَّسُواْ} [الحجرات: 12] وقال: {وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا} [الحجرات: 12] لبيان وجوب الاحتراز عن إهانة جانب المؤمن حال غيبته، وذكر ما لو كان حاضرًا لتأذى، وهو في غاية الحسن من الترتيب، فإن قيل: لم لم يذكر المؤمن قبل الفاسق لتكون المراتب متدرجة الابتداء بالله ورسوله، ثم بالمؤمن الحاضر، ثم بالمؤمن الغائب، ثم بالفاسق؟ نقول: قدم الله ما هو الأهم على ما دونه، فذكر جانب الله، ثم ذكر جانب الرسول، ثم ذكر ما يفضي إلى الاقتال بين طوائف المسلمين بسبب الإصغاء إلى كلام الفاسق والاعتماد عليه، فإنه يذكر كل ما كان أشد نفارًا للصدور، وأما المؤمن الحاضر أو الغائب فلا يؤذي المؤمن إلى حد يفضي إلى القتل، ألا ترى أن الله تعالى ذكر عقيب نبأ الفاسق آية الاقتتال، فقال: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا} وفي التفسير مسائل:
المسألة الأولى:
في سبب نزول هذه الآية، هو أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث الوليد بن عقبة، وهو أخو عثمان لأمه إلى بني المصطلق وليًا ومصدقًا فالتقوه، فظنهم مقاتلين، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إنهم امتنعوا ومنعوا، فهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالإيقاع بهم، فنزلت هذه الآية، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم لم يفعلوا من ذلك شيئًا، وهذا جيد إن قالوا بأن الآية نزلت في ذلك الوقت، وأما إن قالوا بأنها نزلت لذلك مقتصرًا عليه ومتعديًا إلى غيره فلا، بل نقول هو نزل عامًا لبيان التثبت، وترك الاعتماد على قول الفاسق، ويدل على ضعف قول من يقول: إنها نزلت لكذا، أن الله تعالى لم يقل إني أنزلتها لكذا، والنبي صلى الله عليه وسلم لم ينقل عنه أنه بين أن الآية وردت لبيان ذلك فحسب، غاية ما في الباب أنها نزلت في ذلك الوقت، وهو مثل التاريخ لنزول الآية، ونحن نصدق ذلك، ويتأكد ما ذكرنا أن إطلاق لفظ الفاسق على الوليد سيء بعيد، لأنه توهم وظن فأخطأ، والمخطئ لا يسمى فاسقًا، وكيف والفاسق في أكثر المواضع المراد به من خرج عن ربقة الإيمان لقوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين} [المنافقون: 6] وقوله تعالى: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ} [الكهف: 50] وقوله تعالى: {وَأَمَّا الذين فَسَقُواْ فَمَأْوَاهُمُ النار كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَا أُعِيدُواْ فِيهَا} [السجدة: 20] إلى غير ذلك.
المسألة الثانية:
قوله تعالى: {إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ} إشارة إلى لطيفة، وهي أن المؤمن كان موصوفًا بأنه شديد على الكافر غليظ عليه، فلا يتمكن الفاسق من أن يخبره بنبأ، فإن تمكن منه يكون نادرًا، فقال: {إِن جَاءَكُمْ} بحرف الشرط الذي لا يذكر إلا مع التوقع، إذ لا يحسن أن يقال: إن احمر البسر، وإن طلعت الشمس.
المسألة الثالثة:
النكرة في معرض الشرط تعم إذا كانت في جانب الثبوت، كما أنها تعم في الإخبار إذا كانت في جانب النفي، وتخص في معرض الشرط إذ كانت في جانب النفي، كما تخص في الإخبار إذا كانت في جانب الثبوت، فلنذكر بيانه بالمثال ودليله، أما بيانه بالمثال فنقول: إذا قال قائل لعبده: إن كلمت رجلًا فأنت حر، فيكون كأنه قال: لا أكلم رجلًا حتى يعتق بتكلم كل رجل، وإذا قال: إن لم أكلم اليوم رجلًا فأنت حر، يكون كأنه قال: لا أكلم اليوم رجلًا حتى لا يعتق العبد بترك كلام كل رجل، كما لا يظهر الحلف في كلامه بكلام كل رجل إذا ترك الكلام مع رجل واحد، وأما الدليل فلأن النظر أولًا إلى جانب الإثبات، ألا ترى أنه من غير حرف لما أن الوضع للاثبات والنفي بحرف، فقول القائل: زيد قائم، وضع أولًا ولم يحتج إلى أن يقال مع ذلك حرف يدل على ثبوت القيام لزيد، وفي جانب النفي احتجنا إلى أن نقول: زيد ليس بقائم، ولو كان الوضع والتركيب أولًا للنفي، لما احتجنا إلى الحرف الزائد اقتصارًا أو اختصارًا، وإذا كان كذلك فقول القائل: رأيت رجلًا، يكفي فيه ما يصحح القول وهو رؤية واحد، فإذا قلت: ما رأيت رجلًا، وهو وضع لمقابلة قوله: رأيت رجلًا، وركب لتلك المقابلة، والمتقابلان ينبغي أن لا يصدقا، فقول القائل: ما رأيت رجلًا، لو كفى فيه انتفاء الرؤية عن غير واحد لصح قولنا: رأيت رجلًا، وما رأيت رجلًا، فلا يكونان متقابلين، فيلزمنا من الاصطلاح الأول الاصطلاح الثاني، ولزم منه العموم في جانب النفي، إذا علم هذا فنقول: الشرطية وضعت أولًا، ثم ركبت بعد الجزمية بدليل زيادة الحرف وهو في مقابلة الجزمية، وكان قول القائل: إذا لم تكن أنت حرًا ما كلمت رجلًا يرجع إلى معنى النفي، وكما علم عموم القول في الفاسق علم عمومه في النبأ فمعناه: أي فاسق جاءكم بأي نبأ، فالتثبت فيه واجب.