فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ}.
عطف على جملة {إن جاءكم فاسق بنبأ} [الحجرات: 6] عطفَ تشريع على تشريع وليس مضمونها تكملة لمضمون جملة {إن جاءكم فاسق} الخ بل هي جملة مستقلة.
وابتداء الجملة بـ {اعلموا} للاهتمام، وقد تقدم في قوله تعالى: {واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه} في سورة البقرة (235).
وقوله: {واعلموا أنما غنمتم من شيء} في الأنفال (41).
وقوله: {أن فيكم رسول اللَّه} إن خبر مستعمل في الإيقاظ والتحذير على وجه الكِنَاية.
فإن كون رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم أمر معلوم لا يخبر عنه.
فالمقصود تعليم المسلمين باتباع ما شرع لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأحكام ولو كانت غير موافقة لرغباتهم.
وجملة {لو يطيعكم في كثير من الأمر} الخ يجوز أن تكون استئنافًا ابتدائيًا.
فضميرا الجمع في قوله: {يطيعكم} وقوله: {لعنتم} عائدان إلى الذين آمنوا على توزيع الفعل على الأفراد فالمطاع بَعض الذين آمنوا وهم الذين يبتغون أن يعمَل الرسولُ صلى الله عليه وسلم بما يطلبون منه، والعانِت بعض آخر وهم جمهور المؤمنين الذين يجري عليهم قضاء النبي صلى الله عليه وسلم بحسب رغبة غيرهم.
ويجوز أن تكون جملة {لو يطيعكم} الخ في موضع الحال من ضمير {فيكم} لأن مضمون الجملة يتعلق بأحوال المخاطبين، من جهة أن مضمون جواب {لو} عَنَتٌ يحصل للمخاطبين.
ومآل الاعتبارين في موقع الجملة واحد وانتظام الكلام على كلا التقديرين غير منثلم.
والطاعة: عملُ أحد يُؤمَر به وما يُنهى عنه وما يشار به عليه، أي لو أطاعكم فيما ترغبون.
و{الأمر} هنا بمعنى الحادث والقضية النازلة.
والتعريف في الأمر تعريف الجنس شامل لجميع الأمور ولذلك جيء معه بلفظ {كثير من} أي في أحداث كثيرة مما لكم رغبة في تحصيل شيء منها فيه مخالفة لما شرعه.
وهذا احتراز عن طاعته إياهم في بعض الأمر مما هو غير شؤون التشريع كما أطاعهم في نزول الجيش يوم بدر على جهة يستأثِرون فيها بماء بدر.
والعنت: اختلال الأمر في الحاضر أو في العاقبة.
وصيغة المضارع في قوله: {لو يطيعكم} مستعملة في الماضي لأن حرف {لو} يفيد تعليق الشرط في الماضي، وإنما عدل إلى صيغة المضارع لأن المضارع صالح للدلالة على الاستمرار، أي لو أطاعكم في قضية معينة ولو أطاعكم كلما رغبتم منه أو أشرتم عليه لعنتُّم لأن بعض ما يطلبونه مضر بالغير أو بالراغب نفسه فإنه قد يحب عاجِل النفع العائدَ عليه بالضر.
وتقديم خبر (أنَّ) على اسمها في قوله: {أن فيكم رسولَ الله} للاهتمام بهذا الكون فيهم وتنبيهًا على أن واجبهم الاغتباط به والإخلاص له لأن كونه فيهم شرف عظيم لجماعتهم وصلاح لهم.
والعَنت: المشقة، أي لأصاب الساعين في أن يعمل النبي صلى الله عليه وسلم بما يرغبون العنتُ.
وهو الإثم إذا استغفلوا النبي صلى الله عليه وسلم ولأصاب غيرهم العنت بمعنى المشقة وهي ما يلحقهم من جريان أمر النبي صلى الله عليه وسلم على ما يلائم الواقع فيضر ببقية الناس وقد يعود بالضر على الكاذب المتشفي برغبته تارة فيلحق عنت من كذب غيره تارة أخرى.
{لَعَنِتُّمْ ولكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الايمان وَزَيَّنَهُ في قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر والفسوق والعصيان أولئك هُمُ} {الراشدون فَضْلًا مِّنَ الله وَنِعْمَةً والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.
الاستدراك المستفاد من {لكنَّ} ناشئ عن قوله: {لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم} لأنه اقتضى أن لبعضهم رغبة في أن يطيعهم الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يرغبون أن يفعله مما يبتغون مما يخالونه صالحًا بهم في أشياء كثيرة تعرِض لهم.
والمعنى: ولكن الله لا يأمرُ رسوله إلا بما فيه صلاح العاقبة وإن لم يصادف رغباتكم العاجلة وذلك فيما شرعه الله من الأحكام، فالإيمان هنا مراد منه أحكام الإسلام وليس مرادًا منه الاعتقاد، فإن اسم الإيمان واسم الإسلام يتواردان، أي حبب إليكم الإيمان الذي هو الدين الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا تحريض على التسليم لما يأمر به الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في معنى قوله تعالى: {حتى يُحَكِّموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت ويسلموا تسليمًا} [النساء: 65]، ولذا فكونه حبّب إليهم الإيمان إدماج وإيجاز.
والتقدير: ولكن الله شرع لكم الإسلام وحببه إليكم أي دعاكم إلى حبه والرضى به فامتثلتم.
وفي قوله: {وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان} تعريض بأن الذين لا يطيعون الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم بقية من الكفر والفسوق، قال تعالى: {وإذا دُعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون} إلى قوله: {هم الظالمون} [النور: 48 50].
والمقصود من هذا أن يتركوا ما ليس من أحكام الإيمان فهو من قبيل قوله: {بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان} [الحجرات: 11] تحذيرًا لهم من الحياد عن مَهْيَععِ الإيمان وتجنيبًا لهم ما هو من شأن أهل الكفر.
فالخبر في قوله: {حبب إليكم الإيمان} إلى قوله: {والعصيان} مستعمل في الإلهاب وتحريك الهِمم لمراعاة محبة الإيمان وكراهة الكفر والفسوق والعصيان، أي إن كنتم أحببتم الإيمان وكرهتم الكفر والفسوق والعصين فلا ترغبوا في حصول ما ترغبونه إذا كان الدين يصد عنه وكان الفسوق والعصيان يدعو إليه.
وفي هذا إشارة إلى أن الاندفاع إلى تحصيل المرغوب من الهوى دون تمييز بين ما يرضي الله وما لا يرضيه أثر من آثار الجاهلية مِن آثار الكفر والفسوق والعصيان.
وذكر اسم الله في صدر جملة الاستدراك دون ضمير المتكلم لما يشعر به اسم الجلالة من المهابة والروعة.
وما يقتضيه من واجب اقتبال ما حَبّب إليه ونبذِ ما كَرَّه إليه.
وعدي فعلًا {حبب} و{كَرَّه} بحرف (إلى) لتضمينهما معنى بَلَّغَ، أي بلغ إليكم حب الإيمان وكُره الكفر.
ولم يعدّ فعل {وزينه} بحرف (إلى) مثل فعلي {حبّب} و{كرّه}، للإيماء إلى أنه لما رغّبهم في الإيمان وكرههم الكفر امتثلوا فأحبّوا الإيمان وزان في قلوبهم.
والتزيين: جعل الشيء زَينا، أي حسنًا قال عمر بن أبي ربيعة:
أجمعتْ خُلتي مع الفجر بَينا ** جَلل الله ذلك الوجه زَيْنا

وجملة {أولئك هم الراشدون} معترضة للمدح.
والإشارة بـ {أولئك} إلى ضمير المخاطبين في قوله: {إليكم} مرتين وفي قوله: {قلوبكم} أي الذين أحبّوا الإيمان وتزينت به قلوبهم، وكَرِهُوا الكفر والفسوقَ والعصيان هم الراشدون، أي هم المستقيمون على طريق الحق.
وأفاد ضمير الفصللِ القصرَ وهو قصر إفراد إشارة إلى أن بينهم فريقا ليسوا براشدين وهم الذين تلبسوا بالفسق حين تلبسهم به فإن أقلعوا عنه التحقوا بالراشدين.
وانتصب {فضلًا من اللَّه ونعمة} على المفعول المطلق المبين للنوع من أفعال {حَبَّب} {وزيَّن} {وكرَّه} لأن ذلك التحبيب والتزيّين والتّكريه من نوع الفضل والنعمة.
وجملة {واللَّه عليم حكيم} تذييل لجملة {واعلموا أن فيكم رسول الله} إلى آخرها إشارة إلى أن ما ذكر فيها من آثار علم الله وحكمته.
والواو اعتراضية. اهـ.

.قال أبو حيان في الآيات السابقة:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}.
هذه السورة مدنية.
ومناسبتها لآخر ما قبلها ظاهرة، لأنه ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ثم قال: {وعد الله الذين آمنوا وعلموا الصالحات} فربما صدر من المؤمن عامل الصالحات بعض شيء مما ينبغي أن ينهى عنه، فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله}.
وكانت عادة العرب، وهي إلى الآن الاشتراك في الآراء، وأن يتكلم كل بما شاء ويفعل ما أحب، فجرى من بعض من لم يتمرن على آداب الشريعة بعض ذلك.
قال قتادة: فربما قال قوم: ينبغي أن يكون كذا لو أنزل في كذا.
وقال الحسن: ذبح قوم ضحايا قبل النبي صلى الله عليه وسلم، وفعل قوم في بعض غزواته شيئًا بآرائهم، فنزلت هذه الآية ناهية عن جميع ذلك.
فقال ابن عباس: نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه.
وتقول العرب: تقدمت في كذا وكذا، وقدمت فيه إذ قلت فيه.
وقرأ الجمهور: {لا تقدموا}، فاحتمل أن يكون متعديًا، وحذف مفعوله ليتناول كل ما يقع في النفس مما تقدم، فلم يقصد لشيء معين، بل النهي متعلق بنفس الفعل دون تعرض لمفعول معين، كقولهم: فلان يعطي ويمنع.
واحتمل أن يكون لازمًا بمعنى تقدم، كما تقول: وجه بمعنى توجه، ويكون المحذوف مما يوصل إليه بحرف، أي لا تتقدّموا في شيء مّا من الأشياء، أو بما يحبون.
ويعضد هذا الوجه قراءة ابن عباس وأبي حيوة والضحاك ويعقوب وابن مقسم.
لا تقدموا، بفتح التاء والقاف والدال على اللزوم، وحذفت التاء تخفيفًا، إذ أصله لا تتقدموا.
وقرأ بعض المكيين: {تقدموا} بشد التاء، أدغم تاء المضارعة في التاء بعدها، كقراءة البزي.
وقرئ: {لا تقدموا}، مضارع قدم، بكسر الدال، من القدوم، أي لا تقدموا إلى أمر من أمور الدين قبل قدومها، ولا تعجلوا عليها، والمكان المسامت وجه الرجل قريبًا منه.
قيل: فيه بين يدي المجلوس إليه توسعًا، لما جاور الجهتين من اليمين واليسار، وهي في قوله: {بين يدي الله}، مجاز من مجاز التمثيل.
وفائدة تصوير الهجنة والشناعة فيها؛ نهوا عنه من الإقدام على أمر دون الاهتداء على أمثلة الكتاب والسنة؛ والمعنى: لا تقطعوا أمرًا إلا بعدما يحكمان به ويأذنان فيه، فتكونوا عاملين بالوحي المنزل، أو مقتدين برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا، وعلى هذا مدار تفسير ابن عباس.
وقال مجاهد: لا تفتاتوا على الله شيئًا حتى يقصه الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي هذا النهي توطئة لما يأتي بعد من نهيهم عن رفع أصواتهم.
ولما نهى أمر بالتقوى، لأن من التقوى اجتناب المنهي عنه.
{إن الله سميع} لأقوالكم، {عليم} بنياتكم وأفعالكم.
ثم ناداهم ثانيًا، تحريكًا لما يلقيه إليهم، واستعبادًا لما يتجدد من الأحكام، وتطرية للإنصات.
ونزلت بسبب عادة الأعراب من الجفاء وعلو الصوت.
{لا ترفعوا أصواتكم}: أي إذا نطق ونطقتم، {ولا تجهروا بالقول} إذا كلمتموه، لأن رتبة النبوة والرسالة يجب أن توقر وتجل، ولا يكون الكلام مع الرسول صلى الله عليه وسلم كالكلام مع غيره.
ولما نزلت، قال أبو بكر رضي الله عنه: لاأكلمك يا رسول الله إلا السرار أو أخا السرار حتى ألقى الله.
وعن عمر رضي الله عنه، أنه كان يكلم النبي صلى الله عليه وسلم كأخي السرار، لا يسمعه حتى يستفهمه.
وكان أبو بكر، إذا قدم على الرسول الله صلى الله عليه وسلم، قوم أرسل إليهم من يعلمهم كيف يسلمون، ويأمرهم بالسكينة والوقار عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن الرفع والجهر إلا ما كان في طباعهم، لا أنه مقصود بذلك الاستخفاف والاستعلاء، لأنه كان يكون فعلهم ذلك كفرًا، والمخاطبون مؤمنون.
{كجهر بعضكم لبعض}: أي في عدم المبالاة وقلة الاحترام، فلم ينهوا إلا عن جهر مخصوص.
وكره العلماء رفع الصوت عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبحضرة العالم، وفي المساجد.
وعن ابن عباس: نزلت في ثابت بن قيس بن شماس، وكان في أذنه وقر، وكان جهير الصوت، وحديثه في انقطاعه في بيته أيامًا بسبب ذلك مشهور، وأنه قال: يا رسول الله، لما أنزلت، خفت أن يحبط عملي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنك من أهل الجنة».
وقال له مرة: «أما ترضى أن تعيش حميدًا وتموت شهيدًا»؟ فعاش كذلك، ثم قتل باليمامة، رضي الله تعالى عنه يوم مسيلمة {أن تحبط أعمالكم}: إن كانت الآية معرضة بمن يجهر استخفافًا، فذلك كفر يحبط معه العمل حقيقة؛ وإن كانت للمؤمن الذي يفعل ذلك غفلة وجريًا على عادته، فإنما يحبط عمله البر في توقير النبي صلى الله عليه وسلم، وغض الصوت عنده، أن لو فعل ذلك، كأنه قال: مخافة أن تحبط الأعمال التي هي معدة أن تعملوها فتؤجروا عليها.
وأن تحبط مفعول له، والعامل فيه ولا تجهروا، على مذهب البصريين في الاختيار، ولا ترفعوا على مذهب الكوفيين في الاختيار، ومع ذلك، فمن حيث المعنى حبوط العمل علة في كل من الرفع والجهر.
وقرأ عبد الله وزيد بن علي: فتحبط بالفاء، وهو مسبب عن ما قبله.
{إن الذين يغضون أصواتهم}، قيل: نزلت في أبي بكر وعمر، رضي الله تعالى عنهما، لما كان منهما من غض الصوت والبلوغ به أخا السرار.
{امتحن الله قلوبهم للتقوى}: أي جربت ودربت للتقوى، فهي مضطلعة بها، أو وضع الامتحان موضع المعرفة، لأن تحقيق الشيء باختباره، أي عرف قلوبهم كائنة للتقوى في موضع الحال، أو ضرب الله قلوبهم بأنواع المحن لأجل التقوى، أي لتثبت وتظهر تقواها.
وقيل: أخلصها للتقوى من قولهم: امتحن الذهب وفتنة إذا أذابه، فخلص إبريزه من خبثه.
وجاءت في هذه الآية إن مؤكدة لمضمون الجملة، وجعل خبرها جملة من اسم الإشارة الدال على التفخيم والمعرفة بعده، جائيًا بعد ذكر جزائهم على غض أصواتهم.
وكل هذا دليل على أن الارتضاء بما فعلوا من توقير النبي صلى الله عليه وسلم، بغض أصواتهم، وفيها تعريض بعظيم ما ارتكب رافعو أصواتهم واستجابهم ضد ما استوجبه هؤلاء.
{إن الذين ينادونك من وراء الحجرات}: نزلت في وفد بني تميم الأقرع بن حابس، والزبرقان بن بدر، وعمرو بن الأهتم وغيرهم.
وفدوا ودخلوا المسجد وقت الظهيرة، والرسول صلى الله عليه وسلم راقد، فجعلوا ينادونه بجملتهم: يا محمد، أخرج إلينا.
فاستيقظ فخرج، فقال له الأقرع بن حابس: يا محمد، إن مدحي زين وذمي شين، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ويلك ذلك الله تعالى».