فصل: من أقوال المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولما كانت الشناعة والفساد في قتال الجماعة أكثر، عبر بضمير الجمع دون التثنية تصويرًا لذلك بأقبح صورة فقال: {اقتتلوا} أي فاختلطوا بسبب القتال حتى كانوا كالفرقة الواحدة {فأصلحوا} أي فأوقعوا الإصلاح ليحصل الصلح.
ولما كانت العبرة في الصلح إذا وقع بين الطائفتين ما يسكن به الشر وإن تخلف شذان من الجانبين لا يعبأ بهم، عبر بالتثنية دون الجمع فقال: {بينهما} أي بالوعظ والإرشاد الدنيوي والأخروي، ولا تظنوا أن الباغي غير مؤمن فتتجاوزوا فيه أمر الله.
ولما كان البغي من أشنع الأمور فكان ينبغي أن لم يلم به أحد، عبر بأداة الشك إرشادًا إلى ذلك فقال: {فإن بغت} أي أوقعت الإرادة السيئة الكائنة من النفوس التي لا تأمر بخير {إحداهما} أي الطائفتين {على الأخرى} فلم ترجع إلى حكم الله الذي خرجت عنه ولم تقبل الحق.
ولما كان الإضمار هنا ربما أوهم لبسًا فتمسك به متعنت في أمر فساد، أزال بالإظهار كل لبس فقال: {فقاتلوا} أي أوجدوا واطلبوا مقاتلة {التي}.
ولما كان القتال لا يجوز إلا بالاستمرار على البغي، عبر بالمضارع إفهامًا لأنه متى زال البغي ولو بالتوبة من غير شوكة حرم القتال فقال: {تبغي} أي توقع الإرادة وتصر عليها، وأديموا القتال لها {حتى تفيء} أي ترجع مما صارت إليه من جر القطيعة الذي كأنه حر الشمس حين نسخه الظل إلى ما كانت فيه من البر والخير الذي هو كالظل الذي ينسخ الشمس، وهو معنى قوله تعالى: {إلى أمر الله} أي التزام ما أمر به الملك الذي لا يهمل الظالم، بل لا بد أن يقاصصه وأمره ما كانت عليه من العدل قبل البغي.
ولما كانت مقاتلة الباغي جديرة بترجيعه، أشار إلى ذلك بقوله: {فإن فاءت} أي رجعت إلى ما كانت عليه من التمسك بأمر الله الذي هو العدل {فأصلحوا} أي أوقعوا الإصلاح {بينهما}.
ولما كان الخصام يجر في الغالب من القول والفعل ما يورث للمصلحين إحنة على بعض المتخاصمين، فيحمل ذلك على الميل مع بعض على بعض، قال: {بالعدل} ولا يحملكم القتال على الحقد على المتقاتلين فتحيفوا.
ولما كان العدل في مثل ذلك شديدًا على النفوس لما تحملت من الضغائن قال تعالى: {وأقسطوا} أي وأزيلوا القسط- بالفتح وهو الجور- بأن تفعلوا القسط بالكسر وهو العدل العظيم الذي لا جور فيه، في ذلك وفي جميع أموركم، ثم علله ترغيبًا فيه بقوله مؤكدًا تنبيهًا على أنه من أعظم ما يتمادح به، وردًّا على من لعله يقول: إنه لا يلزم نفسه الوقوف عنده إلا ضعيف: {إن الله} أي الذي بيده النصر والخذلان {يحب المقسطين} أي يفعل مع أهل العدل من الإكرام فعل المحب.
ولما أمر بما قد يفضي إلى القتال، وكان الباغي ربما كان أقرب إلى الصلح من جهة النسب من المبغيّ عليه فروعي، وكان القتال أمرًا شاقًا ربما حمل على الإحجام عن الإصلاح، علل ذلك سبحانه بما قدم فيه قرابة الدين على قرابة النسب، وكشف كشفًا تامًا عن أنه لا يسوغ له تركه لما يؤدي إليه من تفريق الشمل المؤدي إلى وهن الإسلام وأهله المؤدي إلى ظهور الباطل المؤدي إلى الفساد الأعظم الذي لا تدارك له فقال تعالى: {إنما المؤمنون} أي كلهم وإن تباعدت أنسابهم وأغراضهم وبلادهم {إخوة} لانتسابهم إلى أصل واحد وهو الإيمان، لا بعد بينهم، ولا يفضل أحد منهم على أحد بجهة غير جهة الإيمان.
ولما كانت الأخوة داعية ولا بد إلى الإصلاح، سبب عنها قوله: {فأصلحوا}.
ولما كانت الطائفة قد تطلق على ما هو أصل لأن يطاف حوله كما يطلق على ما فيه أهلية التحليق والطواف، وكان أقل ما يكون ذلك في الأثنين، وأن مخاصمتهما يجر إلى مخاصمة طائفتين بأن يغضب لكل ناس من قبيلته وأصحابه، قال واضعًا الظاهر موضع المضمر مبالغة في تقرير الأمر وتأكيده، وإعلامًا بأن المراد بالطائفة القوة لا الفعل بحيث يكون ذلك شاملًا للاثنين فما فوقهما: {بين أخويكم} أي المختلفين بقتال أو غيره كما تصلحون بين أخويكم من النسب، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير، بل الأمر كما نقل عن أبي عثمان الحيري أن أخوة الدين أثبت من أخوة النسب، وقرأ يعقوب {إخوتكم} بالجمع، وقراءة الجماعة أبلغ لدلالتها على الاثنين فما فوقهما بالمطابقة {واتقوا الله} أي الملك الأعظم الذين هم عباده في الإصلاح بينهما بالقتال وغيره، لا تفعلوا ما صورته إصلاح وباطنه إفساد، وأشار إلى سهولة الأمور عنده ونفوذ أمره وأن النفوس إنما تشوفها إلى الإكرام لا إلى كونه من معين، فبنى للمفعول قوله تعالى: {لعلكم ترحمون} أي لتكونوا إذا فعلتم ذلك على رجاء عند أنفسكم ومن ينظركم من أن يكرمكم الذي لا قادر في الحقيقة على الإكرام غيره بأنواع الكرامات كما رحمتم إخوتكم بإكرامهم عن إفساد ذات البين التي هي الحالقة، وقد دلت الآية أن الفسق بغير الكفر لا يخرج عن الإيمان، وعلى أن الإصلاح من أعظم الطاعات، وعلى وجوب نصر المظلوم لأن القتال لا يباح بدون الوجوب، قال القشيري: وذلك يدل على عظم وزر الواشي والنمام والمضرب في إفساد ذات البين، وقال: من شرط الأخوة أن لا تحوج أخاك إلى الاستعانة بك والتماس النصرة منك، ولا تقصر في تفقد أحواله بحيث يشكل عليك موضع حاجته فيحتاج إلى مسألتك. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا}.
لما حذر الله المؤمنين من النبأ الصادر من الفاسق، أشار إلى ما يلزم منه استدراكًا لما يفوت، فقال فإن اتفق أنكم تبنون على قول من يوقع بينكم، وآل الأمر إلى اقتتال طائفتين من المؤمنين، فأزيلوا ما أثبته ذلك الفاسق وأصلحوا بينهما {فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأخرى فقاتلوا التي تَبْغِى} أي الظالم يجب عليكم دفعه عنه، ثم إن الظالم إن كان هو الرعية، فالواجب على الأمير دفعهم، وإن كان هو الأمير، فالواجب على المسلمين منعه بالنصيحة فما فوقها، وشرطه أن لا يثير فتنة مثل التي في اقتتال الطائفتين أو أشد منهما، وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
قوله تعالى: {وإِنْ} إشارة إلى ندرة وقوع القتال بين طوائف المسلمين، فإن قيل فنحن نرى أكثر الاقتتال بين طوائفهم؟ نقول قوله تعالى: {وإِنْ} إشارة إلى أنه ينبغي أن لا يقع إلا نادرًا، غاية ما في الباب أن الأمر على خلاف ما ينبغي، وكذلك {إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} [الحجرات: 6] إشارة إلى أن مجيء الفاسق بالنبأ ينبغي أن يقع قليلًا، مع أن مجيء الفاسق بالنبأ كثير، وقول الفاسق صار عند أولي الأمر أشد قبولًا من قول الصادق الصالح.
المسألة الثانية:
قال تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ} ولم يقل وإن فرقتان تحقيقًا للمعنى الذي ذكرناه وهو التقليل، لأن الطائفة دون الفرقة، ولهذا قال تعالى: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلّ فِرْقَةٍ مّنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة: 122].
المسألة الثالثة:
قال تعالى: {مِنَ المؤمنين} ولم يقل منكم، مع أن الخطاب مع المؤمنين لسبق قوله تعالى: {يا أيها الذين ءَامَنُواْ إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} [الحجرات: 6] تنبيهًا على قبح ذلك وتبعيدًا لهم عنهم، كما يقول السيد لعبده: إن رأيت أحدًا من غلماني يفعل كذا فامنعه، فيصير بذلك مانعًا للمخاطب عن ذلك الفعل بالطريق الحسن، كأنه يقول: أنت حاشاك أن تفعل ذلك، فإن فعل غيرك فامنعه، كذلك هاهنا قال: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المؤمنين} ولم يقل منكم لما ذكرنا من التنبيه مع أن المعنى واحد.
المسألة الرابعة:
قال تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا} ولم يقل: وإن اقتتل طائفتان من المؤمنين، مع أن كلمة {إن} اتصالها بالفعل أولى، وذلك ليكون الابتداء بما يمنع من القتال، فيتأكد معنى النكرة المدلول عليها بكلمة {إن} وذلك لأن كونهما طائفتين مؤمنتين يقتضي أن لا يقع القتال منهما، فإن قيل فلم لم يقل: يا أيها الذين آمنوا إن فاسق جاءكم، أو إن أحد من الفساق جاءكم، ليكون الابتداء بما يمنعهم من الإصغاء إلى كلامه، وهو كونه فاسقًا؟ نقول المجيء بالنبأ الكاذب يورث كون الإنسان فاسقًا، أو يزداد بسببه فسقه، فالمجيء به سبب الفسق فقدمه.
وأما الاقتتال فلا يقع سببًا للإيمان أو الزيادة، فقال: {إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ} أي سواء كان فاسقًا أو لا أو جاءكم بالنبأ فصار فاسقًا به، ولو قال: وإن أحد من الفساق جاءكم، كان لا يتناول إلا مشهور الفسق قبل المجيء إذا جاءهم بالنبأ.
المسألة الخامسة:
قال تعالى: {اقتتلوا} ولم يقل: يقتتلوا، لأن صيغة الاستقبال تنبئ عن الدوام والاستمرار، فيفهم منه أن طائفتين من المؤمنين إن تمادى الاقتتال بينهما فأصلحوا، وهذا لأن صيغة المستقبل تنبئ عن ذلك، يقال فلان يتهجد ويصوم.
المسألة السادسة:
قال: {اقتتلوا} ولم يقل اقتتلا، وقال: {فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا} ولم يقل بينهم، ذلك لأن عند الاقتتال تكون الفتنة قائمة، وكل أحد برأسه يكون فاعلًا فعلًا، فقال: {اقتتلوا} وعند العود إلى الصلح تتفق كلمة كل طائفة، وإلا لم يكن يتحقق الصلح فقال: {بَيْنَهُمَا} لكون الطائفتين حينئذ كنفسين.
ثم قال تعالى: {فَإِن بَغَتْ إِحَدَاهُمَا} إشارة إلى نادرة أخرى وهي البغي، لأنه غير متوقع، فإن قيل كيف يصح في هذا الموضع كلمة {إن} مع أنها تستعمل في الشرط الذي لا يتوقع وقوعه، وبغي أحدهما عند الاقتتال لا بد منه، إذ كل واحد منهما لا يكون محسنًا، فقوله: {إن} تكون من قبيل قول القائل: إن طلعت الشمس، نقول فيه معنى لطيف، وهو أن الله تعالى يقول: الاقتتال بين طائفتين لا يكون إلا نادر الوقوع، وهو كما تظن كل طائفة أن الأخرى فيها الكفر والفساد، فالقتال واجب كما سبق في الليالي المظلمة، أو يقع لكل واحد أن القتال جائز بالاجتهاد، وهو خطأ، فقال تعالى: الاقتتال لا يقع إلا كذا، فإن بان لهما أو لأحدهما الخطأ واستمر عليه فهو نادر، وعند ذلك يكون قد بغى فقال: {فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأخرى} يعني بعد استبانة الأمر، وحينئذ فقوله: {فَإِن بَغَتْ} في غاية الحسن لأنه يفيد الندرة وقلة الوقوع، وفيه أيضًا مباحث الأول: قال: {فَإِن بَغَتْ} ولم يقل فإن تبغ لما ذكرنا في قوله تعالى: {اقتتلوا} ولم يقل يقتتلوا الثاني: قال: {حتى تَفِيء} إشارة إلى أن القتال ليس جزاء للباغي كحد الشرب الذي يقام وإن ترك الشرب، بل القتال إلى حد الفيئة، فإن فاءت الفئة الباغية حرم قتالهم الثالث: هذا القتال لدفع الصائل، فيندرج فيه وذلك لأنه لما كانت الفيئة من إحداهما، فإن حصلت من الأخرى لا يوجد البغي الذي لأجله حلَّ القتال الرابع: هذا دليل على أن المؤمن بالكبيرة لا يخرج عن كونه مؤمنًا لأن الباغي جعله من إحدى الطائفتين وسماهما مؤمنين الخامس: قوله تعالى: {إلى أَمْرِ الله} يحتمل وجوهًا أحدها: إلى طاعة الرسول وأولي الأمر لقوله تعالى: {أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ}.
[النساء: 59].
وثانيها: إلى أمر الله، أي إلى الصلح فإنه مأمور به يدل عليه قوله تعالى: {وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ} [الأنفال: 1]، ثالثها: إلى أمر الله بالتقوى، فإن من خاف الله حق الخوف لا يبقى له عداوة إلا مع الشيطان كما قال تعالى: {إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ فاتخذوه عَدُوًّا} [فاطر: 6]، السادس: لو قال قائل قد ذكرتم ما يدل على كون الشرط غير متوقع الوقوع وقلتم بأن القتال والبغي من المؤمن نادر، فإذن تكون الفئة متوقعة فكيف قال: {فَإِن فَاءتْ}؟ نقول قول القائل لعبده: إن مت فأنت حر، مع أن الموت لا بد من وقوعه، لكن لما كان وقوعه بحيث يكون العبد محلًا للعتق بأن يكون باقيًا في ملكه حيًا يعيش بعد وفاته غير معلوم فكذلك هاهنا لما كان الواقع فيئتهم من تلقاء أنفسهم فلما لم يقع دل على تأكيد الأخذ بينهم فقال تعالى: {فَإِن فَاءَتْ} بقتالكم إياهم بعد اشتداد الأمر والتحام الحرب فأصلحوا، وفيه معنى لطيف وهو أنه تعالى أشار إلى أن من لم يخف الله وبغى لا يكون رجوعه بقتالكم إلا جبرًا السابع: قال ههنا: {فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بالعدل} ولم يذكر العدل في قوله: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ} نقول لأن الإصلاح هناك بإزالة الاقتتال نفسه، وذلك يكون بالنصيحة أو التهديد والزجر والتعذيب، والإصلاح هاهنا بإزالة آثار القتل بعد اندفاعه من ضمان المتلفات وهو حكم فقال: {بالعدل} فكأنه قال: واحكموا بينهما بعد تركهما القتال بالحق وأصلحوا بالعدل مما يكون بينهما، لئلا يؤدي إلى ثوران الفتنة بينهما مرة أخرى الثامن: إذا قال: {فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بالعدل} فأية فائدة في قوله: {وَأَقْسِطُواْ} نقول قوله فأصلحوا بينهما بالعدل كان فيه تخصيص بحال دون حال فعمم الأمر بقوله: {وَأَقْسِطُواْ} أي في كل أمر مفض إلى أشرف درجة وأرفع منزلة وهي محبة الله، والإقساط إزالة القسط وهو الجور القاسط هو الجائر، والتركيب دال على كون الأمر غير مرضي من القسط والقاسط في القلب وهو أيضًا غير مرضي ولا معتد به فكذلك القسط.
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)}.
ثم قال تعالى: {إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} تتميمًا للإرشاد وذلك لأنه لما قال: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا} [الحجرات: 9] كان لظان أن يظن أو لمتوهم أن يتوهم أن ذلك عند اختلاف قوم، فأما إذا كان الاقتتال بين اثنين فلا تعم المفسدة فلا يؤمر بالإصلاح، وكذلك الأمر بالإصلاح هناك عند الاقتتال، وأما إذا كان دون الاقتتال كالتشاتم والتسافه فلا يجب الإصلاح فقال: {بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} وإن لم تكن الفتنة عامة وإن لم يكن الأمر عظيمًا كالقتال بل لو كان بين رجلين من المسلمين أدنى اختلاف فاسعوا في الإصلاح.
وقوله: {واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} فيه مسائل:
المسألة الأولى:
قوله تعالى: {إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ} قال بعض أهل اللغة الأخوة جمع الأخ من النسب والإخوان جمع الأخ من الصداقة، فالله تعالى قال: {إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ} تأكيدًا للأمر وإشارة إلى أن ما بينهم ما بين الأخوة من النسب والإسلام كالأب، قال قائلهم:
أبي الإسلام لا أب لي سواه ** إذا افتخروا بقيس أو تميم

المسألة الثانية:
عند إصلاح الفريقين والطائفتين لم يقل اتقوا، وقال هاهنا اتقوا مع أن ذلك أهم؟ نقول الفائدة هو أن الاقتتال بين طائفتين يفضي إلى أن تعم المفسدة ويلحق كل مؤمن منها شيء وكل يسعى في الإصلاح لأمر نفسه فلم يؤكد بالأمر بالتقوى، وأما عند تخاصم رجلين لا يخاف الناس ذلك وربما يزيد بعضهم تأكد الخصام بين الخصوم لغرض فاسد فقال: {فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ واتقوا الله} أو نقول قوله: {فَأَصْلِحُواْ} إشارة إلى الصلح، وقوله: {واتقوا الله} إشارة إلى ما يصونهم عن التشاجر، لأن من اتقى الله شغله تقواه عن الاشتغال بغيره، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «المسلم من سلم الناس من لسانه ويده» لأن المسلم يكون منقادًا لأمر الله مقبلًا على عباد الله فيشغله عيبه عن عيوب الناس ويمنعه أن يرهب الأخ المؤمن، وإليه أشار النبي صلى الله عليه وسلم: «المؤمن من يأمن جاره بوائقه» يعني اتق الله فلا تتفرغ لغيره.
المسألة الثالثة:
{إِنَّمَا} للحصر أي لا أخوة إلا بين المؤمنين، وأما بين المؤمن والكافر فلا، لأن الإسلام هو الجامع ولهذا إذا مات المسلم وله أخ كافر يكون ماله للمسلمين ولا يكون لأخيه الكافر، وأما الكافر فكذلك لأن في النسب المعتبر الأب الذي هو أب شرعًا، حتى أن ولدي الزنا من رجل واحد لا يرث أحدهما الآخر، فكذلك الكفر كالجامع الفاسد فهو كالجامع العاجز لا يفيد الأخوة، ولهذا من مات من الكفر وله أخ مسلم ولا وارث له من النسب لا يجعل ماله للكفار، ولو كان الدين يجمعهم لكان مال الكافر للكفار، كما أن مال المسلم للمسلمين عند عدم الوارث، فإن قيل قد ثبت أن الأخوة للإسلام أقوى من الأخوة النسبية، بدليل أن المسلم يرثه المسلمون ولا يرثه الأخ الكافر من النسب، فلم لم يقدموا الأخوة الإسلامية على الأخوة النسبية مطلقًا حتى يكون مال المسلم للمسلمين لا لأخوته من النسب؟ نقول هذا سؤال فاسد، وذلك لأن الأخ المسلم إذا كان أخًا من النسب فقد اجتمع فيه أخوتان فصار أقوى والعصوبة لمن له القوة، ألا ترى أن الأخ من الأبوين يرث ولا يرث الأخ من الأب معه فكذلك الأخ المسلم من النسب له أخوتان فيقدم على سائر المسلمين، والله أعلم.