فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



المسألة الرابعة:
قال النحاة (ما) في هذا الموضع كافة تكف إن عن العمل، ولولا ذلك لقيل: إنما المؤمنين إخوة، وفي قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ الله} [آل عمران: 159] وقوله: {عَمَّا قَلِيلٍ} [المؤمنون: 40] ليست كافة.
والسؤال الأقوى هو أن رب من حروف الجر والباء وعن كذلك، وما في رب كافة وفي عما وبما ليست كافة، والتحقيق فيه هو أن الكلام بعد ربما وإنما يكون تامًا، ويمكن جعله مستقلًا ولو حذف ربما وإنما لم ضر، فنقول ربما قام الأمير وربما زيد في الدار، ولو حذفت ربما وقلت زيد في الدار وقام الأمير لصح، وكذلك في إنما ولكنما، وأما عما وبما فليست كذلك، لأن قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ الله لِنتَ لَهُمْ} لو أذهبت بما وقلت رحمة من الله لنت لهم، لما كان كلامًا فالباء يعد تعلقها بما يحتاج إليها فهي باقية حقيقة، ولكنما وإنما وربما لما استغنى عنها فكأنها لم يبق حكمها ولا عمل للمعدوم، فإن قيل إن إذا لم تكف بما فما بعده كلام تام، فوجب أن لا يكون له عمل تقول إن زيدًا قائم ولو قلت زيد قائم لكفى وتم؟ نقول: ليس كذلك لأن ما بعد إن جاز أن يكون نكرة، تقول إن رجلًا جاءني وأخبرني بكذا وأخبرني بعكسه، وتقول جاءني رجل وأخبرني، ولا يحسن إنما رجل جاءني كما لو لم تكن هناك إنما، وكذلك القول في بينما وأينما فإنك لو حذفتهما واقتصرت على ما يكون بعدهما لا يكون تامًا فلم يكف، والكلام في لعل قد تقدم مرارًا. اهـ.

.قال القرطبي:

{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} فيه عشر مسائل:
الأولى قوله تعالى: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا} روَى الْمُعْتَمِر بن سليمان عن أنس بن مالك قال: قلت: يا نبيّ الله، لو أتيت عبد لله ابن أُبَيّ؟ فانطلق إليه النبيّ صلى الله عليه وسلم، فركب حمارًا وانطلق المسلمون يمشون، وهي أرض سَبِخة؛ فلما أتاه النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: إليك عني! فوالله لقد أذاني نَتْن حمارك.
فقال رجل من الأنصار: والله لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحًا منك.
فغضب لعبد الله رجل من قومه، وغضب لكل واحد منهما أصحابه؛ فكان بينهم حرب بالجريد والأيدي والنعال؛ فبلغنا أنه أنزل فيهم هذه الآية.
وقال مجاهد: نزلت في الأوس والخزرج.
قال مجاهد: تقاتل حيّان من الأنصار بالعصي والنعال فنزلت الآية.
ومثله عن سعيد بن جبير: أن الأوس والخزرج كان بينهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قتال بالسَّعف والنعال ونحوه؛ فأنزل الله هذه الآية فيهم.
وقال قتادة: نزلت في رجلين من الأنصار كانت بينهما مدارأة في حق بينهما؛ فقال أحدهما: لآخذن حقي عَنوة؛ لكثرة عشيرته.
ودعاه الآخر إلى أن يحاكمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى أن يتبعه؛ فلم يزل الأمر بينهما حتى تواقعا وتناول بعضهم بعضًا بالأيدي والنعال والسيوف، فنزلت هذه الآية.
وقال الكلبي: نزلت في حرب سُمير وحاطب، وكان سُمير قتل حاطبًا، فاقتتل الأوس والخزرج حتى أتاهم النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فنزلت.
وأمر الله نبيّه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أن يصلحوا بينهما.
وقال السُّدّي: كانت امرأة من الأنصار يقال لها: أم زيد تحت رجل من غير الأنصار، فتخاصمت مع زوجها، أرادت أن تزور قومها فحبسها زوجها وجعلها في عُلِّيّة لا يدخل عليها أحد من أهلها، وأن المرأة بعثت إلى قومها، فجاء قومها فأنزلوها لينطلقوا بها، فخرج الرجل فاستغاث أهله فخرج بنو عمه ليحولوا بين المرأة وأهلها، فتدافعوا وتجالدوا بالنعال؛ فنزلت الآية.
والطائفة تتناول الرجل الواحد والجمع والاْثنين، فهو مما حمل على المعنى دون اللفظ، لأن الطائفتين في معنى القوم والناس.
وفي قراءة عبد الله {حَتَّى يَفِيئُوا إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإنْ فَاءُوا فخذوا بينهم بِالقِسطِ}.
وقرأ ابن أبي عَبْلَة {اقتتلتا} على لفظ الطائفتين.
وقد مضى في آخر (براءة) القول فيه.
وقال ابن عباس في قوله عز وجل: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين} [النور: 2] قال: الواحد فما فوقه، والطائفة من الشيء القطعة منه.
{فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا} بالدعاء إلى كتاب الله لهما أو عليهما {فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأخرى} تعدّت ولم تجب إلى حكم الله وكتابه.
والبغي: التطاول والفساد.
{فَقَاتِلُواْ التي تَبْغِي حتى تفياء إلى أَمْرِ الله} أي ترجع إلى كتابه {فَإِن فَاءَتْ} رجعت {فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بالعدل} أي احملوهما على الإنصاف.
{وأقسطوا} أيها الناس فلا تقتتلوا.
وقيل: أقسطوا أي اعدلوا.
{إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين} أي العادلين المحقين.
الثانية قال العلماء: لا تخلو الفئتان من المسلمين في اقتتالهما، إما أن يقتتلا على سبيل البغي منهما جميعًا أو لا.
فإن كان الأوّل فالواجب في ذلك أن يُمْشَى بينهما بما يصلح ذات البين ويُثمر المكافّة والموادعة.
فإن لم يتحاجزا ولم يصطلحا وأقامتا على البغي صِير إلى مقاتلتهما.
وأما إن كان الثاني وهو أن تكون إحداهما باغيةً على الأخرى، فالواجب أن تقاتل فئة البغي إلى أن تكف وتتوب، فإن فعلت أصلح بينها وبين المبغيّ عليها بالقسط والعدل.
فإن التحم القتال بينهما لشبهة دخلت عليهما وكلتاهما عند أنفسهما محقة، فالواجب إزالة الشبهة بالحجة النيّرة والبراهين القاطعة على مراشد الحق.
فإن ركبتا متن اللّجاج ولم تعملا على شاكلة ما هُدِيَتَا إليه ونُصحتا به من اتباع الحق بعد وضوحه لهما فقد لحقتا بالفئتين الباغيتين.
والله أعلم.
الثالثة في هذه الآية دليل على وجوب قتال الفئة الباغية المعلوم بغيها على الإمام أو على أحد من المسلمين.
وعلى فساد قول من منع من قتال المؤمنين، واحتج بقوله عليه السلام: «قتال المؤمن كفر» ولو كان قتال المؤمن الباغي كفرًا لكان الله تعالى قد أمر بالكفر، تعالى الله عن ذلك! وقد قاتل الصدّيق رضي الله عنه: من تمسك بالإسلام وامتنع من الزكاة؛ وأمر ألا يُتبع مُوَلٍّ، ولا يُجهز على جريح، ولم تحل أموالهم، بخلاف الواجب في الكفار.
وقال الطبري: لو كان الواجب في كل اختلاف يكون بين الفريقين الهربَ منه ولزومَ المنازل لما أقيم حدّ ولا أبطل باطل، ولَوَجد أهل النفاق والفجور سبيلًا إلى استحلال كلّ ما حرم الله عليهم من أموال المسلمين وسَبْي نسائهم وسفك دمائهم، بأن يتحزّبوا عليهم، ويكفّ المسلمون أيديهم عنهم، وذلك مخالف لقوله عليه السلام: «خذوا على أيدي سفهائكم».
الرابعة قال القاضي أبو بكر بن العربي: هذه الآية أصل في قتال المسلمين، والعمدة في حرب المتأولين، وعليها عوّل الصحابة، وإليها لجأ الأعيان من أهل الملة، وإياها عنى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «تَقْتل عَمَّارًا الفئةُ الباغية» وقوله عليه السلام في شأن الخوارج: «يخرجون على خير فرقة أو على حين فرقة»، والرواية الأولى أصح، لقوله عليه السلام: «تقتلهم أوْلَى الطائفتين إلى الحق» وكان الذي قتلهم عليّ بن أبي طالب ومن كان معه.
فتقرر عند علماء المسلمين وثبت بدليل الدِّين أن عليًا رضي الله عنه كان إمامًا، وأن كل من خرج عليه باغٍ وأن قتاله واجب حتى يفيء إلى الحق وينقاد إلى الصلح؛ لأن عثمان رضي الله عنه قُتل والصحابة بُرَاء من دمه، لأنه مَنع من قتال من ثار عليه وقال: لا أكون أوّل مَن خَلَفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته بالقتل، فصبر على البلاء، واستسلم للمحنة وفدى بنفسه الأمة.
ثم لم يمكن ترك الناس سُدى، فعرضت على باقي الصحابة الذين ذكرهم (عمر) في الشورى، وتدافعوها، وكان عليّ كرّم الله وجهه أحق بها وأهلها، فقبلها حَوْطة على الأمة أن تسفك دماؤها بالتهارج والباطل، أو يتخرق أمرها إلى ما لا يتحصل.
فربما تغيّر الدِّين وانقض عمود الإسلام.
فلما بويع له طلب أهل الشام في شرط البيعة التمكن من قَتَلة عثمان وأخذ القَوَد منهم، فقال لهم عليّ رضي الله عنه: ادخلوا في البيعة واطلبوا الحق تصلوا إليه.
فقالوا: لا تستحق بيعةً وقَتَلَة عثمان معك تراهم صباحًا ومَساء.
فكان عليّ في ذلك أسدَّ رأيًا وأصوبَ قيلًا؛ لأن عليًّا لو تعاطى القَوَد منهم لتعصبت لهم قبائل وصارت حربًا ثالثة؛ فانتظر بهم أن يستوثق الأمر وتنعقد البيعة، ويقع الطلب من الأولياء في مجلس الحكم؛ فيجري القضاء بالحق.
ولا خلاف بين الأمة أنه يجوز للإمام تأخير القصاص إذا أدّى ذلك إلى إثارة الفتنة أو تشتيت الكلمة.
وكذلك جرى لطلحة والزبير؛ فإنهما ما خلعا عليًّا من ولاية ولا اعترضا عليه في ديانة؛ وإنما رأَيَا أن البُداءة بقتل أصحاب عثمان أولى.
قلت: فهذا قول في سبب الحرب الواقع بينهم.
وقال جلّة من أهل العلم: إن الوقعة بالبصرة بينهم كانت على غير عزيمة منهم على الحرب بل فجأة، وعلى سبيل دفع كل واحد من الفريقين عن أنفسهم لظنه أن الفريق الآخر قد غدر به، لأن الأمر كان قد انتظم بينهم، وتم الصلح والتفرّق على الرضا.
فخاف قَتَلة عثمان رضي الله عنه من التمكين منهم والإحاطة بهم، فاجتمعوا وتشاوروا واختلفوا؛ ثم اتفقت آراؤهم على أن يفترقوا فريقين، ويبدءوا بالحرب سحرة في العسكرين، وتختلف السهام بينهم، ويصيح الفريق الذي في عسكر عليّ: غَدَر طلحة والزبير.
والفريق الذي في عسكر طلحة والزبير: غدر عليّ.
فتم لهم ذلك على ما دبروه، ونَشِبَت الحرب، فكان كل فريق دافعًا لمَكْرته عند نفسه، ومانعًا من الإشاطة بدمه.
وهذا صواب من الفريقين وطاعة للّه تعالى، إذ وقع القتال والاْمتناع منهما على هذه السبيل.
وهذا هو الصحيح المشهور.
والله أعلم.
الخامسة قوله تعالى: {فَقَاتِلُواْ التي تَبْغِي حتى تفياء إلى أَمْرِ الله} أمرٌ بالقتال.
وهو فرضٌ على الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين، ولذلك تخلّف قوم من الصحابة رضي الله عنهم عن هذه المقامات، كسعد بن أبي وَقّاص وعبد الله بن عمرو ومحمد بن مسلمة وغيرِهم.
وصوّب ذلك عليُّ بن أبي طالب لهم، واعتذر إليه كل واحد منهم بعذر قَبِله منه.
ويروى أن معاوية رضي الله عنه لما أفضى إليه الأمر، عاتب سعدًا على ما فعل، وقال له: لم تكن ممن أصلح بين الفئتين حين اقتتلا، ولا ممن قاتل الفئة الباغية.
فقال له سعد: ندمتُ على تركي قتالَ الفئةِ الباغية.
فتبيّن أنه ليس على الكل دَرَك فيما فعل، وإنما كان تصرفًا بحكم الاْجتهاد وإعمالًا بمقتضى الشرع.
والله أعلم.
السادسة قوله تعالى: {فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بالعدل} ومن العدل في صلحهم ألا يطالَبوا بما جرى بينهم من دمٍ ولا مال؛ فإنه تَلَف على تأويل.
وفي طلبهم تنفير لهم عن الصلح واستشراءٌ في البغي.
وهذا أصل في المصلحة.
وقد قال لسان الأمة: إن حكمة الله تعالى في حرب الصحابة التعريفُ منهم لأحكام قتال أهل التأويل، إذ كان أحكام قتال أهل الشرك قد عُرفت على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم وفعله.
السابعة إذا خرجت على الإمام العدل خارجةٌ باغيةٌ ولا حجة لها، قاتلهم الإمام بالمسلمين كافّة أو بمن فيه كفاية، ويدعوهم قبل ذلك إلى الطاعة والدخول في الجماعة، فإن أبَوْا من الرجوع والصلح قوتلوا.
ولا يُقتل أسيرهم ولا يتبع مُدْبِرهم ولا يُذَفَّف على جريحهم، ولا تُسْبَى ذراريهم ولا أموالهم.
وإذا قتل العادلُ الباغي، أو الباغي العادلَ وهو وليّه لم يتوارثا.
ولا يرث قاتلٌ عمدًا على حال.
وقيل: إن العادل يرث الباغي، قياسًا على القصاص.
الثامنة وما استهلكه البغاة والخوارج من دم أو مال ثم تابوا لم يؤاخَذوا به.
وقال أبو حنيفة: يضمنون.
وللشافعي قولان.
وجْهُ قول أبي حنيفة أنه إتلاف بُعْدوان فيلزم الضمان.
والمعوّل في ذلك عندنا أن الصحابة رضي الله عنهم في حروبهم لم يتبعوا مُدْبِرًا ولا ذَفّفُوا على جريح ولا قتلوا أسيرًا ولا ضمنوا نفسًا ولا مالًا؛ وهم القُدْوة.
وقال ابن عمر: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «يا عبد الله أتدري كيف حكم الله فيمن بَغَى من هذه الأمة»؟ قال: الله ورسوله أعلم.
فقال: «لا يُجهز على جريحها ولا يُقتل أسيرها ولا يُطلب هاربها ولا يُقسم فَيْؤها» فأما ما كان قائمًا ردّ بعينه.
هذا كله فيمن خرج بتأويل يسوغ له.
وذكر الزَّمَخْشري في تفسيره: إن كانت الباغية من قلة العدد بحيث لا مَنَعة لها ضَمِنَت بعد الفيئة ما جَنَت، وإن كانت كثيرة ذات مَنَعة وشوكة لم تضمن؛ إلا عند محمد بن الحسن رحمه الله فإنه كان يُفتي بأن الضمان يلزمها إذا فاءت.
وأما قبل التَّجَمُّع والتّجنُّد أو حين تتفرّق عند وضع الحرب أوزارها، فما جنته ضمنته عند الجميع.
فَحَمْلُ الإصلاح بالعدل في قوله: {فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بالعدل} [الحجرات: 9] على مذهب محمد واضحٌ منطبق على لفظ التنزيل.
وعلى قول غيره وجْهُه أن يحمل على كون الفئة الباغية قليلة العدد.
والذي ذكروا أن الغرض إماتة الضغائن وسلّ الأحقاد دون ضمان الجنايات، ليس بحُسن الطباق المأمور به من أعمال العدل ومراعاة القسط.
قال الزمخشري: فإن قلت: لمَ قُرن بالإصلاح الثاني العدلُ دون الأوّل؟ قلت: لأن المراد بالاقتتال في أوّل الآية أن يقتتلا باغيتين أو راكبتي شبهة، وأيتهما كانت فالذي يجب على المسلمين أن يأخذوا به في شأنهما إصلاحُ ذات البَيْن وتسكينُ الدهْماء بإراءة الحق والمواعظ الشافية ونفي الشبهة؛ إلا إذا أصرّتا فحينئذ تجب المقاتلة؛ وأما الضمان فلا يتّجه.