فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فقال له الرجل: قد وجدتَ مجلسًا فاجلسا فجلس ثابت من خلفه مُغْضَبًا، ثم قال: من هذا؟ قالوا فلان؛ فقال ثابت: ابن فلانةا يعيّره بها؛ يعني أُمًّا له في الجاهلية؛ فاستحيا الرجل؛ فنزلت.
وقال الضحاك: نزلت في وفد بني تميم الذي تقدم ذكرهم في أوّل (السورة) استهزءوا بفقراء الصحابة؛ مثل عَمّار وخبّاب وابن فُهيرة وبِلال وصُهيب وسلمان وسالم مَوْلى أبي حُذيفة وغيرِهم؛ لما رأوا من رثاثة حالهم؛ فنزلت في الذين آمنوا منهم.
وقال مجاهد: هو سخرية الغني من الفقير.
وقال ابن زيد: لا يسخر من ستر الله عليه ذنوبه ممن كشفه الله؛ فلعل إظهار ذنوبه في الدنيا خير له في الآخرة.
وقيل: نزلت في عِكرمة بن أبي جهل حين قدم المدينة مسلمًا؛ وكان المسلمون إذا رأوه قالوا ابن فرعون هذه الأمة.
فشكا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت.
وبالجملة فينبغي ألا يجترئ أحد على الاْستهزاء بمن يقتحمه بعينه إذا رآه رَثّ الحال أو ذا عاهة في بدنه أو غير لَبِيق في محادثته؛ فلعله أخلص ضميرًا وأنقى قلبًا ممن هو على ضدّ صفته؛ فيظلم نفسه بتحقير من وقَّره الله، والاستهزاء بمن عظّمه الله.
ولقد بلغ بالسّلف إفراط توقّيهم وتصوّنهم من ذلك أن قال عمرو بن شَرَحْبِيل: لو رأيتُ رجلًا يرضع عنزًا فضحكت منه لخشيت أن أصنع مثل الذي صنع.
وعن عبد الله بن مسعود: البلاء مُوَكّل بالقول؛ لو سخرت من كلب لخشيت أن أحوَّل كلبًا.
و{قوم} في اللغة للمذكّرين خاصة.
قال زهير:
وما أدري وسوف إخال أدري ** أقوم آلِ حصن أم نساء

وسُمُّوا قومًا لأنهم يقومون مع داعيهم في الشدائد.
وقيل: إنه جمع قائم، ثم استعمل في كل جماعة وإن لم يكونوا قائمِين.
وقد يدخل في القوم النساء مجازًا، وقد مضى في (البقرة) بيانه.
الثالثة قوله تعالى: {وَلاَ نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عسى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ} أفرد النساء بالذكر لأن السّخرية منهن أكثر.
وقد قال الله تعالى: {إِنَّآ أَرْسَلْنَا نُوحًا إلى قَوْمِهِ} [نوح: 1] فشمل الجميع.
قال المفسرون: نزلت في امرأتين من أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم سَخِرتا من أمّ سلمة، وذلك أنها ربطت خَصْرَيْها بسَبِيبة وهو ثوب أبيض، ومثلها السِّبّ وسدلت طرفيها خلفها فكانت تجرها؛ فقالت عائشة لحفصة رضي الله عنهما: انظري! ما تجرُّ خلفها كأنه لسان كلب؛ فهذه كانت سخريتهما.
وقال أنس وابن زيد: نزلت في نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم، عَيَّرن أمّ سلمة بالقِصر.
وقيل: نزلت في عائشة، أشارت بيدها إلى أم سَلمة، يا نبيّ الله إنها لقصيرة.
وقال عكرمة عن ابن عباس: إن صفية بنت حُيَيّ بن أخْطب أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن النساء يُعَيِّرْنَنِي، ويقلن لي يا يهودية بنت يهودّيين! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هَلاّ قلت إن أبي هارون وإن عمي موسى وإن زوجي محمد» فأنزل الله هذه الآية.
الرابعة في صحيح الترمذي عن عائشة قالت: حَكَيت للنبيّ صلى الله عليه وسلم رجلًا؛ فقال: «ما يسرني أني حَكَيت رجلًا وأن لي كذا وكذا».
قالت فقلت: يا رسول الله، إن صفية امرأة وقالت بيدها هكذا؛ يعني أنها قصيرة.
فقال: «لقد مزجت بكلمةٍ لو مُزج بها البحر لمزج» وفي البخارِيّ عن عبد الله بن زَمْعة قال: نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يضحك الرجل مما يخرج من الأنْفس.
وقال: «لِم يضربُ أحدكم امرأته ضَرْبَ الفَحْل ثم لعله يعانقها».
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» وهذا حديث عظيم يترتب عليه ألا يقطع بعيب أحد لما يرى عليه من صور أعمال الطاعة أو المخالفة؛ فلعل من يحافظ على الأعمال الظاهرة يعلم الله من قلبه وَصْفًا مذمومًا لا تصح معه تلك الأعمال.
ولعل من رأينا عليه تفريطًا أو معصية يعلم الله من قلبه وَصفًا محمودًا يغفر له بسببه.
فالأعمال أمارات ظنية لا أدلة قطعية.
ويترتب عليها عدم الغلوّ في تعظيم من رأينا عليه أفعالًا صالحة، وعدم الاحتقار لمسلم رأينا عليه أفعالًا سيئة.
بل تُحتقر وتُذم تلك الحالة السيئة، لا تلك الذات المسيئة.
فتدبر هذا، فإنه نظر دقيق، وبالله التوفيق.
قوله تعالى: {وَلاَ تلمزوا أَنفُسَكُمْ} فيه ثلاث مسائل:
الأولى قوله تعالى: {وَلاَ تلمزوا أَنفُسَكُمْ} اللَّمْزُ: العَيْب؛ وقد مضى في (براءة) عند قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصدقات} [التوبة: 58].
وقال الطبري: اللَّمْزُ باليد والعين واللسان والإشارة.
والْهَمْزُ لا يكون إلا باللسان.
وهذه الآية مثلُ قوله تعالى: {وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 9 2] أي لا يقتل بعضكم بعضًا؛ لأن المؤمنين كنفس واحدة، فكأنه بقتل أخيه قاتل نفسه.
وكقوله تعالى: {فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ} [النور: 1 6] يعني يسلّم بعضكم على بعض.
والمعنى: لا يَعِبْ بعضكم بعضًا.
وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة وسعيد بن جُبير: لا يطعن بعضكم على بعض.
وقال الضحاك: لا يَلْعَن بعضكم بعضًا.
وقرئ: {ولا تَلْمُزُوا} بالضم.
وفي قوله: {أَنْفسَكُم} تنبيه على أن العاقل لا يعيب نفسه، فلا ينبغي أن يعيب غيره لأنه كنفسه؛ قال صلى الله عليه وسلم: «المؤمنون كجسد واحد إن اشتكى عضو منه تداعَى له سائر الجسد بالسَّهَر والحُمَّى» وقال بكر بن عبد الله المزني: إذا أردت أن تنظر العيوب جَمَّةً فتأمل عَيَّابًا؛ فإنه إنما يعيب الناس بفضل ما فيه من العيب.
وقال صلى الله عليه وسلم: «يبصر أحدكم القَذاة في عين أخيه ويدع الجِذْع في عينه» وقيل: من سعادة المرء أن يشتغل بعيوب نفسه عن عيوب غيره.
قال الشاعر:
المرء إن كان عاقلًا ورِعًا ** أشغله عن عيوبه وَرَعُهُ

كما السقِيم المريض يشغله ** عن وجع الناس كلهم وَجَعُه

وقال آخر:
لا تكشفن مساوي الناسِ ما ستروا ** فيهتك الله سترًا عن مَساوِيكَا

واذكر محاسن ما فيهم إذا ذُكروا ** ولا تعب أحدًا منهم بما فيكا

الثانية قوله تعالى: {وَلاَ تَنَابَزُواْ بالألقاب} النَّبَزُ بالتحريك اللقب؛ والجمع الأنباز.
والنَّبْزُ بالتسكين المصدر؛ تقول: نَبَزَه يَنْبِزُه نَبْزًا؛ أي لَقّبه.
وفلان يُنَبِّز بالصبيان أي يلقبهم؛ شُدد للكثرة.
ويقال النَّبَزُ والنَّزَب لَقَبُ السوء.
وتنابزوا بالألقاب: أي لَقّب بعضُهم بعضًا.
وفي الترمذيّ عن أبي جُبيرة بن الضحاك قال: كان الرجل منا يكون له الاْسمين والثلاثة فيُدعَى ببعضها فعسى أن يكره؛ فنزلت هذه الآية: {وَلاَ تَنَابَزُوا بِاْلأَلْقَابِ}.
قال: هذا حديث حسن.
وأبو جُبيرة هذا هو أخو ثابت بن الضحاك بن خليفة الأنصاري.
وأبو زيد سعيد بن الربيع صاحب الهَرَوِي ثِقة.
وفي مصنّف أبي داود عنه قال: فينا نزلت هذه الآية، في بني سلمة {وَلاَ تَنَابَزُواْ بالألقاب بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الإيمان} قال: قدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس منا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة؛ فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يا فلان فيقولون مَهْ يا رسول الله، إنه يغضب من هذا الاسم؛ فنزلت هذه الآية: {وَلاَ تَنَابَزُواْ بالألقاب}.
فهذا قول.
وقول ثانٍ قال الحسن ومجاهد: كان الرجل يُعَيَّر بعد إسلامه بكفره يا يهوديّ يا نصراني؛ فنزلت.
وروي عن قَتادة وأبي العالية وعِكْرمة.
وقال قتادة: هو قول الرجل للرجل يا فاسق يا منافق؛ وقاله مجاهد والحسن أيضًا.
{بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الإيمان} أي بئس أن يُسَمَّى الرجلُ كافرًا أو زانيًا بعد إسلامه وتوبته؛ قاله ابن زيد.
وقيل: المعنى أن مَن لَقّب أخاه أو سخِر منه فهو فاسق.
وفي الصحيح: «من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال وإلا رجعت عليه» فمن فعل ما نهى الله عنه من السُّخرية والهَمْز والنّبز فذلك فسوق وذلك لا يجوز.
وقد روي: أن أبا ذرّ رضي الله عنه كان عند النبيّ صلى الله عليه وسلم فنازعه رجل فقال له أبو ذَرٍّ: يا بن اليهودية! فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ما ترى هاهنا أحمر وأسود ما أنت بأفضل منه» يعني بالتقوى، ونزلت: {وَلاَ تَنَابَزُواْ بالألقاب}.
وقال ابن عباس: التنابز بالألقاب أن يكون الرجل قد عمل السيئات ثم تاب؛ فنهى الله أن يُعَيَّر بما سلف.
يدلّ عليه ما روي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من عَيّر مؤمنًا بذنب تاب منه كان حقًّا على الله أن يَبْتَلِيه به ويَفْضَحُه فيه في الدنيا والآخرة».
الثالثة وقع من ذلك مستثنًى مَن غلب عليه الاستعمال كالأعرج والأحدب ولم يكن له فيه كسب يَجِد في نفسه منه عليه، فجوّزته الأمة واتفق على قوله أهل المِلّة.
قال ابن العربيّ: وقد ورد لَعَمْرُ الله من ذلك في كتبهم ما لا أرضاه في صالح جَزَرة؛ لأنه صَحّف خرزة فلُقّب بها.
وكذلك قولهم في محمد بن سليمان الحضرمي: مُطَيَّن؛ لأنه وقع في طين ونحو ذلك مما غلب على المتأخرين، ولا أراه سائغًا في الدِّين.
وقد كان موسى بن عُلَيّ بن رَباح المصريّ يقول: لا أجعل أحدًا صغّر اسم أبي في حلّ، وكان الغالب على اسمه التصغير بضم العين.
والذي يضبط هذا كله: أن كل ما يكرهه الإنسان إذا نودي به فلا يجوز لأجل الإذاية. والله أعلم.
قلت وعلى هذا المعنى ترجم البخاريّ رحمه الله في كتاب الأدب من الجامع الصحيح.
في «باب ما يجوز من ذكر الناس نحو قولهم الطويل والقصير لا يراد به شَيْن الرجل» قال: وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ما يقول ذو اليَدَيْن» قال أبو عبد الله بن خُوَيْزِ مَنْدَاد: تضمنت الآية المنع من تلقيب الإنسان بما يكره، ويجوز تلقيبه بما يحب؛ ألا ترى أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لَقّب عمر بالفاروق، وأبا بكر بالصدّيق، وعثمان بذي النُّورين، وخُزيمة بذي الشهادتين، وأبا هريرة بذي الشّمالين وبذي اليدين؛ في أشباه ذلك.
الزَّمَخْشرِيّ: روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «من حق المؤمن على المؤمن أن يُسَمِّيَه بأحبّ أسمائه إليه» ولهذا كانت التَّكْنِيَةُ من السنة والأدب الحسن؛ قال عمر رضي الله عنه: أشيعوا الكُنَى فإنها منبّهة.
ولقد لُقّب أبو بكر بالعتيق والصدّيق، وعمر بالفاروق، وحمزة بأسد الله، وخالد بسيف الله.
وقلّ من المشاهير في الجاهلية والإسلام من ليس له لَقَب.
ولم تزل هذه الألقاب الحسنة في الأمم كلها من العرب والعجم تجري في مخاطباتهم ومكاتباتهم من غير نكير.
قال الماورديّ: فأما مستحب الألقاب ومستحسنها فلا يكره.
وقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم عددًا من أصحابه بأوصاف صارت لهم من أجل الألقاب.
قلت فأما ما يكون ظاهرها الكراهة إذا أريد بها الصفة لا العيب فذلك كثير.
وقد سئل عبد الله بن المبارك عن الرجل يقول: حُميد الطويل، وسليمان الأعمش، وحُميد الأعرج، ومروان الأصغر، فقال: إذا أردت صفته ولم ترد عيبه فلا بأس به.
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن سَرْجِس قال: رأيت الأصلع يعني عمر يقبّل الحجر.
في رواية الأُصَيْلِع.
قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَتُبْ} أي عن هذه الألقاب الذي يتأذى بها السامعون.
{فأولئك هُمُ الظالمون} لأنفسهم بارتكاب هذه المناهي. اهـ.

.قال الألوسي:

{يا أيها الذين ءامَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ}.
أي منكم {مِن قَوْمٍ} آخرين منكم أيضًا، فالتنكير في الموضعين للتبعيض، والسخر الهزؤ كما في (القاموس)، وفي (الزواجر) النظر إلى المسخور منه بعين النقص، وقال القرطبي: السخرية الاستحقار والاستهانة والتنبيه على العيوب والنقائص بوجه يضحك منه وقد تكون بالمحاكاة بالفعل والقول أو الإشارة أو الإيماء أو الضحك على كلام المسخور منه إذا تخبط فيه أو غلط أو على صنعته أو قبح صورته، وقال بعض: هو ذكر الشخص بما يكره على وجه مضحك بحضرته، واختير أنه احتقاره قولا أو فعلًا بحضرته على الوجه المذكور، وعليه ما قيل المعنى: لا يحتقر بعض المؤمنين بعضًا.
والآية على ما روي عن مقاتل نزلت في قوم من بني تميم سخروا من بلال وسلمان وعمار وخباب وصهيب وابن نهيرة وسالم مولى أبي حذيفة رضي الله تعالى عنهم، ولا يضر فيه اشتمالها على نهي النساء عن السخرية كما لا يضر اشتمالها على نهي الرجال عنها فيما روي أن عائشة وحفصة رأتا أم سلمة ربطت حقويها بثوب أبيض وسدلت طرفه خلفها فقالت عائشة لحفصة تشير إلى ما تجر خلفها: كأنه لسان كلب فنزلت، وما روي عن عائشة أنها كانت تسخر من زينب بنت خزيمة الهلالية وكانت قصيرة فنزلت، وقيل: نزلت بسبب عكرمة بن أبي جهل كان يمشي بالمدينة فقال له قوم: هذا ابن فرعون هذه الأمة فعز ذلك عليه وشكاهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت، وقيل غير ذلك؛ وقوله عز وجل: {عسى أَن يَكُونُواْ خَيْرًا مّنْهُمْ} تعليل للنهي أو لموجبه أي عسى أن يكون المسخور منهم خيرًا عند الله تعالى من الساخرين فرب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله تعالى لأبره، وجوز أن يكون المعنى لا يحتقر بعض بعضًا عسى أن يصير المحتقر اسم مفعول عزيز أو يصير المحتقر ذليلًا فينتقم منه، فهو نظير قوله: