فصل: من أقوال المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



واقتصر على الأولين لأنهما أقصى ما يسهل على الآدمي معرفته فما دونه أولى، ثم ذكر علة التشعب ليوقف عندها فقال: {لتعارفوا} أي ليعرف الإنسان من يقاربه في النسب ليصل من رحمه ما يحق له، لا لتواصفوا وتفاخروا.
ولما كانت فائدة التفاخر بالتواصف عندهم الإكرام لمن كان أفخر، فكانت الآية السالفة التي ترتبت عليها هذه آمرة بالتقوى كان التقدير: فتتقوا الله في أقاربكم وذوي أرحامكم، فقال مبطلًا للتفاخر بالأنساب معللًا لما أرشد إلى تقديره السياق مؤكدًا لأجل ما عندهم من أن الكرم إنما هو بالنسب: {إن أكرمكم} أيها المتفاخرون {عند الله} أي الملك الذي لا أمر لأحد معه ولا كريم إلا من أكرمكم بكرمه ولا كمال لأحد سواه {أتقاكم} فذلك هو الذكر الذي يصح أصله باقتدائه بأبيه آدم عليه السلام فلم يمل إلى الأنوثة وإن كان أدناكم نسبًا ولذلك أكده، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا» أي علموا بأن كانت لهم ملكة الفقه فعملوا بما عملوا كما قال الحسن رحمه الله: إنما الفقيه العامل بعلمه.
وقد تقدم أن هذا هو المراد بقوله تعال: {هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} [الزمر: 9] لما دل عليه سياقها وسباقها، والأتقى لا يفتخر على غيره لأنه لا يعتقد أنه أتقى، قال الرازي في اللوامع: أكرم الكرم التقوى، وهو مجمع الفضائل الإنسانية، وألأم اللؤم الفجور، وذلك أن الكرم اسم للأفعال المحمودة، وهذه الأفعال إنما تكون محمودة إذا كانت عن علم، وقصد بها الله، وهذا هو التقوى، فليس التقوى إلا العلم وتحري الأفعال المحمودة- انتهى.
وذلك لأن التقوى تثبت الكمالات وتنفي النقائص فيصير صاحبها بشريًا ملكيًا.
ولما كان هذا مركوزًا في طبائعهم مغروزًا في جبلاتهم متوارثًا عندهم أن الفخر إنما هو بالأنساب، وأن الكريم إنما هو من طاب أصله، وكان قلع ذلك من نفوسهم فيما أجرى به سبحانه العادة في دار الأسباب يتوقف على تأكيد، أكد سبحانه معللًا قوله لإخباره بالأكرم: {إن الله} أي المحيط علمًا وقدرة {عليم} أي بالغ العلم بالظواهر {خبير} محيط العلم بالبواطن والسرائر أيضًا، روى البغوي بسند من طريق عبد الله بن حميد عن ابن عمر- رضى الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف يوم الفتح على راحلته ليستلم الأركان بمحجنه، فملا خرج لم يجد مناخًا فنزل على أيدي الرجال، ثم قام فخطبهم ثم حمد الله وأثنى عليه وقال:
«الحمد لله الذي أذهب عنكم عبية الجاهلية وتكبرها بآبائها، إنما الناس رجلان: برّ تقي كريم على الله، وفاجر شقي هين على الله- ثم تلا: {يا أيها الناس} الآية، ثم قال: أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم».
وأخرجه أبو داود والترمذي وحسنة والبيهقي- قال المنذري، بإسناد حسن، واللفظ له- عن أبي هريرة- رضى الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال قال: «إن الله عز وجل أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء، الناس بنو آدم وآدم من تراب، مؤمن تقي وفاجر شقي، لينتهين أقوام يفتخرون برجال إنما هم فحم من فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع النتن بأنفها».
ولما أمر سبحانه بإجلال رسوله صلى الله عليه وسلم وإعظامه، ونهى عن أذاه في نفسه أو في أمته، ونهى عن التفاخر الذي ه وسبب التقاطع والتداحر، وختم بصفتة الخبر، دل عليها بقوله مشيرًا إلى أنه لا يعتد بشيء مما أمر به أو نهى عنه إلا مع الإخلاص فقال: {قالت الأعراب} أي أهل البادية من بني أسد وغيرهم الذين هم معدن الغلظة والجفاء الذين تقدم تأديبهم في سورة محمد، وألحق التاء في فعلهم إشارة إلى ضعفهم في العزائم، قال ابن برجان: هم قوم شهدوا شهادة الحق وهم لا يعلمون ما شهدوا به غير أن أنفسهم ليست تنازعهم إلى التكذيب: {آمنا} أي بجميع ما جئت به فامتثلنا ما أمرنا به في هذه السورة ولنا النسب الخالص، فنحن أشرف من غيرنا من أهل المدر.
ولما كان الإيمان التصديق بالقلب فلا اطلاع عليه لآدمي إلا بإطلاعه سبحانه فكانوا كاذبين في دعواه، قال: {قل} أي تكذيبًا لهم مع مراعاة الأدب في عدم التصريح بالتكذيب: {لم تؤمنوا} أي لم تصدق قلوبكم لأنكم لو أمنتم لم تمنوا بإيمانكم لأن الإيمان التصديق بجميع ما لله من الكمال الذي منه أنه لولا منه بالهداية لم يحصل الإيمان، فله ولرسوله- الذي كان ذلك على يديه- المن والفضل.
ولما كان التقدير ما كان الأصل في أن يكون الرد به وهو: فلا تقولوا: آمنا، فإنه كذب، وعدل عنه للاحتراز عن النهي عن القول بالإيمان، عطف عليه قوله: {ولكن قولوا} لأنكم أسلمتم للدنيا لا للدين، وعدل عنه لئلا تكون شهادة لهم بالإسلام في الجملة: {أسلمنا} أي أظهرنا الانقياد في الظاهر للأحكام الظاهرة فأمنا من أن نكون حزبًا للمؤمنين وعونًا للمشركين، يقول: أسلم الرجل- إذا دخل في السلم، كما يقال: أشتى- إذا دخل في الشتاء، ولم يقل: ولكن أسلمتم، لما فيه من الشهادة لهم بالإسلام الملازم للإيمان المنفي عنه، فكان يكون تناقضًا، والآية من الاحتباك: نفي الإيمان الشرعي أولًا يدل على إثبات الإسلام اللغوي ثانيًا، والأمر بالقول بالإسلام ثانيًا يدل على النهي عن القول بالإيمان أولًا.
ولما كانت لم غير مستغرقة، عطف عليها ما يستغرق ما مضى من الزمان كله ليكون الحكم بعدم إيمانهم مكتنفًا بأمرهم بالاقتصاد على الإخبار بإسلامهم، فقال معلمًا بأن ما يجتهدون في إخفائه منكشف لديه {ألا يعلم من خلق}.
{ولما يدخل} أي إلى هذا الوقت {الإيمان} أي المعرفة التامة {في قلوبكم} فلا يعد إقرار اللسان إيمانًا إلا بمواطأة القلب، فعصيتم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وأحبطتم أعمالكم، والتعبير ب {لما} يفهم أنهم آمنوا بعد ذلك، ويجوز أن يكون المراد بهذا النفي نفي التمكن في القلب، لا نفي مطلق الدخول بدليل {إنما المؤمنون} دون {إنما الذين آمنوا}.
ولما كان التقدير: فإن تؤمنوا يعلم الله ذلك من قلوبكم غنيًا عن قولكم، عطف عليه قوله ترغيبًا لهم في التوبة: {وإن تطيعوا الله} أي الملك الذي من خالفه لم يأمن عقوبته {ورسوله} الذي طاعته من طاعته على ما أنتم عليه من الأمر الظاهري فتؤمن قلوبكم {لا يلتكم} أي ينقصكم ويبخسكم من لاته يليته، وهي لغة أهل الحجاز، وقرأ البصريان: {يألتكم} من الألت وهو النقص أيضًا، وهي لغة أسد وغطفان، وهما المخاطبون بهذه الآية المعاتبون بها، قال أبو حيان: قال مجاهد: نزلت في بني أسد بن خزيمة- انتهى.
فلذلك اختار أبو عمرو القراءة بها، وعدل عن لغة الحجاز {من أعمالكم شيئًا} فلا حاجة إلى إخباركم عن إيمانكم بغير ما يدل عليه من الأقوال والأفعال، قال ابن برجان: فعموم الناس وأكثر أهل الغفلة مسلمون غير مؤمنين، فإن يعلموا علم ما شهدوا وعقدوا عليه عقدًا علمًا ويقينًا لهم المؤمنون.
وفي الآية احتباك من وجه آخر: ذكر عدم الإيمان أولًا دليلًا على إثباته ثانيًا، وذكر توفير الأعمال ثانيًا دليلًا على بخسها أو إحباطها أولًا، وسره أنه نفى أساس الخير أولًا ورغب في الطاعة بحفظ ما تعبوا عليه من الأعما ثانيًا.
ولما كان الإنسان مبنيًا على النقصان، فلو وكل إلى عمله هلك، ولذهب عمله فيما يعتريه من النقص، قال مستعطفًا لهم إلى التوبة، مؤكدًا تنبيهًا على أنه مما يحق تأكيده لأن الخلائق لا يفعلون مثله: {إن الله} أي الذي له صفات الكمال {غفور} أي ستور للهفوات والزلات لمن تاب وصحت نيته، ولغيره إذا أراد، فلا عتاب ولا عقاب {رحيم} أي يزيد على الستر عظيم الإكرام. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}.
لأن الظن هو السبب فيما تقدم وعليه تبنى القبائح، ومنه يظهر العدو المكاشح والقائل إذا أوقف أموره على اليقين فقلما يتيقن في أحد عيبًا فيلمزه به، فإن الفعل في الصورة قد يكون قبيحًا وفي نفس الأمر لا يكون كذلك، لجواز أن يكون فاعله ساهيًا أو يكون الرائي مخطئًا، وقوله: {كَثِيرًا} إخراج للظنون التي عليها تبنى الخيرات قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ظنوا بالمؤمن خيرًا» وبالجملة كل أمر لا يكون بناؤه على اليقين، فالظن فيه غير مجتنب مثاله حكم الحاكم على قول الشهود وبراءة الذمة عند عدم الشهود إلى غير ذلك فقوله: {اجتنبوا كَثِيرًا} وقوله تعالى: {إِنَّ بَعْضَ الظن إِثْمٌ} إشارة إلى الأخذ بالأحوط كما أن الطريق المخوفة لا يتفق كل مرة فيه قاطع طريق، لكنك لا تسلك لاتفاق ذلك فيه مرة ومرتين، إلا إذا تعين فتسلكه مع رفقة كذلك الظن ينبغي بعد اجتهاد تام ووثوق بالغ.
ثم قال تعالى: {وَلاَ تَجَسَّسُواْ} إتمامًا لما سبق لأنه تعالى لما قال: {اجتنبوا كَثِيرًا مّنَ الظن} فهم منه أن المعتبر اليقين فيقول القائل أنا أكشف فلانًا يعني أعلمه يقينًا وأطلع على عيبه مشاهدة فأعيب فأكون قد اجتنبت الظن فقال تعالى: ولا تتبعوا الظن، ولا تجتهدوا في طلب اليقين في معايب الناس.
ثم قال تعالى: {وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا} إشارة إلى وجوب حفظ عرض المؤمن في غيبته وفيه معان أحدها: في قوله تعالى: {بَّعْضُكُم بَعْضًا} فإنه للعموم في الحقيقة كقوله: {لا تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ} [الحجرات: 11] وأما من اغتاب فالمغتاب أولًا يعلم عيبه فلا يحمل فعله على أن يغتابه فلم يقل ولا تغتابوا أنفسكم لما أن الغيبة ليست حاملة للعائب على عيبه من اغتابه، والعيب حامل على العيب ثانيها: لو قال قائل هذا المعنى كان حاصلًا بقوله تعالى: لا تغتابوا، مع الاقتصار عليه نقول لا، وذلك لأن الممنوع اغتياب المؤمن فقال: {بَّعْضُكُم بَعْضًا} وأما الكافر فيعلن ويذكر بما فيه وكيف لا والفاسق يجوز أن يذكر بما فيه عند الحاجة ثالثها: قوله تعالى: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} دليل على أن الاغتياب الممنوع اغتياب المؤمن لا ذكر الكافر، وذلك لأنه شبهه بأكل لحم الأخ، وقال من قبل {إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] فلا أخوة إلا بين المؤمنين، ولا منع إلا من شيء يشبه أكل لحم الأخ ففي هذه الآية نهى عن اغتياب المؤمن دون الكافر رابعها: ما الحكمة في هذا التشبيه؟ نقول هو إشارة إلى أن عرض الإنسان كدمه ولحمه، وهذا من باب القياس الظاهر، وذلك لأن عرض المرء أشرف من لحمه، فإذا لم يحسن من العاقل أكل لحوم الناس لم يحسن منه قرض عرضهم بالطريق الأولى لأن ذلك الم، وقوله: {لَحْمَ أَخِيهِ} آكد في المنع لأن العدو يحمله الغضب على مضغ لحم العدو، فقال أصدق الأصدقاء من ولدته أمك، فأكل لحمه أقبح ما يكون، وقوله تعالى: {مَيْتًا} إشارة إلى دفع وهم، وهو أن يقال القول في الوجه يؤلم فيحرم، وأما الاغتياب فلا اطلاع عليه للمغتاب فلا يؤلم، فقال أكل لحم الأخ وهو ميت أيضًا لا يؤلم، ومع هذا هو في غاية القبح لما أنه لو اطلع عليه لتألم، كما أن الميت لو أحس بأكل لحمه لآلمه، وفيه معنى: وهو أن الاغتياب كأكل لحم الآدمي ميتًا، ولا يحل أكله إلا للمضطر بقدر الحاجة، والمضطر إذا وجد لحم الشاة الميتة ولحم الآدمي الميت فلا يأكل لحم الآدمي، فكذلك المغتاب أن وجد لحاجته مدفعًا غير الغيبة فلا يباح له الاغتياب، وقوله تعالى: {مَيْتًا} حال عن اللحم أو عن الأخ، فإن قيل اللحم لا يكون ميتًا، قلنا بلى قال النبي صلى الله عليه وسلم:
«ما أبين من حي فهو ميت» فسمى الغلفة ميتًا، فإن قيل إذا جعلناه حال عن الأخ، لا يكون هو الفاعل ولا المفعول فلا يجوز جعله حال، كما يقول القائل: مررت بأخي زيد قائمًا، ويريد كون زيدًا قائمًا، قلنا يجوز أن يقال من أكل لحمة فقد أكل، فصار الأخ مأكولًا مفعولًا، بخلاف المرور بأخي زيد، فيجوز أن تقول ضربت وجهه آثمًا أي وهو آثم، أي صاحب الوجه، كما أنك إذا ضربت وجهه فقد ضربته، ولا يجوز أن تقول مزقت ثوبه آثمًا، فتجعل الآثم حالًا من غيرك، وقوله تعالى: {فَكَرِهْتُمُوهُ} فيه مسألتان:
المسألة الأولى:
العائد إليه الضمير يحتمل وجوهًا الأول: وهو الظاهر أن يكون هو الأكل، لأن قوله تعالى: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ} معناه أيحب أحدكم الأكل، لأن أن مع الفعل تكون للمصدر، يعني فكرهتم الأكل الثاني: أن يكون هو اللحم، أي فكرهتم اللحم الثالث: أن يكون هو الميت في قوله: {مَيْتًا} وتقديره: أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتًا متغيرًا فكرهتموه، فكأنه صفة لقوله: {مَيْتًا} ويكون فيه زيادة مبالغة في التحذير، يعني الميتة إن أكلت في الندرة لسبب كان نادرًا، ولكن إذا أنتن وأروح وتغير لا يؤكل أصلًا، فكذلك ينبغي أن تكون الغيبة.
المسألة الثانية:
الفاء في قوله تعالى: {فَكَرِهْتُمُوهُ} تقتضي وجود تعلق، فما ذلك؟ نقول فيه وجوه أحدها: أن يكون ذلك تقدير جواب كلام، كأنه تعالى لما قال: {أَيُحِبُّ} قيل في جوابه ذلك وثانيها: أن يكون الاستفهام في قوله: {أَيُحِبُّ} للانكار كأنه قال: لا يحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتًا فكرهتموه إذًا ولا يحتاج إلى إضمار وثالثها: أن يكون ذلك التعلق هو تعلق المسبب بالسبب، وترتبه عليه كما تقول: جاء فلان ماشيًا فتعب، لأن المشي يورث التعب، فكذا قوله: {مَيْتًا} لأن الموت يورث النفرة إلى حد لا يشتهي الإنسان أن يبيت في بيت فيه ميت، فكيف يقربه بحيث يأكل منه، ففيه إذًا كراهة شديدة، فكذلك ينبغي أن يكون حال الغيبة.
ثم قال تعالى: {واتقوا الله إِنَّ الله تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} عطف على ما تقدم من الأوامر والنواهي، أي اجتنبوا واتقوا، وفي الآية لطائف: منها أن الله تعالى ذكر في هذه الآية أمور ثلاثة مرتبة بيانها، هو أنه تعالى قال: {اجتنبوا كَثِيرًا} أي لا تقولوا في حق المؤمنين ما لم تعلموه فيهم بناء على الظن، ثم إذا سئلتم على المظنونات، فلا تقولوا نحن نكشف أمورهم لنستيقنها قبل ذكرها، ثم إن علمتم منها شيئًا من غير تجسس، فلا تقولوه ولا تفشوه عنهم ولا تعيبوا، ففي الأول نهى عما لم أن يعلم، ثم نهى عن طلب ذلك العلم، ثم نهى عن ذكر ما علم، ومنها أن الله تعالى لم يقل اجتنبوا تقولوا أمرًا على خلاف ما تعلمونه، ولا قال اجتنبوا الشك، بل أول ما نهى عنه هو القول بالظن، وذلك لأن القول على خلاف العلم كذب وافتراء، والقول بالشك، والرجم بالغيب سفه وهزء، وهما في غاية القبح، فلم ينه عنه اكتفاء بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} لأن وصفهم بالإيمان يمنعهم من الافتراء والارتياب الذي هو دأب الكافر.
وإنما منعهم عما يكثر وجوده في المسلمين، لذلك قال في الآية: {لاَ يَسْخَرْ} ومنها أنه ختم الآيتين بذكر التوبة، فقال في الأولى: {وَمَن لَّمْ يَتُبْ فأولئك هُمُ الظالمون} [الحجرات: 11] وقال في الأخرى {إِنَّ الله تَوَّابٌ} [الحجرات: 12] لكن في الآية الأولى لما كان الابتداء بالنهي في قوله: {لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مّن قَوْمٍ} ذكر النفي الذي هو قريب من النهي، وفي الآية الثانية لما كان الابتداء بالأمر في قوله: {اجتنبوا} ذكر الارتياب الذي هو قريب من الأمر.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)}.
تبيينًا لما تقدم وتقريرًا له، وذلك لأن السخرية من الغير والعيب إن كان بسبب التفاوت في الدين والإيمان، فهو جائز لما بينا أن قوله: {لا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا} [الحجرات: 12] وقوله: {وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ} [الحجرات: 11] منع من عيب المؤمن وغيبته، وإن لم يكن لذلك السبب فلا يجوز، لأن الناس بعمومهم كفارًا كانوا أو مؤمنين يشتركون فيما يفتخر به المفتخر غير الإيمان والكفر، والافتخار إن كان بسبب الغنى، فالكافر قد يكون غنيًا، والمؤمن فقيرًا وبالعكس، وإن كان بسبب النسب، فالكافر قد يكون نسيبًا، والمؤمن قد يكون عبدًا أسود وبالعكس، فالناس فيما ليس من الدين والتقوى متساوون متقاربون، وشيء من ذلك لا يؤثر مع عدم التقوى، فإن كل من يتدين بدين يعرف أن من يوافقه في دينه أشرف ممن يخالفه فيه، وإن كان أرفع نسبًا أو أكثر نشبًا، فكيف من له الدين الحق وهو فيه راسخ، وكيف يرجح عليه من دونه فيه بسبب غيره، وقوله تعالى: {يا أَيُّهَا الناس إِنَّا خلقناكم مّن ذَكَرٍ وأنثى} فيه وجهان أحدهما: من آدم وحواء ثانيهما: كل واحد منكم أيها الموجودون وقت النداء خلقناه من أب وأم، فإن قلنا إن المراد هو الأول، فذلك إشارة إلى أن لا يتفاخر البعض على البعض لكونهم أبناء رجل واحد، وامرأة واحدة، وإن قلنا إن المراد هو الثاني، فذلك إشارة إلى أن الجنس واحد، فإن كل واحد خلق كما خلق الآخر من أب وأم، والتفاوت في الجنس دون التفاوت في الجنسين، فإن من سنن التفاوت أن لا يكون تقدير التفاوت بين الذباب والذئاب، لكن التفاوت الذي بين الناس بالكفر والإيمان كالتفاوت الذي بين الجنسين، لأن الكافر جماد إذ هو كالأنعام، بل أضل، والمؤمن إنسان في المعنى الذي ينبغي أن يكون فيه، والتفاوت في الإنسان تفاوت في الحس لا في الجنس إذ كلهم من ذكر وأنثى، فلا يبقى لذلك عند هذ اعتبار، وفيه مباحث: