فصل: قال ابن عطية في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} [المطففين: 26].
والخبر في قوله: {إنا خلقناكم من ذكر وأنثى} مستعمل كناية عن المساواة في أصل النوع الإنساني ليتوصل من ذلك إلى إرادة اكتساب الفضائل والمزايا التي ترفع بعض الناس على بعض كناية بمرتبتين.
والمعنى المقصود من ذلك هو مضمون جملة {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} فتلك الجملة تتنزل من جملة {إنا خلقناكم من ذكر وأنثى} منزلة المقصد من المقدمة والنتيجةِ من القياس ولذلك فصلت لأنها بمنزلة البيان.
وأما جملة {وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا} فهي معترضة بين الجملتين الأخريين.
والمقصود من اعتراضها: إدماج تأديب آخر من واجب بث التعارف والتواصل بين القبائل والأمم وأن ذلك مراد الله منهم.
ومن معنى الآية ما خطب به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع إذ قال: «يا أيها الناس ألاَ إن ربكم واحد وأن أباكم واحد لا فضل لعَربي على عجمي ولا لِعجمي على عربي ولا لأسودَ على أحمرَ ولا لأحمرَ على أسود إلا بالتقوى».
ومن نمط نظم الآية وتبيينها ما رواه الترمذي في تفسير هذه الآية قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله أذهب عنكم عبيّة الجاهلية وفخرها لا لآباء الناس مؤمن تقي أو فاجر شقي أنتم بنو آدم وآدم من تراب» وفي رواية أن ذلك مما خطب به يوم فتح مكة (عبية بضم العين المهملة وبكسرها وبتشديد الموحدة المكسورة ثم تشديد المثناة التحتية: الكبر والفخر.
ووزنهما على لغة ضم الفاء فُعولة وعلى لغة كسر الفاء فعلية، وهي إما مشتقة من التعبية فتضعيف الباء لمجرد الإلحاق مثل نضّ الثوب بمعنى نضى أو مشتقة من عباب الماء فالتضعيف في الباء أصلي).
وفي رواية ابن أبي حاتم بسنده إلى ابن عمر طاف رسول الله يوم فتح مكة ثم خطبهم في بطن المسيل فذكر الحديث وزاد فيه أن الله يقول: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى} إلى {إن الله عليم خبير}.
وجملة {إن أكرمكم عند اللَّه أتقاكم} مستأنفة استئنافًا ابتدائيًا وإنما أخّرت في النظم عن جملة إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا، لتكون تلك الجملة السابقة كالتوطئة لهذه وتتنزل منها منزلة المقدمة لأنهم لما تساوَوا في أصل الخلقة من أب واحد وأم واحدة كان الشأن أن لا يفضُل بعضهم بعضًا إلا بالكمال النفساني وهو الكمال الذي يرضاه الله لهم والذي جعل التقوى وسيلته ولذلك ناط التفاضل في الكرم بـ {عند الله} إذ لا اعتداد بكرم لا يعبأ الله به.
والمراد بالأكرم: الأنْفَس والأشَرف، كما تقدم بيانه في قوله: {إني ألقي إلى كتاب كريم}.
في سورة [النمل: 29].
والأتقى: الأفضل في التقوى وهو اسم تفضيل صيغ من اتَّقى على غير قياس.
وجملة {إن الله عليم خبير} تعليل لمضمون {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} أي إنما كان أكرمكم أتقاكم لأن الله عليم بالكرامة الحق وأنتم جعلتم المكارم فيما دون ذلك من البطش وإفناء الأموال في غير وجه وغير ذلك الكرامة التي هي التقوى خبير بمقدار حظوظ الناس من التقوى فهي عنده حظوظ الكرامة فلذلك الأكرم هو الأتقى، وهذا كقوله: {فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى} [النجم: 32] أي هو أعلم بمراتبكم في التقوى، أي التي هي التزكية الحق.
ومن هذا الباب قوله: {الله أعمل حيث يجعل رسالاته} [الأنعام: 124].
علم أن قوله: {إن أكرمكم عند الله اتقاكم} لا ينافي أن تكون للناس مكارم أخرى في المرتبة الثانية بعد التقوى مما شأنه أن يكون له أثر تزكية في النفوس مثل حسن التربية ونقاء النسب والعرافة في العلم والحضارة وحسن السمعة في الأمم وفي الفصائل، وفي العائلات، وكذلك بحسب ما خلده التاريخ الصادق للأمم والأفراد فما يترك آثارًا لأفرادها وخلالًا في سلائلها قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا».
فإن في خلق الأنباء آثارًا من طباع الآباء الأدنَيْن أو الأعَليْن تكون مهيئة نفوسهم للكمال أو ضده وأن للتهذيب والتربية آثارًا جمّة في تكميل النفوس أو تقصيرها وللعوائد والتقاليد آثارها في الرفعة والضعة وكل هذه وسائل لإعداد النفوس إلى الكمال والزكاء الحقيقي الذي تخططه التقوى.
وجملة {إن الله عليم خبير} تذييل، وهو كناية عن الأمر بتزكية نواياهم في معاملاتهم وما يريدون من التقوى بأن الله يعلم ما في نفوسهم ويحاسبهم عليه.
{قالتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قولوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)}.
كان من بين الوفود التي وفدت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنة تسع المسماة سنةَ الوفود، وفْدُ بني أسدٍ بننِ خُزيمة وكانوا ينزلون بقرب المدينة، وكان قدومهم المدينة عقب قدوم وفد بني تميم الذي ذُكر في أول السورة، ووفَدَ بنُو أسد في عدد كثير وفيهم ضِرار بن الأزْوَر، وطُلَيْحَة بن عبد الله (الذي ادعى النبوءة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أيام الردة)، وكانت هذه السنة سنة جدب ببلادهم فأسلموا وكانوا يقولون للنبيء صلى الله عليه وسلم أتتك العرب بأنفسها على ظهور رواحلها وجئناك بالأثقال والعيال والذراري ولمْ نقاتلك كما قاتلك محارب خَصَفَةَ وهوازنُ وغَطفانَ.
يفدون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويروحون بهذه المقالة ويمنُّون عليه ويريدون أن يَصرف إليهم الصدقات، فأنزل الله فيهم هذه الآيات إلى آخر السورة لوقوع القصتين قصة وفد بني تميم وقصة وفد بني أسد في أيام متقاربة، والأغراض المسكوَّة بالجَفاء متناسبة.
وقال السدّي: نزلت في الأعراب المذكورين في سورة الفتح (11) في قوله تعالى: {سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا} الآية.
قالوا آمنا ليأمنوا على أنفسهم وأموالهم فلما استنفروا إلى الحديبية تخلفوا فنزلت هذه الآية.
والأعراب: سكان البادية من العَرب.
وأحسب أنه لا يطلق على أهل البادية من غير العرب، وهو اسم جمع لا مفرد له فيكون الواحد منه بياء النسبة أعرابي.
وتعريف {الأعراب} تعريف العهد لإعراب معينين وهم بنو أسد فليس هذا الحكم الذي في الآية حاقًا على جميع سكان البوادي ولا قال هذا القول غير بني أسد.
وهم قالوا آمنا حين كانوا في شك لم يتمكن الإيمان منهم فأنبأهم الله بما في قلوبهم وأعلمهم أن الإيمان هو التصديق بالقلب لا بمجرد اللسان لقصد أن يخلصوا إيمانهم ويتمكنوا منه كما بينه عقب هذه الآية بقوله: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله} الآية.
والاستدراك بحرف (لكن) لرفع ما يتوهم من قوله: {لم تؤمنوا} أنهم جاؤوا مضمرين الغدْر بالنبي صلى الله عليه وسلم وإنما قال: {ولكن قولوا أسلمنا} تعليمًا لهم بالفرق بين الإيمان والإسلام فإن الإسلام مَقرُّه اللسان والأعمالُ البدنية، وهي قواعد الإسلام الأربعة: الصلاة والزكاة وصيام رمضان وحج الكعبة الوارد في حديث عمر عن سُؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان والساعة «الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله محمدًا رسول الله وتقيم الصلاة وتأتي الزكاة وتصوم رمضان وتحُجّ البيت إن استطعتَ إليه سبيلا» فهؤلاء الأعراب لما جاءوا مظهرين الإسلام وكانت قلوبهم غير مطمئنة لعقائد الإيمان لأنهم حديثو عهد به كذبهم الله في قولهم {آمنَّا} ليعلموا أنهم لم يخف باطنهم على الله، وأنه لا يتعدّ بالإسلام إلا إذا قارنه الإيمان، فلا يغني أحدهما بدون الآخر، فالإيمان بدون إسلام عناد، والإسلام بدون إيمان نفاق، ويجمعهما طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وكان مقتضى ظاهر نظم الكلام أن يقال: قل لم تؤمنوا ولكن أسلمتم، أو أن يقال: قل لا تقولوا آمنا ولكن قولوا أسلمنا، ليتوافق المستدرك عنه والاستدراك بحسب النظم المتعارف في المجادلات، فعدل عن الظاهر إلى هذا النظم لأن فيه صراحة بنفي الإيمان عنهم فلا يحسبوا أنهم غالطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم واستغني بقوله: {لم تؤمنوا} عن أن يقال: لا تقولوا آمنا، لاستهجان أن يخاطبوا بلفظ مُؤدّاه النهي عن الإعلان بالإيمان لأنهم مطالبون بأن يؤمنوا ويقولوا آمنا قولا صادقًا لا كاذبًا فقيل لهم {لم تؤمنو} تكذيبًا لهم مع عدم التصريح بلفظ التكذيب ولكن وقع التعريض لهم بذلك بعد في قوله: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا} إلى قوله: {أولئك هم الصادقون} أي لا أنتم ولذلك جيء بالاستدراك محمولًا على المعنى.
وعدل عن أن يقال: ولكن أسلمتم إلى {قولوا أسلمنا} تعريضًا بوجوب الصدق في القول ليطابق الواقع، فهم يشعرون بأن كذبهم قد ظهر، وذلك مما يُتعير به، أي الشأن أن تقولوا قولا صادقًا.
وقوله: {ولما يدخل الإيمان في قلوبكم} واقع موقع الحال من ضمير {لم تؤمنوا} وهو مبيّنٌ لمعنى نفي الإيمان عنهم في قوله: {لم تؤمنوا} بأنه ليس انتفاء وجود تصديق باللسان ولكن انتفاء رسوخه وعقد القلب عليه إذ كان فيهم بقية من ارتياب كما أشعر به مقابلته بقوله: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا}.
واستعير الدخول في قوله: {ولما يدخل الإيمان في قلوبكم} للتمكن وعدم التزلزل لأن الداخل إلى المكان يتمكن ويَسْتقر والخارج عنه يكون سريع المفارقة له مستوفزًا للانصراف عنه.
و (لمّا) هذه أخت (لم) وتدل على أن النفي بها متصل بزمان التكلم وذلك الفارق بينها وبين (لم) أختها.
وهذه الدلالة على استمرار النفي إلى زمن التكلم تؤذن غالبًا، بأن النمفي بها متوقع الوقوع.
قال في (الكشاف) وما في (لمّا) من معنى التوقع دال على أن هؤلاء قد آمنوا فيما بعد.
وهي دلالة من مستتبعات التراكيب.
وهذا من دقائق العربية.
وخالف فيه أبو حيان والزمخشري حجة في الذوق لا يدانيه أبو حيان، ولهذا لم يكن قوله: {ولما يدخل الإيمان في قلوبكم} تكريرًا مع قوله: {لم يؤمنوا}.
وقوله: {وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئًا} إرشاد إلى دواء مرض الحال في قلوبهم من ضعف الإيمان بأنه إن يطيعوا الله ورسوله حَصل إيمانهم فإن مما أمر الله به على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بيان عقائد الإيمان بأن يقبلوا على التعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم مدة إقامتهم بالمدينة عوضًا عن الاشتغال بالمَنّ والتعريض بطلب الصدقات.
ومعنى {لا يلتكم} لا يُنقصكم، يقال: لاته مثل باعه.
وهذا في لغة أهل الحجاز وبني أسد، ويقال: التَه ألَتًا مثل: أمره، وهي لغة غطفان قال تعالى: {وما ألتناهم من عملهم من شيء} في سورة الطور (21).
وقرأ بالأولى جمهور القراء وبالثانية أبو عمرو ويعقوب.
ولأبي عمرو في تحقيق الهمزة فيها وتخفيفها ألفا روايتان فالدُّوري روى عنه تحقيق الهمزة والسوسي روى عنه تخفيفها.
وضمير الرفع في {يلتكم} عائد إلى اسم الله ولم يقل: لا يَلِتَاكم بضمير التثنية لأنّ الله هو متولي الجزاء دون الرسول صلى الله عليه وسلم والمعنى: إن أخلصتم الإيمان كما أمركم الله ورسوله تقبَّل الله أعمالكم التي ذكرتم من أنكم جئتم طائعين للإسلام من غير قتال.
وجملة {إن الله غفور رحيم} استئناف تعليم لهم بأن الله يتجاوز عن كذبهم إذا تابوا، وترغيب في إخلاص الإيمان لأن الغفور كثير المغفرة شديدُها، ومن فرط مغفرته أنه يجازي على الأعمال الصالحة الواقعة في حالة الكفر غيرَ معتدّ بها فإذا آمن عاملها جوزي عليها بمجرد إيمانه وذلك من فرط رحمته بعباده.
وترتيب {رحيم} بعد {غفور} لأن الرحمة أصل للمغفرة وشأن العلة أن تورد بعد المعلل بها. اهـ.

.قال ابن عطية في الآيات السابقة:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ}.
هذه الآيات والتي بعدها نزلت في خلق أهل الجاهلية. وذلك لأنهم كانوا يجرون مع الشهوات نفوسهم لم يقومهم أمر من الله ولا نهي. فكان الرجل يسطو ويهمز ويلمز وينبز بالألقاب ويظن الظنون. فيتكلم بها. ويغتاب ويفتخر بنسبه إلى غير ذلك من أخلاق النفوس البطالة. فنزلت هذه الآية تأديبًا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم. وذكر بعض الناس لهذه الآيات أسبابًا. فمما قيل: إن هذه الآية: {لا يسخر قوم} نزلت بسبب عكرمة بن أبي جهل وذلك أنه كان يمشي بالمدينة مسلمًا، فقال له قوم: هذا ابن فرعون هذه الأمة، فعز ذلك عليه وشكاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال القاضي أبو محمد: والقوي عندي أن هذه الآية نزلت تقويمًا كسائر أمر الشرع ولو تتبعت الأسباب لكانت أكثر من أن تحصى.
و: {يسخر} معناه: يستهزئ. والهزء إنما يترتب متى ضعف امرؤ إما لصغر وإما لعلة حادثة، أو لرزية أو لنقيصة يأتيها، فنهي المؤمنون عن الاستهزاء في هذه الأمور وغيرها نهيًا عامًا، فقد يكون ذلك المستهزأ به خيرًا من الساخر، والقوم في كلام العرب: واقع على الذكران، وهو من أسماء الجمع: كالرهط والنفر. وقول من قال: إنه من القيام أو جمع قائم ضعيف، ومنه قول الشاعر وهو زهير: الوافر:
وما أدري وسوف إخال أدري ** أقوم آل حصن أم نساء

وهذه الآية أيضًا تقتضي اختصاص القوم بالذكران، وقد يكون مع الذكران نساء فيقال لهم قوم على تغليب حال الذكور، ثم نهى تعالى النساء عمّا نهى عنه الرجال من ذلك.
وقرأ أبيّ بن كعب وابن مسعود: {عسوا أن يكونوا}، {وعسين أن يكن}.
و: {تلمزوا}، معناه: يطعن بعضكم على بعض بذكر النقائص ونحوه، وقد يكون اللمز بالقول وبالإشارة ونحوه مما يفهمه آخر، والهمز لا يكون إلا باللسان، وهو مشبه بالهمز بالعود ونحوه مما يقتضي المماسة، قال الشاعر رؤبة:
ومن همزنا عزه تبركعا

وقيل لأعرابي: أتهمز الفأرة؟ فقال الهر يهمزها.
وحكى الثعلبي أن اللمز ما كان في المشهد والهمز ما كان في المغيب. وحكى الزهراوي عن علي بن سليمان عَكَّهُ من ذلك فقال: الهمز أن يعيب حضرة واللمز في الغيبة. ومنه قوله تعالى: {ويل لكل همزة لمزة} [الهمزة: 1] ومنه قوله تعالى: {ومنهم من يلمزك في الصدقات} [التوبة: 58].
وقرأ الجمهور: {تلمِزوا} بكسر الميم. وقرأ الأعرج والحسن: {تلمُزوا} بضم الميم. قال أبو عمرو بن العلاء: هي عربية. قراءتنا بالضم وأحيانًا بالكسر.
وقوله تعالى: {أنفسكم} معناه: بعضكم بعضًا كما قال: {ولا تقتلوا أنفسكم} [النساء: 29] كأن المؤمنين كنفس واحدة إذ هم إخوة. فهم كما قال صلى الله عليه وسلم:
«كالجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى سائره بالسهر والحمى» وهم كما قال أيضًا: «كالبنيان يشد بعضه بعضًا». والتنابز: التلقب والنبز واللقب واحد. أو اللقب: هو ما يعرف به الإنسان من الأسماء التي يكره سماعها. وروي أن بني سلمة كانوا قد كثرت فيهم الألقاب، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا منهم فقال له: يا فلان، فقيل له: إنه يغضب من هذا الاسم، ثم دعا آخر كذلك. فنزلت الآية في هذا. وليس من هذا قول المحدثين سليمان الأعمش. وواصل الأحدب. ونحوه مما تدعو الضرورة إليه وليس فيه قصد استخفاف وأذى. وقد قال عبد الله بن مسعود لعلقمة: وتقول أنت ذلك يا أعور. وأسند النقاش إلى عطاء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كنوا أولادكم؟» قال عطاء: مخافة الألقاب. وقال ابن زيد. معنى: {ولا تنابزوا بالألقاب} أي لا يقول أحد لأحد: يا يهودي بعد إسلامه. ولا يا فاسق بعد توبته. ونحو هذا. وحكى النقاش أن كعب بن مالك وابن أبي حدرد تلاحيا، فقال له كعب: يا أعرابي. يريد أن يبعده من الهجرة. فقال له الآخر: يا يهودي. يريد لمخالطة الأنصار اليهود في يثرب. فنزلت الآية.