فصل: قال أبو السعود في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقوله تعالى: {بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان} يحتمل معنيين: أحدهما: بئس اسم تكتسبونه بعصيانكم ونبزكم بالألقاب فتكونون فساقًا بالمعصية بعد إيمانكم. والثاني: بئس ما يقول الرجل لأخيه: يا فاسق بعد إيمانه. وقال الرماني: هذه الآية تدل على أنه لا يجتمع الفسق والإيمان.
قال القاضي أبو محمد: وهذه نزعة اعتزالية.
ثم شدد تعالى عليهم النهي. بأن حكم بظلم من لم يتب ويقلع عن هذه الأشياء التي نهى عنها. ثم أمر تعالى المؤمنين باجتناب كثير من الظن. وأن لا يعملوا ولا يتكلموا بحسبه، لما في ذلك وفي التجسس من التقاطع والتدابر. وحكم على بعضه بأنه {إثم} إذ بعضه ليس بإثم. ولا يلزم اجتنابه وهو ظن الخير بالناس وحسنه بالله تعالى. والمظنون من شهادات الشهود والمظنون به من أهل الشر. فإن ذلك سقوط عدالته وغير ذلك هي من حكم الظن به. وظن الخير بالمؤمن محمود والظن المنهي عنه: هو أن تظن سوءًا برجل ظاهره الصلاح. بل الواجب تنزيل الظن وحكمه وتتأول الخير. وقال بعض الناس: {إثم} معناه: كذب. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث».
وقال بعض الناس. معنى: {إن بعض الظن إثم} أي إذا تكلم الظان أثم. وما لم يتكلم فهو في فسحة. لأنه لا يقدر على دفع الخواطر التي يبيحها قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الحزم سوء الظن».
قال القاضي أبو محمد: وما زال أولو العلم يحترسون من سوء الظن ويسدون ذرائعه.
قال سلمان الفارسي: إني لأعد غراف قِدْري مخافة الظن. وذكر النقاش عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «احترسوا من الناس بسوء الظن».
وكان أبو العالية يختم على بقية طعامه مخافة سوء الظن بخادمه.
وقال ابن مسعود: الأمانة خير من الخاتم. والخاتم خير من ظن السوء.
وقوله: {ولا تجسسوا} أي لا تبحثوا على مخبآت أمور الناس وادفعوا بالتي هي أحسن. واجتزوا بالظواهر الحسنة.
وقرأ الحسن وأبو رجاء وابن سيرين والهذليون: {لا تحسسوا} بالحاء غير منقوطة. وقال بعض الناس: التجسس بالجيم في الشر. والتحسس بالحاء في الخير. وهكذا ورد القرآن، ولكن قد يتداخلان في الاستعمال. وقال أبو عمرو بن العلاء: التجسس: ما كان من وراء وراء. والتحسس بالحاء: الدخول والاستعلام. وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانًا». وذكر الثعلبي حديث حراسة عمرو بن عوف ووجودهما الشرب في بيت ربيعة بن أمية بن خلف. وذكر أيضًا حديثه في ذلك مع أبي محجن الثقفي. وقال زيد بن وهب. قيل لابن مسعود: هل لك في الوليد بن عقبة تقطر لحيته خمرًا؟ فقال: إنا نهينا عن التحسس. فإن يظهر لنا شيء أخذنا به.
{ولا يغتب} معناه: ولا يذكر أحدكم من أخيه شيئًا هو فيه يكره سماعه. وروي أن عائشة قالت عن امرأة: ما رأيت أجمل منها إلا أنها قصيرة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «اغتبتها، نظرت إلى أسوأ ما فيها فذكرته» وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا ذكرت ما في أخيك فقد اغتبته. وإذا ذكرت ما ليس فيه فقد بهته».
وفي حديث آخر: «الغيبة أن تذكر المؤمن بما يكره».
قيل: وإن كان حقًا. قال: «إذا قلت باطلًا فذلك هو البهتان». وقال معاوية بن قرة وأبو إسحاق السبيعي: إذا مر بك رجل اقطع. فقلت: ذلك الأقطع، كان ذلك غيب. وحكى الزهراوي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الغيبة أشد من الزنا، لأن الزاني يتوب فيتوب الله عليه. والذي يغتاب يتوب فلا يتاب عليه حتى يستحل».
قال القاضي أبو محمد: وقد يموت من اغتيب، أو يأبى.
وروي أن رجلًا قال لابن سيرين: إني قد اغتبتك فحللني. فقال له ابن سيرين إني لا أحل ما حرم الله. والغيبة مشتقة من غاب يغيب. وهي القول في الغائب واستعملت في المكروه. ولم يبح في هذا المعنى إلا ما تدعو الضرورة إليه من تجريح في الشهود وفي التعريف لمن استنصح في الخطاب ونحوهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أما معاوية فصعلوك لا مال له».
وما يقال في الفسقة أيضًا وفي ولاة الجور ويقصد به التحذير منه. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أعن الفاجر ترعون؟ اذكروا الفاجر بما فيه حتى يعرفه الناس إذا لم تذكروه» ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «بئس ابن العشيرة». ثم مثل تعالى الغيبة بأكل لحم ابن آدم الميت، والعرب تشبه الغيبة بأكل اللحم. فمنه قول الشاعر سويد بن أبي كاهل اليشكري: الرمل:
فإذا لاقيته عظّمني ** وإذا يخلو له لحمي رتع

ويروى فيحييني إذا لاقيته.
ومنه قول الآخر: المقنع الكندي:
وإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم ** وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا

فوقفهم الله تعالى على جهة التوبيخ بقوله: {أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتًا} فالجواب عن هذا: لا. وهم في حكم من يقولها. فخوطبوا على أنهم قالوا لا. فقيل لهم: {فكرهتموه} وبعد هذا مقدر تقديره: فكذلك فاكرهوا الغيبة التي هي نظير ذلك. وعلى هذا المقدر يعطف قوله: {واتقوا الله} قاله أبو علي الفارسي. وقال الرماني: كراهية هذا اللحم يدعو إليها الطبع. وكراهية الغيبة يدعو إليها العقل. وهو أحق أن يجاب. لأنه بصير عالم. والطبع أعمى جاهل.
وقرأ الجمهور: {ميْتًا} بسكون الياء. وقرأ نافع وابن القعقاع وشيبة ومجاهد: {ميِّتًا} بكسرها والشد. وقرأ أبو حيوة: {فكُرّهتموه} بضم الكاف وشد الراء.
ورواها أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم. ثم أعلم بأنه {تواب رحيم} إبقاء منه تعالى وإمهالًا وتمكينًا من التوبة.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى}.
قوله تعالى: {من ذكر وأنثى} يحتمل أن يريد آدم وحواء. فكأنه قال: إنا خلقنا جميعكم من آدم وحواء. ويحتمل أن يريد الذكر والأنثى اسم الجنس. فكأنه قال: إنا خلقنا كل واحد منكم من ماء ذكر وما أنثى. وقصد هذه الآية التسوية بين الناس. ثم قال تعالى: {وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا} أي لئلا تفاخروا ويريد بعضكم أن يكون أكرم من بعض. فإن الطريق إلى الكرم غير هذا: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} وروى بو بكرة: قيل يا رسول الله: من خير الناس؟ قال: «من طال عمره وحسن عمله».
وفي حديث آخر من خير الناس؟ قال: «آمرهم بالمعروف. وأنهاهم عن المنكر. وأوصلهم للرحم وأتقاهم». وحكى الزهراوي أن سبب هذه الآية غضب الحارث بن هشام وعتاب بن أسيد حين أذن بلال يوم فتح مكة على الكعبة، وحكى الثعلبي عن ابن عباس أن سببها قول ثابت بن قيس لرجل لم يفسح عند النبي صلى الله عليه وسلم: يا ابن فلانة، فوبخه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال له: «إنك لا تفضل أحدًا إلا في الدين والتقوى» فنزلت هذه الآية ونزل الأمر بالتفسح في ذلك أيضًا، والشعوب: جمع شعب وهو أعظم ما يوجد من جماعات الناس مرتبطًا بنسب واحد، ويتلوه القبيلة، ثم العمارة، ثم البطن، ثم الفخذ، ثم الأسرة والفصيلة: وهما قرابة الرجل الأدنون فمضر وربيعة وحمير شعوب، وقيس وتميم ومذحج ومراد، قبائل مشبهة بقبائل الرأس، لأنها قطع تقابلت وقريش ومحارب وسليم عمارات، وبنو قصي وبنو مخزوم بطون، وبنو هاشم وبنو أمية أفخاذ، وبنو عبد المطلب أسرة وفصيلة، وقال ابن جبير: الشعوب: الأفخاذ. وروي عن ابن عباس الشعوب: البطون، وهذا غير ما تمالأ عليه اللغويون. قال الثعلبي، وقيل: الشعوب في العجم والقبائل في العرب، والأسباط في بني إسرائيل. وأما الشعب الذي هو في همدان الذي ينسب إليه الشعبي فهو بطن يقال له الشعب.
قال القاضي أبو محمد: وقيل للأمم التي ليست بعرب: شعوبية، نسبة إلى الشعوب، وذلك أن تفصيل أنسابها خفي فلم يعرف أحد منهم إلا بأن يقال: فارسي تركي رومي زناتي. فعرفوا بشعوبهم وهي أعم ما يعبر به عن جماعتهم، ويقال لهم الشعوبية بفتح الشين، وهذا من تغيير النسب، وقد قيل فيهم غير ما ذكرت، وهذا أولى عندي.
وقرأ الأعمش: {لتتعارفوا} وقرأ عبد الله بن عباس: {لتعرفوا أن}، على وزن تفعِلوا بكسر العين وفتح الألف من أن، وبإعمال {لتعرفوا} فيها، ويحتمل على هذه القراءة أن تكون اللام في قوله: {لتعرفوا} لام كي، ويضطرب معنى الآية مع ذلك، ويحتمل أن تكون لام الأمر، وهو أجود في المعنى، ويحتمل أن يكون المفعول محذوفًا تقديره: الحق، وإذا كانت لام كي فكأنه قال: يا أيها الناس أنتم سواء من حيث أنتم مخلوقون لأن تتعارفوا ولأن تعرفوا الحقائق، وأما الشرف والكرم فهو بتقوى الله تعالى وسلامة القلوب.
وقرأ ابن مسعود: {لتعارفوا بينكم وخيركم عند الله أتقاكم}.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من سره أن يكون أكرم الناس، فليتق الله».
ثم نبه تعالى على الحذر بقوله: {إن الله عليم خبير} أي بالمتقي الذي يستحق رتبة الكرم في الإيمان، أي لم تصدقوا بقلوبكم {ولكن قولوا أسلمنا}. والإسلام يقال بمعنيين، أحدهما: الدين يعم الإيمان والأعمال، وهو الذي في قوله: {إن الدين عند الله الإسلام} [آل عمران: 19] والذي في قوله صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس» والذي في تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل حين قال له: ما الإسلام؟ قال: بأن تعبد الله وحده ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان، والذي في قوله لسعد بن أبي وقاص: «أو مسلمًا، إني لأعطي الرجل وغيره أحب إليَّ منه» الحديث، فهذا الإسلام ليس هو في قوله: {ولكن قولوا أسلمنا} والمعنى الثاني للفظ الإسلام: هو الاستسلام والإظهار الذي يستعصم به ويحقن الدم، وهذا هو الإسلام في قوله: {ولكن قولوا أسلمنا}، و{الإيمان} الذي هو التصديق أخص من الأول وأعم بوجه، ثم صرح لهم بأن {الإيمان} لم يدخل قلوبهم ثم فتح لهم باب التوبة بقوله: {وإن تطيعوا الله} الآية، وطاعة الله ورسوله في ضمنها الإيمان والأعمال.
وقرأ جمهور القراء: {لا يلتكم} من لات يليت إذا نقص، يقال: لاته حقه إذا نقصه منه، ولت السلطان إذا لم يصدقه فيما سأل عنه. وقرأ أبو عمرو والأعرج والحسن وعمرو: {لا يألتكم} من ألت يألت وهو بمعنى: لات، وكذلك يقال: ألتِ بكسر اللام يألت، ويقال أيضًا في معنى لات، ألت يولت ولم يقرأ بهذه اللغة وباقي الآية ترجية. اهـ.

.قال أبو السعود في الآيات السابقة:

{وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا}.
أي تقاتلُوا والجمعُ باعتبارِ المَعْنى {فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا} بالنُّصحِ والدعاءِ إلى حُكمِ الله تعالى {فَإِن بَغَتْ} أي تعدتْ {إِحْدَاهُمَا على الأخرى} وَلَمْ تتأثرْ بالنصيحةِ {فقاتلوا التي تَبْغِى حتى تَفِيء} أيْ ترجعَ {إلى أَمْرِ الله} إِلى حُكمهِ أوْ إلى مَا أمرَ بهِ {فَإِن فَاءتْ} إليهِ وأقلعتْ عن القتالِ حذارًا من قتالِكم {فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بالعدل} بفصلِ ما بينَهما على حُكمِ الله تعالى ولا تكتفُوا بمجردِ متاركتهِما عَسى يكونُ بينَهما قتالٌ في وقتٍ آخرَ، وتقييدُ الإصلاحِ بالعدلِ لأنَّه مظِنةُ الحيفِ لوقوعِه بعدَ المقاتلةِ وقدْ أكَّد ذلكَ حيثُ قيلَ: {وَأَقْسِطُواْ} أيْ واعدلُوا في كُلِّ ما تأتونَ وما تذرونَ {إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين} فيجازيهُم أحسنَ الجزاءِ والآيةُ نزلتْ في قتالٍ حدثَ بينَ الأوسِ والخزرجِ في عهدِه عليهِ الصلاةُ والسلام بالسَعَفِ والنعالِ، وفيهَا دلالةً على أنَّ الباغيَ لا يخرجُ بالبغِي عنِ الإيمانِ وأنَّه إذَا أمسكَ عنِ الحربِ تُركَ لأنَّه فيءٌ إلى إمرِ الله تعالى وأنه يجبُ معاونةُ منْ بُغيَ عليهِ بعدَ تقديمِ النُّصحِ والسعْيِ في المصالحةِ.
{إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ} استئنافٌ مقررٌ لما قبلَهُ منَ الأمرِ بالإصلاحِ أيْ أنهم منتسبونَ إلى أصلٍ واحدٍ هُوَ الإيمانُ الموجبُ للحياةِ الأبديةِ، والفاءُ في قولهِ تعالى: {فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} للإيذانِ بأَنَّ الأخوةَ الدينيةَ موجبةٌ للإصلاح، ووضعُ المُظهرِ مقامَ المضمرِ مُضافًا إلى المأمورينَ للمبالغةِ في تأكيدِ وجوبِ الإصلاحِ والتحضيضِ عليهِ وتخصيصُ الاثنينِ بالذكرِ لإثباتِ وجوبِ الإصلاحِ فيَما فوقَ ذلكَ بطريقِ الأولويةِ لتضاعفِ الفتنةِ والفسادِ فيهِ وقيلَ المرادُ بالأخوينِ الأوسُ والخزرجُ وقرئ {بينَ إخوتِكم} و{إخوانِكم} {واتقوا الله} في كُلَّ ما تأتونَ وما تذرونَ من الأمورِ التي منْ جُملتِها ما أُمرتِم بهِ منَ الإصلاحِ {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} راجينَ أنْ ترحمُوا عَلى تقواكم.
{يا أيها الذين ءامَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ}.
أيْ منكُم {مِن قَوْمٍ} آخرينَ أيضًا منكُم وقوله تعالى: {عسى أَن يَكُونُواْ خَيْرًا مّنْهُمْ} تعليلٌ للنَّهِي أو لموجبِه أيْ عَسى أنْ يكونَ المسخورُ منْهم خيرًا عندَ الله تعالى منَ الساخرينَ، والقومُ مختصٌّ بالرجالِ لأنُهم القُوّامُ على النساءِ وهُو في الأصلِ إمَّا جمعُ قائمٍ كصَوْمٍ وزَوْرٍ في جمعِ صائمٍ وزائرٍ أو مصدرٌ نعتَ بهِ فشاعَ في الجمعِ، وأما تعميمُه للفريقينِ في مثلِ قومِ عادٍ وقومِ فرعونَ فإمَّا للتغليبِ أو لأنهنَّ توابعُ، واختيارُ الجمع لغلبةِ وقوعِ السخريةِ في المجامعِ، والتنكيرُ إمَّا للتعميمِ أو للقصدِ إلى نَهْي بعضِهم عنْ سُخريةِ بعضٍ لما أنَّها مما يجرِي بينَ بعضٍ وبعضٍ {وَلاَ نِسَاء} أيْ ولا تسخرْ نساءٌ من المؤمناتِ {مّن نّسَاء} منهنَّ {عسى أَن يَكُنَّ} أيْ المسخورُ منهُنَّ {خَيْرًا مّنْهُنَّ} أيْ منَ الساخراتِ فإنَّ مناطَ الخيريةِ في الفريقينِ ليسَ ما يظهرُ للناسِ من الصورِ والأشكالِ ولا الأوضاعِ والأطوارِ التي عليَها يدورُ أمرُ السخريةِ غالبًا بلْ إنما هُوَ الأمورُ الكامنةُ في القلوبِ فلا يجترئ أحدٌ على استحقارِ أحدٍ فلعلَّهُ أجمعُ منْهُ لما نيطَ بهِ الخيريةُ عندَ الله تعالى فيظلَم نفسَهُ بتحقيرِ منْ وقَّره الله تعالى والاستهانةِ بَمنْ عظَّمُه الله تعالى وقرئ {عَسَوا أنْ يكونُوا} و{عَسَينَ أنْ يكنَّ} فعسَى حينئذٍ هي ذاتُ الخبرِ كما في قوله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ} وَأمَّا على الأولِ فهيَ التي لا خيرَ لها {وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ} أيْ ولا يعبْ بعضُكم بعضًا فإنَّ المؤمنينَ كنفسٍ واحدةٍ أو لا تفعلُوا ما تُلمَزونَ بهِ فإنَّ منْ فعلَ ما يستحقُّ بهِ اللمزَ فقدْ لمزَ نفسَهُ واللمزُ الطعنُ باللسانِ وقرئ بضمِّ الميمِ {وَلاَ تَنَابَزُواْ بالألقاب} أيْ ولا يدْعُ بعضُكم بعضًا بلقبِ السوءِ فإنَّ النبزَ مختصٌ بهِ عُرْفًا {بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الإيمان} أي بئسَ الذكرُ المرتفعُ للمؤمنينَ أنْ يُذكرُوا بالفسقِ بعد دخولِهم الإيمانَ أو اشتهارِهم بهِ فإنَّ الاسمَ هاهنا بمَعنى الذكرِ منْ قولهم طارَ اسمُه في الناسِ بالكرم أو باللؤمِ، والمرادُ بهِ إمَّا تهجينُ نسبةِ الكفرِ والفسوقِ إلى المؤمنينَ خصوصًا إذْ رُوي أنَّ الآيةَ نزلتْ في صفيةَ بنتِ حُيَيِّ أتتْ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقالتْ إنَّ النساءَ يقُلنَ لي يَا يهوديةُ بنت يهوديينِ فقال عليهِ الصلاةُ والسلام: «هَلاَّ قلتِ إنَّ أبي هارونَ وعَمِّي مُوسى وزَوْجي محمدٌ عليهمْ السلام» أوِ الدلالةُ عَلى أنَّ التنابزَ فسقٌ والجمعُ بينَهُ وبينَ الإيمانِ قبيحٌ {وَمَن لَّمْ يَتُبْ} عَمَّا نُهي عَنْهُ {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون} بوضعِ العصيانِ موضعَ الطاعةِ وتعريضِ النفسِ للعذابِ.
{يا أيها الذين ءامَنُواْ اجتنبوا كَثِيرًا مّنَ الظن}.
أيْ كُونوا على جانبٍ منْهُ، وإبهامُ الكثيرِ لإيجابِ الاحتياطِ والتأملِ في كُلِّ ظَنٍ ظُنَّ حَتَّى يعلَم أنَّه من أيِّ قبيلٍ، فإنَّ منَ الظنِّ ما يجبُ اتباعُه كالظنِّ فيَما لا قاطعَ فيهِ من العملياتِ وحسنِ الظنِّ بالله تعالى، ومنْهُ ما يحرمُ كالظنِّ في الإلهياتِ والنبواتِ وحيثُ يخالفُه قاطعٌ وظنِّ السوءِ بالمؤمنينَ، ومنْهُ ما يباحُ كالظنِّ في الأمورِ المعاشيةِ {إِنَّ بَعْضَ الظن أَثُمَّ} تعليلٌ للأمرِ بالاجتنابِ أوْ لموجبهِ بطريقِ الاستئنافِ التحقيقيِّ والإثمُ الذنبُ الذي يستحقُّ العقوبةَ عليهِ وهمزتُه منقلبةُ منَ الواوِ كأنَّه يثمُ الأعمالَ أي يكسرها.