فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القاسمي:

{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [6] أي ألهمنا الطريق الهادي، وأرشدنا إليه، ووفقنا له قال الإمام الراغب في تفسيره: الهداية دلالة بلطف، ومنه الهداية، وهوادى الوحس، وهي متقدماتها لكونها هادية لسائرها، وخص ما كان بفعلت نحو: هديته الطريق، وما كان من الإعطاء بفعلت نحو: أهديت الهدية. ولما يصور العروس على وجهين: قيل فيه: هديت وأهديت. فإن قيل: كيف جعلت الهدى دلالة لطف وقد قال تعالى: {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 23] وقال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [الحج: 4]. قيل: إن ذلك حسب استعمالهم اللفظ على التهكم كما قال:
وَخَيْلٍ قَدْ دَلَفْتُ لَهَا بِخَيْلٍ ** تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْب وَجِيْعُ!

والهداية هي الإرشاد إلى الخيرات قولًا وفعلًا، وهي من الله تعالى على منازل بعضها يترتب على بعض، لا يصح حصول الثاني إلا بعد الأول، ولا الثالث إلا بعد الثاني، فأول المنازل إعطاؤه العبد القوى التي بها يهتدي إلى مصالحه إما تسخيرًا وإما طوعًا- كالمشاعر الخمسة والقوة الفكرية، وبعض ذلك قد أعطاه الحيوانات، وبعض خصّ به الْإِنْسَاْن، وعلى ذلك دلّ قوله تعالى: {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50]، وقوله تعالى: {الَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى: 3] وهذه الهداية إما تسخير وإما تعليم، وإلى نحوه أشار بقوله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل: 68]، وقوله تعالى: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة: 5]، وقال في الْإِنْسَاْن بما أعطاه من العقل، وعرفه من الرشد: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} [الْإِنْسَاْن: 3] وقال: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10]، وقال في ثمود: {فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17].
وثانيهما الهداية بالدعاء وبعثه الأنبياء عليهم السلام. وإياها عنى بقوله تعاى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [السجدة: 24]. وبقوله: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد: 7]، وهذه الهداية تنسب تارة إلى الله عز وجل، وتارة إلى النبي عليه السلام، وتارة إلى القرآن. قال الله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9].
وثالثها هداية يوليها صالحي عباده بما اكتسبوه من الخيرات، وهي الهداية المذكورة في قوله عز وجل: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} [الحج: 24]. وقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] وقوله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69]. وهذه الهداية هي المعنية بقوله: {وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} [الحديد].
ويصح أن ننسب هذه الهداية إلى الله عز وجل فيقال: وآثرهم بها من حيث إنه هو السبب في وصولهم إليها. ويصح أن يقال: اكتسبوها من حيث أنهم توصلوا إليها باجتهادهم. فمن قصد سلطانًا مسترفدًا فأعطاه، يصح أن يقال: إن السلطان خوله. ويصح أن يقال: فلان اكتسب بسعيه، ولانطواء ذلك على الأمرين، قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد: 17]، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} [يونس: 9]. فنبه أن ذلك بجهدهم وبفضله جميعا. وهذه الهداية يصح أن يقال: هي مباحة للعقلاء كلهم، ويصح أن يقال: هي محظورة إلا على أوليائه، لما كان في إمكان جميع العقلاء أن يترشحوا لتناولها، ومن ذلك قيل: إنها لا يسهل تناولها قبل أن يتشكل الْإِنْسَاْن بشكل مخصوص، بتقديم عبادات. وقد قال بعض المحققين: الهدى من الله كثير، ولا يبصره إلا البصير، ولا يعمل به إلا اليسير. ألا ترى أن نجوم أسماء ما أكثرها ولا يهتدي بها إلا العلماء. وقال بعض الأولياء: إن مثل هداية الله مع الناس كمثل سيلٍ مرّ على قِلات وغدران، فيتناول كل قُلُتٍ منها بقدر سعته- ثم تلا قوله-: {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَة بِقَدَرِهَا} [الرعد: 17] وقال بعضهم: هي كمطرٍ أتى على أرضين فينفع كلَّ أرضٍ بقدر ترشيحها للانتفاع به.
والمنزلة الرابعة: من الهداية التمكين من مجاورته في دار الخلد، وإياها عنى الله بقوله: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} [الأعراف: 43]. فإذا ثبت ذلك فمن الهداية ما لا يُنْفى عن أحد بوجه. ومنها ما يُنفى عن بعض، ويثبت لبعض، ومن هذا الوجه قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56]. وقال: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء} [البقرة: 272]. وقال: {وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ} [الروم: 53]. فإنه عنى الهداية- التي هي التوفيق وإدخال الجنة- دون التي هي الدعاء لقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]. وقال في الأنبياء: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [الأنبياء: 73].
فقوله: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} فسر على وجوه بحسب أنظار مختلفة إلى الوجوه المذكورة:
الأول: أنه على الهداية العامة، وأمر أن ندعو بذلك- وإن كان هو قد فعله لا محالة- ليزيدنا ثوابًا بالدعاء، كما أمرنا أن نقول: اللهم صل على محمد.
الثاني: قيل: وفقنا لطريق الشرع.
الثالث: احرسنا عن استغواء الغواة واستهواء الشهوات، واعصمنا من الشبهات.
الرابع: زدنا هدى استنجاحًا لما وعدت بقولك: {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11]. وقولك: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} [محمد: 17].
الخامس: قيل: علمنا العلم الحقيقي فذلك سبب الخلاص، وهو المعبر عنه بالنور في قوله: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء} [النور: 35].
السادس: قيل: هو سؤال الجنة، لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} [محمد: 4- 5]. وقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} [يونس: 9]. فهذه الأقاويل اختلفت باختلاف أنظارهم إلى أبعاض الهداية وجزئياتها، والجميع يصح أن يكون مرادًا بالآية- إذ لا تنافي بينها- وبالله التوفيق. اهـ كلام الراغب.
وبه يعلم تحقيق معنى الهداية في سائر مواقعها في التنزيل الكريم، وأن الوجوه المأثورة في آية ما- إذا لم تتناف- صح إرادتها كلها، ومثل هذا يسمى: اختلاف تنوّع لا اختلاف تضاد.
كما أشار لذلك شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية رحمه الله تعالى في مبحث له مهم، نأثره عنه هنا، لما فيه من الفوائد الجليلة، قال رحمه الله:
ينبغي أن يعلم أن الاختلاف الواقع من المفسرين وغيرهم على وجهين:
أحدهما ليس فيه تضاد وتناقض، بل يمكن أن يكون كل منهما حقًا، وإنما هو اختلاف تنوع أو اختلاف في الصفات أو العبارات، وعامة الاختلاف الثابت عن مفسري السلف من الصحابة والتابعين هو من هذا الباب، فإن الله سبحانه إذا ذكر في القرآن اسمًا مثل قوله: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} فكل المفسرين يعبر عن الصراط المستقيم بعبارة تدل بها على بعض صفاته، وكل ذلك حق بمنزلة ما يسمى الله ورسوله وكتابه بأسماء، كل اسم منها يدل على صفة من صفاته، فيقول بعضهم: الصراط المستقيم كتاب الله، أو أتباع كتاب الله. ويقول الآخر: الصراط المستقيم هو الإسلام أو دين الإسلام. ويقول الآخر: الصراط المستقيم هو السنة والجماعة. ويقول الآخر: الصراط المستقيم طريق العبودية، أو طريق الخوف والرضا والحب، امتثال المأمور، واجتناب المحظور، أو متابعة الكتاب والسنة، أو العمل بطاعة الله، أو نحو هذه الأسماء والعبارات، ومعلوم أن المسمى هو واحد، وإن تنوعت صفاته وتعددت أسماؤه وعباراته، وكثير من التفسير والترجمة تكون من هذا الوجه.
ومنه قسم آخر وهو أن يذكر المفسر والمترجم معنى اللفظ على سبيل التمثيل لا على سبيل الحدّ والحصر- مثل أن يقول قائل من العجم: ما معنى الخبز؟ فيشار له إلى رغيف- وليس المقصود مجرد عينه، وإنما الإشارة إلى تعيين هذا الشخص تمثيلًا. وهذا كما إذا سئلوا عن قوله: {فَمِنْهُمْ ظَالِم لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِد وَمِنْهُمْ سَابِق بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر: 32]. أو عن قوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128]. أو عن الصالحين أو الظالمين، ونحو ذلك من الأسماء العامة الجامعة التي قد يتعسر أو يتعذر على المستمع أو المتكلم ضبط مجموع معناه؛ إذ لا يكون محتاجًا إلى ذلك فيذكر له من أنواعه وأشخاصه ما يحصل به غرضه، وقد يستدل به على نظائره. فإن الظالم لنفسه هو تارك المأمور فاعل المحظور، والمتقصد هو فاعل الواجب وتارك المحرم، والسابق هو فاعل الواجب والمستحب، وتارك المحارم والمكروه. فيقول المجيب بحسب حاجة السائل: الظالم الذي يفوّت الصلاة، أو الذي لا يسبغ الوضوء، أو الذي لا يتم الأركان ونحو ذلك. والمقتصد الذي يصلي في الوقت- كما أمر- والسابق بالخيرات الذي يصلي الصلاة بواجباتها ومستحباتها ويأتي بالنوافل المستحبة معها، وكذلك يقول مثل هذا في الزكاة والصوم الحج وسائر الواجبات.
وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: التفسير على أربعة أوجه:
تفسير تعرفه العرب من كلامها.
وتفسير لا يعذر أحد بجهالته.
وتفسير يعلمه العلماء.
وتفسير لا يعلمه إلا الله، فمن ادعى علمه فهو كاذب.
والصحابة أخذوا عن الرسول لفظ القرآن ومعناه كما أخذوا عنه السنة، وإن كان من الناس من غيّر السنة، فمن الناس من غير بعض معاني القرآن- إذ لم يتمكن من تغيير لظفه، وأيضًا فقد يخفى على بعض العلماء بعض معاني القرآن، كما خفي عليه بعض السنة، فيقع خطأ المجتهدين من هذا الباب والله أعلم.
وتقدم في مقدمة الكتاب بسط لهذا البحث فارجع إليه.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أيضًا في تحقيق هذه الآية:
كل عبد مضطر دائمًا إلى مقصود هذا الدعاء، وهو هداية الصراط المستقيم، فإنه لا نجاة من العذاب إلا بهذه الهداية، ولا وصول إلى السعادة إلا به، فمن فاته هذا الهدى فهو: إما من المغضوب عليهم، وإما من الضالين، وهذا الاهتداء لا يحصل إلا بهدى الله: {مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا} [الكهف: 17]. فإن الصراط المستقيم: أن تفعل في كل وقت ما أمرت به في ذلك الوقت من علم وعمل، ولا تفعل ما نهيت عنه، وهذا يحتاج في كل وقت إلى أن تعلم: ما أمر به في ذلك الوقت، وما نهى عنه، وإلى أن يحصل لك إرادة جازمة لفعل المأمور، وكراهة لترك المحظور. والصراط المستقيم قد فسّر بالقرآن والإسلام وطرق العبودية، وكل هذا حق، فهو موصوف بهذا وبغيره، فحاجته إلى هذه الهداية ضرورية في سعادته ونجاته، بخلاف الحاجة إلى الرزق والنصر، فإن الله يرزقه، وإن انقطع رزقه مات-والموت لابد منه- فإن كان من أهل الهداية، كان سعيدًا بعد الموت، وكان الموت موصلًا له إلى السعادة الدائمة الأبدية، فكيون رحمة في حقه، وكذلك النصر- إذا قدّر أنه قُهر وغُلب حتى قُتل- فإذا كان من أهل الهداية إلى الاستقامة مات شهيدًا، وكان القتل من تمام نعمة الله عليه، فتبين أن حاجة العباد إلى الهدى أعظم من حاجتهم إلى الرزق والنصر، بل لا نسبة بينهما فلهذا كان هذا الدعاء مفروضًا عليهم في الصلوات- فرضها ونفلها- وأيضًا فإن هذا الدعاء يتضمن الرزق والنصر لأنه إذا هدي الصراط المستقيم كان من المتقين: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2- 3] وكان من المتوكلين: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} [الطلاق: 3]، وكان ممن ينصر الله ورسوله، ومن ينصر الله ينصره، وكان من جند الله، وجند الله هم الغالبون. فالهدى التام يتضمن حصول أعظم ما يحصل به الرزق والنصر، فتبين أن هذا الدعاء هو الجامع لكل مطلوب تحصل به كل منفعة، وتندفع به كل مضرة.