فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَلاَ تَجَسَّسُواْ} أي ولا تبحثوا عن عورات المسلمين، تفعّل من الجسِّ لما فيهِ منْ مَعْنى الطلبِ كما أن التلمسَ بمَعنى التطلبِ لما في اللمسِ من الطلبِ وقد جاءَ بمعنى الطلبِ في قوله تعالى: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السماء} وقرئ بالحاءِ من الحَسِّ الذي هُوَ أثرُ الجَسِّ وغايتُه ولتقاربهمِا يقال للمشاعرِ الحواسُّ بالحاء والجيم وفي الحديث: «لا تتبعُوا عوراتِ المسلمينَ فإنَّ منْ تتبعَ عوراتِ المسلمينَ تتبعَ الله عورتَهُ حَتَّى يفضَحهُ ولو في جوفِ بيتِه» {وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا} أي لا يذكرْ بعضُكم بعضًا بالسوءِ في غِيبتِه وسُئلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن الغِيْبَةِ فقال أنْ تذكَر أخاكَ بما يكَرهُ فإنْ كانَ فيهِ فقدِ اغتبتَهُ وإنْ لمْ يكُنْ فيهِ فقدْ بهّتهُ وعنِ ابنِ عباسٍ رضي الله عَنْهما الغِيبةُ إدامُ كلابِ الناسِ {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} تمثيلٌ وتصويرٌ لما يصدرُ عنِ المغتابِ منْ حيثُ صدورُهُ عنْهُ ومنْ حيثُ تعلقُه بصاحبِه عَلى أفحشِ وجهٍ وأشنعِه طبعًا وعقلًا وشرعًا معَ مبالغاتٍ من فُنونٍ شَتَّى الاستفهامُ التقريري وإسنادُ الفعلِ إلى أحدٍ إيذانًا بأنَّ أحدًا من الأحدينَ لا يفعلُ ذلكَ وتعليقُ المحبةِ بَما هُوَ في غايةِ الكراهةِ وتمثيلُ الاغتيابِ بأكلِ لحمِ الإنسانِ وجعلُ المأكولِ أخًا للآكلِ وميتًا وإخراجُ تماثِلها مُخرجَ أمرٍ بينٍ غنيَ عنِ الإخبارِ بهِ وقرئ {ميتًا} بالتشديدِ وانتصابُه عَلى الحاليةِ من اللحمِ وقيلَ من الأخِ والفاءُ في قوله تعالى: {فَكَرِهْتُمُوهُ} لترتيبِ ما بعدَهَا عَلى ما قبلَها من التمثيلِ كأنَّه قيلَ وحيثُ كانَ الأمرُ كما ذكرَ فقد كرهتمُوه وقرئ {كُرِّهتمُوه} أي جُبلتُمْ عَلى كراهتِهِ {واتقوا الله} بتركِ ما أمرتمْ باجتنابهِ والندمِ عَلى مَا صَدرَ عنكُم من قبلُ {إِنَّ الله تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} مبالغٌ في قبولِ التوبةِ وإفاضةِ الرحمةِ حيثُ يجعلُ التائبَ كمنْ لَمْ يذنبْ ولا يخصُّ ذلكَ بتائبٍ دونَ تائبٍ بَلْ يعمُّ الجميعَ وإنْ كثرتْ ذنوبُهم.
رُوي أنَّ رجلينِ منَ الصحابةِ رضيَ الله عنُهم بعثَا سلمانَ إِلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يبغِي لهما إدَامًا وكانَ أسامةُ على طعامِه عليهِ الصلاةُ والسلام فقال ما عندِي شيءٌ فاخبرهما سلمانُ فقالاَ: لو بعثنا سلمانَ إلى بئرٍ سميحةٍ لغارَ ماؤُها فلمَّا رَاحا إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قال لهُما «مَا لي أَرَى خُضرةَ اللحمِ في أفواهِكُمَا» فقالاَ ما تناولنَا لحمًا فقال عليهِ الصلاةُ والسلام: «إنكُما قدِ اغتبتُمَا».
{يا أَيُّهَا الناس إِنَّا خلقناكم مّن ذَكَرٍ وأنثى} من آدمَ وحواءَ أوْ خلقنَا كُلَّ واحدٍ منكُم من أبٍ وأمٍ الكُلُّ سواءٌ في ذلكَ فلا وَجْهَ للتفاخرِ بالنسبِ وقَدْ جُوِّزَ أنْ يكونَ تأكيدًا للنَّهي السابقِ بتقريرِ الأخوةِ المانعةِ منَ الاغتيابِ {وجعلناكم شُعُوبًا وَقَبَائِلَ} الشَّعبُ الجمعُ العظيمُ المنتسبونَ إلى أصلٍ واحدٍ وهو يجمعُ القبائلَ، والقبيلةُ تجمعُ العمائرَ، والعَمارةُ تجمعُ البطونَ والبطنُ يجمعُ الأفخاذَ والفَخِذُ يجمعُ الفصائلَ فخُزَيمةُ شعبٌ وكنانةُ قبيلةٌ وقريشٌ عمارةٌ وقُصَي بطنٌ وهاشمٌ فخذٌ والعباسُ فصيلةٌ وقيلَ الشعوبُ بطونُ العجمِ والقبائلُ بطونُ العربِ {لتعارفوا} ليعرفُ بعضُكم بعضًا بحسب الأنسابِ فلًا يعتزَى أحدٌ إلى غيرِ آبائِه، لا لتتفاخرُوا بالآباءِ والقبائلِ وتَدَّعُوا التفاوتَ والتفاضلَ في الأنسابِ وقرئ {تتعارفُوا} عَلى الأصلِ و{لَتّعارفُوا} بالإدغامِ و{لتعرِفُوا} {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أتقاكم} تعليلٌ للنَّهِي عنِ التفاخر بالأنسابِ المستفادِ من الكلامِ بطريقِ الاستئنافِ التحقيقيِّ كأنَّه قيلَ إنَّ الأكرمَ عندَهُ تعالى هُو الأتقَى فإنْ فاخرتُم ففاخِروا بالتَّقوى وقرئ بأَنَّ المفتوحةِ عَلى حذفِ لامِ التعليلِ كأنَّه قيلَ لَم لا نتفاخرُ بالأنسابِ فقيلَ لأَنَّ أكرمَكُم عندَ الله أتقاكُم لا أنسبُكم فإنَّ مدارَ كمالِ النفوسِ وتفاوتِ الأشخاسِ هُو التَّقوى فمَنْ رامَ نيلَ الدرجاتِ العُلاَ فعليهِ التَّقوى قال عليهِ الصَّلاةُ والسلام: «مَنْ سَرَّهُ أنْ يكونَ أكرمَ النَّاسِ فليتقِ الله» وقال عليه الصلاةُ والسلام: «يَا أيُّها الناسُ إنمَّا الناسُ رجلانِ مؤمنٌ تقيٌ كريمٌ عَلى الله تعالى وفاجرٌ شقيٌّ هينٌ على الله تعالى» وعنِ ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما كرمُ الدُّنيا الغِنى وكرمُ الآخرةِ التَّقوى {إِنَّ الله عَلِيمٌ} بكُم وبأعمالِكم {خَبِيرٌ} ببواطنِ أحوالِكم.
{قالتِ الأعراب ءامَنَّا} نزلتْ في نفرٍ من بَني أَسَدٍ قَدمُوا المدينةَ في سنةِ جَدْبٍ فأظهرُوا الشهادتينَ وكانُوا يقولونَ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم أتيناكَ بالأثقال والعيالِ ولمْ نقاتِلْكَ كما قاتلكَ بنُو فلانٍ يريدونَ الصدقةَ ويمنونَ عليهِ عليهِ الصلاةُ والسلام ما فعلُوا {قُلْ} رَدًَّا لهُمْ {لَّمْ تُؤْمِنُواْ} إذِ الإيمانُ هُوَ التصديقُ المقارنُ للثقةِ وطمأنينةِ القلبِ ولم يحصُلْ لكُم ذلكَ وإلا لِمَا مننتُمْ عليَّ ما ذكرتُم كَما ينبئُ عَنْه آخرُ السورةِ {ولكن قولواْ أَسْلَمْنَا} فإنَّ الإسلامَ انقيادٌ ودخولٌ في السلمِ وإظهارُ الشهادةِ وتركُ المحاربةِ مشعرٌ بهِ، وإيثارُ مَا عليهِ النظمُ الكريمُ عَلى أنْ يقال لاَ تقولوا آمنَّا ولكنْ قولوا أسلمنَا أو لم تُؤمنِوا ولكن أسلمتُم للاحترازِ منِ النَّهي عنِ التلفظِ بالإيمانِ وللتفادِي عنْ إخراجِ قولهم مُخرجَ التسليمِ والاعتدادِ بهِ معَ كونِه تقولا محضًا {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان في قُلُوبِكُمْ} حالٌ من ضميرِ قولوا أيْ ولكِنْ قولوا أسلمنَا حالَ عدمِ مواطأةِ قلوبِكم لألسنتِكم، ومَا في لمَّا مِنْ مَعنْى التوقعِ مشعرٌ بأنَّ هؤلاءِ قَد آمنُوا فيمَا بعدُ {وَإِن تُطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ} بالإخلاصِ وتركِ النفاقِ {لاَ يَلِتْكُمْ مّنْ أعمالكم} لا ينُقصْكُم {شَيْئًا} من أجورِها مِنْ لاتَ يليتُ لَيْتًا إذَا نقصَ وقرئ {لا يأْلتِكُم} من الأَلْتِ وهيَ لغةُ غَطَفانَ أو شيئًا منَ النقصِ {أَنَّ الله غَفُورٌ} لِمَا فرطَ منَ المطيعينَ {رَّحِيمٌ} بالتفضيلِ عليهمْ. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

قوله: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا}.
قرأ الجمهور {اقتتلوا} باعتبار كل فرد من أفراد الطائفتين كقوله: {هذان خَصْمَانِ اختصموا} [الحج: 19] والضمير في قوله: {بَيْنَهُمَا} عائد إلى الطائفتين باعتبار اللفظ.
وقرأ ابن أبي عبلة: {اقتتلتا} اعتبارًا بلفظ طائفتان، وقرأ زيد بن عليّ، وعبيد بن عمير: {اقتتلا} وتذكير الفعل في هذه القراءة باعتبار الفريقين، أو الرهطين.
والبغي: التعدّي بغير حق، والامتناع من الصلح الموافق للصواب، والفيء: الرجوع.
والمعنى: أنه إذا تقاتل فريقان من المسلمين، فعلى المسلمين أن يسعوا بالصلح بينهم، ويدعوهم إلى حكم الله، فإن حصل بعد ذلك التعدّي من إحدى الطائفتين على الأخرى، ولم تقبل الصلح، ولا دخلت فيه كان على المسلمين أن يقاتلوا هذه الطائفة الباغية حتى ترجع إلى أمر الله وحكمه، فإن رجعت تلك الطائفة الباغية عن بغيها، وأجابت الدعوة إلى كتاب الله وحكمه، فعلى المسلمين أن يعدلوا بين الطائفتين في الحكم، ويتحرّوا الصواب المطابق لحكم الله، ويأخذوا على يد الطائفة الظالمة حتى تخرج من الظلم، وتؤدّي ما يجب عليها للأخرى.
ثم أمر الله سبحانه المسلمين أن يعدلوا في كل أمورهم بعد أمرهم بهذا العدل الخاص بالطائفتين المقتتلتين فقال: {وَأَقْسِطُواْ إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين} أي: واعدلوا إن الله يحب العادلين، ومحبته لهم تستلزم مجازاتهم بأحسن الجزاء.
قال الحسن، وقتادة، والسديّ: {فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا} بالدعاء إلى حكم كتاب الله، والرضى بما فيه لهما وعليهما {فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا} وطلبت ما ليس لها، ولم ترجع إلى الصلح {فقاتلوا التي تَبْغِى} حتى ترجع إلى طاعة الله، والصلح الذي أمر الله به، وجملة: {إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ} مستأنفة مقرّرة لما قبلها من الأمر بالإصلاح، والمعنى: أنهم راجعون إلى أصل واحد، وهو الإيمان.
قال الزجاج: الدين يجمعهم، فهم إخوة إذا كانوا متفقين في دينهم، فرجعوا بالاتفاق في الدين إلى أصل النسب؛ لأنهم لآدم وحواء {فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} يعني: كل مسلمين تخاصما وتقاتلا، وتخصيص الاثنين بالذكر لإثبات وجوب الإصلاح فيما فوقهما بطريق الأولى.
قرأ الجمهور: {بين أخويكم} على التثنية، وقرأ زيد بن ثابت، وعبد الله بن مسعود، والحسن، وحماد بن سلمة، وابن سيرين: {إخوانكم} بالجمع، وروي عن أبي عمرو، ونصر بن عاصم، وأبي العالية، والجحدري، ويعقوب أنهم قرءوا {بين إخوتكم} بالفوقية على الجمع أيضًا.
قال أبو عليّ الفارسي في توجيه قراءة الجمهور: أراد بالأخوين: الطائفتين؛ لأن لفظ التثنية قد يرد، ويراد به الكثرة.
وقال أبو عبيدة: أي: أصلحوا بين كل أخوين {واتقوا الله} في كل أموركم {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} بسبب التقوى، والترجي باعتبار المخاطبين، أي: راجين أن ترحموا، وفي هذه الآية دليل على قتال الفئة الباغية إذا تقرّر بغيها على الإمام، أو على أحد من المسلمين، وعلى فساد قول من قال بعدم الجواز مستدلًا بقوله صلى الله عليه وسلم: «قتال المسلم كفر»، فإن المراد بهذا الحديث، وما ورد في معناه قتال المسلم الذي لم يبغ.
قال ابن جرير: لو كان الواجب في كلّ اختلاف يكون بين فريقين من المسلمين الهرب منه، ولزوم المنازل لما أقيم حقّ، ولا أبطل باطل، ولوجد أهل النفاق والفجور سببًا إلى استحلال كل ما حرّم الله عليهم من أموال المسلمين، وسبي نسائهم، وسفك دمائهم بأن يتحزّبوا عليهم، ولكفّ المسلمين أيديهم عنهم، وذلك مخالف لقوله صلى الله عليه وسلم: «خذوا على أيدي سفهائكم» قال ابن العربي: هذه الآية أصل في قتال المسلمين، وعمدة في حرب المتأوّلين، وعليها عوّل الصحابة، وإليها لجأ الأعيان من أهل الملة، وإياها عنى النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله: «تقتل عمارًا الفئة الباغية»، وقوله صلى الله عليه وسلم في شأن الخوارج: «يخرجون على حين فرقة من الناس تقتلهم أولى الطائفتين بالحقّ» {يا أيها الذين ءامَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مّن قَوْمٍ عسى أَن يَكُونُواْ خَيْرًا مّنْهُمْ} السخرية: الاستهزاء.
وحكى أبو زيد: سخرت به، وضحكت به، وهزأت به.
قال الأخفش: سخرت منه وسخرت به، وضحكت منه وضحكت به، وهزأت منه وهزأت به، كل ذلك يقال، والاسم السخرية والسخرى، وقرئ بهما في: {لّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزخرف: 32]، ومعنى الآية: النهي للمؤمنين عن أن يستهزئ بعضهم ببعض، وعلل هذا النهي بقوله: {عسى أَن يَكُونُواْ خَيْرًا مّنْهُمْ} أي: أن يكون المسخور بهم عند الله خيرًا من الساخرين بهم، ولما كان لفظ قوم مختصًا بالرجال؛ لأنهم القوّم على النساء أفرد النساء بالذكر فقال: {وَلاَ نِسَاء مّن نّسَاء} أي: ولا يسخر نساء من نساء {عسى أَن يَكُنَّ} المسخور بهن {خَيْرًا مّنْهُنَّ} يعني: خيرًا من الساخرات منهنّ، وقيل: أفرد النساء بالذكر؛ لأن السخرية منهنّ أكثر {وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ} اللمز العيب، وقد مضى تحقيقه في سورة براءة عند قوله: {وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصدقات} [التوبة: 58] قال ابن جرير: اللمز باليد والعين واللسان والإشارة، والهمز لا يكون إلاّ باللسان، ومعنى: {لا تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ}: لا يلمز بعضكم بعضًا، كما في قوله: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} [النساء: 29] وقوله: {فَسَلّمُواْ على أَنفُسِكُمْ} [النور: 61].
قال مجاهد، وقتادة، وسعيد بن جبير: لا يطعن بعضكم على بعض.
وقال الضحاك: لا يلعن بعضكم بعضًا {وَلاَ تَنَابَزُواْ بالألقاب} التنابز: التفاعل من النبز بالتسكين، وهو المصدر، والنبز بالتحريك اللقب، والجمع أنباز، والألقاب جمع لقب، وهو اسم غير الذي سمي به الإنسان، والمراد هنا لقب السوء، والتنابز بالألقاب أن يلقب بعضهم بعضًا.
قال الواحدي: قال المفسرون: هو أن يقول لأخيه المسلم: يا فاسق يا منافق، أو يقول لمن أسلم: يا يهودي يا نصراني، قال عطاء: هو كلّ شيء أخرجت به أخاك من الإسلام، كقولك: يا كلب يا حمار يا خنزير.
قال الحسن، ومجاهد: كان الرجل يعير بكفره، فيقال له: يا يهودي يا نصراني فنزلت، وبه قال قتادة، وأبو العالية، وعكرمة {بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الايمان} أي: بئس الاسم الذي يذكروا بالفسق بعد دخولهم في الإيمان، والاسم هنا بمعنى الذكر.
قال ابن زيد: أي: بئس أن يسمى الرجل كافرًا أو زانيًا بعد إسلامه وتوبته.
وقيل المعنى: أن من فعل ما نهي عنه من السخرية واللمز والنبذ، فهو فاسق.
قال القرطبي: إنه يستثنى من هذا من غلب عليه الاستعمال كالأعرج والأحدب، ولم يكن له سبب يجد في نفسه منه عليه، فجوّزته الأئمة، واتفق على قوله أهل اللغة.
ا.
ه.
{وَمَن لَّمْ يَتُبْ} عما نهى الله عنه {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون} لارتكابهم ما نهى الله عنه، وامتناعهم من التوبة، فظلموا من لقبوه، وظلمهم أنفسهم بما لزمها من الإثم.
{يا أيها الذين ءامَنُواْ اجتنبوا كَثِيرًا مّنَ الظن} الظنّ هنا: هو مجرد التهمة التي لا سبب لها كمن يتهم غيره بشيء من الفواحش، ولم يظهر عليه ما يقتضي ذلك، وأمر سبحانه باجتناب الكثير؛ ليفحص المؤمن عن كل ظنّ يظنه حتى يعلم وجهه؛ لأن من الظنّ ما يجب اتباعه، فإن أكثر الأحكام الشرعية مبنية على الظنّ، كالقياس وخبر الواحد ودلالة العموم؛ ولكن هذا الظنّ الذي يجب العمل به قد قوي بوجه من الوجوه الموجبة للعمل به، فارتفع عن الشكّ والتهمة.
قال الزجاج: هو أن يظنّ بأهل الخير سوءًا، فأما أهل السوء والفسوق، فلنا أن نظنّ بهم مثل الذي ظهر منهم.
قال مقاتل بن سليمان، ومقاتل بن حيان: هو أن يظنّ بأخيه المسلم سوءًا، ولا بأس به ما لم يتكلم به، فإن تكلم بذلك الظنّ وأبداه أثم.
وحكى القرطبي عن أكثر العلماء: أن الظنّ القبيح بمن ظاهره الخير لا يجوز، وأنه لا حرج في الظنّ القبيح بمن ظاهره القبيح، وجملة: {إِنَّ بَعْضَ الظن إِثْمٌ}: تعليل لما قبلها من الأمر باجتناب كثير من الظنّ، وهذا البعض هو ظنّ السوء بأهل الخير، والإثم هو: ما يستحقه الظانّ من العقوبة.
ومما يدل على تقييد هذا الظنّ المأمور باجتنابه بظنّ السوء قوله تعالى: {وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السوء وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا} [الفتح: 12] فلا يدخل في الظنّ المأمور باجتنابه شيء من الظنّ المأمور باتباعه في مسائل الدين، فإن الله قد تعبد عباده باتباعه، وأوجب العمل به جمهور أهل العلم، ولم ينكر ذلك إلاّ بعض طوائف المبتدعة كيادًا للدّين، وشذوذًا عن جمهور المسلمين، وقد جاء التعبد بالظنّ في كثير من الشريعة المطهرة بل في أكثرها.
ثم لما أمرهم الله سبحانه باجتناب كثير من الظنّ نهاهم عن التجسس فقال: {وَلاَ تَجَسَّسُواْ} التجسس: البحث عما ينكتم عنك من عيوب المسلمين وعوراتهم، نهاهم الله سبحانه عن البحث عن معايب الناس ومثالبهم.
قرأ الجمهور {تجسسوا} بالجيم، ومعناه ما ذكرنا.
وقرأ الحسن، وأبو رجاء، وابن سيرين بالحاء.
قال الأخفش: ليس يبعد أحدهما من الآخر؛ لأن التجسس بالجيم: البحث عما يكتم عنك، والتحسس بالحاء: طلب الأخبار، والبحث عنها.
وقيل: إن التجسس بالجيم هو البحث، ومنه قيل: رجل جاسوس: إذا كان يبحث عن الأمور، وبالحاء: ما أدركه الإنسان ببعض حواسه.
وقيل: إنه بالحاء فيما يطلبه الإنسان لنفسه، وبالجيم أن يكون رسولًا لغيره، قاله ثعلب {وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا} أي: لا يتناول بعضكم بعضًا بظهر الغيب بما يسوءه، والغيبة: أن تذكر الرجل بما يكرهه، كما في حديث أبي هريرة الثابت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره، فقيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ فقال: إن كان فيه ما تقول، فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه، فقد بهته» {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} مثل سبحانه الغيبة بأكل الميتة؛ لأن الميت لا يعلم بأكل لحمه، كما أن الحيّ لا يعلم بغيبة من اغتابه، ذكر معناه الزجاج.