فصل: قال الثعلبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال سفيان الثوري: الظن ظنان.
ظن فيه إثم، وظن لا إثم فيه.
فالظن الذي فيه إثم، أن يظن ويتكلم به.
وأما الظن الذي لا إثم فيه، فهو أن يظن، ولا يتكلم به، لأنه قال: {إِنَّ بَعْضَ الظن إِثْمٌ} ولم يقل: جميع الظن إثم.
ثم قال: {وَلاَ تَجَسَّسُواْ} يعني: لا تطلبوا، ولا تبحثوا عن عيب أخيكم {وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا} روى أسباط عن السدي قال: كان سلمان الفارسي في سفر مع ناس فيهم عمر، فنزلوا منزلًا، فضربوا خيامهم، وصنعوا طعامهم، ونام سلمان، فقال بعض القوم لبعض: ما يريد هذا العبد إلا أن يجد خيامًا مضروبة، وطعامًا مصنوعًا، فلما استيقظ سلمان، قالوا له: انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتمس لنا إدامًا نأتدم به.
فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه السلام: «أَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ قَدِ ائْتَدَمُوا».
فأخبرهم.
فقالوا: ما طعمنا بعد، وما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأتوه، فقال: «ائْتَدَمْتُمْ مِنْ صَاحِبِكُمْ، حِينَ قُلْتُمْ مَا قُلْتُمْ وَهُوَ نَائِمٌ» ثم قرأ: {وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا} {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} يعني: فكما تكرهون أكل لحمه ميتًا، فكذلك اجتنبوا ذكره بالسوء وهو غائب.
ويقال: كان سلمان في سفر مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وكان يطبخ لهما، فنزلوا منزلًا، فلم يجد ما يصلح لهم أمر الطعام، فبعثاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم لينظر عنده شيئًا من الطعام، فقال أسامة: لم يبق عند النبي صلى الله عليه وسلم شيء من الطعام، فرجع إليهما، فقالا: إنه لو ذهب إلى بئر كذا، ليبس ماؤها، فنزلت هذه الآية.
ويقال: نزلت في شأن زيد بن ثابت، وذلك أن نفرًا ذكروا فيه شيئًا، فنزل: {وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا} قرأ نافع: {مَيِّتًا} بتشديد الياء، والخفض.
والباقون بالجزم.
وقال أهل اللغة: الميت.
والميت واحد مثل ضيق وضيّق، وهين وهيّن، ولين وليّن.
ثم قال: {واتقوا الله} في الغيبة، وتوبوا إليه {إِنَّ الله تَوَّابٌ} يعني: قابل التوبة {رَّحِيمٌ} بهم بعد التوبة.
قوله تعالى: {يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الناس} قال مقاتل: وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة، أمر بلالًا ليؤذن.
فقال الحارث بن هشام.
أما وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم غير هذا الغراب.
يعني: بلال.
فنزل {يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الناس} {إِنَّا خلقناكم مّن ذَكَرٍ وأنثى} يعني: آدم وحواء {وجعلناكم شُعُوبًا وَقَبَائِلَ} يعني: رؤوس القبائل، مثل مضر، وربيعة {وَقَبَائِلَ} يعني: الأفخاذ مثل بني سعد، وبني عامر.
{لتعارفوا} في النسب {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أتقاكم} يعني: وإن كان عبدًا حبشيًا أسود مثل بلال.
وقال في رواية الكلبي: نزلت في ثابت بن قيس، كان في أذنيه ثقل، وكان يدنو من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسمع كلامه فأبطأ يومًا واحدًا وقد أخذ الناس مجالسهم فجاء فتخطى رقابهم حتى جلس قريبًا من النبي صلى الله عليه وسلم.
فقال رجل من القوم: هذا يتخطى رقابنا، فلم لا يجلس حيث وجد المكان؟ فقال ثابت: من هذا؟ فقالوا: فلان.
فقال ثابت: يا ابن فلانة، وكان يعيّر بأمه، فخجل.
فنزلت هذه الآية.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ عَيَّرَ فُلانًا بِأُمِّهِ» فقال ثابت بن قيس: أنا قد ذكرت شيئًا.
فقرأ هذه الآية عليه، فاستغفر ثابت.
وروى سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: القبائل، والأفخاذ: الصغار، والشعوب: الجمهور مثل مضر.
وقال الضحاك: الشعوب: الأفخاذ الصغار، والقبائل مثل بني تميم، وبني أسد.
وقال القتبي: الشعوب أكثر من القبيلة.
وقال الزجاج: الشعب أعظم من القبيلة، ومعناه: إني لم أخلقكم شعوبًا وقبائل لتتفاخروا، وإنما خلقناكم كذلك لتعارفوا.
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، يقول الله عَزَّ وَجَلَّ: إنَّكُمْ جَعَلْتُمْ لأنْفُسِكُمْ نَسَبًا، وَجَعَلْتُ لِنَفْسِي نَسَبًا، فَرفَعْتُم نَسَبَكُم، وَوَضَعْتُمْ نَسَبي، فَالْيَوْمَ أَرْفَعُ نَسَبِي، وَأَضَعُ نَسَبَكُم» يعني: قلت: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أتقاكم} وقلتم: أنتم فلان وفلان.
ثم قال: {إِنَّ الله عَلِيمٌ} بأتقيائكم {خَبِيرٌ} بافتخاركم {قالتِ الاعراب ءامَنَّا} قال ابن عباس: نزلت في بني أسد، قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في قحط أصابهم، فجاؤوا بأهاليهم، وذراريهم، يطلبون الصدقة، وأظهروا الإسلام، وقالوا: يا رسول الله نحن أسلمنا طوعًا، وقدمنا بأهالينا، فأعطنا من الغنيمة أكثر مما تعطي غيرنا.
ويقال: كانت قبيلتان جهينة، ومزينة، قدموا بأهاليهم.
فنزلت الآية: {قالتِ الاعراب ءامَنَّا} يعني: صدقنا {قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ} يعني: لم تصدقوا في السر، كما صدقتم في العلانية {ولكن قولواْ أَسْلَمْنَا} يعني: دخلنا في الانقياد، والخضوع.
ويقال: استسلمنا مخافة القتل والسبي {وَلَمَّا يَدْخُلِ الايمان في قُلُوبِكُمْ} يعني: التصديق.
ويقال: لم يدخل حب الإيمان في قلوبكم {وَإِن تُطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ} في السر، كما تطيعونه في العلانية {لاَ يَلِتْكُمْ مّنْ أعمالكم شَيْئًا} يعني: لا ينقصكم من ثواب أعمالكم شيئًا.
قرأ أبو عمرو: {لا} بالألف والهمز.
والباقون: {وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ} بغير ألف ولا همز.
ومعناهما واحد يقال: لاته يلته وألته يألته إذا نقص حقه {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} لو صدقوا بقلوبهم، ثم بيّن الله عز وجل لهم من المصدق.
فقال عز وجل: {إِنَّمَا المؤمنون} يعني: المصدقون في إيمانهم {الذين ءامَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ} يعني: لم يشكوا في إيمانهم {وجاهدوا} الأعداء {بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ في سَبِيلِ الله} أي: في طاعة الله {أُوْلَئِكَ هُمُ الصادقون} في إيمانهم.
فلما نزلت هذه الآية، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحلفوا بالله أنهم لمصدقوه في السر، فنزل: {قُلْ أَتُعَلّمُونَ الله بِدِينِكُمْ} الذي أنتم عليه {والله يَعْلَمُ مَا في السموات وَمَا فِي الأرض} يعني: سر أهل السموات، وسر أهل الأرض {والله بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ} أي: يعلم ما في قلوبكم من التصديق وغيره.
قوله عز وجل: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ} يعني: بقولهم جئناك بأهالينا، وأولادنا {قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَىَّ إسلامكم بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ للايمان} يعني: وفقكم للإيمان {إِن كُنتُمْ} بأنكم مخلصون في السر، والعلانية.
قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السموات والأرض} يعني: سر أهل السموات، وسر أهل الأرض.
{والله بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} قرأ ابن كثير، وعاصم، في رواية إبان {يَعْمَلُونَ} بالياء على معنى الخبر عنهم.
وقرأ الباقون: بالتاء على معنى المخاطبة.
أي: بصير بما يعملون من التصديق وغيره، والخير، والشر، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم. اهـ.

.قال الثعلبي:

{يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ}.
قرأ العامة {تُقَدِّمُوا} بضم (التاء) وكسر (الدال) من التقديم، وقرأ الضحّاك، ويعقوب بفتحهما من التقدّم. واختلف المفسِّرون في معنى الآية، فروى علي بن أبي طلحة، عن ابن عبّاس، قال: لا تقولوا خلاف الكتاب والسنّة. عطية عنه: لا تتكلّموا بين يدي كلامه.
وأخبرنا عبد الله بن حامد، قال: أخبرنا أبو الحسين عمر بن الحسن بن مالك الشيباني، قال: حدّثنا أحمد بن الحسن بن سعيد بن عثمان الخزاز. قال: حدّثنا حسين بن محارق أبو جنادة، عن عبد الله بن سلامة، عن السبعي، عن جابر بن عبد الله {لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ} قال: في الذبح يوم الأضحى، وإليه ذهب الحسن، قال: لا تذبحوا قبل أن يذبح النبيّ صلى الله عليه وسلم وذلك أن ناسًا من المسلمين ذبحوا قبل صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فأمرهم أن يعيدوا الذبح.
وأخبرنا عبد الخالق، قال: أخبرنا ابن حيي قال: حدّثنا أبو بكر بن أبي العوام الرياحي، قال: حدّثنا أبي. قال: حدّثنا النعمان بن عبد السّلم التيمي، عن زفر بن الهذيل، عن يحيى بن عبد الله التيمي عن حبّال بن رفيدة، عن مسروق، عن عائشة رضي الله عنه في قوله: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ} قالت: لا تصوموا قبل أن يصوم نبيّكم.
وروي عن مسروق أيضًا، قال: دخلت على عائشة في اليوم الذي جئت فيه، فقالت للجارية: اسقيه عسلًا، فقلت: إنّي صائم. فقالت: قد نهى الله تعالى عن صوم هذا اليوم، وفيه نزلت {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ} وأخبرنا ابن منجويه، قال: حدّثنا عمر بن الخطّاب. قال: حدّثنا عبد الله بن الفضل. قال: حدّثنا إسحاق بن إبراهيم. قال: حدّثني هشام بن يوسف، عن ابن جريح، قال: أخبرني ابن أبي مليكة أنّ عبد الله بن الزبير أخبرهم، قال: قدم رَكب من بني تميم على النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر: أمّر القعقاع بن معبد زرارة، وقال عمر: بل أمّر الأقرع بن حابس، فقال أبوبكر: ما أردت إلاّ خلافي، وقال عمر: ما أردت خلافك، فتماريا حتّى ارتفعت أصواتهما، فأنزل الله سبحانه: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ}... الآية.
وقال قتادة: نزلت في ناس كانوا يقولون: لو أنزل في كذا، لوضع كذا. فكره الله ذلك وقدّم فيه. مجاهد: لا تفتاتوا على رسول الله بشيء حتّى يقضيه الله على لسانه.
الضحّاك: يعني في القتال وشرائع الدين يقول: لا تقضوا أمرًا دون الله ورسوله. حيان، عن الكلبي لا تستبقوا رسول الله بقول، ولا فعل حتّى يكون هو الذي يأمركم.
وبه قال السدّي، وقال عطاء الخراساني: نزلت في قصة بئر معونة، وقيل في الثلاثة الذين نجّوا الرجلين السَّلميين، اللذين اعتزما إلى بني عامر وأخْذهم مالهما وكانا من أهل العهد، فلمّا أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سبق الخبر إليه، فقال: بئس ما صنعتم، هما من أهل ميثاقي وهذا الذي معكم من نسوتي، قالا: يا رسول الله إنّهما زعما أنّهما من بني عامر، فقلنا: رجلان ممّن قتل إخواننا.
فقلنا: هما لذلك. وأتاه السَّلميون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا قود لهما لأنّهما اعتزما إلى عدوّنا». ولكنّه أيدهما، فوادَّهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل الله سبحانه في ذلك: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ} حين قتلوا الرجلين، وهذه رواية ماذان عن ابن عبّاس.
وقال ابن زيد: لا تقطعوا أمرًا دون رسول الله، وقيل: لا تمشوا بين يدي رسول الله، وكذلك بين أيدي العلماء فإنّهم ورثة الأنبياء.
ودليل هذا التأويل ما أخبرنا أبو الحسن الخبازي، قال: حدّثنا أبو القاسم موسى بن محمّد الدينوري بها، قال: حدّثنا أحمد بن يحيى، قال: حدّثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، قال: حدّثنا رجل بمكّة، عن ابن جريج، عن عطاء، عن أبي الدرداء، قال: رآني النبيّ صلى الله عليه وسلم أمشي أمام أبي بكر، فقال: «تمشي أمام من هو خير منك في الدّنيا والآخرة، ما طلعت الشمس، ولا غربت على أحد بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم والمرسلين خيرًا وأفضل من أبي بكر».
وقيل: إنّها نزلت في قوم كانوا يحضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا سُئل الرسول عن شيء، خاضوا فيه، وتقدّموا بالقول، والفتوى، فنهوا عن ذلك، وزجروا عن أن يقول أحد في شيء من دين الله سبحانه، قبل أن يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل: لا تطلبوا منزلة وراء منزلته. قال الأخفش: تقول العرب: فلان تقدّم بين يدي أبيه، وأُمّه، ويتقدّم إذا استبدّ بالأمر دونهما.
{واتقوا الله} في تضييع حقّه، ومخالفة أمره.
{إِنَّ الله سَمِيعٌ} لأقوالكم {عَلِيمٌ} بأفعالكم، وأحوالكم.
{يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي} الآية نزلت في ثابت بن قيس ابن شماس، كان في أذنه وقر، وكان جهوري الصّوت، فإذا كلّم إنسانًا جهر بصوته، فربّما كان يكلِّم رسول الله صلى الله عليه وسلم فينادي بصوته، فأنزل الله سبحانه: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي} {وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بالقول كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} أي لا تغلظوا له في الخطاب، ولا تنادوه باسمه يا محمّد، يا أحمد، كما ينادي بعضكم بعضًا، ولكن فخّموه، واحترموه، وقولوا له قولا ليّنًا، وخطابًا حسنًا، بتعظيم، وتوقير: يا نبي الله، يا رسول الله، نظيره قوله سبحانه: {لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَاءَ الرسول بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63].
{أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ} كي لا تبطل حسناتكم. تقول العرب: أسند الحائط أن يميل {وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ} فلمّا نزلت هذه الآية قعد ثابت في الطريق، فمرّ به عاصم بن عدي، فقال: ما يبكيك يا ثابت؟ قال: هذه الآية أتخوّف أن تكون نزلت فيَّ، وأنا رفيع الصوت، أخاف أن يحبط عملي، وأن أكون من أهل النار، فمضى عاصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وغلب ثابتًا البكاء، فأتى امرأته جميلة بنت عبد الله بن أبي بن سلول، فقال لها: إذا دخلت بيت فرسي، فشدّي على الضبة بمسمار فضربته بمسمار حتى إذا خرجت عطفه، وقال: لا أخرج حتّى يتوفّاني الله، أو يرضى عنّي رسول الله، فأتى عاصم رسول الله، فأخبره بخبره. فقال: اذهب، فادعه لي. فجاء عاصم إلى المكان الذي رآه فلم يجده، فجاء إلى أهله، فوجده في بيت الفرس، فقال له: إنّ رسول الله يدعوك، فقال: أكسر الصَبّة، فأتيا رسول الله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يبكيك يا ثابت؟ فقال: أنا صيّت وأتخوّف أن تكون هذه الآية نزلت فيَّ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما ترضى أن تعيش سعيدًا وتقتل شهيدًا وتدخل الجنّة»، فقال: رضيت ببشرى الله ورسوله، لا أرفع صوتي أبدًا على رسول الله، فأنزل الله سبحانه: {إِنَّ الذين يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ الله} الآية.
قال أنس: فكنّا ننظر إلى رجل من أهل الجنّة، يمشي بين أيدينا، فلمّا كان يوم اليمامة في حرب مسيلمة، رأى ثابت في المسلمين بعض الانكسار، وانهزمت طائفة منهم، فقال: أف لهؤلاء، وما يصنعون. ثمّ قال ثابت لسالم مولى أبي حذيفة: ما كنا نقاتل أعداء الله مع رسول الله مثل هذا، ثمّ ثبتا، ولم يزالا يقاتلان حتّى قُتلا. وثابت بن قيس عليه درع، فرآه رجل من الصحابة بعد موته في المنام أنّه قال له: اعلم أنّ فلانًا رجلٌ من المسلمين نزع درعي، فذهب بها وهي في ناحية من العسكر عنده فرس تستر في طوله، وقد وضع على درعي لرمه، فأتِ خالد بن الوليد، فأخبره حتّى يسترد درعي وأتِ أبا بكر خليفة رسول الله وقل له: إنّ عليَّ دينًا حتّى يقضي، وفلان من رقيقي عتيق.