فصل: (سورة الحجرات: آية 2).

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وعن مسروق: دخلت على عائشة في اليوم الذي يشك فيه، فقالت للجارية: اسقه عسلا، فقلت: إنى صائم، فقالت: قد نهى اللّه عن صوم هذا اليوم. وفيه نزلت. وعن الحسن أنّ أناسا ذبحوا يوم الأضحى قبل الصلاة فنزلت، وأمرهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن يعيدوا ذبحا آخر. وهذا مذهب أبى حنيفة رحمه اللّه، إلا أن تزول الشمس. وعند الشافعي: يجوز الذبح إذا مضى من الوقت مقدار الصلاة.
وعن الحسن أيضا: لما استقرّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بالمدينة أتته الوفود من الآفاق فأكثروا عليه بالمسائل، فنهوا أن يبتدؤه بالمسئلة حتى يكون هو المبتدئ. وعن قتادة:
ذكر لنا أنّ ناسا كانوا يقولون: لو أنزل فيه كذا لكان كذا، فكره اللّه ذلك منهم وأنزلها.
وقيل: هي عامة في كل قول وفعل: ويدخل فيه أنه إذا جرت مسألة في مجلس رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لم يسبقوه بالجواب، وأن لا يمشى بين يديه إلا لحاجة، وأن يستأنى في الافتتاح بالطعام وَاتَّقُوا اللَّهَ فإنكم إن اتقيتموه عاقتكم التقوى عن التقدمة المنهي عنها وعن جميع ما تقتضي مراقبة اللّه تجنبه، فإن التقىّ حذر لا يشافه أمرا إلا عن ارتفاع الريب وانجلاء الشك في أن لا تبعة عليه فيه، وهذا كما تقول لمن يقارف بعض الرذائل: لا تفعل هذا وتحفظ مما يلصق بك العار، فتنهاه أوّلا عن عين ما قارفه، ثم تعم وتشيع وتأمره بما لو امتثل فيه أمرك لم يرتكب تلك الفعلة وكل ما يضرب في طريقها ويتعلق بسببها إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لما تقولون عَلِيمٌ بما تعملون، وحق مثله أن يتقى ويراقب.

.[سورة الحجرات: آية 2].

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقول كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2)}.
إعادة النداء عليهم: استدعاء منهم لتجديد الاستبصار عند كل خطاب وارد، وتطرية الإنصات لكل حكم نازل، وتحريك منهم لئلا يفتروا ويغفلوا عن تأملهم وما أخذوا به عند حضور مجلس رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من الأدب الذي المحافظة عليه تعود عليهم بعظيم الجدوى في دينهم، وذلك لأنّ في إعظام صاحب الشرع إعظام ما ورد به، ومستعظم الحق لا يدعه استعظامه أن يألو عملا بما يحدوه عليه، وارتداعا عما يصده عنه، وانتهاء إلى كل خير، والمراد بقوله: {لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} أنه إذا نطق ونطقتم فعليكم أن لا تبلغوا بأصواتكم وراء الحدّ الذي يبلغه بصوته، وأن تغضوا منها بحيث يكون كلامه عاليا لكلامكم، وجهره باهرا لجهركم، حتى تكون مزيته عليكم لائحة، وسابقته واضحة، وامتيازه عن جمهوركم كشية الأبلق غير خاف، لا أن تغمروا صوته بلغطكم وتبهروا منطقه بصخبكم.
وبقوله: ولا تجهروا له بالقول: إنكم إذا كلمتموه وهو صامت فإياكم والعدول عما نهيتم عنه من رفع الصوت، بل عليكم أن لا تبلغوا به الجهر الدائر بينكم، وأن تتعمدوا في مخاطبته القول اللين المقرّب من الهمس الذي يضادّ الجهر، كما تكون مخاطبة المهيب المعظم، عاملين بقوله عز اسمه {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} وقيل معنى {وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقول كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} لا تقولوا له: يا محمد، يا أحمد، وخاطبوه بالنبوّة. قال ابن عباس: لما نزلت هذه الآية قال أبو بكر رضى اللّه عنه: يا رسول اللّه، واللّه لا أكلمك إلا السرار أو أخا السرار حتى ألقى اللّه، وعن عمر رضى اللّه عنه: انه كان يكلم النبي صلى الله عليه وسلم كأخى السرار لا يسمعه حتى يستفهمه، وكان أبو بكر إذا قدم على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وفد: أرسل إليهم من يعلمهم كيف يسلمون ويأمرهم بالسكينة والوقار عند رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وليس الغرض برفع الصوت ولا الجهر: ما يقصد به الاستخفاف والاستهانة، لأنّ ذلك كفر، والمخاطبون مؤمنون، وإنما الغرض صوت هو في نفسه والمسموع من جرسه غير مناسب لما يهاب به العظماء ويوقر الكبراء، فيتكلف الغض منه، وردّه إلى حدّ يميل به إلى ما يستبين فيه المأمور به من التعزير والتوقير، ولم يتناول النهى أيضا رفع الصوت الذي لا يتأذى به رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وهو ما كان منهم في حرب أو مجادلة معاند أو إرهاب عدوّ أو ما أشبه ذلك، ففي الحديث: أنه قال عليه الصلاة والسلام للعباس بن عبد المطلب لما انهزم الناس يوم حنين: «اصرخ بالناس» وكان العباس أجهر الناس صوتا. يروى: أنّ غارة أتتهم يوما فصاح العباس يا صباحاه، فأسقطت الحوامل لشدّة صوته. وفيه يقول نابغة بنى جعدة:
زجر أبى عروة السّباع إذا ** أشفق أن يختلطن بالغنم

زعمت الرواة أنه كان يزجر السباع عن الغنم فيفتق مرارة السبع في جوفه. وفي قراءة ابن مسعود: {لا ترفعوا بأصواتكم} والباء مزيدة محذوّ بها حذو التشديد في قول الأعلم الهذلي:
رفعت عينى بالحجا ** ز إلى أناس بالمناقب

وليس المعنى في هذه القراءة أنهم نهوا عن الرفع الشديد، تخيلا أن يكون ما دون الشديد مسوغا لهم، ولكن المعنى نهيهم عما كانوا عليه من الجلبة، واستجفاؤهم فيما كانوا يفعلون. وعن ابن عباس: نزلت في ثابت بن قيس بن شماس، وكان في أذنه وقر، وكان جهوري الصوت، فكان إذا تكلم رفع صوته، وربما كان يكلم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فيتأذى بصوته. وعن أنس أن هذه الآية لما نزلت: فقد ثابت، فتفقده رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فأخبر بشأنه، فدعاه، فسأله فقال: يا رسول اللّه، لقد أنزلت إليك هذه الآية، وإنى رجل جهير الصوت. فأخاف أن يكون عملى قد حبط، فقال له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «لست هناك، إنك تعيش بخير وتموت بخير، وإنك من أهل الجنة..» وأمّا ما يروى عن الحسن: أنها نزلت فيمن كان يرفع صوته من المنافقين فوق صوت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فمحمله والخطاب للمؤمنين: على أن ينهى المؤمنون ليندرج المنافقون تحت النهى، ليكون الأمر أغلظ عليهم وأشق. وقيل: كان المنافقون يرفعون أصواتهم ليظهروا قلة مبالاتهم، فيقتدى بهم ضعفة المسلمين. وكاف التشبيه في محل النصب.
أى: لا تجهروا له جهرا مثل جهر بعضكم لبعض. وفي هذا: أنهم لم ينهوا عن الجهر مطلقا، حتى لا يسوغ لهم أن يكلموه إلا بالهمس والمخافتة، وإنما نهوا عن جهر مخصوص مقيد بصفة، أعنى: الجهر المنعوت بمماثلة ما قد اعتادوه منهم فيما بينهم، وهو الخلو من مراعاة أبهة النبوّة وجلالة مقدارها، وانحطاط سائر الرتب وإن جلت عن رتبتها {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ} منصوب الموضع، على أنه مفعول له، وفي متعلقه وجهان، أحدهما: أن يتعلق بمعنى النهى، فيكون المعنى: انتهوا عما نهيتم عنه لحبوط أعمالكم، أى: لخشية حبوطها على تقدير حذف المضاف، كقوله تعالى {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا}. والثاني: أن يتعلق بنفس الفعل، ويكون المعنى: أنهم نهوا عن الفعل الذي فعلوه لأجل الحبوط، لأنه لما كان بصدد الأداء إلى الحبوط: جعل كأنه فعل لأجله، وكأنه العلة والسبب في إيجاده على سبيل التمثيل، كقوله تعالى {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا}.
فإن قلت: لخص الفرق بين الوجهين. قلت: تلخيصه أن يقدر الفعل في الثاني مضموما إليه المفعول له، كأنهما شيء واحد، ثم يصب النهى عليهما جميعا صبا. وفي الأوّل يقدر النهى موجها على الفعل على حياله، ثم يعلل له منهيا عنه. فإن قلت: بأى النهيين تعلق المفعول له؟
قلت: بالثاني عند البصريين، مقدرا إضماره عند الأوّل، كقوله تعالى {آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} وبالعكس عند الكوفيين، وأيهما كان فمرجع المعنى إلى أنّ الرفع والجهر كلاهما منصوص أداؤه إلى حبوط العمل: وقراءة ابن مسعود: {فتحبط أعمالكم}، أظهر نصا بذلك، لأنّ ما بعد الفاء لا يكون إلا مسببا عما قبله، فيتنزل الحبوط من الجهر منزلة الحلول من الطغيان في قوله تعالى {فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} والحبوط من حبطت الإبل: إذا أكلت الخضر فنفخ بطونها، وربما هلكت. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: «وإن مما ينبت الربيع لما يقتل حبطا أو يلم» ومن أخواته: حبجت الإبل، إذا أكلت العرفج فأصابها ذلك. وأحبض عمله: مثل أحبطه. وحبط الجرح وحبر: إذا غفر، وهو نكسه وتراميه إلى الفساد: جعل العمل السيئ في إضراره بالعمل الصالح كالداء والحرض لمن يصاب به، أعاذنا اللّه من حبط الأعمال وخيبة الآمال. وقد دلت الآية على أمرين هائلين، أحدهما: أن فيما يرتكب من يؤمن من الآثام ما يحبط عمله.
والثاني: أن في آثامه ما لا يدرى أنه محبط، ولعله عند اللّه كذلك، فعلى المؤمن أن يكون في تقواه كالماشى في طريق شائك لا يزال يحترز ويتوقى ويتحفظ.

.[سورة الحجرات: آية 3].

{إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)}.
{امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى} من قولك: امتحن فلان لأمر كذا وجرب له، ودرب للنهوض به. فهو مضطلع به غير وان عنه. والمعنى أنهم صبر على التقوى، أقوياء على احتمال مشاقها.
أو وضع الامتحان موضع المعرفة، لأنّ تحقق الشيء باختباره، كما يوضع الخبر موضعها، فكأنه قيل: عرف اللّه قلوبهم للتقوى، وتكون اللام متعلقة بمحذوف، واللام هي التي في قولك: أنت لهذا الأمر، أي كائن له ومختص به قال:
أنت لها أحمد من بين البشر ** أعدّاء من لليعملات على الوجى

وهي مع معمولها منصوبة على الحال. أو ضرب اللّه قلوبهم بأنواع المحن والتكاليف الصعبة لأجل التقوى، أي لتثبت وتظهر تقواها، ويعلم أنهم متقون، لأن حقيقة التقوى لا تعلم إلا عند المحن والشدائد والاصطبار عليها. وقيل أخلصها للتقوى. من قولهم: امتحن الذهب وفتنه، إذا أذا به فخلص إبريزه من خبشه ونقاه. وعن عمر رضى اللّه عنه: أذهب الشهوات عنها.
والامتحان: افتعال، من محنه، وهو اختبار بليغ أو بلاء جهيد. قال أبو عمرو: كل شيء جهدته فقد محنته. وأنشد:
أتت رذايا باديا كلالها ** قد محنت واضطربت آطالها

قيل: أنزلت في الشيخين رضى اللّه عنهما، لما كان منهما من غض الصوت والبلوغ به أخا السرار. وهذه الآية بنظمها الذي رتبت عليه من إيقاع الغاضين أصواتهم اسما لإنّ المؤكدة.
وتصيير خبرها جملة من مبتدإ وخبر معرفتين معا. والمبتدأ: اسم الإشارة، واستئناف الجملة المستودعة ما هو جزاؤهم على عملهم، وإيراد الجزاء نكرة: مبهما أمره ناظرة في الدلالة على غاية الاعتداد والارتضاء لما فعل الذين وقروا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من خفض أصواتهم، وفي الإعلام بمبلغ عزة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وقدر شرف منزلته، وفيها تعريض بعظيم ما ارتكب الرافعون أصواتهم واستيجابهم ضد ما استوجب هؤلاء.

.[سورة الحجرات: الآيات 4- 5].

{إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)}.
والوراء: الجهة التي يواريها عنك الشخص بظله من خلف أو قدام. ومن لابتداء الغاية، وأنّ المناداة نشأت من ذلك المكان. فإن قلت: فرق بين الكلامين بين ما تثبت فيه وما تسقط عنه. قلت: الفرق بينهما أنّ المنادى والمنادى في أحدهما يجوز أن يجمعهما الوراء، وفي الثاني: لا يجوز لأنّ الوراء تصير بدخول من مبتدأ الغاية، ولا يجتمع على الجهة الواحدة أن تكون مبتدأ ومنتهى لفعل واحد، والذي يقول: ناداني فلان من وراء الدار. لا يريد وجه الدار ولا دبرها، ولكن أي قطر من أقطارها الظاهرة كان مطلقا بغير تعيين واختصاص، والإنكار لم يتوجه عليهم من قبل أنّ النداء وقع منهم في أدبار الحجرات أو في وجوهها، وإنما أنكر عليهم أنهم نادوه من البرّ والخارج مناداة الأجلاف بعضهم لبعض، من غير قصد إلى جهة دون جهة. والحجرة: الرقعة من الأرض المحجورة بحائط يحوط عليها، وحظيرة الإبل تسمى الحجرة، وهي فعلة بمعنى مفعولة، كالغرفة والقبضة، وجمعها: الحجرات- بضمتين، والحجرات- بفتح الجيم، والحجرات بتسكينها. وقرئ بهنّ جميعا، والمراد: حجرات نساء رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وكانت لكل واحدة منهنّ حجرة. ومناداتهم من ورائها يحتمل أنهم قد تفرّقوا على الحجرات متطلبين له، فناداه بعض من وراء هذه، وبعض من وراء تلك، وأنهم قد أتوها حجرة حجرة فنادوه من ورائها، وأنهم نادوه منوراء الحجرة التي كان فيها، ولكنها جمعت إجلالا لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم ولمكان حرمته.
والفعل وإن كان مسندا إلى جميعهم فإنه يجوز أن يتولاه بعضهم، وكان الباقون راضين، فكأنهم تولوه جميعا، فقد ذكر الأصم أنّ الذي ناداه عيينة بن حصن والأقرع بن حابس. والإخبار عن أكثرهم بأنهم لا يعقلون: يحتمل أن يكون فيهم من قصد بالمحاشاة. ويحتمل أن يكون الحكم بقلة العقلاء فيهم قصدا إلى نفى أن يكون فيهم من يعقل، فإنّ القلة تقع موقع النفي في كلامهم. وروى أن وفد بنى تميم أتوا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وقت الظهيرة وهو راقد، فجعلوا ينادونه: محمد اخرج إلينا، فاستيقظ فخرج ونزلت. وسئل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عنهم فقال: «هم جفاة بنى تميم، لولا أنهم من أشدّ الناس قتالا للأعور الدجال لدعوت اللّه عليهم أن يهلكهم» فورود الآية على النمط الذي وردت عليه فيه مالا يخفى على الناظر: من بينات إكبار محل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وإجلاله: منها مجيئها على النظم المسجل على الصائحين به بالسفه والجهل، لما أقدموا عليه. ومنها لفظ الحجرات وإيقاعها كناية عن موضع خلوته. ومقيله مع بعض نسائه.
ومنها: المرور على لفظها بالاقتصار على القدر الذي تبين به ما استنكر عليهم. ومنها: التعريف باللام دون الإضافة. ومنها: أن شفع ذمهم باستجفائهم واستركاك عقولهم وقلة ضبطهم لمواضع التمييز في المخاطبات، تهوينا للخطب على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وتسلية له، وإماطة لما تداخله من إيحاش تعجرفهم وسوء أدبهم، وهلم جرا: من أوّل السورة إلى آخر هذه الآية، فتأمّل كيف ابتدئ بإيجاب أن تكون الأمور التي تنتمى إلى اللّه ورسوله متقدّمة على الأمور كلها من غير حصر ولا تقييد، ثم أردف ذلك النهى عما هو من جنس التقديم من رفع الصوت والجهر. كأن الأوّل بساط للثاني ووطاء لذكره ما هو ثناء على الذين تحاموا ذلك فغضوا أصواتهم، دلالة على عظيم موقعه عند اللّه، ثم جيء على عقب ذلك بما هو أطم وهجنته أتم: من الصياح برسول اللّه صلى الله عليه وسلم في حال خلوته ببعض حرماته من وراء الجدر، كما يصاح بأهون الناس قدرا، لينبه على فظاعة من أجروا إليه وجسروا عليه، لأنّ من رفع اللّه قدره على أن يجهر له بالقول حتى خاطبه جلة المهاجرين والأنصار بأخى السرار، كان صنيع هؤلاء من المنكر الذي بلغ من التفاحش مبلغا، ومن هذا وأمثاله يقتطف ثمر الألباب وتقتبس محاسن الآداب، كما يحكى عن أبى عبيد- ومكانه من العلم والزهد وثقة الرواية ما لا يخفى- أنه قال: ما دققت بابا على عالم قط حتى يخرج في وقت خروجه {أَنَّهُمْ صَبَرُوا} في موضع الرفع على الفاعلية، لأنّ المعنى: ولو ثبت صبرهم. والصبر: حبس النفس عن أن تنازع إلى هواها. قال اللّه تعالى {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} وقولهم: صبر عن كذا، محذوف منه المفعول، وهو النفس، وهو حبس فيه شدّة ومشقة على المحبوس، فلهذا قيل للحبس على اليمين أو القتل: صبر. وفي كلام بعضهم: الصبر مرّ لا يتجرّعه إلا حرّ. فإن قلت:
هل من فرق بين {حَتَّى تَخْرُجَ} وإلى أن تخرج؟ قلت: إنّ (حتى) مختصة بالغاية المضروبة.
تقول: أكلت السمكة حتى رأسها، ولو قلت: حتى نصفها، أو صدرها: لم يجز، و(إلى) عامّة في كل غاية، فقد أفادت (حتى) بوضعها: أنّ خروج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إليهم غاية قد ضربت لصبرهم، فما كان لهم أن يقطعوا أمرا دون الانتهاء إليه. فإن قلت: فأى فائدة في قوله: {إِلَيْهِمْ}؟ قلت: فيه أنه لو خرج ولم يكن خروجه إليهم ولأجلهم، للزمهم أن يصبروا إلى أن يعلموا أنّ خروجه إليهم لَكانَ خَيْرًا لَهُمْ في (كان) إما ضمير فاعل الفعل المضمر بعد لو، وإما ضمير مصدر {صَبَرُوا}، كقولهم: من كذب كان شرا له {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} بليغ الغفران والرحمة واسعهما، فلن يضيق غفرانه ورحمته عن هؤلاء إن تابوا وأنابوا.