فصل: قال الخطيب الشربيني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الخطيب الشربيني:

سورة الحجرات مدنية وهي: ثمان عشرة آية وثلاثمائة وثلاث وأربعون كلمة وألف وأربعمائة وستة وسبعون حرفًا.
{بسم الله} الجبار المتكبر الذي أعز رسوله صلى الله عليه وسلم {الرحمن} الذي من عموم رحمته الآداب للتوصل إلى حسن المآب {الرحيم} الذي خص أولي الألباب بالإقبال على ما يوجب لهم دار الثواب.
ولما نوّه سبحانه في القتال بذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم وصرّح في ابتدائها باسمه الشريف وسمى السورة به وملأ سورة الفتح بتعظيمه وختمها باسمه ومدح أتباعه لأجله افتتح هذه السورة باشتراط الأدب معه في القول والفعل فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} أي: أقرّوا بالإيمان {لا تقدّموا} من قدم بمعنى تقدّم أي لا تتقدّموا وحذف المفعول ليعم كل ما يصح تقديمه، فيذهب الوهم كل مذهب ويجوز أن يكون حذفه من غير قصد إليه أصلًا بل يكون النهي موجهًا إلى نفس التقدمة أي لا تتلبسوا بهذا الفعل {بين يدي الله} أي: الملك الأعظم الذي لا يطاق انتقامه {ورسوله} أي: الذي عظمته ظاهرة جدًّا لا نهاية له، لأنّ عظمته من عظمته، ولذلك قرن اسمه باسمه واختلف في سبب نزول ذلك. فقال الشعبي عن جابر أنه في الذبح يوم الأضحى قبل الصلاة. أي لا تذبحوا قبل أن يذبح النبيّ صلى الله عليه وسلم وذلك «أن أناسًا ذبحوا قبله صلى الله عليه وسلم فأمرهم أن يعيدوا الذبح» وقال: «من ذبح قبل الصلاة فإنما هو لحم عجله لأهله ليس من النسك في شيء».
وعن مسروق عن عائشة رضى الله عنها: أنه في النهي عن صوم يوم الشك. أي لا تصوموا قبل أن يصوم نبيكم. وعن ابن الزبير: أنه قدم ركب من بني تميم على النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر: أمّر القعقاع بن معبد بن زرارة وقال عمر بل أمر الأقرع بن حابس فقال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي. فقال عمر: ما أردت خلافك فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما فنزلت هذه الآية. قال ابن الزبير: فكان عمر لا يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه. وعن ابن أبي مليكة: نزل {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم} وهذا أنسب. وقال الضحاك: يعني في القتال وشرائع الدين أي لا تقطعوا أمرًا دون الله ورسوله. قال الرازي: والأصح أنه إرشاد عام يشمل الكل ومنع مطلق يدخل فيه كل افتيات وتقدّم واستبداد بالأمر وإقدام على فعل غير ضروري من غير مشاورة.
تنبيه: معنى بين يدي الله ورسوله أي: بحضرتهما لأنّ ما بحضرة الإنسان فهو بين يديه ناظر إليه. وحقيقة قولهم جلست بين يدي فلان أن يجلس بين الجهتين المسامتتين ليمينه وشماله قريبًا منه فسميت الجهتان يدين لكونهما على سمت اليدين مع القرب منهما توسعًا. كما يسمى الشيء باسم غيره إذا جاوره وداناه في غير موضع، وقد جرت هذه العبارة هنا على ضرب من المجاز، وهو الذي يسميه أهل البيان تمثيلًا.
وقيل: المراد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الله تعالى تعظيم له وإشعار بأنه من الله تعالى بمكان يوجب إجلاله {واتقوا الله} اجعلوا بينكم وبين غضب الملك الأعظم وقاية، فإنّ التقوى مانعة من أن تضيعوا حقه وتخالفوا أمره أو تقدموا على شيء لم تعلموا رضاه فيه {إن الله} أي: الذي له الإحاطة بصفات الكمال {سميع} لأقوالكم {عليم} بأعمالكم.
ونزل فيمن رفع صوته عند النبيّ عليه الصلاة والسلام.
{يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم} أي: في شيء من الأشياء عند النطق إذا نطقتم {فوق صوت النبيّ} إذا نطق.
تنبيه: في إعادة النداء فوائد: منها أنّ في ذلك بيان زيادة الشفقة على المسترشد كقول لقمان لابنه: {يا بنيّ لا تشرك بالله}، {يا بنيّ إنها إن تك}، {يا بنيّ أقم الصلاة}، لأنّ النداء تنبيه للمنادي ليقبل على استماع الكلام ويجعل باله منه، فإعادته تفيد تجدد ذلك ومنها أن لا يتوهم أن المخاطب ثانيًا غير المخاطب أولًا فإن من الجائز أن يقول القائل: يا زيد افعل كذا وكذا يا عمرو. فإذا أعاد مرة أخرى وقال: يا زيد قل يا زيد قل كذا وقل كذا يعلم أن المخاطب أولًا هو المخاطب ثانيًا. ومنها أن يعلم أن كل واحد من الكلامين مقصود ليس الثاني تأكيدًا للأوّل كقولك: يا زيد لا تنطق ولا تتكلم إلا بالحق وأنه لا يحسن أن يقول يا زيد لا تنطق يا زيد لا تتكلم، كما يحسن عند اختلاف المطلوبين {ولا تجهروا له بالقول} أي: إذا كلمتموه سواء كان ذلك مثل صوته أو أخفض من صوته، فإنّ ذلك غير مناسب لما يهاب به العظماء ويوقر الكبراء {كجهر بعضكم لبعض} أي: ولا تبلغوا به الجهر الدائر بينكم بل اجعلوا أصواتكم أخفض من ذلك فإنكم إن لم تفعلوا ذلك لم يظهر فرق بين النبيّ صلى الله عليه وسلم وبين غيره.
فإن قيل: ما الفائدة في ولا تجهروا بعد لا ترفعوا؟.
أجيب: بأن المنع من رفع الصوت هو أن لا يجعل كلامه أو صوته أعلى من كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم وصوته والنهي عن الجهر منع من المساواة. أي لا تجهروا له بالقول كما تجهرون لنظرائكم بل اجعلوا كلمته عليا ثم حذرهم بقوله تعالى: {أن} أي: كراهة أن {تحبط} أي: تفسد فتسقط {أعمالكم} التي هي الأعمال بالحقيقة، وهي الحسنات كلها {وأنتم لا تشعرون} أي: بأنها حبطت فإنّ ذلك إذا أجترأ الإنسان عليه استخف به وإذا استخف واظب عليه، وإذا واظب عليه أو شك أن يستخف بالمخاطب فيكفر وهو لا يشعر، روى أنس بن مالك قال: لما نزل قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم} الآية جلس ثابت بن قيس في بيته وقال: أنا من أهل النار واحتبس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فسأل النبيّ صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ فقال: يا أبا عمرو ما شأن ثابت اشتكى فقال سعد: إنه لجاري وما علمت له شكوى قال: فأتاه سعد فذكر له قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ثابت: نزلت هذه الآية وقد علمتم أني من أرفعكم صوتًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنا من أهل النار. فذكر ذلك سعد لنبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: «بل هو من أهل الجنة».
وروي لما نزلت هذه الآية قعد ثابت في الطريق يبكي فمّر به عاصم بن عدي فقال: وما يبكيك يا ثابت. قال: هذه الآية أتخوف أن تكون نزلت فيّ وأنا رفيع الصوت أخاف أن يحبط عملي وأكون من أهل النار فمضى عاصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وغلب ثابتًا البكاء فأتى امرأته جميلة بنت عبد الله بن أبيّ ابن سلول فقال لها: إذا دخلت بيت فرشي فسدّي عليّ الضبة بمسمار فضربت عليه بمسمار وقال لا أخرج حتى يتوفاني الله أو يرضى عني رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره خبره فقال: اذهب فادعه لي فجاءه عاصم إلى المكان الذي رآه فيه فلم يجده، فجاء إلى أهله فوجده في بيت الفرش.
فقال له: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك. فقال: اكسر الضبة فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم ما يبكيك يا ثابت فقال: أنا ميت فأخاف أن تكون هذه الآية نزلت فيّ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أما ترضى أن تعيش حميدًا وتقتل شهيدًا وتدخل الجنة. فقال: رضيت ببشرى الله ورسوله لا أرفع صوتي أبدًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل.
{إنّ الذين يغضون} أي: يخفضون ويلينون لما وقع عليهم من السكينة من هيبة حضرته قال الطبريّ وأصل الغض الكف في لين {أصواتهم} تخشعًا وتخضعًا ورعايةً للأدب وتوقيرًا {عند رسول الله} أي الذي من شأنه أن يعلو كلامه على كل كلام، لأنه مبلغ عن الملك الأعظم وعبر بعند الذي للظاهر إشارة إلى أنّ أهل حضرة الخصوصية لا يقع منهم إلا أكمل الأدب {أولئك} أي عالو الرتبة {الذين امتحن الله} أي: فعل المحيط بجميع صفات الكمال فعل المختبر {قلوبهم للتقوى} أي: اختبرها وأخلصها لتظهر منهم من امتحن الذهب إذا أذابه وميز إبريزه من خبثه. فإنّ الامتحان اختبار بليغ يؤدّي إلى خبر فالمعنى أنه طهر قلوبهم ونقاها كما يمتحن الصائغ الذهب والفضة بالإذابة والتنقية والتخليص من كل غش لأجل إظهار ما بطن فيها من التقوى ليصير معلومًا للخلق في عالم الشهادة، كما كان له سبحانه في عالم الغيب.
{لهم مغفرة} أي: لهفواتهم وزلاتهم {وأجر عظيم} لغضهم وسائر طاعاتهم. والتنكير للتعظيم.
قال أنس: فكنا أي بعد نزول هذه الآية في حق ثابت ننظر إلى رجل من أهل الجنة يمشي بين أيدينا فلما كان في يوم حرب مسيلمة رأى ثابت من المسلمين بعض الإنكسار فانهزمت طائفة منهم فقال: أفّ لهؤلاء، ثم قال ثابت لسالم مولى أبي حذيفة: ما كنا نقاتل أعداء الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل هذا ثم ثبتا وقاتلا حتى قتلا واستشهد ثابت وعليه درع، فرآه رجل من الصحابة بعد موته في المنام فقال له: اعلم أن فلانًا رجل من المسلمين نزع درعي فذهب بها وهي في ناحية من العسكر عند فرس يستنّ في طوله، وقد وضع على درعي ثوبه فائت أبا بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقل له: إن عليّ دينًا حتى يقضيه عني وفلان من رقيقي عتيق، فأخبر الرجل خالدًا فوجد درعه والفرس على ما وصفه فاسترد الدرع وأخبر خالد أبا بكر بتلك الرؤية فأجاز أبو بكر وصيته قال مالك بن أنس: لا أعلم وصية أجيزت بعد موت صاحبها إلا هذه.
واختلف في سبب نزول قوله عز وجل: {إن الذين ينادونك من وراء الحجرات} فقال ابن عباس رضى الله عنهما: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى بني النضير وأمر عليهم عتبة بن حصن الغزاوي فلما علموا هربوا وتركوا عيالهم، فسباهم عتبة وقدم بهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءهم بعد ذلك رجالهم يفدون الذراري فقدموا وقت الظهيرة ووافقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلًا في أهله، فلما رأتهم الذراري اجهشوا إلى آبائهم يبكون وكان لكل امرأة من نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم حجرة، فعجلوا أن يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلوا ينادون يا محمد اخرج إلينا حتى أيقظوه من نومه فخرج إليهم.
فقالوا: يا محمد فادنا عيالنا. فنزل جبريل عليه السلام فقال إنّ الله تبارك وتعالى يأمرك أن تجعل بينك وبينهم رجلًا. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أترضون أن يكون بيني وبينكم شبرمة بن عمرو وهو على دينكم فقالوا: نعم. فقال شبرمة: أنا لا أحكم بينهم وعمي شاهد وهو الأعور بن بسامة فرضوا به فقال الأعور: أرى أن تفادي نصفهم وتعتق نصفهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رضيت ففادى نصفهم وأعتق نصفهم فأنزل الله تعالى: {إنّ الذين ينادونك من وراء الحجرات} جمع حجرة وهي ما تحجره من الأرض بحائط ونحوه. كان كل واحد منهم نادى خلف حجرة لأنهم لم يعلموه في أيها مناداة الأعراب بغلظة وجفاء {أكثرهم} أي: المنادي والراضى دون الساكت لعذر {لا يعقلون} أي: محلك الرفيع وما يناسبه من التعظيم، فلم يصبروا بل فعلوا معه صلى الله عليه وسلم كما يفعل بعضهم ببعض.
{ولو أنهم} أي: المنادي والراضي {صبروا} أي: حبسوا أنفسهم ومنعوها من مناداتهم والصبر: حبس النفس عن أن تنازع إلى هواها، وهو حبس فيه شدّة وصبر.
{حتى تخرج إليهم} من تلقاء نفسك عند فراغ ما أنت فيه مما يهمك من واردات الحق ومصالح الخلق {لكان} أي: الصبر {خيرًا لهم} أي: من استعجالهم إيقاظك في الهاجرة.
ومما لو قرعوا الباب بالأظافر كما كان يفعل غيرهم من الصحابة. قال أبو عثمان: الأدب عند الأكابر يبلغ بصاحبه إلى الدرجات العلا والخير في الأولى والعقبى. اهـ. فإنهم لو تأدّبوا لربهم لزادهم صلى الله عليه وسلم في الفضل فأعتق جميع سبيهم وأطلقهم بلا فداء.
{والله} أي: المحيط بجميع صفات الكمال {غفور} أي: ستور ذنب من تاب من جهله {رحيم} أي: يعاملهم معاملة الراحم، فيسبغ عليهم نعمه. وقال قتادة: نزلت في ناس من أعراب تميم جاءوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فنادوا على الباب اخرج إلينا يا محمد فإن مدحنا زين وذمّنا شين فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: إنما ذلكم الله الذي مدحه زين وذمه شين.
فقالوا: نحن ناس من بني تميم جئنا بشاعرنا وخطيبنا نشاعرك ونفاخرك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بالشعر بعثت ولا بالفخار أمرت ولكن هاتوا. فقام شاب منهم فذكر فضله وفضل قومه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بن شماس وكان خطيب النبيّ صلى الله عليه وسلم قم فأجبه فأجابه. وقام شاعر فذكر أبياتًا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت: أجبه فأجابه. فقام الأقرع بن حابس فقال: إنّ محمدًا المولى تكلم خطيبنا فكان خطيبهم أحسن قولا وتكلم شاعرنا فكان شاعرهم أشعر وأحسن قولا ثم دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يضرّك ما كان من قبل هذا ثم أعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكساهم، وكان قد تخلف في ركابهم عمرو بن الأهيم لحداثة سنه فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما أعطاهم فأزرى به بعضهم وارتفعت الأصوات وكثر اللغط عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل فيهم {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبيّ} الآيات الأربع إلى قوله تعالى: {غفور رحيم} وقال زيد بن أرقم جاء ناس من العرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم لبعض: انطلقوا بنا إلى هذا الرجل فإن يكن نبيًا فنحن أسعد الناس به، وإن يكن ملكًا نعش في جناحه. فجاؤوا فجعلوا ينادون من وراء الحجرات يا محمد. فأنزل الله تعالى: {إنّ الذين ينادونك} الآية وقيل: المراد بأكثرهم كلهم. لأنّ العرب تذكر الأكثر وتريد الكل احتراز عن الكذب واحتياطًا في الكلام. لأنّ الكل ما لا يحيط به علم الإنسان في بعض الأشياء فيقول الأكثر وفي اعتقاده الكل.
ثم إنّ الله تعالى مع إحاطة علمه بالأمور أتى بما يناسب كلامهم وفيه إشارة إلى لطيفة، وهي أنّ الله تعالى يقول مع إحاطة علمي بكل شيء جريت على عادتكم استحسانًا لتلك العادة، وهي الاحتراز عن الكذب فلا تتركوها واجعلوا اختياري ذلك في كلامي دليلًا قاطعًا على رضاي بذلك منكم.
تنبيه: جعل الزمخشري أنهم من ولو أنهم فاعلًا بفعل مقدر أي ولو ثبت صبرهم وجعل اسم كان ضميرًا عائدًا على هذا الفاعل. ولكن مذهب سيبويه أنها في محل رفع بالابتداء وحينئذ يكون اسم كان ضميرًا عائدًا على صبرهم المفهوم وجرى على الأوّل البيضاوي، وعلى الثاني الجلال المحلى واختلف في سبب نزول قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم} أي: في وقت من الأوقات {فاسق} أي: خارج من ربقة الديانة {بنبأ} أي: خبر يعظم خطبه فيثير شرًّا {فتبينوا} صدقه من كذبه. فقال أكثر المفسرين: نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وهو أخو عثمان لأمه.
وذلك أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم بعثه إلى بني المصطلق بعد الوقعة واليًا ومصدقًا أي يأخذ منهم الصدقة وكان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية، فلما سمع به القوم تلقوه تعظيمًا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله فهابهم فرجع من الطريق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إنهم منعوا صدقاتهم وأرادوا قتلى. فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهمّ أن يغزوهم فبلغ القوم رجوعه، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله سمعنا برسولك فخرجنا نتلقاه ونكرمه ونؤدي إليه ما قبلنا من حق الله فبدا له في الرجوع، فخشينا أنه إنما رده من الطريق كتاب جاءه منك لغضب غضبته علينا وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله فاتهمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث خالد بن الوليد خفية في عسكره وأمره أن يخفي عليهم قدومه وقال: انظر فإن رأيت منهم ما يدل على إيمانهم فخذ منهم زكاة أموالهم، وإن لم تر ذلك فاستعمل فيهم ما تستعمل في الكفار. ففعل ذلك خالد ووافاهم فسمع منهم آذان صلاتي المغرب والعشاء فأخذ منهم صدقاتهم ولم ير منهم إلا الطاعة والخير وانصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره الخبر فنزل قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا} {أن تصيبوا} أي: بأذى {قومًا} أي: هم مع قوّتهم النافعة لأهل الإسلام براء مما نسب إليهم {بجهالة} أي: مع الجهل بحال استحقاقهم لذلك {فتصبحوا} أي: فتصيروا ولكنه عبر بذلك لأن أشنع الندم ما استقبل الإنسان صباحًا وقت انتباهه وفراغه وإقباله على لذاته {على ما فعلتم} أي: من إصابتهم {نادمين} أي: غريقين في الأسف على ما فات مما يوقع الله تعالى في نفوسكم من أمور ترجف القلوب. وقال الرازي: هذا ضعيف لأنّ الله تعالى لم يقل إني أنزلتها لكذا والنبيّ صلى الله عليه وسلم لم ينقل عنه أنه قال وردت الآية لبيان ذلك حسب غاية ما في الباب أنها نزلت في ذلك الوقت وهو مثل تاريخ نزول الآية مما يصدق ذلك ويؤيده أنّ إطلاق لفظ الفاسق على الوليد بعيد لأنه توهم وظن فأخطأ والمخطئ لا يسمى فاسقًا فكيف والفاسق في أكثر المواضع المراد به من خرج عن رتبة الإيمان كقوله تعالى: {إنّ الله لا يهدي القوم الفاسقين}.