فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{قالت الأعراب} أي: أهل البادية من بني أسد وغيرهم الذين هم معدن الغلظة والجفاء {آمنا} أي: بجميع ما جئت به فامتثلنا ما أمرنا به في هذه السورة ولنا النسب الخالص فنحن أشرف من غيرنا من أهل المدر {قل} يا أشرف الخلق تكذيبًا لهم مع مراعاة الأدب في عدم التصريح بالتكذيب {لم تؤمنوا} أي: لم تصدّق قلوبكم لأنكم لو آمنتم لم تمنوا لأنّ الإيمان التصديق بجميع ما لله من الكمال الذي منه أنه لولا منه بالهداية لم يحصل الإيمان فله ولرسوله الذي كان ذلك على يديه المنّ والفضل {ولكن قولوا أسلمنا} أي: أظهرنا الانقياد في الظاهر للأحكام الظاهرة وأمنا من أن نكون حربًا للمؤمنين وعونًا للمشركين، فأخبر الله تعالى أنّ حقيقة الإيمان هو التصديق بالقلب وإن الإقرار باللسان وإظهار شرائعه بالأبدان لا يكون إيمانًا دون التصديق بالقلب والإخلاص فالإسلام هو الدخول في السلم كما يقال أشتى إذا دخل في الشتاء وأصاف إذا دخل في الصيف وأربع إذا دخل في الربيع فمن الإسلام ما هو طاعة على الحقيقة باللسان والأبدان والجنان كقوله عز وجل لإبراهيم {أسلم قال أسلمت لرب العالمين}.
ومنه ما هو انقياد باللسان دون القلب وذلك قوله تعالى: {ولكن قولوا أسلمنا} {ولما يدخل الإيمان} أي: المعرفة التامّة لم تدخل إلى هذا الوقت {في قلوبكم} فلا يعدّ إقرار اللسان إيمانًا إلا لمواطأة القلب قال ابن برجان: فعموم الناس وأكثر أهل الغفلة مسلمون غير مؤمنين.
وعن سعد بن أبي وقاص قال أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطًا وأنا جالس فيهم فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا منهم لم يعطه وهو أعجبهم إليّ فقمت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فساررته.
فقلت: مالك عن فلان والله إني لأراه مؤمنًا. فقال صلى الله عليه وسلم: «أو مسلمًا» ذكر ذلك سعد ثلاثًا وأجابه بمثل ذلك ثم قال: «إني لأعطي الرجل وغيره أحب إليّ منه خشية أن يكب في النار على وجهه».
وقال الرازي: المسلم والمؤمن واحد عند أهل السنة. فنقول الفرق بين العام والخاص: أنّ الإيمان لا يحصل إلا بالقلب والانقياد قد يحصل بالقلب وقد يحصل باللسان فالإسلام أعمّ لكن العامّ في صورة الخاص متحد مع الخاص، ولا يكون أمرًا آخر غيره. مثاله الحيوان في صورة الإنسان أمر لا ينفك عن الإنسان فلا يجوز أن يكون ذلك الحيوان حيوانًا ولا يكون إنسانًا فالعام والخاص مختلفان في العموم متحدان في الوجود، وكذلك المؤمن والمسلم، وسيأتي زيادة على ذلك في الذاريات إن شاء الله تعالى.
وقال الرازي: في الآية إشارة إلى بيان حال المؤلفة إذا أسلموا ويكون إيمانهم ضعيفًا فيقال لهم: لم تؤمنوا لأنّ الإيمان إيقان وذلك بعد لم يدخل في قلوبهم وسيدخل بإطلاعهم على محاسن الإسلام انتهى. بل الإيمان دخل في قلوبهم ولكن لم يتألفوا بأهل الإسلام؟.
تنبيه: التعبير بلما يفهم أنهم آمنوا بعد ذلك ويجوز أن يكون المراد بهذا النفي نفي التمكن في القلب لا نفي مطلق الدخول بدليل إنما المؤمنون دون إنما الذين آمنوا {وإن تطيعوا الله} أي: الملك الذي من خالفه لم يأمن عقوبته {ورسوله} أي: الذي طاعته من طاعته على ما أنتم عليه من الأمر الظاهر فتؤمن قلوبكم {لا يلتكم} أي: لا ينقصكم {من أعمالكم شيئًا} بل يعطيكم ما يليق به من الجزاء لأنّ من حمل إلى ملك فاكهة طيبة قدر ثمنها في السوق ردهم فأعطاه الملك درهمًا انتسب الملك إلى البخل فهو يعطي ما تتوقعون بأعمالكم وزيادة من غير نقص فلا حاجة إلى إخباركم عن إيمانكم بغير ما يدلّ عليه من الأقوال والأفعال.
وقرأ الدوري: عن أبي عمرو بعد الياء التحتية بهمزة ساكنة وأبدلها السوسي ألفًا والباقون بغير همز ولا ألف. ولما كان الإنسان مبنيًا على النقص وإن اجتهد غاية اجتهاده قال الله تعالى: {إن الله} أي: الذي له صفات الكمال {غفور} أي: ستور للهفوات والزلات لمن تاب وصحت نيته ولغيره إن شاء فلا عتاب ولا عقاب {رحيم} أي: يزيد على الستر عظيم الإكرام ثم بين تعالى لهم حقيقة الإيمان بقوله تعالى: {إنما المؤمنون} أي العريقون في الإيمان الذي هو حياة القلوب.
قال القشيري: والقلوب لا تحيا إلا بعد ذبح النفوس والنفوس لا تموت ولكنها تعيش {الذين آمنوا} أي: صدّقوا معترفين {بالله} معتقدين بجميع ماله من صفات الكمال {ورسوله} شاهدين برسالته وهذا الإثبات هنا يدل على أن المنفي فيما قبل الكمال المطلق وإلا لقال تعالى إنما الذين آمنوا {ثم لم يرتابوا} أي: لم يشكوا في دينهم وأيقنوا بأنّ الإيمان إيقان.
تنبيه: ثم للتراخي في الحكاية كأنه يقول آمنوا ثم أقول شيئًا آخر لم يرتابوا ويحتمل أن تكون للتراخي في الفعل أي آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا فيما نقل النبيّ صلى الله عليه وسلم من الحشر والنشر {وجاهدوا} أي: أوقعوا الجهاد بكل ما ينبغي أن تجهد النفوس فيه تصديقًا لما ادعوه بألسنتهم من الإيمان {بأموالهم} وذلك هو النية وقوله تعالى: {وأنفسهم} أعمّ من النية وغيرها وذلك هو الشجاعة قدم الأموال لقلتها عند العرب {في سبيل الله} أي: طريق الملك الأعظم بقتال الكفار وغيره من سائر العبادات المحتاجة إلى المال والنفس لا الذين يتخلفون ويقولون شغلتنا أموالنا وأهلونا.
قال القشيري: جعل الله تعالى الإيمان مشروطًا بخصال ذكرها وذكر بلفظ إنما وهي للتحقيق يقتضي الطرد والعكس فمن أفرد الإيمان عن شرائطه التي جعلها له فمردود عليه قوله: {أولئك} أي: العالو الرتبة {هم الصادقون} أي: في قولهم وفعلهم أنهم مؤمنون. ولما نزل هاتان الآيتان أتت الأعراب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحلفون بالله أنهم مؤمنون صادقون وعلم الله منهم غير ذلك قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم.
{قل} أي: لهؤلاء الأعراب مجهلًا لهم ومبكتًا {أتعلمون الله} أي: أتخبرون أخبارًا عظيمًا الملك الأعظم المحيط قدرة وعلمًا {بدينكم} أي بقولكم آمنا {والله} أي: والحال أن الملك المحيط بكل شيء {يعلم ما في السموات} كلها على عظمتها وكثرة ما فيها {وما في الأرض} كذلك {والله} أي: الذي له الإحاطة الكاملة {بكل شيء} أي مما ذكر ومما لم يذكر {عليم} أي: لا تخفي عليه خافية وهو تجهيل لهم وتوبيخ.
{يمنون عليك} أي: يذكرون ذكر من اصطنع صنيعة وأسدى إليك نعمة {أن أسلموا} أي: من غير قتال بخلاف غيرهم ممن أسلم بعد قتال منهم ولما كان المنّ هو القطع من العطاء الذي لا يراد عليه جزاء قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {قل} أي: في جواب قولهم هذا {لا تمنوا عليّ إسلامكم} لو فرض أنكم كنتم متدينين بدين الإسلام الذي هو انقياد الظاهر مع اذعان الباطن أي لا تذكروا الامتنان أصلًا لأنّ الإسلام لا يطلب جزاؤه إلا من الله تعالى فلا ينبغي عدّه صنيعة على أحد فإنّ ذلك يفسده {بل الله} أي: الملك الأعظم الذي له المنة على كل موجود ولا منة عليه بوجه {يمن عليكم} أي: بذكر أنه أسدى إليكم نعمة {أن} أي: بأن {هداكم للإيمان} أي: فهو المانّ عليكم لا أنتم عليه وعلي.
فإن قيل: كيف منّ عليهم بالهداية إلى الإيمان مع أنه تبين أنهم لم يؤمنوا. أجيب بأوجه: أحدها: أنه تعالى لم يقل بل الله يمنّ عليكم أن رزقكم الإيمان بل قال أن هداكم للإيمان ثانيها: أنه تعالى منّ عليهم بما زعموا فكأنه تعالى قال أنتم قلتم آمنا فذلك نعمة في حقكم حيث تخلصتم من النار. فقال تعالى: {هداكم} في زعمكم.
ولهذا قال تعالى: {إن كنتم صادقين} أي: في قولكم آمنا فإنه على تقدير الصدق إنما هو بتوفيق الله تعالى وهو الذي خلق لكم قدرة الطاعة فهو الفاعل في الحقيقة فله المنة عليكم.
قال القشيري: من لاحظ شيئًا من أحواله فإن رآها من نفسه كان مشركًا وإن رآها لنفسه كان مكرًا فكيف يمنّ العبد بما هو شرك أو مكر والذي يجب عليه قبول المنة كيف يرى لنفسه على غيره منة هذا لعمري فضيحة والمنة تكدّر الصنيعة إذا كانت من المخلوقين وبالمنة تطيب النعمة إذا كانت من قبل الله تعالى.
{إن الله} أي: المحيط بكل شيء قدرة وعلمًا {يعلم غيب السموات} أي: ما غاب فيها كلها {والأرض} كذلك ولما أريد التعميم من غير تقييد بالخافقين أظهر ولم يضمر قوله تعالى: {والله} أي الذي له الإحاطة بذلك وبغيره مما لا تعلمون {بصير} أي: عالم أتم العلم {بما تعملون} أي: من ظاهر إسلامكم في الماضي والحاضر والآتي سواء أكان ظاهرًا أم باطنًا سواء أكان قد حدث فصار بحيث تعلمونه أنتم أو كان مفروزًا في جبلاتكم وهو خفيّ عنكم. وقرأ ابن كثير: بالياء التحتية على الغيبة نظرًا لقوله تعالى: {يمنون} وما بعده والباقون بالفوقية على الخطاب نظرًا إلى قوله تعالى: {لا تمنوا عليّ إسلامكم} إلى آخره وفي هذه الآية إشارة إلى أنه يبصر أعمال جوارحكم الظاهرة والباطنة لا يخفى عليه شيء وما رواه البيضاوي تبعًا للزمخشري من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة الحجرات أعطي من الأجر بعدد من أطاع الله وعصاه» حديث موضوع. اهـ.

.قال القاسمي:

سورة الحجرات:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}.
قال ابن جرير: أي: يا أيها الذين أقروا بوحدانية الله، ونبوة نبي صلى الله عليه وسلم، لا تعجلوا بقضاء أمر في حروبكم أو دينكم، قبل أن يقضي الله لكم فيه ورسوله، فتقضوا بخلاف أمر الله، وأمر رسوله. محكي عن العرب: فلان يقدم بين يدي إمامه، بمعنى يعجل الأمر والنهي دونه. انتهى.
و: {تُقَدِّمُوا} إما متعد حذف مفعوله، لأنه أريد به العموم، أو أنه نزل منزلة اللازم لعدم القصد إلى المفعول، كما تقول: فلان يعطي ويمنع، أو هو لازم، فإن قدم، يرد بمعنى تقدم كبيّن، فإنه متعد، ويكون لازمًا بمعنى تبين.
وفي هذه الجملة تجوزان:
أحدهما- في بين اليدين، فإن حقيقته ما بين العضوين، فتجوز بهما عن الجهتين المقابلتين لليمين والشمال، قريبًا منه بإطلاق اليدين على ما يجاورهما ويحاذيهما. فهو من المجاز المرسل، ثم استعيرت الجملة استعارة تمثيلية للقطع بالحكم بلا اقتداء، ومتابعة لمن يلزم متابعته، تصويرًا لهجنته وشناعته، بصورة المحسوس، كتقدم الخادم بين يدي سيده في مسيره، فنقلت العبارة الأولى، بما فيها من المجاز، إلى ما ذكر، على ما عرف أمثاله- هذا محصل ما في (الكشاف) و(شروحه).
قال ابن كثير: معنى الآية: لا تسرعوا في الأشياء قبله، بل كونوا تبعًا له في جميع الأمور، حتى يدخل في عموم هذا الأدب حديث معاذ رضي الله عنه. قال له النبي صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى اليمن: «بم تحكم؟» قال: بكتاب الله تعالى. قال صلى الله عليه وسلم: «فإن لم تجد؟» قال: بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال صلى الله عليه وسلم: «فإن لم تجد؟» قال رضي الله عنه: أجتهد رأيي! فضرب في صدره وقال: «الحمد لله الذي وفق رسولَ رسول الله لما يرضي رسول الله». وقد رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه. والغرض منه أنه أخر رأيه ونظره واجتهاده إلى ما بعد الكتاب والسنة، ولو قدمه قبل البحث عنهما، لكان من باب التقديم بين يدي الله ورسوله. انتهى.
وقد جوز أن يكون المراد: بين يدي رسول الله، وذكر الله؛ لبيان قوة اختصاصه به تعالى، ومنزلته منه، تمهيدًا وتوطئة لما بعده. وقد أيد هذا، بأن مساق الكلام لإجلاله صلى الله عليه وسلم.
تنبيه:
قال ابن جرير: بضم التاء من قوله: {لَا تُقَدِّمُوا} قرأ قراءة الأمصار، وهي القراءة التي لا أستجيز القراءة بخلافها، لإجماع الحجة من القراء عليها. وقد حكى عن العرب: قدّمت في كذا وتقدمت في كذا. فعلى هذه اللغة لو كان قيل: لا تَقدموا، بفتح التاء، كان جائزًا. انتهى. وبه قرأ يعقوب فيما نقل عنه.
{وَاتَّقُوا اللَّهَ} أي: في التقديم أو مخالفة الحكم. والأمر بالتقوى على أثر ما تقدم، بمنزلة قولك للمقارف بعض الدلائل: لا تفعل هذا، وتحفظ مما يلصق العار بك. فتنهاه أولًا عن عين ما قارفه، ثم تعمّ وتأمره بما لو امتثل أمرك فيه، لم يرتكب تلك الغفلة، وكل ما يضرب في طريقها، ويتعلق بسببها- أشار له الزمخشري-.
{إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي: فحقيق أن يتقى ويراقب.
تنبيه:
في (الإكليل): قال إلكيا الهراسي: قيل نزلت في قوم ذبحوا قبل النبي صلى الله عليه وسلم، فأمرهم أن يعيدوا الذبح. وعموم الآية النهي عن التعجيل في الأمر والنهي، دونه. ويحتج بهذه الآية في اتباع الشرع في كل شيء. وربما احتج به نفاة القياس، وهو باطل منهم. ويحتج به في تقديم النص على القياس. انتهى.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقول كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ}.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} أي: إذا نطق ونطقتهم، فلتكن أصولتكم قاصرة عن الحد الذي يبلغه صوته، ليكون عاليًا لكلامكم، لا أن تغمروا صوته بلغطكم، وتبلغوا أصواتكم إلى أسماع الحاضرين قبل صوته، فإن ذلك من سوء الأدب بمكان كبير: {وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقول كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} أي: بل تعمدوا في مخاطبته القول اللين، القريب من الهمس، الذي يضادّ الجهر، كما تكون مخاطبة المهيب المعظم. وروي عن مجاهد تفسيره بندائه باسمه، أي: لا تنادوه كما ينادي بعضكم بعضًا: يا محمد! يا محمد! بل يا نبي الله! يا رسول الله! ونظر فيه شراح (الكشاف) بأن ذكر الجهر حينئذ لا يظهر له وجه، إذ الظاهر أن يقال: لا تجعلوا خطابه كخطاب بعضكم لبعض، كما مر في قوله: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63]. انتهى.
ولك أن تقول: إنما أفرغ هذا المعنى المروي عن مجاهد في قالب ذاك اللفظ الكريم جريًا على سنة التنزيل في إيثار أرق الألفاظ والجمل، وألطفها في ذلك، فإن أسلوبه فوق كل أسلوب وقد قال: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به: {أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ} أي: مخافة أن تحبط أعمالكم، برفع صوتكم فوق صوته، وجهركم له بالقول كجهركم لبعضكم: {وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} أي: لا تعلمون، ولا تدرون بحبوطها.
تنبيه:
استدلت المعتزلة بالآية على أن الكبائر محبطة الأعمال، لأن المذكور في الآية كبيرة محبطة ولا فرق بينها وبين غيرها. ولما كان عند أهل السنة، المحبط للأعمال هو الكفر خاصة، تأولوا الآية بأنها للتغليظ والتخويف، إذ جعلت بمنزلة الكفر المحبط، أو هي للتعريض بالمنافقين المقاصدين بالجهر والرفع الاستهانة، فإن فعلهم محبط قطعًا.
وقال الناصر: المراد في الآية النهي عن رفع الصوت على الإطلاق. ومعلوم أن حكم النهي الحذر مما يتوقع في ذلك من إيذاء النبي عليه الصلاة والسلام. والقاعدة المختارة أن إيذاءه عليه الصلاة والسلام يبلغ مبلغ الكفر المحبط للعمل باتفاق. فورد النهي عما هو مظنة لأذى النبي عليه الصلاة والسلام، سواء وجد هذا المعنى أو لا، حماية للذريعة، وحسمًا للمادة. ثم لما كان هذا المنهي عنه- وهو رفع الصوت- منقسمًا إلى ما يبلغ ذلك المبلغ أولًا، ولا دليل يميز أحد القسمين عن الآخر، لزم المكلف أن يكف عن ذلك مطلقًا، وخوّف أن يقع فيما هو محبط للعمل، وهو البالغ حد الإيذاء، إذ لا دليل ظاهر يميزه. وإن كان، فلا يتفق تمييزه في كثير من الأحيان، وإلى التباس أحد القسمين بالآخر وقعت الإشارة بقوله: {أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ}. وإلا فلو كان الأمر على ما تعتقده المعتزلة، لم يكن لقوله: {وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} موقع؛ إذ الأمر بيْن أن يكون رفع الصوت مؤذيًا، فيكون كفرًا محبطًا قطعًا، وبين أن يكون غير مؤذٍ، فيكون كبيرة محبطة على رأيهم قطعًا. فعلى كلا حاليه، الإحباط به محقق، إذن فلا موقع لإدغام الكلام بعدم الشعور، مع أن الشعور ثابت مطلقًا- والله أعلم-.