فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأخرج الطبراني عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعطاني ربي السبع الطوال مكان التوراة والمئين مكان الإِنجيل وفضلت بالمفصل».
وأخرج ابن الضريس وابن جرير عن أبي قلابة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أعطيت السبع مكان التوراة، وأعطيت المثاني مكان الإِنجيل، وأعطيت كذا وكذا مكان الزبور، وفضلت بالمفصل».
وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود قال: الطوال مكان التوراة، والمئين كالإِنجيل، والمثاني كالزبور، وسائر القرآن بعد فضل على الكتب. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في السورة الكريمة:

قال عليه الرحمة:
سورة الحجرات:
قوله جل ذكره: (بسم الله الرحمن الرحيم).
«بسم الله» اسم كريم من تنصل إليه من زلاته تفضل عليه بنجاته، ومن توسل إليه بطاعاته تطول عليه درجاته.
قوله جلّ ذكره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْن يَدَىِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ واتَّقُوا اللَّهَ إن الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ}: شهادةٌ للمنادَى بالشَّرف.
{لاَ تُقَدِّمُواْ} أَمْرٌ بتحمُّل الكُلَف. قدَّمَ الإكرام بالشرف على الإلزام بالكُلَف أي لا تقدموا بحكمكم {بَيْنَ يَدَىِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}: أي لا تقضوا أمرًا من دون الله ورسوله أي لا تعملوا من ذات أنفسِكم شيئًا.
ويقال: فقوا حيثما وُقِفْتم، وافعلوا ما به أُمِرْتُم، وكنوا أصحابَ الاقتداءِ والاتّباع.. لا أربابَ الابتداءِ والابتداع.
قوله جلّ ذكره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَرْفَعُواْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِى وَلاَ تَجْهَرواْ لَهُ بِالْقول كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ}.
أَمرَهم بحفضِ حرمته ومراعاةِ الأدب في خدمته وصحبته، وأَلاَّ ينظروا إليه بالعين التي ينظرون بها إلى أمثالهم. وأنه إذا كان بخُلُقهِ يُلاينُهم فينبغي ألا يتبسَّطوا معه مجاسرين، ولا يكونوا مع ما يعاشرهم به مِنْ تَخَلُّقِه عن حدودِهم زائدين.
ويقال: لا تبدأوه بحديث حتى يُفَاتِحَكم.
قوله جلّ ذكره: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفَرةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ}.
هم الذين تقع السكينةُ عليهم من هيبة حضرته، أولئك هم الذين امتحن اللَّهُ قلوبَهم للتقوى بانتزاع حُبِّ الشهوات منها، فاتقوا سوءَ الأخلاقِ، وراعوا الأدبَ.
ويقال: هم الذين انسلخوا من عادات البشرية.
قوله جلّ ذكره: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَاُدُونَكَ مِن وَرَاءِ الحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ واللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
أي لو عرفوا قَدْرَكَ لَمَا تركوا حُرْمَتَك، والتزموا هَيبَتَك.
ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم ولم يستعجلوا، ولم يوقظوك وقت القيلولة بمناداتهم لكان خيرًا لهم.
أمَّا أصحابه- صلواتُ الله عليه وسلامه- الذين يعرفون قدْره فإنَّ احدهم- كما في الخبر: «كانه يَقْرَعُ بابَه بالأظافر»
قوله جلّ ذكره: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوآ أَن تُصِيبواْ قَوْمًَا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}.
دلَّت الآية على تَرْكِ السكون إلى خَبَرِ الفاسق إلى أن يظهر صِدْقُه.
وفي الآية إشارة إلى تَركِ الاستماعِ إلى كلام الساعي والنَّمامِ والمغتابِ للناس.
والآيةُ تَدُلُّ على قبول خبرِ والواحدِ إذا كان عَدْلًا.
والفاسقُ هو الخارجُ عن الطاعة. ويقال هو الخارج عن حدِّ المروءة.
ويقال: هو الذي ألقى جِلبابَ الحياء.
قوله جلّ ذكره: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ في كَثِيرٍ مِّنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ في قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهُ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُؤلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ}.
أي لو وافقكم محمدٌ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في كثير مما تطلبون من لوقعتم في العَنَتِ- وهو الفساد. ولو قَبِلَ قول واحدٍ (قَبْلَ وضوحِ الأمر) لأَصابتكم من ذلك شدة.
والرسول صلوات الله عليه لا يطيعكم في أكثر الأمور إذا لم يَرَ في ذلك مصلحة لكم وللدين.
{وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ}: الإسلام والطاعة والتوحد، وزيَّنَها في قلوبكم.
{وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ}: هذا من تلوين الخطاب.
وفي الآية دليلٌ على صحة قول أهل الحقِّ في القَدَر، وتخصيص المؤمنين بألطافٍ لا يشترك فيها الكفارُ. ولولا أنَّه يوفِّر الدواعي للطاعات لَحَصَلَ التفريط والتقصير في العبادات.
{فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً}: أي فَعَلَ هذا بكم فضلاَ منه ورحمةً {وَاللَّهُ عَليمٌ حَكِيمٌ}.
قوله جلّ ذكره: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا التي تَبْغِى حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِِن فَاءَتْ فَأصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهِ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ}.
تدل الآية على أن المؤمن بفسقه- والفسق دون الكفر- لا يخرج عن الإيمان لأن إحدى الطائفتين- لا محالة- فاسقة إذا اقتتلا.
وتدل الآية على وجوب نصرة المظلوم؛ حيث قال: {فَإِِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى}.
الإشارة فيه: أن النفس إذا ظَلَمتْ القلب بدعائه إلى شهواتها، واشتغالها في فسادها فيجب أن يقاتلها حتى تثخن بالجراحة بسيوف المجاهدة، فإن استجابت إلى الطاعة يُعْفَى عنها لأنها هي المطيَّةُ إلى باب الله.
قوله جلّ ذكره: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} إيقاعُ الصلح بين المتخاصمين مِنْ أوْكَد عزائم الدِّين.
وإذا كان ذلك واجبًا فإنه يدل على عِظَمِ وِزْرِ الواشي والنَّمام؛ والمصْدَرِ في إفساد ذات البَيْن.
(ويقال إنما يتم ذلك بتسوية القلب مع الله فإن الله إذا علم صِدْق هِمةِ عبدٍ في إصلاح ذات البيْن) فإنه يرفع عنهم تلك العصبيَّة.
فأما شرط الأخوة: فمِنْ حقِّ الأُخُوةِ في الدِّين إلا تُحُوِجَ أخاك إلى الاستعانة بك أو التماس النصرة عنك، وألا تُقصِّر في تَفَقُّدِ أحواله بحيث يشكل عليك موضع حاجته فيحتاج إلى مساءلتك.
ومن حقِّه ألا تُلْجِئَه إلى الاعتذار لك بل تبسط عُذْرَه؛ فإنْ أُشْكِل عليكَ وَجْهُه عُدْت باللائمة على نفسك في خفاء عُذْرِه عليك ومن حقه أنْ تتوبَ عنه إذا أذْنَبَ، وتَعودَه إذا مرض. وإذا أشار عليك بشيءٍ فلا تُطَالِبْه بالدليل عليه وإبراز الحُجَّة- كما قالوا:
إذا اسْتَنْجِدُوا لم يسألوا مَنْ دعاهم ** لأيَّةِ حَرْبٍ أم لأي مكان

ومِنْ حقِّه أَنْ تَحفَظَ عَهْدَه القديم، وأَنْ تُراعِيَ حقَّه في أهله المتصلين به في المشهد المغيب، وفي حال الحياة وبعد الممات- كما قيل:
وخليل إن لم يكن ** منصفًا كُنْتَ منصفا

تتحسَّى له الأمَرَّ ** يْن وكُنْ ملاطفا

إنْ يَقُل لكَ استوِ احترفْ ** ت رضًى لا تكلُّفا

قوله جلّ ذكره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الإسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.
نهى اللَّهُ- سبحانه تعالى- عن ازدارءِ الناس، وعن الغَيْبَةِ، وعن الاستهانةِ بالحقوق، وعن تَرْكِ الاحترام.
{وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنْفُسَكُمْ}: أي لا يَعِيبَنَّ بعضُكم بعضًا، كقوله: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} [النساء: 29].
ويقال: ما استصغر أحدٌ أحدًا إلا سُلِّطَ عليه. ولا ينبغي أن يُعْتَبَر بظاهر أحوال الناس فإنَّ في الزوايا خبايا. والحقُّ يستر أولياءَه في حجابِ الضّعَة؛ وقد جاء في الخبر: «رُبَّ أشعث أغبر ذي طمرين لا يُؤْبَهُ له لو أقسم على الله لأَبَرَّه»
قوله جلّ ذكره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُواْ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ}.
النَّفْسُ لا تَصْدُقُ، والقلبُ لا يَكْذِبُ. والتمييز بين النفس والقلب مُشْكِلٌ ومَنْ بَقِيَتْ عليه من حظوظه بقيَّةٌ- وإنْ قَلَّتْ- فليس له أن يَدعَّى بيانَ القلب بل هو بنفسه ما دام عليه شيءٌ من نَفْسِه، ويجب أن يَتَّهِمَ نَفْسَهُ في كل ما يقع له من نقصان غيره.. هذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال وهو يخطب: «كلُّ الناس أفقهُ من عمر، أمرأةٌ أفقهُ من عمر».
{وَلاَ تَجَسَّسُواْ} والعارف لا يتفرغ من شهود الحقِّ إلى شهود الخَلْق.. فكيف يتفرغ إلى تجَسُّسِ أحوالهم؟ وهو لا يتفرغ إلى نَفْسِه فكيف إلى غيره؟ {وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُمْ بَعْضًا}: لا تحصل الغيبة للخَلق إلاَّ من الغيبةِ عن الحقِّ.
{أَيَحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} جاء في التفسير أن المقصود بذلك الغيبة، وعلى ذلك يدل ظاهر الآية. وأَخَسُّ الكفّار وأَقَلُّهم قَدْرًا مَنْ يأَكل الميتةَ.. وعزيزٌ رؤيةُ مَنْ لا يغتاب أحدًا بين يديك.
قوله جلّ ذكره: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن ذَكّرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}.
إنَّا خلقناكم أجمعكم من آدمَ وحواء، ثم جعناكم شعوبًا وقبائلَ لتعارفوا لا لتُكَاثروا ولا لتنافسوا. فإذا كانت الأصولُ تربةً ونطفةً وعَلَقَةً.. فالتفاخر بماذا؟ أبا لحمأ المسنون؟ أم بالنطفة في قرار مكين؟ أم بما ينطوي عليه ظاهرك مما تعرفه؟! وقد قيل:
إِنَّ آثارَنا تَدُل علينا ** فانْظُروا بَعْدَنا إلى الآثارِ

أم بأفعالك التي هي بالرياء مَشُوبة؟ أم بأحوالك التي هي بالإعجاب مصحوبة؟ أم بمعاملاتك التي هي ملأى بالخيانة؟
{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِند اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}؟ أتقاكم أي أَبْعَدكم عن نَفْسِه، فالتقوى هي التحرُّر من النفس وأطماعها وحظوظها. فأكرمُ العبادِ عند اللَّهِ مَنْ كان أَبْعد عن نَفْسِه وأَقرَبَ إلى الله تعالى.
قوله جلّ ذكره: {قالتِ الأَعْرَابُ ءَامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَكِنَ قولواْ أَسْلَمْنَا}.
الإيمانُ هو حياة القلب، والقلب لا يحيا إلا بعد ذَبْح النَّفس، والنفوسُ لا تموت ولكنها تغيب، ومع حضورها لا يَتمُّ خيرٌ، والاستسلامُ في الظاهر إسلام. وليس كلُّ مَنْ استسلَمَ ظاهرًا مخلصٌ في سِرِّه.
{وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ في قُلُوبِكُمْ}.
في هذا دليلٌ على أن محلَّ الإيمانِ القلبُ. كما أنه في وصف المنافقين قال تعالى: {فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} [البقرة: 10] ومَرَضُ القلبِ والإيمانُ ضدان.
قوله جلّ ذكره: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ وَجَاهَدُواْ بَأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ في سَبِيلِ اللَّهِ أُؤْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}.
جَعَلَ اللَّهُ الإيمانَ مشروطًا بخصالٍ ذَكَرَها، ونَصَّ عليها بلفظ {إِنَّمَا} وهي للتحقيق الذي يقتضي طَرْدَ العِكْسِ؛ فمَنْ خَرَج عن هذه الشرائط التي جَعَلَها للإِيمان فمردودٌ عليه قوله.
والإيمانُ يوجِبُ للعبد الأَمان، فما لم يكن الإيمان موجِبًا للأَمانِ فصاحبُه بغيره أَوْلَى.
قوله جلّ ذكره: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا في السَّمَاواتِ وَمَا في الأَرْضِ وَاللّهُ بِكُلْ شيء علٍيمٌ}.
تدل الآية على أَنَ الوقوف في المسائل الدينية يُعْتَبرُ واجبًا؛ فالأسامي منه تَؤْخَذ، والأحكامُ منه تُطْلَب، وأوامره مُتَّبعة.
قوله جلّ ذكره: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَى إِسْلاَمَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}.
مَنْ لاحظ شيئًا من أعماله وأحواله فإنْ رآها مِنْ نَفْسه كان شِرْكًا، وإنْ رآها لنفسه كان مكرًا فكيف يمن العبد بما هو شِرْكٌ أو بما هو مكر؟!
والذي يجب عليه قبول المِنَّة.. كيف يرى لنفسه على غيره مِنَّة؟! هذا لعمري فضيحةّ! بل المِنَّةُ لله؛ فهو وليُّ النعمة. ولا تكون المةُ منةً إلا إذا كان العبدُ صادقًا في حله، فأمَّا إذا كان معلولًا في صفة من صفاته فهي محنةٌ لصاحبها لا مِنَّة.
والمِنَّةُ نُكَدَّرُ الصنيعَ إذا كانت من المخلوقين، ولكن بالمِنَّةِ تطيب النعمة إذا كانت من قبل الله.
قوله جلّ ذكره: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرُ بِمَا تَعْمَلُونَ}.
ومَنْ وُقِف هاهنا تكدَّرَ عليه عِيْشُه؛ إذ ليس يدري ما غيبه فيه، وفي معنى هذا قول القائل:
أبكي وهل تدرين ما يبكيني ** أبكي حذارًا أن تفارقيني

وتقطعي وَصْلي وتهجريني

. اهـ.

.من فوائد الجصاص في السورة الكريمة:

قال رحمه الله:
وَمِنْ سُورَةِ الْحُجُرَاتِ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.
قولهُ- عَزَّ وَجَلَّ: {لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قال: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قال: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} أَنَّ نَاسًا كَانُوا يَقولونَ لَوْلَا أُنْزِلَ فِي كَذَا قال مَعْمَرٌ: وَكَانَ الْحَسَنُ يَقول هُمْ قَوْمٌ ذَبَحُوا قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَهُمْ أَنْ يُعِيدُوا الذَّبْحَ قال أَبُو بَكْرٍ: وَرُوِيَ عَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ فَأَمَرَتْ الْجَارِيَةَ أَنْ تُسْقِيَهُ فَقال: إنِّي صَائِمٌ، وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ، فَقالتْ: «قَدْ نُهِيَ عَنْ هَذَا» وَتَلَتْ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} فِي صِيَامٍ وَلَا غَيْرِهِ قال أَبُو بَكْرٍ: اعْتَبَرَتْ عُمُومَ الْآيَةِ فِي النَّهْيِ عَنْ مُخَالَفَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي قول أَوْ فِعْلٍ.
وَقال أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى: «لَا تُعَجِّلُوا بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ دُونَهُ» قال أَبُو بَكْرٍ: يُحْتَجُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي امْتِنَاعِ جَوَازِ مُخَالَفَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي تَقْدِيمِ الْفُرُوضِ عَلَى أَوْقَاتِهَا وَتَأْخِيرِهَا عَنْهَا وَفِي تَرْكِهَا، وَقَدْ يَحْتَجُّ بِهَا مَنْ يُوجِبُ أَفْعَالَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لِأَنَّ فِي تَرْكِ مَا فَعَلَهُ تَقَدُّمًا بَيْنَ يَدَيْهِ، كَمَا أَنَّ فِي تَرْكِ أَمْرِهِ تَقَدُّمًا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ كَمَا ظَنُّوا؛ لِأَنَّ التَّقَدُّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ إنَّمَا هُوَ فِيمَا أَرَادَ مِنَّا فِعْلَهُ فَفَعَلْنَا غَيْرَهُ، فَأَمَّا مَا لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ مُرَادٌ مِنْهُ فَلَيْسَ فِي تَرْكِهِ تَقْدِيمٌ بَيْنَ يَدَيْهِ وَيَحْتَجُّ بِهِ نُفَاةُ الْقِيَاسِ أَيْضًا وَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى جَهْلِ الْمُحْتَجِّ بِهِ؛ لِأَنَّ مَا قَامَتْ دَلَالَتُهُ فَلَيْسَ فِي فِعْلِهِ تَقَدُّمٌ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقَدْ قَامَتْ دَلَالَةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ عَلَى وُجُوبِ الْقول بِالْقِيَاسٍ فِي فُرُوعِ الشَّرْعِ، فَلَيْسَ فِيهِ إذًا تَقَدُّمٌ بَيْنَ يَدَيْهِ.