فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقوله تعالى: {مِنْهُمْ} يصلح أن يكون مذكورًا كالمقرر لتعجبهم، ويصلح أن يكون مذكورًا لإبطال تعجبهم، أما التقرير فلأنهم كانوا يقولون {أَبَشَرًا مّنَّا واحدا نَّتَّبِعُهُ} [القمر: 24] و{قالواْ مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا} [ياس: 15] إشارة إلى أنه كيف يجوز اختصاصكم بهذه المنزلة الرفيعة مع اشتراكنا في الحقيقة واللوازم وأما الإبطال فلأنه إذا كان واحدًا منهم ويرى بين أظهرهم، وظهر عليه ما عجز عنه كلهم ومن بعدهم كان يجب عليهم أن يقولوا هذا ليس من عنده ولا من عند أحد من جنسنا، فهو من عند الله بخلاف ما لو جاءهم واحد من خلاف جنسهم وأتى بما يعجزون عنه، فإنهم كانوا يقولون نحن لا نقدر لأن لكل نوع خاصية، فإن خاصية النعامة بلع النار، والطيور الطير في الهواء، وابن آدم لا يقدر عليه فإن قيل الإبطال جائز لأن قولهم كان باطلًا، ولكن تقرير الباطل كيف يجوز، نقول المبين لبطلان الكلام يجب أن يورده على أبلغ ما يمكن ويذكر فيه كل ما يتوهم أنه دليل عليه ثم يبطله، فلذلك قال عجبتم بسبب أنه منكم، وهو في الحقيقة سبب لهذا التعجب، فإن قيل النبي صلى الله عليه وسلم كان بشيرًا ونذيرًا والله تعالى في جميع المواضع قدم كونه بشيرًا على كونه نذيرًا، فلم لم يذكر: عجبوا أن جاءهم بشير منهم؟ نقول هو لما لم يتعين للبشارة موضعًا كان في حقهم منذرًا لا غير.
ثم قال تعالى: {فَقال الكافرون هذا شيء عَجِيبٌ}.
قال الزمخشري هذا تعجب آخر من أمر آخر وهو الحشر الذي أشار إليه بقوله: {أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ} [ق: 3] فعجبوا من كونه منذرًا من وقوع الحشر، ويدل عليه النظر في أول سورة ص حيث قال فيه {وَعَجِبُواْ أَن جَاءهُم مٌّنذِرٌ} [ص: 4] وقال: {أَجَعَلَ الآلهة إلها واحدا إِنَّ هذا لَشَىْء عُجَابٌ} [ص: 5] ذكر تعجبهم من أمرين والظاهر أن قولهم {هذا شيء عَجِيبٌ} إشارة إلى مجيء المنذر لا إلى الحشر ويدل عليه وجوه الأول: هو أن هناك ذكر {إِنَّ هذا لَشَىْء عُجَابٌ} بعد الاستفهام الإنكاري فقال: {أَجَعَلَ الآلهة إلها واحدا إِنَّ هذا لَشَىْء عُجَابٌ} وقال هاهنا {هذا شيء عَجِيبٌ} ولم يكن ما يقع الإشارة إليه إلا مجيء المنذر.
ثم قالوا: {أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ} الثاني: هاهنا وجد بعد الاستبعاد بالاستفهام أمر يؤدي معنى التعجب وهو قولهم {ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ} فإنه استبعاد وهو كالتعجب فلو كان التعجب أيضًا عائدًا إليه لكان كالتكرار، فإن قيل التكرار الصريح يلزم من جعل قولك {هذا شيء عَجِيبٌ} عائدًا إلى مجيء المنذر، فإن تعجبهم منه علم من قوله: {عَجِبُواْ أَن جَاءهُمْ} فقوله: {هذا شيء عَجِيبٌ} يكون تكرارًا، نقول ذلك ليس بتكرار بل هو تقرير، وذلك لأنه لما قال: {بَلْ عَجِبُواْ} بصيغة الفعل وجاز أن يتعجب الإنسان مما لا يكون عجيبًا كما قال تعالى: {أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله} [هود: 73] ويقال في العرف لا وجه لتعجبك مما ليس بعجب فكأنهم لما عجبوا قيل لهم لا معنى لفعلكم وعجبكم فقالوا {هذا شيء عَجِيبٌ} فكيف لا نعجب منه، ويدل عليه أنه تعالى قال هاهنا {فَقال الكافرون} بحرف الفاء، وقال في ص.
{وَقال الكافرون هذا ساحر كَذَّابٌ} [ص: 4] لأن قولهم {ساحر كَذَّابٌ} كان تعنتًا غير مرتب على ما تقدم، و{هذا شيء عَجِيبٌ} أمر مرتب على ما تقدم أي عجبوا وأنكروا عليه ذلك، فقالوا {هذا شيء عَجِيبٌ} فكيف لا نعجب منه، ويدل عليه أيضًا قوله تعالى: {ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ} [ق: 3] بلفظ الإشارة إلى البعد، وقوله هذا إشارة إلى الحاضر القريب، فينبغي أن يكون المشار إليه بذلك غير المشار إليه بهذا، وذلك لا يصح إلا على قولنا.
{أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3)}.
فإنهم لما أظهروا العجب من رسالته أظهروا استبعاد كلامه، وهذا كما قال تعالى عنهم {قالواْ مَا هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءابَاؤُكُمْ} [سبأ: 43]، {وَقالواْ مَا هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُّفْتَرًى} [سبأ: 43] وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
فقوله: {أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا} إنكار منهم بقول أو بمفهوم دل عليه قوله تعالى: {جَاءهُمْ مُّنذِرٌ} [ق: 2] لأن الإنذار لما لم يكن إلا بالعذاب المقيم والعقاب الأليم، كان فيه الإشارة للحشر، فقالوا {أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا}.
المسألة الثانية:
ذلك إشارة إلى ما قاله وهو الإنذار، وقوله: {هذا شيء عَجِيبٌ} [ق: 2] إشارة إلى المجيء على ما قلنا، فلما اختلفت الصفتان نقول المجيء والجائي كل واحد حاضر.
وأما الإنذار وإن كان حاضرًا لكن لكون المنذر به لما كان غير حاضر قالوا فيه ذلك، والرجع مصدر رجع يرجع إذا كان متعديًا، والرجوع مصدره إذا كان لازمًا، وكذلك الرجعي مصدر عند لزومه، والرجع أيضًا يصح مصدرًا للازم، فيحتمل أن يكون المراد بقوله: {ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ} أي رجوع بعيد، ويحتمل أن يكون المراد الرجع المتعدي، ويدل على الأول قوله تعالى: {إِنَّ إلى رَبّكَ الرجعى} [العلق: 8] وعلى الثاني قوله تعالى: {أَءنَّا لَمَرْدُودُونَ} [النازعات: 10] أي مرجعون فإنه من الرجع المتعدي، فإن قلنا هو من المتعدي، فقد أنكروا كونه مقدورًا في نفسه.
{قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4)}.
إشارة إلى دليل جواز البعث وقدرته تعالى عليه، وذلك لأن الله تعالى بجميع أجزاء كل واحد من الموتى لا يشتبه عليه جزء أحد على الآخر، وقادر على الجمع والتأليف، فليس الرجوع منه ببعد، وهذا كقوله تعالى: {وَهُوَ الخلاق العليم} [ياس: 81] حيث جعل للعلم مدخلًا في الإعادة، وقوله: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرض} يعني لا تخفى علينا أجزاؤهم بسبب تشتتها في تخوم الأرضين، وهذا جواب لما كانوا يقولون {أَءذَا ضَلَلْنَا في الأرض} [السجدة: 10] يعني أن ذلك إشارة إلى أنه تعالى كما يعلم أجزاؤهم يعلم أعمالهم من ظلمهم، وتعديهم بما كانوا يقولون وبما كانوا يعملون، ويحتمل أن يقال معنى قوله تعالى: {وَعِندَنَا كتاب حَفِيظٌ} هو أنه عالم بتفاصيل الأشياء، وذلك لأن العلم إجمالي وتفصيلي، فالإجمالي كما يكون عند الإنسان الذي يحفظ كتابًا ويفهمه، ويعلم أنه إذا سئل عن أية مسألة تكون في الكتاب يحضر عنده الجواب، ولكن ذلك لا يكون نصب عينيه حرفًا بحرف، ولا يخطر بباله في حالة بابًا بابًا، أو فصلًا فصلًا، ولكن عند العرض على الذهن لا يحتاج إلى تجديد فكر وتحديد نظر، والتفصيلي مثل الذي يعبر عن الأشياء، والكتاب الذي كتب فيه تلك المسائل، وهذا لا يوجد عند الإنسان إلا في مسألة أو مسألتين.
أما بالنسبة إلى كتاب فلا يقال: {وَعِندَنَا كتاب حَفِيظٌ} يعني العلم عندي كما يكون في الكتاب أعلم جزءًا جزءًا وشيئًا شيئًا، والحفيظ يحتمل أن يكون بمعنى المحفوظ، أي محفوظ من التغيير والتبديل، ويحتمل أن يكون بمعنى الحافظ، أي حافظ أجزاءهم وأعمالهم بحيث لا ينسى شيئًا منها، والثاني هو الأصح لوجهين أحدهما: أن الحفيظ بمعنى الحافظ وارد في القرآن، قال تعالى: {وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [الأنعام: 104] وقال تعالى: {والله حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ} [الشورى: 6] ولأن الكتاب على ما ذكرنا للتمثيل فهو يحفظ الأشياء، وهو مستغن عن أن يحفظ.
وقوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُواْ بالحق}.
رد عليهم، فإن قيل ما المضروب عنه، نقول فيه وجهان أحدهما: تقديره لم يكذب المنذر، بل كذبوا هم، وتقديره هو أنه تعالى لما قال عنهم إنهم قالوا {هذا شيء عَجِيبٌ} [ق: 2] كان في معنى قولهم: إن المنذر كاذب، فقال تعالى: لم يكذب المنذر، بل هم كذبوا، فإن قيل: ما الحق؟ نقول يحتمل وجوهًا الأول: البرهان القائم على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم الثاني: الفرقان المنزل وهو قريب من الأول، لأنه برهان الثالث: النبوة الثابتة بالمعجزة القاهرة فإنها حق الرابع: الحشر الذي لابد من وقوعه فهو حق، فإن قيل بين لنا معنى الباء في قوله تعالى: {بالحق} وأية حاجة إليها، يعني أن التكذيب متعد بنفسه، فهل هي للتعدية إلى مفعول ثان أو هي زائدة، كما في قوله تعالى: {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيّكُمُ المفتون} [القلم: 5، 6] نقول فيه بحث وتحقيق، وهي في هذا الموضع لإظهار معنى التعدية، وذلك لأن التكذيب هو النسبة إلى الكذب، لكن النسبة تارة توجد في القائل، وأخرى في القول، تقول: كذبني فلان وكنت صادقًا، وتقول: كذب فلان قول فلان، ويقال كذبه، أي جعله كاذبًا، وتقول: قلت لفلان زيد يجيء غدًا، فتأخر عمدًا حتى كذبني وكذب قولي، والتكذيب في القائل يستعمل بالباء وبدونها، قال تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ المرسلين} [الشعراء: 141] وقال تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بالنذر} [القمر: 23] وفي القول كذلك غير أن الاستعمال في القائل بدون الباء أكثر، قال تعالى: {فَكَذَّبُوهُ} [الأعراف: 64] وقال: {وَإِن يُكَذّبُوكَ فَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ} [فاطر: 4] إلى غير ذلك، وفي القول الاستعمال بالباء أكثر، قال الله تعالى: {كَذَّبُواْ بآياتنا كُلَّهَا} [القمر: 42] وقال: {بَلْ كَذَّبُواْ بالحق} وقال تعالى: {وَكَذَّبَ بالصدق إِذْ جَاءهُ} [الزمر: 32] والتحقيق فيه هو أن المفعول المطلق هو المصدر، لأنه هو الذي يصدر من الفاعل، فإن من ضرب لم يصدر منه غير الضرب، غير أن له محلًا يقع فيه فيسمى مضروبًا، ثم إذا كان ظاهرًا لكونه محلًا للفعل يستغني بظهوره عن الحرف فيعدى من غير حرف، يقال ضربت عمرًا، وشربت خمرًا، للعلم بأن الضرب لابد له من محل يقوم به، والشرب لا يستغني عن مشروب يتحقق فيه، وإذا قلت مررت يحتاج إلى الحرف، ليظهر معنى التعدية لعدم ظهوره في نفسه، لأن من قال: مر السحاب يفهم منه مرور ولا يفهم منه من مر به، ثم إن الفعل قد يكون في الظهور دون الضرب والشرب، وفي الخفاء دون المرور، فيجوز الإتيان فيه بدون الحرف لظهوره الذي فوق ظهور المرور، ومع الحرف لكون الظهور دون ظهور الضرب، ولهذا لا يجوز أن تقول: ضربت بعمرو، إلا إذا جعلته آلة الضرب.
أما إذا ضربته بسوط أو غيره، فلا يجوز فيه زيادة الباء، ولا يجوز مروا به إلا مع الاشتراك، وتقول مسحته ومسحت به وشكرته وشكرت له، لأن المسح إمرار اليد بالشيء فصار كالمرور، والشكر فعل جميل غير أنه يقع بمحسن، فالأصل في الشكر، الفعل الجميل، وكونه واقعًا بغيره كالبيع بخلاف الضرب، فإنه إمساس جسم بجسم بعنف، فالمضروب داخل في مفهوم الضرب أولًا، والمشكور داخل في مفهوم الشكر ثانيًا، إذا عرفت هذا فالتكذيب في القائل ظاهر لأنه هو الذي يصدق أو يكذب، وفي القول غير ظاهر فكان الاستعمال فيه بالباء أكثر والباء فيه لظهور معنى التعدية.
وقوله: {لَمَّا جَاءهُمْ} في الجائي وجهان: أحدهما: أنه هو المكذب تقديره: كذبوا بالحق لما جاءهم الحق، أي لم يؤخروه إلى الفكر والتدبر ثانيهما: الجائي هاهنا هو الجائي في قوله تعالى: {بَلْ عَجِبُواْ أَن جَاءهُمْ مُّنذِرٌ مّنْهُمْ} [ق: 2] تقديره: كذبوا بالحق لما جاءهم المنذر، والأول لا يصح على قولنا الحق وهو الرجع، لأنهم لا يكذبون به وقت المجيء بل يقولون {هَذَا مَا وَعَدَ الرحمن} [ياس: 52].
وقوله: {فَهُمْ في أَمْرٍ مَّرِيجٍ} أي مختلف مختلط قال الزجاج وغيره: لأنهم تارة يقولون ساحر وأخرى شاعر، وطورًا ينسبونه إلى الكهانة، وأخرى إلى الجنون، والأصح أن يقال: هذا بيان الاختلاف المذكور في الآيات، وذلك لأن قوله تعالى: {بَلْ عَجِبُواْ} يدل على أمر سابق أضرب عنه، وقد ذكرنا أنه الشك وتقديره: والقرآن المجيد، إنك لمنذر، وإنهم شكوا فيك، بل عجبوا، بل كذبوا.
وهذه مراتب ثلاث الأولى: الشك وفوقها التعجب، لأن الشاك يكون الأمران عنده سيين، والمتعجب يترجح عنده اعتقاد عدم وقوع العجيب لكنه لا يقطع به والمكذب الذي يجزم بخلاف ذلك، فكأنهم كانوا شاكين وصاروا ظانين وصاروا جازمين فقال: {فَهُمْ في أَمْرٍ مَّرِيجٍ} ويدل عليه الفاء في قوله: {فَهُمُ} لأنه حينئذ يصير كونهم {فِى أَمْرٍ مَّرِيجٍ} مرتبًا على ما تقدم وفيما ذكروه لا يكون مرتبًا.
فإن قيل: المريج، المختلط، وهذه أمور مرتبة متميزة على مقتضى العقل، لأن الشاك ينتهي إلى درجة الظن، والظان ينتهي إلى درجة القطع، وعند القطع لا يبقى الظن، وعند الظن لا يبقى الشك، وأما ما ذكروه ففيه يحصل الاختلاط لأنهم لم يكن لهم في ذلك ترتيب، بل تارة كانوا يقولون كاهن وأخرى مجنون، ثم كانوا يعودون إلى نسبته إلى الكهانة بعد نسبته إلى الجنون وكذا إلى الشعر بعد السحر وإلى السحر بعد الشعر فهذا هو المريج.
نقول كان الواجب أن ينتقلوا من الشك إلى الظن بصدقه لعلمهم بأمانته واجتنابه الكذب طول عمره بين أظهرهم، ومن الظن إلى القطع بصدقه لظهور المعجزات القاهرة على يديه ولسانه، فلما غيروا الترتيب حصل عليه المرج ووقع الدرك مع المرج، وأما ما ذكروه فاللائق به تفسير قوله تعالى: {إِنَّكُمْ لَفِى قول مُّخْتَلِفٍ} [الذاريات: 8] لأن ما كان يصدر منهم في حقه كان قولا مختلفًا، وأما الشك والظن والجزم فأمور مختلفة، وفيه لطيفة وهي أن إطلاق لفظ المريج على ظنهم وقطعهم ينبىء عن عدم كون ذلك الجزم صحيحًا لأن الجزم الصحيح لا يتغير، وكان ذلك منهم واجب التغير فكان أمرهم مضطربًا، بخلاف المؤمن الموفق فإنه لا يقع في اعتقاده تردد ولا يوجد معتقده تعدد. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {ق والقرآن المجيد}.
قرأ العامة (قاف) بالجزم.
وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق ونصر ابن عاصم (قاف) بكسر الفاء؛ لأن الكسر أخو الجزم، فلما سكن آخره حرّكوه بحركة الخفض.
وقرأ عيسى الثقفيّ بفتح الفاء حرّكه إلى أخف الحركات.
وقرأ هارون ومحمد بن السَّمَيْقَع (قاف) بالضم؛ لأنه في غالب الأمر حركة البناء نحو منذُ وقطُّ وقبلُ وبعدُ.
واختلف في معنى (قا) ما هو؟ فقال ابن زيد وعكرمة والضحاك: هو جبل محيط بالأرض من زمردة خضراء اخضرت السماء منه، وعليه طَرَفَا السماءِ والسماء عليه مَقْبِيَّةٌ، وما أصاب الناسُ من زمرد كان مما تساقط من ذلك الجبل.
ورواه أبو الجوزاء عن عبد الله بن عباس.
قال الفرّاء: كان يجب على هذا أن يظهر الإعراب في (قا)؛ لأنه اسم وليس بهجاء.
قال: ولعل القاف وحدها ذكرت من اسمه؛ كقول القائل:
قلتُ لها قِفِي فقالتْ قافْ

أي أنا واقفة.
وهذا وجه حسن وقد تقدّم أوّل (البقرة).
وقال وهب: أشرف ذو القرنين على جبل قاف فرأى تحته جبالًا صغارًا، فقال له: ما أنت؟ قال: أنا قاف؛ قال: فما هذه الجبال حولك؟ قال: هي عروقي وما من مدينة إلا وفيها عرق من عروقي، فإذا أراد الله أن يزلزل مدينة أمرني فحركت عرقي ذلك فتزلزت تلك الأرض؛ فقال لَه: يا قاف أخبرني بشيء من عظمة الله؛ قال: إن شأن ربِّنا لعظيمٌ، وإن ورائي أرضًا مسيرة خمسمائة عام في خمسمائة عام من جبال ثلج يحطم بعضها بعضا، لولا هي لاحترقت من حرّ جهنم.
فهذا يدل على أن جهنم على وجه الأرض والله أعلم بموضعها؛ وأين هي من الأرض.
قال: زدني، قال: إن جبريل عليه السلام واقف بين يدي الله تُرْعَد فرائصُه، يخلق الله من كل رِعدة مائة ألف ملك، فأولئك الملائكة وقوف بين يدي الله تعالى منكسو رؤوسهم، فإذا أذن الله لهم في الكلام قالوا: لا إله إلا الله؛ وهو قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفًّا لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَقال صَوَابًا} [النبأ: 38] يعني قول: لا إله إلا الله.
وقال الزجاج: قوله (قا) أي قُضِيَ الأمر، كما قيل في (حما) أي حُمَّ الأمرُ.
وقال ابن عباس: (قا) اسم من أسماء الله تعالى أقسم به.