فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



المسألة الثانية:
قال: {تَبْصِرَةً وذكرى لِكُلّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} [ق: 8] فقيد العبد بكونه منيبًا وجعل خلقها تبصرة لعباده المخلصين وقال: {رّزْقًا لّلْعِبَادِ} مطلقًا لأن الرزق حصل لكل أحد، غير أن المنيب يأكل ذاكرًا شاكرًا للإنعام، وغيره يأكل كما تأكل الأنعام فلم يخصص الرزق بقيد.
المسألة الثالثة:
ذكر في هذه الآية أمور ثلاثة أيضًا وهي إنبات الجنات والحب والنخل كما ذكر في السماء والأرض في كل واحدة أمورًا ثلاثة، وقد ثبت أن الأمور الثلاثة في الآيتين المتقدمين متناسبة، فهل هي كذلك في هذه الآية؟ نقول قد بينا أن الأمور الثلاثة إشارة إلى الأجناس الثلاثة، وهي التي يبقى أصلها سنين، ولا تحتاج إلى عمل عامل والتي لا يبقى أصلها وتحتاج كل سنة إلى عمل عامل، والتي يجتمع فيها الأمران وليس شيء من الثمار والزروع خارجًا عنه أصلًا كما أن أمور الأرض منحصرة في ثلاثة: ابتداء وهو المد، ووسط وهو النبات بالجبال الراسية، وثالثها هو غاية الكمال وهو الإنبات والتزيين بالزخارف.
ثم قال تعالى: {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا} عطفًا على {فأَنبَتْنَا بِهِ} [ق: 9] وفيه بحثان:
الأول: إن قلنا إن الاستدلال بإنبات الزرع وإنزال الماء كان لإمكان البقاء بالرزق فقوله: {وَأَحْيَيْنَا بِهِ} إشارة إلى أنه دليل على الإعادة كما أنه دليل على البقاء، ويدل عليه قوله تعالى: {كذلك الخروج} فإن قيل كيف يصح قولك استدلالًا، وإنزال الماء كان لبيان البقاء مع أنه تعالى قال بعد ذلك {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا}.
وقال: {كذلك الخروج} فيكون الاستدلال على البقاء قبل الاستدلال على الإحياء والإحياء سابق على الإبقاء، فينبغي أن يبين أولًا أنه يحيي الموتى، ثم يبين أنه يبقيهم، نقول لما كان الاستدلال بالسموات والأرض على الإعادة كافيًا بعد ذكر دليل الإحياء ذكر دليل الإبقاء، ثم عاد واستدرك فقال هذا الدليل الدال على الإبقاء دال على الإحياء، وهو غير محتاج إليه لسبق دليلين قاطعين فبدأ ببيان البقاء وقال: {فأَنبَتْنَا بِهِ جنات} [ق: 9] ثم ثنى بإعادة ذكر الإحياء فقال: {وَأَحْيَيْنَا بِهِ} وإن قلنا إن الاستدلال بإنزال الماء وإنبات الزرع لا لبيان إمكان الحشر فقوله: {وَأَحْيَيْنَا بِهِ} ينبغي أن يكون مغايرًا لقوله: {فَأَنبَتْنَا بِهِ} بخلاف ما لو قلنا بالقول الأول لأن الإحياء، وإن كان غير الإنبات لكن الاستدلال لما كان به على أمرين متغايرين جاز العطف، تقول خرج للتجارة وخرج للزيارة، ولا يجوز أن يقال خرج للتجارة وذهب للتجارة إلا إذا كان الذهاب غير الخروج فنقول الإحياء غير إنبات الرزق لأن بإنزال الماء من السماء يخضر وجه الأرض ويخرج منها أنواع من الأزهار ولا يتغذى به ولا يقتات، وإنما يكون به زينة وجه الأرض وهو أعم من الزرع والشجر لأنه يوجد في كل مكان والزرع والثمر لا يوجدان في كل مكان، فكذلك هذا الإحياء، فإن قيل فكان ينبغي أن يقدم في الذكر لأن اخضرار وجه الأرض يكون قبل حصول الزرع والثمر، ولأنه يوجد في كل مكان بخلاف الزرع والثمر، نقول لما كان إنبات الزرع والثمر أكمل نعمة قدمه في الذكر.
الثاني: في قوله: {بَلْدَةً مَّيْتًا} نقول جاز إثبات التاء في الميت وحذفها عند وصف المؤنث بها، لأن الميت تخفيف للميت، والميت فيعل بمعنى فاعل فيجوز فيه إثبات التاء لأن التسوية في الفعيل بمعنى المفعول كقوله: {إن رحمة الله قريب من المحسنين} [الأعراف: 56] فإن قيل لم سوى بين المذكر والمؤنث في الفعيل بمعنى المفعول؟ قلنا لأن الحاجة إلى التمييز بين الفاعل والمفعول أشد من الحاجة إلى التمييز بين المفعول المذكر والمفعول المؤنث نظرًا إلى المعنى ونظرًا إلى اللفظ، فأما المعنى فظاهر، وأما اللفظ فلأن المخالفة بين الفاعل والمفعول في الوزن والحرف أشد من المخالفة بين المفعول والمفعول له، إذا علم هذا فنقول في الفعيل لم يتميز الفاعل بحرف فإن فعيلًا جاء بمعنى الفاعل كالنصير والبصير وبمعنى المفعول كالكسير والأسير، ولا يتميز بحرف عند المخالفة إلا الأقوى فلا يتميز عند المخالفة الأدنى، والتحقيق فيه أن فعيلًا وضع لمعنى لفظي، والمفعول وضع لمعنى حقيقي فكأن القائل قال استعملوا لفظ المفعول للمعنى الفلاني، واستعملوا لفظ الفعيل مكان لفظ المفعول فصار فعيل كالموضوع للمفعول، والمفعول كالموضوع للمعنى، ولما كان تغير اللفظ تابعًا لتغير المعنى تغير المفعول لكونه بإزاء المعنى، ولم يتغير الفعيل لكونه بإزاء اللفظ في أول الأمر، فإن قيل فما الفرق بين هذا الموضع وبين قوله.
{وَءايَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة أحييناها} [ياس: 33] حيث أثبت التاء هناك؟ نقول الأرض أراد بها الوصف فقال: {الأرض الميتة} لأن معنى الفاعلية ظاهر هناك والبلدة الأصل فيها الحياة، لأن الأرض إذا صارت حية صارت آهلة، وأقام بها الناس وعمروها فصارت بلدة فأسقط التاء لأن معنى الفاعلية ثبت فيها والذي بمعنى الفاعل لا يثبت فيه التاء، وتحقيق هذا قوله: {بَلْدَةٌ طَيّبَةٌ} [سبأ: 15] حيث أثبت التاء حيث ظهر بمعنى الفاعل، ولم يثبت حيث لم يظهر وهذا بحث عزيز.
قوله تعالى: {كذلك الخروج} أي كالإحياء {الخروج} فإن قيل الإحياء يشبه به الإخراج لا الخروج فنقول تقديره {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا} فتشققت وخرج منها النبات كذلك تشقق ويخرج منها الأموات، وهذا يؤكد قولنا الرجع بمعنى الرجوع في قوله: {ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ} [ق: 3] لأنه تعالى بيّن لهم ما استبعدوه فلو استبعدوا الرجع الذي هو من المتعدي لناسب أن يقول، كذلك الإخراج، ولما قال: {كذلك الخروج} فهم أنهم أنكروا الرجوع فقال: {كذلك الخروج} نقول فيه معنى لطيف على القول الآخر، وذلك لأنهم استبعدوا الرجع الذي هو من المتعدي بمعنى الإخراج والله تعالى أثبت الخروج وفيهما مبالغة تنبيهًا على بلاغة القرآن مع أنها مستغنية عن البيان، ووجهها هو أن الرجع والإخراج كالسبب للرجوع والخروج، والسبب إذا انتفى ينتفي المسبب جزمًا، وإذا وجد قد يتخلف عنه المسبب لمانع تقول كسرته فلم ينكسر وإن كان مجازًا والمسبب إذا وجد فقد وجد سببه وإذا انتفى لا ينتفي السبب لما تقدم، إذا علم هذا فهم أنكروا وجود السبب ونفوه وينتفي المسبب عند انتفائه جزمًا فبالغوا وأنكروا الأمر جميعًا، لأن نفي السبب نفي المسبب، فأثبت الله الأمرين بالخروج كما نفوا الأمرين جميعًا بنفي الإخراج. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {أَفَلَمْ ينظروا إِلَى السماء فَوْقَهُمْ}.
نظر اعتبار وتفكر، وأن القادر على إيجادها قادر على الإعادة.
{كَيْفَ بَنَيْنَاهَا} فرفعناها بلا عمد {وزيناها} بالنجوم {وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} جمع فرج وهو الشق؛ ومنه قول امرئ القيس:
تَسُدُّ بِهِ فَرْجَهَا مِنْ دُبُرْ

وقال الكسائي: ليس فيها تفاوت ولا اختلاف ولا فتوق.
{والأرض مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} تقدّم في (الرعد) بيانه.
{وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ} أي من كل نوع من النبات {بَهِيجٍ} أي حسن يسر الناظرين؛ وقد تقدّم في (الحج) بيانه.
{تَبْصِرَةً} أي جعلنا ذلك تبصرة لندلَّ به على كمال قدرتنا.
وقال أبو حاتم: نصب على المصدر؛ يعني جعلنا ذلك تبصيرًا وتنبيهًا على قدرتنا {وذكرى} معطوف عليه.
{لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} راجع إلى الله تعالى مفكر في قدرته.
قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السماء} أي من السحاب {مَاءً مُّبَارَكًا} أي كثير البركة.
{فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الحصيد} التقدير: وحبّ النبت الحصيد وهو كل ما يحصد.
هذا قول البصريين.
وقال الكوفيون: هو من باب إضافة الشيء إلى نفسه، كما يقال: مسجد الجامِع وربيعُ الأوّلِ وحقُّ اليقينِ وحبل الورِيدِ ونحوها؛ قاله الفرّاء.
والأصل الحبّ الحصيد فحذفت الألف واللام وأضيف المنعوت إلى النعت.
وقال الضحاك: حبّ الحصيد البُرُّ والشَّعيرُ.
وقيل: كلّ حبٍّ يُحْصد ويُدّخر ويُقْتات.
{والنخل بَاسِقَاتٍ} نصب على الحال ردًّا على قوله: {وَحَبَّ الحصيد} و{بَاسِقَاتٍ} حال.
والباسقات الطوال؛ قاله مجاهد وعكرمة.
وقال قتادة وعبد الله بن شدّاد: بُسُوقها استقامتها في الطول.
وقال سعيد بن جبير: مستويات.
وقال الحسن وعكرمة أيضًا والفرّاء: مواقير حوامل؛ يقال للشاة بسَقت إذا ولدت، قال الشاعر:
فَلَمَّا تَركْنا الدارَ ظَلَّتْ مُنِيفَةً ** بِقرآنَ فيه الباسقات المواقرُ

والأوّل في اللغة أكثر وأشهر؛ (يقال) بَسَقَ النخلُ بُسوقًا إذا طال.
قال:
لنا خمرٌ وليست خمر كَرْمٍ ** ولكنْ مِن نِتاجِ الباسِقاتِ

كِرامٌ في السماء ذَهَبْنَ طولًا ** وفاتَ ثِمارُها أيدي الجُنَاةِ

ويقال: بسق فلان على أصحابه أي علاهم، وأبسقت الناقةُ إذا وقع في ضرعها اللبن قبل النِّتاج فهي مُبْسِق ونُوقٌ مَبَاسِيق.
وقال قطبة بن مالك: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقرأ {بَاصِقَاتٍ} بالصاد؛ ذكره الثعلبي.
قلت: الذي في صحيح مسلم عن قطبة بن مالك قال: صلّيت وصلّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ: {ق والقرآن المجيد} حتى قرأ {والنخل بَاسِقَاتٍ} قال فجعلت أردّدها ولا أدري ما قال، إلا أنه لا يجوز إبدال الصاد من السين لأجل القاف.
{لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ} الطلع هو أوّلُ ما يخرج من ثمر النخل؛ يقال: طَلَعَ الطلعُ طُلوعًا وأطلعت النخلةُ، وطَلْعها كُفُرّاها قبل أن ينشق.
{نضِيدٌ} أي متراكب قد نُضِّد بعضُه على بعض.
وفي البخاري: (النَّضِيدُ) الكُفُرّى مادام في أكمامه ومعناه منضود بعضه على بعض؛ فإذا خرج من أكمامه فليس بنضيد.
{رِّزْقًا لِّلْعِبَادِ} أي رزقناهم رزقًا، أو على معنى أنبتناها رزقًا؛ لأن الإنبات في معنى الرزق، أو على أنه مفعول له أي أنبتناها لرزقهم، والرزق ما كان مهيأ للإنتفاع به.
وقد تقدم القول فيه.
{وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ الخروج} أي من القبور أي كما أحيا الله هذه الأرض الميتة فكذلك يخرجكم أحياء بعد موتكم؛ فالكاف في محل رفع على الابتداء.
وقد مضى هذا المعنى في غير موضع.
وقال: {مَيْتًا} لأن المقصود المكان ولو قال ميتة لجاز. اهـ.

.قال الألوسي:

{أَفَلَمْ يَنظُرُواْ} أي أغفلوا أو عموا فلم ينظروا حين كفروا بالبعث {إِلَى السماء فَوْقَهُمْ} بحيث يشاهدونها كل وقت، قيل: وهذا ظاهر على ما هو المعروف بين الناس من أن المشاهد هو السماء التي هي الجرم المخصوص الذي يطوى يوم القيامة وقد وصف في الآيات والأحاديث بما وصف.
وأما على ما ذهب إليه الفلاسفة من أن المشاهد إنما هو كرة البخار أو هواء ظهر بهذا اللون ولا لون له حقيقة ودون ذلك الجرم ففيه خفاء، وقال بعض الأفاضل في هذا المقام: إن ظواهر الآيات والأخبار ناطقة بأن السماء مرئية، وما ذكره الفلاسفة المتقدمون من أن الأفلاك أجرام صلبة شفافة لا ترى غير مسلم أصلًا، وكذا كون السموات السبع هي الأفلاك السبعة غير مسلم عند المحققين، وكذا وجود كرة البخار وأن ما بين السماء والأرض هواء مختلف الأجزاء في اللطافة فكلما علا كان ألطف حتى أنه ربما لا يصلح للتعيش ولا يمنع خروج الدم من المسام الدقيقة جدًا لمن وصل إليه، وإن رؤية الجو بهذا اللون لا ينافي رؤية السماء حقيقة وإن لم تكن في نفسها ملونة به ويكون ذلك كرؤية قعر البحر أخضر من وراء مائة ونحو ذلك مما يرى بواسطة شيء على لون وهو في نفسه على غير ذلك اللون، بل قيل: إن رؤية السماء مع وجود كرة البخار على نحو رؤية الأجرام المضيئة كالقمر وغيره.
وأنت تعلم أن الأصحاب مع الظواهر حتى يظهر دليل على امتناع ما يدل عليه وحينئذٍ يؤولونها، وأن التزام التطبيق بين ما نطقت به الشريعة وما قاله الفلاسفة مع إكذاب بعضه بعضًا أصعب من المشي على الماء أو العروج إلى السماء، وأنا أقول: لا بأس بتأويل ظاهر تأويلًا قريبًا لشيء من الفلسفة إذا تضمن مصلحة شرعية ولم يستلزم مفسدة دينية، وأرى الإنصاف من الدين، ورد القول احتقارًا لقائله غير لائق بالعلماء المحققين، هذا وحمل بعض {السماء} هاهنا على جنس الأجرام العلوية وهو كما ترى، والظاهر أنها الجرم المخصوص وأنها السماء الدنيا أي أفلم ينظروا إلى السماء الدنيا {كَيْفَ بنيناها} أحكمناها ورفعناها بغير عمد {وزيناها} للناظرين بالكواكب المرتبة على أبدع نظام {وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} أي من فتوق وشقوق، والمراد سلامتها من كل عيب وخلل فلا ينافي القول بأن لها أبوابًا، وزعم بعضهم أن المراد متلاصقة الطباق وهو ينافي ما ورد في الحديث من أن بين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام، ولعل تأخير هذا لمراعاة الفواصل.
وقيل هاهنا {أَفَلَمْ يَنظُرُواْ} بالفاء وفي موضع آخر {أَوَ لَمْ يَنظُرُواْ} [الأعراف: 185] بالواو لسبق إنكار الرجع فناسب التعقيب بما يشعر بالاستدلال عليه، وجىء بالنظر دون الرؤية كما في الأحقاف استبعادًا لاستبعادهم فكأنه قيل: النظر كاف في حصول العلم بإمكان الرجع ولا حاجة إلى الرؤية قاله الإمام، واحتج بقوله سبحانه: {مَّا لَهَا مِن فُرُوجٍ} للفلاسفة على امتناع الخرق، وأنت تعلم أن نفي الشيء لا يدل على امتناعه، على أنك قد سمعت المراد بذلك، ولا يضر كونه ليس معنى حقيقيًا لشيوعه.
{والأرض مددناها}.
بسطناها وهو لا ينافي كريتها التامة أو الناقصة من جهة القطبين لمكان العظم {وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رواسي} جبالًا ثوابت تمنعها من الميد كما يدل عليه قوله تعالى في آية أخرى: {رَوَاسِىَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل: 15] وهو ظاهر في عدم حركة الأرض، وخالف في ذلك بعض الفلاسفة المتقدمين وكل الفلاسفة الموجودين اليوم، ووافقهم بعض المغاربة من المسلمين فزعموا أنها تتحرك بالحركة اليومية بما فيها من العناصر وأبطلوا أدلة المتقدمين العقلية على عدم حركتها، وهل يكفر القائل بذلك الذي يغلب على الظن لا {وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ} صنف {بَهِيجٍ} حسن يبهج ويسر من نظر إليه.
{تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8)}.
{تَبْصِرَةً وذكرى لِكُلّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} راجع إلى ربه، وهو مجاز عن التفكر في بدائع صنعه سبحانه بتنزيل التفكر في المصنوعات منزلة الرجوع إلى صانعها، و{تَبْصِرَةً وذكرى} علتان للأفعال السابقة معنى وإن انتصبا بالفعل الأخير أو لفعل مقدر بطريق الاستئناف أي فعلنا ما فعلنا تبصيرًا وتذكيرًا، وقال أبو حيان: منصوبان على المصدرية لفعل مقدر من لفظهما أي بصرنا وذكرنا والأول أولى.
وقرأ زيد بن علي {تَبْصِرَةً وذكرى} بالرفع على معنى خلقهما تبصرة وذكرى، وقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السماء مَاء مباركا} أي كثير المنافع شروع في بيان كيفية ما ذكر من إنبات كل زوج بهيج، وهو عطف على {أَنبَتْنَا} [ق: 7] وما بينهما على الوجهين الأخيرين اعتراض مقرر لما قبله ومنبه على ما بعده {فَأَنبَتْنَا بِهِ} أي بذلك الماء {جنات} كثيرة كما يقتضيه المقام أي أشجارًا ذات ثمار {وَحَبَّ الحصيد} أي حب الزرع الذي من شأنه أن يحصد من البر والشعير وأمثالهما، فالإضافة لما بينهما من الملابسة، و{الحصيد} بمعنى المحصود صفة لموصوف مقدر كما أشرنا إليه فليس من قبيل مسجد الجامع ولا من مجاز الأول كما توهم، وتخصيص إنبات حبه بالذكر لأنه المقصود بالذات.