فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ} من النفوس البرة والفاجرة كما هو الظاهر {مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} وإن اختلفت كيفية السوق والشهادة حسب اختلاف النفوس عملًا أي معها ملكان أحدهما يسوقها إلى المحشر والآخر يشهد بعملها، وروى ذلك عن عثمان رضي الله تعالى عنه وغيره، وفي حديث أخرجه أبو نعيم في الحلية عن جابر مرفوعًا تصريح بأن ملك الحسنات وملك السيئات أحدهما سائق والآخر شهيد، وعن أبي هريرة السائق ملك الموت والشهيد النبي صلى الله عليه وسلم وفي رواية أخرى عنه السائق ملك والشهيد العمل وكلاهما كما ترى، وقيل: الشهيد الكتاب الذي يلقاه منشورًا، وعن ابن عباس والضحاك السائق ملك والشهيد جوارح الإنسان، وتعقبه ابن عطية بقوله: وهذا بعيد عن ابن عباس لأن الجوارح إنما تشهد بالمعاصي، وقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ} يعم الصالحين، وقيل: السائق والشهيد ملك واحد والعطف لمغايرة الوصفين أي معها ملك يسوقها ويشهد عليها، وقيل: السائق نفس الجائي والشهيد جوارحه.
وتعقب بأن المعية تأباه والتجريد بعيد، وفيه أيضًا ما تقدم آنفًا عن ابن عطية، وقال أبو مسلم: السائق شيطان كان في الدنيا مع الشخص وهو قول ضعيف، وقال أبو حيان: الظاهر أن {سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} اسما جنس فالسائق ملائكة موكلون بذلك والشهيد الحفظة وكل من يشهد، ثم ذكر أنه يشهد بالخير الملائكة والبقاع، وفي الحديث «لا يسمع مدى صوت المؤذن إنس ولا جن ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة».
و{مَّعَهَا} صفة {نَفْسٌ} أو {كُلٌّ} وما بعده فاعل به لاعتماده أو {مَّعَهَا} خبر مقدم وما بعده مبتدأ.
والجملة في موضع الصفة، واختير كونها مستأنفة استئنافًا بيانًا لأن الأخبار بعد العلم بها أوصاف ومضمون هذه الجملة غير معلوم فلا تكون صفة إلا أن يدعي العلم به وأنت تعلم أن ما ذكر غير مسلم.
وقال الزمخشري: محل {مَّعَهَا سَائِقٌ} النصب على الحال {مَّعَهَا سَائِقٌ} النصف على الحال من {كُلٌّ} لتعرفه بالإضافة إلى ما هو في حكم المعرفة، فإن أصل كل أن يضاف إلى الجمع كأفعل التفضيل فكأنه قيل: كل النفوس يعني أن هذا أصله وقد عدله عنه في الاستعمال للتفرقة بين كل الأفرادي والمجموعي، ولا يخفى أن ما ذكره تكلف لا تساعده قواعد العربية، وقد قال عليه في (البحر): إنه كلام ساقط لا يصدر عن مبتدء في النحو، ثم إنه لا يحتاج إليه فإن الإضافة للنكرة تسوغ مجيء الحال منها، وأيضًا {كُلٌّ} تفيد العموم وهو من المسوغات كما في شرح التسهيل.
وقرأ طلحة {محا سَائِقٌ} بالحاء مثقلة أدغم العين في الهاء فانقبلتا حاء كما قالوا: ذهب محم يريدون معهم.
وقوله تعالى: {لَقَدِ كُنَّا في غَفْلَةٍ مّنْ هذا} محكي بإضمار قول، والجملة استئناف مبني على سؤال نشأ مما قبله كأنه قيل: فماذا يكون بعد النفخ ومجيء كل نفس معها سائق وشهيد؟ فقيل: يقال للكافر الغافر إذا عاين الحقائق التي لم يصدق بها في الدنيا من البعث وغيره لقد كنت في غفلة من هذا الذي تعاينه، فالخطاب للكافر كما قال ابن عباس وصالح بن كيسان، وتنكير الغفلة وجعله فيها وهي فيه يدل على أنها غفلة تامة، وهكذا غفلة الكفرة عن الآخرة وما فيها، وقيل: لجملة محكية بإضمار قول هو صفة لنفس أو حال والخطاب عام أي يقال لكل نفس أو قد قيل لها: لقد كنت، والمراد بالغفلة الذهول مطلقًا سواء كان بعد العلم أم لا، وما من أحد إلا وله غفلة ما من الآخرة وما فيها، وجوز الاستئناف على عموم الخطان أيضًا.
وقرأ الجحدري {لَّقَدْ كُنتَ} بكسر التاء على مخاطبة النفس وهي مؤنثة وتذكيرها في قوله:
يا نفس إنك باللذات مسرور

على تأويلها بالشخص، ولا يلزم في قراءة الجمهور لأن التعبير بالنفس في الحكاية لا يستدعي اعتباره في المحكى كما لا يخفى.
{فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ} الغذاء الحجاب المغطى لأمور المعاد وهو الغفلة والانهماك في المحسوسات والألف بها وقصر النظر عليها، وجعل ذلك غطاء مجازًا، وهو إما غطاء الجسد كله أو العينين، وعلى كليهما يصح قوله تعالى: {فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ} أي نافذ لزوال المانع للابصار، أما على الثاني فظاهر، وأما على الأول فلأن غطاء الجسد كله غطاء للعينين أيضًا فكشفه عنه يستدعي كشفه عنهما.
وزعم بعضهم أن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى كنت في غفلة من هذا الذي ذكرناه من أمر النفخ والبعث ومجيء كل نفس معها سائق وشهيد وغير ذلك فكشفنا عنك غطاء الغفلة بالوحي وتعليم القرآن فبصرك اليوم حديد ترى ما لا يرون وتعلم ما لا يعلمون، ولعمري أنه زعم ساقط لا يوافق السباق ولا السياق.
وفي (البحر) وعن زيد بن أسلم قول في هذه الآية يحرم نقله وهو في كتاب ابن عطية انتهى، ولعله أراد به هذا لكن في دعوى حرمة النقل بحث، وقرأ الجحدري وطلحة بن مصرف بكسر الكافات الثلاثة أعني كاف {عَنكَ} وما بعده على خطاب النفس، ولم ينقل (صاحب اللوامح) الكسر في الكاف إلا عن طلحة وقال: لم أجد عنه في {لَّقَدْ كُنتَ} الكسر فإن كسر فيه أيضًا وإن فتح يكون قد حمل ذلك على لفظ {كُلٌّ} وحمل الكسر فيما بعده على معناه لإضافته إلى {نَفْسٌ} وهو مثل قوله تعالى: {فَلَهُ أَجْرُهُ} [البقرة: 112] وقوله سبحانه بعده {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} [البقرة: 112] انتهى. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ}.
هذا تفصيل لبعض الخلق الأول بذكر خلق الإنسان وهو أهم في هذا المقام للتنبيه على أنه المراد من الخلق الأول وليبنَى عليه {ونعلم ما توسوس به نفس} الذي هو تتميم لإحاطة صفة العلم في قوله: {قد علمنا ما تنقص الأرض منهم} [ق: 4] ولينتقل منه الإنذار بإحصاء أعمال الناس عليها وهو ما استُرسل في وصفه من قوله: {إذ يتلقى المتلقيان} [ق: 17] الخ.
ووصف البعث وصف الجزاء من قوله: {ونفخ في الصور} إلى قوله: {ولدينا مزيد} [ق: 20 35].
وتأكيد هذا الخبر باللام و(قد) مراعًى فيه المتعاطفات وهي {نعلم ما توسوس به نفسه} لأنهم وإن كانوا يعلمون أن الله خلق الناس فإنهم لا يعلمون أن الله عالم بأحوالهم.
و{الإنسان} يعم جميع الناس ولكن المقصود منهم أولًا المشركون لأنهم المسوق إليهم هذا الخبر، وهو تعريض بالإنذار كما يدل عليه قوله بعده {ذلك ما كنت منه تحيد} [ق: 19] وقوله: {لقد كنت في غفلة من هذا} [ق: 22] وقوله: {ذلك يوم الوعيد} [ق: 20].
والبَاء في قوله: {به} زائدة لتأكيد اللصوق، والضمير عائد الصلة كأنه قيل: ما تتكلمه نفسه على طريقة {وامسحوا برؤوسكم} [المائدة: 6].
وفائدة الإخبار بأن الله يعلم ما توسوس به نفس كل إنسان التنبيه عل سعة علم الله تعالى بأحوالهم كلها فإذا كان يعلم حديث النفس فلا عجب أن يعلم ما تنقص الأرض منهم.
والإخبار عن فعل الخلق بصيغة المضيّ ظاهر، وأما الإخبار عن علم ما توسوس به النفس بصيغة المضارع فللدلالة على أن تعلق علمه تعالى بالوسوسة متجدد غير منقض ولا محدود لإثبات عموم علم الله تعالى، والكناية عن التحذير من إضمار ما لا يرضي الله.
وجملة {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد} في موضع الحال من ضمير {ونعلم}.
والمقصود منها تأكيد عاملها وتحقيق استمرار العلم بباطن الإنسان، ومعنى {توسوس} تتكلم كلامًا خفيًا همسًا.
ومصدره الوسواس والوسوسة أطلقت هنا مجازًا على ما يجول في النفس من الخواطر والتقديرات والعزائم لأن الوسوسة أقرب شيء تشبه به تلك الخواطر وأحسن ما يستعار لها لأنها تجمع مختلف أحوال ما يجول في العقل من التقادير وما عداها من نحو ألفاظ التوهم والتفكر إنما يدل على بعض أحوال الخواطر دون بعض.
والحبل: هنا واحد حِبال الجسم.
وهي العروق الغليظة المعروفة في الطبّ بالشرايين، واحدها: شَرْيان بفتح الشين المهملة وتكسر وبسكون الراء وتعرف بالعروق الضوارب ومنبتها من التجْويف الأيسر من تجويفي القلب.
وللشرايين عمل كثير في حياة الجسم لأنها التي توصل الدم من القلب إلى أهم الأعضاء الرئيسية مثل الرئة والدماغ والنخاع والكليتين والمعدة والأمعاء.
وللشرايين أسماء باعتبار مصابِّها من الأعضاء الرئيسية.
والوريد: واحد من الشرايين وهو ثاني شريانين يخرجان من التجويف الأيسر من القلب.
واسمه في علم الطلب أورطِي ويتشعب إلى ثلاث شعب ثالثتهما تنقسم إلى قسمين قسم أكبر وقسم أصغر.
وهذا الأصغير يخرج منه شريانان يسميان السباتِي ويصعدان يمينًا ويسارًا مع الودَجين، وكل هذه الأقسام تسمى الوريد.
وفي الجسد وَريدان وهما عرقان يكتنفان صفحتي العنق في مقدمهما متصلان بالوَتين يَرِدان من الرأس إليه.
وقد تختلف أسماء أجزائه باختلاف مواقعها من الجسد فهو في العنق يسمى الوريد، وفي القلب يسمى الوتين، وفي الظهر يسمى الأبهر، وفي الذراع والفخذ يسمونه الأكحل والنَّسَا، وفي الخنصر يدعى الأسلم.
وإضافة {حبل} إلى {الوريد} بيانية، أي الحبل الذي هو الوريد، فإن إضافة الأعم إلى الأخص إذا وَقعت في الكلام كانت إضافة بيانية كقولهم: شجر الأراك.
والقرب هنا كناية عن إحاطة العلم بالحال لأن القرب يستلزم الإطلاع، وليس هو قربا بالمكان بقرينة المشاهدة فآل الكلام إلى التشبيه البليغ تشبيه معقول بمحسوس، وهذا من بناء التشبيه على الكناية بمنزلة بناء المجاز على المجاز.
ومن لطائف هذا التمثيل أن حبل الوريد مع قربه لا يشعر الإنسان بقربه لخفائه، وكذلك قرب الله من الإنسان بِعلمه قرب لا يشعر به الإنسان فلذلك اختير تمثيل هذا القرب بقرب حبل الوريد.
وبذلك فاق هذا التشبيه لحالة القرب كلَّ تشبيه من نوعه ورد في كلام البلغاء.
مثل قولهم: هو منه مقعد القابلة ومعقد الإزار، وقول زهير:
فهن ووادي الرس كاليد للفم

وقول حنظلة بن سيار وهو حنظلة بن ثعلبة بن سيار العجلي مخضرم:
كُل امرئ مصبَّح في إهِلهِ ** والموتُ أدنى من شراك نعلهِ

{إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17)}.
يتعلق {إذْ} بقوله: {أقرب} [ق: 16] لأن اسم التفضيل يعمل في الظرف وإن كان لا يعمل في الفاعل ولا في المفعول به واللغة تتوسع في الظروف والمجرورات ما لا تتوسع في غيرها، وهذه قاعدة مشهورة ثابتة والكلام تخلص للموعظة والتهديد بالجزاء يوم البعث والجزاء من إحصاء الأعمال خيرها وشرها المعلومة من آيات كثيرة في القرآن.
وهذا التخلص بكلمة {إذ} الدالة على الزمان من ألطف التخلص.
وتعريف {المُتَلَقِّيان} تعريف العهد إذا كانت الآية نزلت بعد آيات ذُكر فيها الحفظة، أو تعريفُ الجنس، والتثنية فيها للإشارة إلى أن هذا الجنس مقسم اثنين اثنين.
والتلقّي: أخذ الشيء من يد معطيه.
استعير لتسجيل الأقوال والأعمال حين صدورها من الناس.
وحذف مفعول {يتلقى} لدلالة قوله: {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد}.
والتقدير: إذ تحصى أقوالهم وأعمالهم.
فيؤخذ من الآية أن لكل إنسان ملَكيْن يحصيان أعماله وأن أحدهما يكون من جهة يمينه والآخر من جهة شماله.
وورد في السنة بأسانيد مقبولة: أن الذي يَكون عن اليمين يكتب الحسنات والذي عن الشمال يكتب السيئات وورد أنهما يلازمان الإنسان من وقت تكليفه إلى أن يموت.
وقوله: {عن اليمين وعن الشمال قعيد} يجوز أن يكون {قعيد} بدلًا من {المتلقِّيان} بدل بعض، و{عن اليمين} متعلق بـ {قعيد}، وقدم على متعلَّقه للاهتمام بما دل عليه من الإحاطة بجانبيه وللرعاية على الفاصلة.
ويجوز أن يكون {عن اليمين} خبرًا مقدمًا، و{قعيد} مبتدأ وتكون الجملة بيانًا لجملة {يتلقى المتلقيان}.
وعطف قوله: {وعن الشمال} على جملة {يتلقى} وليس عطفًا على قوله: {عن اليمين} لأنه ليس المعنى على أن القعيد قعيد في الجهتين، بل كل من الجهتين قعيد مستقل بها.
والتقدير: عن اليمين قعيد، وعن الشمال قعيد آخر.
والتعريف في {اليمين} و{الشمال} تعريف العهد أو اللام عوض عن المضاف إليه، أي عن يمين الإنسان وعن شماله.
والقعيد: المُقَاعد مثل الجَليس للمجالس، والأكيل للمؤاكل، والشَّرِيب للمشارب، والخليطِ للمخالط.
والغالب في فعيل أن يكون إما بمعنى فاعل، وإما بمعنى مفعول، فلمّا كان في المفاعلة معنى الفاعل والمفعول معًا، جاز مجيء فعيل منه بأحد الاعتبارين تعويلًا على القرينة، ولذلك قالوا لامرأة الرجل قعيدته.
والقعيد مستعار للملازم الذي لا ينفك عنه كمَا أطلقوا القعيد على الحافظ لأنه يلازم الشيء الموكل بحفظه.
وجملة {ما يلفظ من قول} إلخ مبينة لجملة {يتلقى المتلقيان} فلذلك فصلت.
و{ما} نافية وضمير {يلفظ} عائد للإنسان.
واللفظ: النطق بكلمةٍ دالة على معنى ولو جزء معنى، بخلاف القول فهو الكلام المفيد معنى.
و{مِن} زائدة في مفعول الفعل المنفي للتنصيص على الاستغراق.
والاستثناء في قوله: {إلاّ لديه رقيب عتيد} استثناء من أحوال عامة، أي ما يقول قولا في حالة إلا في حالة وجود رقيب عتيد لديه.
والأظهر أن هذا العموم مراد به الخصوص بقرينة قوله: {إلا لديه رقيب عتيد} لأن المراقبة هنا تتعلق بما في الأقوال من خير أو شرّ ليكون عليه الجزاء فلا يَكتب الحفظة إلاّ ما يتعلق به صلاح الإنسان أو فساده إذ لا حكمة في كتابة ذلك وإنما يكتب ما يترتب عليه الجزاء وكذلك قال ابن عباس وعكرمة.
وقال الحسن: يكتبان كل ما صدر من العبد، قال مجاهد وأبو الجوزاء: حتى أنينه في مرضه.
وروي مثله عن مالك بن أنس.
وإنما خص القول بالذكر لأن المقصود ابتداء من هذا التحذير المشركون وإنما كانوا يؤاخذون بأقوالهم الدالة على الشرك أو على تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم أو أذاه ولا يؤاخذون على أعمالهم إذ ليسوا مكلفين بالأعمال في حال إشراكهم.