فصل: تفسير الآيات (38- 40):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وذو القلبين: جميل بن معمر بن حبيب الجُمَحىّ.
وكانت قريش تقوم له: ذو القلبين، فنزل فيه قوله تعالى: {مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ}.
وقوله تعالى: {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ}، أي أَصبح نادما، وتقليب الكفَّين من فعل الأَسِف النادم، قال:
كمغبونٍ يَعَضّ على يديه ** تبيَّن غَبْنُه عند البِياع

وقلب الشىء قلبًا: حوّله عن وجهه.
وقلب رداءََه.
وقَلَبَه: كبَّه لوجهه، وقلبه ظَهْرًا لبطن؛ قال تعالى: {وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ}.
وقوله تعالى: {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ}، أي الأَرواح.
وقوله: {وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ} أي تثبت به شجاعتكم وَيزول خوفكم.
وعلى عكسه: {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} وقوله: {ذالِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} أي أَجلب للعفَّة، وقوله: {قُلُوبُهُمْ شَتَّى} أي متفرقة.
وقيل: القلب ورد في القرآن على ثلاثة معان:
الأَوَّل: بمعنى العقل: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ}.
الثانى: بمعنى الرأْى والتدبير: {قُلُوبُهُمْ شَتَّى} أي آراؤهم مختلفة.
الثالث: بمعنى حقيقة القلب الذي في الصَّدر: {وَلَاكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}.
وهذا النَّوع من القلب على سبعة أَوجه:
1- قلب الكافر: {قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ}.
2- قلب المنافق: {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ}.
3- قلب العاصِين: {فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ اللَّهِ}، {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}.
4- قلب خواصّ العباد {وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ}.
5- قلب المحبِّين: {لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}.
6- قلب الخائفين: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}، {يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ}.
7- قلب العارفين: {إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}.
وقال بعض المفسّرين: القلوب سبعة:
1- قلب الكافر في غِلاف وغطاءٍ: {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ}، {وَقالواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ}، {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ}.
2- وقلب المنافق في حجاب الرّياءِ: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ}، {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ}.
3- وقلب المبتدع في الزَيْغِ والهَوَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ}، {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا}، {فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}.
4- وقلب الفاسق الغريق في بحر العناءِ: {لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلك حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ}، {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ}.
5- وقلب الغافل الرّاغب في الدنيا ودار الفناءِ: {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا}.
6- وقلب العابد المنتظر ثواب حضرة الكبرياءِ: {إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}.
7- وقلب العارف المنتظر اللِّقاءَ في دار البقاءِ: {وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ}، {وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}.
وسمّى قلبًا لتقلّبه كثيرًا من حال إِلى حال.
وفى الحديث: «لَقَلْبُ ابن آدمَ أَسرع تقلّبًا من القِدْر إِذا استجمعتْ غَلْيا».
وفيه أَيضًا: «إِنَّ مِن قلب ابن آدم إِلى كلّ وادٍ شُعْبة، فمن أَتبع قلبه الشُعَبَ كلَّها لم يبال الله في أي وادٍ أَهلكه».
وفى الصّحيحين: «القلوب بين إِصبعين من أَصابع الرحمان يقلِّبها كيف يشاءُ» وتقليب الله القلوب صرفها من رأى إِلى رأى.
والتَقلّب: التصرّف، قال تعالى: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ}.
وانقلب رأيُه.
وانقلب فلان سوءَ مُنْقَلَبٍ، قال تعالى: {وَسَيَعْلَمْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ}.
وأَنا أَتقلَّب في نعمائة، وقال تعالى: {فَانْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ}. اهـ.

.تفسير الآيات (38- 40):

قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقولونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما دل على تمام علمه وشمول قدرته بخلق الإنسان إثر ما ذكره من جميع الأكوان، ثم بإعدامه لأصناف الإنسان في كل زمان، ذكر بخلق ما أكبر منه في المقدار والإنسان بعضه على وجه آخر، فقال عاطفًا على {ولقد خلقنا الانسان} وأكد تنبيهًا لمنكري البعث وتبكيتًا، وافتتحه بحرف التوقع لأن من ذكر بخلق شيء توقع الإخبار عما هو أكبر منه: {ولقد خلقنا} أي بما لنا من العظمة التي لا يقدر قدرها ولا يطاق حصرها {السماوات والأرض} على ما هما عليه من الكبر وكثرة المنافع {وما بينهما} من الأمور التي لا ينتظم الأمر على قاعدة الأسباب والمسببات بدونها {في ستة أيام} الأرض في يومين، ومنافعها في يومين، والسماوات في يومين، ولو شاء لكان ذلك في أقل من لمح البصر، ولكنه سن لنا التأني بذلك {وما مسنا} لأجل ما لنا من العظمة {من لغوب} أي إعياء فإنه لو كان لاقتضى ضعفًا فاقتضى فسادًا، فكان من ذلك شيء على غير ما أردناه، فكان تصرفنا فيه غير تصرفنا في الباقي، وأنتم تشاهدون الأمر في الكل على حد سواء من نفوذ الأمر وتمام التصرف، من اللغب وهو الإعياء، والريش اللغاب وهو الفاسد.
ولما دل سبحانه على شمول العلم وإحاطة القدرة، وكشف فيهما الأمر أتم كشف، كان علم الحبيب القادر بما يفعل العدو أعظم نذارة للعدو وبشارة للولي، سبب عن ذلك قوله: {فاصبر على ما} أي جميع الذي {يقولون} أي الكفرة وغيرهم.
ولما كانت أقوالهم لا تليق بالجناب الأقدس، أمر سبحانه بما يفيد أن ذلك بإرادته وأنه موجب لتنزيهه، وكماله، لأنه قهر قائله على قوله، ولو كان الأمر بإرادة ذلك القائل استقلالًا لكان ذلك في غاية البعد عنه، لأنه موجب للهلاك، فقال: {وسبح} أي أوقع التنزيه عن كل شائبة نقص متلبسًا {بحمد ربك} أي بإثبات الإحاطة بجميع صفات الكمال للسيد المدبر المحسن إليك بجميع هذه البراهين التي خصك بها تفضيلًا لك على جميع الخلق في جميع ما {قبل طلوع الشمس} بصلاة الصبح، وما يليق به من التسبيح غيرها {وقبل الغروب} بصلاة العصر والظهر كذلك فالعصر أصل لذلك الوقت والظهر تبع لها.
ولما ذكر ما هو أدل على الحب في المعبود لأنه وقت الانتشار إلى الأمور الضرورية التي بها القوام والرجوع لقصد الراحة الجسدية بالأكل والشرب واللعب والاجتماع بعد الانتشار والانضمام مع ما في الوقتين من الدلالة الظاهرة على طي الخلق ثم نشرهم، أتبعه ما يكون وقت السكون المراد به الراحة بلذيذ الاضطجاع والمنام فقال: {ومن الليل} أي في بعض أقواته {فسبحه} بصلاتي المغرب والعشاء وقيام الليل لأن الليل وقت الخلوات وهي ألذ المناجاة.
ولما ذكر الفرائض التي لا مندوحة عنها على وجه يشمل النوافل من الصلاة وغيرها، أتبعها النوافل المقيدة بها فقال: {وأدبار السجود} أي الذي هو أكل بابه وهو صلاة الفرض بما يصلى بعدها من الرواتب والتسبيح بالقول أيضًا، قال الرازي: واعلم أن ثواب الكلمات بقدرة صدورها عن جنان المعرفة والحكمة وأن تكون عين قلبه تدور دوران لسانه ويلاحظ حقائقها ومعانيها، فالتسبيح تنزيه من كل ما يتصور في الوهم أو يرتسم في الخيال أو ينطبع في الحواس أو يدور في الهواجس، والحمد يكشف عن المنة وصنع الصنائع وأنه المتفرد بالنعم.
انتهى.
ومعناه أن هذا الحمد هو الحقيقة، فإذا انطبقت في الجنان قامت باللسان، وتصورت بالأركان، وحمل على الصلاة لأنها أفضل العبادات، وهي جامعة بما فيها من الأقوال والأفعال لوجهي الذكر: التنزيه والتحميد، وهاتان الصلاتان المصدر بهما أفضل الصلوات فهما أعظم ما وقع التسبيح بالحمد، والمعنى.
والله أعلم.
أن الاشتغال استمطار من المحمود المسبح للنصر على المكذبين، وأن الصلاة أعظم ترياق للنصر وإزالة الهم، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38)}.
أعاد الدليل مرة أخرى، وقد ذكرنا تفسير ذلك في الم السجدة، وقلنا: إن الأجسام ثلاثة أجناس.
أحدها: السموات، ثم حركها وخصصها بأمور ومواضع وكذلك الأرض خلقها، ثم دحاها وكذلك ما بينهما خلق أعيانها وأصنافها {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} إشارة إلى ستة أطوار، والذي يدل عليه ويقرره هو أن المراد من الأيام لا يمكن أن يكون هو المفهوم في وضع اللغة، لأن اليوم عبارة في اللغة عن زمان مكث الشمس فوق الأرض من الطلوع إلى الغروب، وقبل السموات لم يكن شمس ولا قمر لكن اليوم يطلق ويراد به الوقت يقال يوم يولد للملك ابن يكون سرور عظيم ويوم يموت فلان يكون حزن شديد، وإن اتفقت الولادة أو الموت ليلًا ولا يتعين ذلك ويدخل في مراد العاقل لأنه أراد باليوم مجرد الحين والوقت، إذا علمت الحال من إضافة اليوم إلى الأفعال فافهم ما عند إطلاق اليوم في قوله: {سِتَّةِ أَيَّامٍ} وقال بعض المفسرين: المراد من الآية الرد على اليهود، حيث قالوا: بدأ الله تعالى خلق العالم يوم الأحد وفرغ منه في ستة أيام آخرها يوم الجمعة واستراح يوم السبت واستلقى على عرشه فقال تعالى: {وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} ردًا عليهم، والظاهر أن المراد الرد على المشرك والاستدلال بخلق السموات والأرض ومما بينهما وقوله تعالى: {وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} أي ما تعبنا بالخلق الأول حتى لا نقدر على الإعادة.
ثانيًا: والخلق الجديد كما قال تعالى: {أَفَعَيِينَا بالخلق الأول} [ق: 15] وأما ما قاله اليهود ونقلوه من التوراة فهو إما تحريف منهم أو لم يعلموا تأويله، وذلك لأن الأحد والاثنين أزمنة متميز بعضها عن بعض، فلو كان خلق السموات ابتدىء يوم الأحد لكان الزمان متحققًا قبل الأجسام والزمان لا ينفك عن الأجسام فيكون قبل خلق الأجسام أجسام أُخر فيلزم القول بقدم العالم وهو مذهب الفلاسفة، ومن العجيب أن بين الفلاسفة والمشبهة غاية الخلاف، فإن الفلسفي لا يثبت لله تعالى صفة أصلًا ويقول بأن الله تعالى لا يقبل صفة بل هو واحد من جميع الوجوه، فعلمه وقدرته وحياته هو حقيقته وعينه وذاته، والمشبهي يثبت لله صفة الأجسام من الحركة والسكون والاستواء والجلوس والصعود والنزول فبينهما منافاة، ثم إن اليهود في هذا الكلام جمعوا بين المسألتين فأخذوا بمذهب الفلاسفة في المسألة التي هي أخص المسائل بهم وهي القدم حيث أثبتوا قبل خلق الأجسام أيامًا معدودة وأزمنة محدودة، وأخذوا بمذهب المشبهة في المسألة التي هي أخص المسائل بهم وهي الاستواء على العرش فأخطأوا (وضلوا) وأضلوا في الزمان والمكان جميعًا.
ثم قال تعالى: {فاصبر على مَا يَقولونَ} قال من تقدم ذكرهم من المفسرين إن معناه اصبر على ما يقولون من حديث التعب بالاستلقاء، وعلى ما قلنا معناه اصبر على ما يقولون إن هذا لشيء عجيب، {وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ} وما ذكرناه أقرب لأنه مذكور، وذكر اليهود وكلامهم لم يجر.
وقوله: {وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ} يحتمل وجوهًا.
أحدها: أن يكون الله أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة، فيكون كقوله تعالى: {وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَىِ النهار وَزُلَفًا مِّنَ الليل} [هود: 114].
وقوله تعالى: {قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ الغروب} إشارة إلى طرفي النهار.
وقوله: {وَمِنَ الليل فَسَبّحْهُ} إشارة إلى زلفًا من الليل، ووجه هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم له شغلان.
أحدهما: عبادة الله.
وثانيهما: هداية الخلق فإذا هداهم ولم يهتدوا، قيل له أقبل على شغلك الآخر وهو عبادة الحق.
ثانيها: سبح بحمد ربك، أي نزهه عما يقولون ولا تسأم من امتناعهم بل ذكرهم بعظمة الله تعالى ونزهه عن الشرك والعجز عن الممكن الذي هو الحشر قبل الطلوع وقبل الغروب، فإنهما وقت اجتماعهم {وَمِنَ الليل فَسَبّحْهُ} أي أوائل الليل، فإنه أيضًا وقت اجتماع العرب، ووجه هذا أنه لا ينبغي أن تسأم من تكذيبهم فإن الرسل من قبلك أوذوا وكذبوا وصبروا على ما كذبوا وأوذوا، وعلى هذا فلقوله تعالى: {وأدبار السجود} فائدة جليلة وهي الإشارة إلى ما ذكرنا أن شغل الرسول أمر أن العبادة والهداية فقوله: {وأدبار السجود} أي عقب ما سجدت وعبدت نزه ربك بالبرهان عند اجتماع القوم ليحصل لك العبادة بالسجود والهداية أدبار السجود.
ثالثها: أن يكون المراد قل سبحان الله، وذلك لأن ألفاظًا معدودة جاءت بمعنى التلفظ بكلامهم، فقولنا كبر يطلق ويراد به قول القائل الله أكبر، وسلم يراد به قوله السلام عليكم، وحمد يقال لمن قال الحمد لله، ويقال هلل لمن قال لا إله إلا الله، وسبح لمن قال سبحان الله، ووجه هذا أن هذه أمور تتكرر من الإنسان في الكلام والحاجة تدعو إلى الإخبار عنها، فلو قال القائل فلان قال لا إله إلا الله أو قال الله أكبر طول الكلام، فمست الحاجة إلى استعمال لفظة واحدة مفيدة لذلك لعدم تكرر ما في الأول، وأما مناسبة هذا الوجه للكلام الذي هو فيه، فهي أن تكذيبهم الرسول وتعجبهم من قوله أو استهزاءهم كان يوجب في العادة أن يشتغل النبي صلى الله عليه وسلم بلعنهم وسبهم والدعاء عليهم فقال: فاصبر على ما يقولون واجعل كلامك بدل الدعاء عليهم التسبيح لله والحمد له ولا تكن كصاحب الحوت أو كنوح عليه السلام حيث قال: {رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّارًا} [نوح: 26] بل ادع إلى ربك فإذا ضجرت عن ذلك بسبب إصرارهم فاشتغل بذكر ربك في نفسك، وفيه مباحث:
البحث الأول: استعمل الله التسبيح تارة مع اللام في قوله تعالى: {يُسَبّحُ الله} [الجمعة: 1]، و{يُسَبّحُونَ لَهُ} [فصلت: 38] وأخرى مع الباء في قوله تعالى: {فَسَبّحْ باسم رَبّكَ العظيم} [الواقعة: 74] و{سَبِّحِ بِحَمْدِ رَبّكَ} [طه: 130] وثالثة من غير حرف في قوله: {وسبحه} [الإنسان: 26] وقوله: {وسبحوه بكرة} [الأحزاب: 42] وقوله: {سَبِّحِ اسم رَبّكَ الأعلى} [الأعلى: 1] فما الفرق بينها؟ نقول: أما الباء فهي الأهم وبالتقديم أولى في هذا الموضع كقوله تعالى: {وَسَبْح بِحَمْدِ رَبّكَ} فنقول أما على قولنا المراد من سبح قل سبحان الله، فالباء للمصاحبة أي مقترنًا بحمد الله، فيكون كأنه تعالى قال قل سبحان الله والحمد لله، وعلى قولنا المراد التنزيه لذلك أي نزهه وأقرنه بحمده أي سبحه واشكره حيث وفقك الله لتسبيحه فإن السعادة الأبدية لمن سبحه، وعلى هذا فيكون المفعول غير مذكور لحصول العلم به من غير ذكر تقديره: سبح الله بحمد ربك، أي ملتبسًا ومقترنًا بحمد ربك، وعلى قولنا صل، نقول يحتمل أن يكون ذلك أمرًا بقراءة الفاتحة في الصلاة يقال: صلّى فلان بسورة كذا أو صلّى بقل هو الله أحد، فكأنه يقول صلّى بحمد الله أي مقروءًا فيها: الحمد لله ربّ العالمين، وهو أبعد الوجوه، وأما التعدية من غير حرف فنقول هو الأصل لأن التسبيح يتعدى بنفسه لأن معناه تبعيد من السوء، وأما اللام فيحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون كما في قول القائل نصحته ونصحت له، وشكرته وشكرت له.