فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{يَوْمَ يُنَادِ المناد} منصوب بأي فعل؟ نقول: هو مبني على المسألة الأولى، إن قلنا استمع لا مفعول له فعامله ما يدل عليه قوله تعالى: {يَوْمُ الخروج} [ق: 42] تقديره: يخرجون يوم ينادي المنادي، وإن قلنا مفعوله لما يوحى فتقديره (واستمع) لما يوحى (يوم ينادي) ويحتمل ما ذكرنا وجهًا آخر، وهو ما يوحي أي ما يوحى {يَوْم يُنَادِ المناد} اسمعه، فإن قيل: استمع عطف على فاصبر وسبح وهو في الدنيا، والاستماع يكون في الدنيا، وما يوحى {يَوْمَ يُنَادِ المناد} لا يستمع في الدنيا، نقول ليس بلازم ذلك لجواز أن يقال صل وادخل الجنة أي صل في الدنيا وادخل الجنة في العقبى، فكذلك ههنا، ويحتمل أن يقال بأن استمع بمعنى انتظر فيحتمل الجمع في الدنيا، وإن قلنا استمع الصيحة وهو نداء المنادي: يا عظام انتشري، والسؤال الي ذكره علم الجواب منه، وجواب آخر نقوله حينئذ وهو أن الله تعالى قال: {وَنُفِخَ في الصور فَصَعِقَ مَن في السموات وَمَن في الأرض إِلاَّ مَن شَاء الله} [الزمر: 68] قلنا: إن من شاء الله هم الذين علموا وقوع الصيحة، واستيقظوا لها فلم تزعجهم كمن يرى برقًا أومض، وعلم أن عقبيه يكون رعد قوي فينظره ويستمع له، وآخر غافل فإذا رعد بقوة ربما يغشى على الغافل ولا يتأثر منه المستمع، فقال: استمع ذلك كي لا تكون ممن يصعق في ذلك اليوم.
المسألة الثانية:
ما الذي ينادي المنادي؟ فيه وجوه محتملة منقولة معقولة وحصرها بأن نقول المنادي إما أن يكون هو الله تعالى أو الملائكة أو غيرهما وهم المكلفون من الإنس والجن في الظاهر، وغيرهم لا ينادي، فإن قلنا هو تعالى فيه وجوه.
أحدها: ينادي: {احشروا الذين ظَلَمُواْ وأزواجهم} [الصافات: 22].
ثانيها: ينادي {أَلْقِيَا في جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} [ق: 24] مع قوله: {أدخلوها بسلام} [ق: 34] ومثله قوله تعالى: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} [الحاقة: 30] يدل على هذا قوله تعالى: {يَوْمَ يُنَادِ المناد مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ} [ق: 41] وقال: {وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ} [سبأ: 51].
ثالثها: غيرهما لقوله تعالى: {يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِى} وغير ذلك، وأما على قولنا المنادي غير الله ففيه وجوه أيضًا.
أحدها: قول إسرافيل: أيتها العظام البالية اجتمعوا للوصل واستمعوا للفصل.
ثانيها: النداء مع النفس يقال للنفس ارجعي إلى ربك لتدخلي مكانك من الجنة أو النار.
ثالثها: ينادي مناد هؤلاء للجنة وهؤلاء للنار، كما قال تعالى: {فَرِيقٌ في الجنة وَفَرِيقٌ في السعير} [الشورى: 7] وعلى قولنا المنادي هو المكلف فيحتمل أن يقال هو ما بين الله تعالى في قوله: {وَنَادَوْاْ يامالك} [الزخرف: 77] أو غير ذلك إلا أن الظاهر أن المراد أحد الوجهين الأولين، لأن قوله المنادي للتعريف وكون الملك في ذلك اليوم مناديًا معروف عرف حاله وإن لم يجر ذكره، فيقال: قال صلى الله عليه وسلم وإن لم يكن قد سبق ذكره، وأما أن الله تعالى مناد فقد سبق في هذه السورة في قوله: {أَلْقِيَا} [ق: 24] وهذا نداء، وقوله: {يَوْمَ نَقول لِجَهَنَّمَ} [ق: 30] وهو نداء، وأما المكلف ليس كذلك، وقوله تعالى: {مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ} إشارة إلى أن الصوت لا يخفى على أحد بل يستوي في استماعه كل أحد وعلى هذا فلا يبعد حمل المنادي على الله تعالى إذ ليس المراد من المكان القريب نفس المكان بل ظهور النداء وهو من الله تعالى أقرب، وهذا كما قال في هذه السورة: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد} [ق: 16] وليس ذلك بالمكان.
ثم قال تعالى: {يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42)}.
هذا تحقيق ما بينا من الفائدة في قوله: {واستمع} [ق: 41] أي لا تكن من الغافلين حتى لا تصعق يوم الصيحة، وبيانه هو أنه قال استمع أي كن قبل أن تستمع مستيقظًا لوقوعه، فإن السمع لابد منه أنت وهم فيه سواء فهم يسمعون لكن من غير استماع فيصعقون وأنت تسمع بعد الاستماع فلا يؤثر فيك إلا ما لابد منه و{يَوْمٍ} يحتمل وجوهًا.
أحدها: ما قاله الزمخشري أنه بدل من يوم في قوله: {واستمع يَوْمَ يُنَادِ المناد} والعامل فيهما الفعل الذي يدل عليه قوله تعالى: {ذَلِكَ يَوْمُ الخروج} [ق: 42] أي يخرجون يوم يسمعون.
ثانيها: أن {يَوْمَ يَسْمَعُونَ} العامل فيه مما في قوله ذلك {يَوْمَ يُنَادِ المناد} العامل فيه ما ذكرنا.
ثالثها: أن يقال استمع عامل في يوم ينادي كما ذكرنا وينادي عامل في يسمعون، وذلك لأن يوم ينادي وإن لم يجز أن يكون منصوبًا بالمضاف إليه وهو ينادي لكن غيره يجوز أن يكون منصوبًا به، يقال: اذكر حال زيد ومذلته يوم ضربه عمرو، ويوم كان عمرو واليًا، إذا كان القائل يريد بيان مذلة زيد عندما صار زيد يكرم بسبب من الأسباب، فلا يكون يوم كان عمرو واليًا منصوبًا بقوله اذكر لأن غرض القائل التذكير بحال زيد ومذلته وذلك يوم الضرب، لكن يوم كان عمرو منصوب بقوله ضربه عمرو يوم كان واليًا، فكذلك هاهنا قال: {واستمع يَوْمَ يُنَادِ المناد} لئلا تكون ممن يفزع ويصعق، ثم بين هذا النداء بقوله: {يُنَادِ المناد} يوم يسمعون أي لا يكون نداءً خفيًا بحيث لا يسمعه بعض الناس بل يكون نداؤه بحيث تكون نسبته إلى من في أقصى المغرب كنسبته إلى من في المشرق، وكلكم تسمعون، ولا شك أن مثل هذا الصوت يجب أن يكون الإنسان متهيئًا لاستماعه، وذلك يشغل النفس بعبادة الله تعالى وذكره والتفكير فيه فظهر فائدة جليلة من قوله: {فاصبر}، {وَسَبّحْ}، {واستمع يَوْمَ يُنَادِ المناد}، {وَيَوْمَ يَسْمَعُونَ} واللام في الصيحة للتعريف، وقد عرف حالها وذكرها الله مرارًا كما في قوله تعالى: {إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحدة} [ياس: 29] وقوله: {فإنما هي زجرة واحدة} [الصافات: 19] وقوله: {نَفْخَةٌ واحدة} [الحاقة: 13] وقوله: {بالحق} جاز أن يكون متعلقًا بالصيحة أي الصحة بالحق يسمعونها، وعلى هذا ففيه وجوه:
الأول: الحق الحشر أي الصيحة بالحشر وهو حق يسمعونها يقال صاح زيد بيا قوم اجتمعوا على حد استعمال تكلم بهذا الكلام وتقديره حينئذ يسمعون الصيحة بيا عظام اجتمعي وهو المراد بالحق.
الثاني: الصيحة بالحق أي باليقين والحق هو اليقين، يقل صاح فلان بيقين لا بظن وتخمين أي وجد منه الصياح يقينًا لا كالصدى وغيره وهو يجري مجرى الصفة للصيحة، يقال استمع سماعًا بطلب، وصاح صيحة بقوة أي قوية فكأنه قال الصيحة المحققة.
الثالث: أن يكون معناه الصيحة المقترنة بالحق وهو الوجود، يقال كن فيتحقق ويكون، ويقال اذهب بالسلام وارجع بالسعادة أي مقرونًا ومصحوبًا، فإن قيل زد بيانًا فإن الباء في الحقيقة للإلصاق فكيف يفهم معنى الإلصاق في هذه المواضع؟ نقول التعدية قد تتحقق بالباء يقال ذهب بزيد على معنى ألصق الذهاب بزيد فوجد قائمًا به فصار مفعولًا، فعلى قولنا المراد يسمعون صيحة من صاح بيا عظام اجتمعي هو تعدية المصدر بالباء يقال أعجبني ذهاب زيد بعمرو، وكذلك قوله: {الصيحة بالحق} أي ارفع الصوت على الحق وهو الحشر، وله موعد نبينه في موضع آخر إن شاء الله تعالى.
الوجه الثاني: أن يكون الحق متعلقًا بقوله: {يَسْمَعُونَ} أي يسمعون الصيحة بالحق وفيه وجهان.
الأول: هو قول القائل سمعته بيقين.
الثاني: الباء في يسمعون بالحق قسم أي يسمعون الصيحة بالله الحق وهو ضعيف وقوله تعالى: {ذَلِكَ يَوْمُ} فيه وجهان.
أحدهما: ذلك إشارة إلى يوم أي ذلك اليوم يوم الخروج.
ثانيهما: ذلك إشارة إلى نداء المنادي.
ثم قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43)}.
قد ذكرنا في سورة ياس ما يتعلق بقوله: {إِنَّا نَحْنُ}، وأما قوله: {نحيي ونميت} فالمراد من الإحياء الإحياء أولًا {وَنُمِيتُ} إشارة إلى الموتة الأولى وقوله: {وَإِلَيْنَا} بيان للحشر فقدم {إِنَّا نَحْنُ} لتعريف عظمته يقول القائل أنا أنا أي مشهور و{نحيي ونميت} أمور مؤكدة معنى العظمة {وَإِلَيْنَا المصير} بيان للمقصود.
وقوله تعالى: {يَوْمَ تَشَقَّقُ الأرض عَنْهُمْ سِرَاعًا} العامل فيه هو ما في قوله: {يَوْمُ الخروج} [ق: 42] من الفعل أي يخرجون يوم تشقق الأرض عنهم سراعًا وقوله: {سِرَاعًا} حال للخارجين لأن قوله تعالى: {عَنْهُمْ} يفيد كونهم مفعولين بالتشقق فكان التشقق عند الخروج من القبر كما يقال كشف عنه فهو مكشوف عنه فيصير سراعًا هيئة المفعول كأنه قال مسرعين والسراع جمع سريع كالكرام جمع كريم.
قوله: {ذَلِكَ حَشْرٌ} يحتمل أن يكون إشارة إلى التشقق عنهم، ويحتمل أن يكون إشارة إلى الإخراج المدلول عليه بقوله سراعًا، ويحتمل أن يكون معناه ذلك الحشر حشر يسير، لأن الحشر علم مما تقدم من الألفاظ.
وقوله تعالى: {عَلَيْنَا يَسِيرٌ} بتقديم الظرف يدل على الاختصاص، أي هو علينا هين لا على غيرنا وهو إعادة جواب قولهم: {ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ} [ق: 3] والحشر الجمع ويوم القيامة جمع الأجزاء بعضها إلى بعض وجمع الأرواح مع الأشباح أي يجمع بين كل روح وجسدها وجمع الأمم المتفرقة والرمم المتمزقة والكل واحد في الجمع.
{نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقولونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالقرآن مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)}.
فيه وجوه.
أحدها: تسلية لقلب النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وتحريض لهم على ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من الصبر والتسبيح، أي اشتغل بما قلناه ولا يشغلك الشكوى إلينا فإنا نعلم أقوالهم ونرى أعمالهم، وعلى هذا فقوله: {وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} مناسب له أي لا تقل بأني أرسلت إليهم لأهديهم، فكيف أشتغل بما يشغلني عن الهداية وهو الصلاة والتسبيح، فإنك ما بعثت مسلطًا على دواعيهم وقدرهم، وإنما أمرت بالتبليغ، وقد بلغت فاصبر وسبح وانتظر اليوم الذي يفصل فيه بينكم.
ثانيها: هي كلمة تهديد وتخويف لأن قوله: {وَإِلَيْنَا المصير} [ق: 43] ظاهر في التهديد بالعلم بعملكم لأن من يعلم أن مرجعه إلى الملك ولكنه يعتقد أن الملك لا يعلم ما يفعله لا يمتنع من القبائح، أما إذا علم أنه يعلمه وعنده غيبه وإليه عوده يمتنع فقال تعالى: {وَإِلَيْنَا المصير} و{نَّحْنُ أَعْلَمُ} وهو ظاهر في التهديد، وهذا حينئذ كقوله تعالى: {ثُمَّ إلى رَبّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} [الزمر: 7].
ثالثها تقرير الحشر وذلك لأنه لما بيّن أن الحشر عليه يسير لكمال قدرته ونفوذ إرادته ولكن تمام ذلك بالعلم الشامل حتى يميز بين جزء بدنين جزء بدن زيد وجزء بدن عمرو فقال: {ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} لكمال قدرتنا، ولا يخفى علينا الأجزاء لمكان علمنا، وعلى هذا فقوله: {نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقولونَ} معناه نحن نعلم عين ما يقولون في قولهم {أَئذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا} [المؤمنون: 82] {أَئذَا ضَلَلْنَا في الأرض} [السجدة: 10] فيقول: نحن نعلم الأجزاء التي يقولون فيها إنها ضالة وخفية ولا يكون المراد نحن نعلم وقولهم في الأول جاز أن تكون ما مصدرية فيكون المراد من قوله: {بِمَا يَقولونَ} أي قولهم، وفي الوجه الآخر تكون خبرية، وعلى هذا الدليل فلا يصح قوله: {نَّحْنُ أَعْلَمُ} إذ لا عالم بتلك الأجزاء سواه حتى يقول: {نَّحْنُ أَعْلَمُ} نقول قد علم الجواب عنه مرارًا من وجوه:
أحدها: أن أفعل لا يقتضي الاشتراك في أصل الفعل كما في قوله تعالى: {والله أَحَقُّ أَن تخشاه} [الأحزاب: 37] وفي قوله تعالى: {أَحْسَنُ نَدِيًّا} [مريم: 77]، وفي قوله: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27].
ثانيها: معناه نحن أعلم بما يقولون من كل عالم بما يعلمه، والأول أصح وأظهر وأوضح وأشهر وقوله: {وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} فيه وجوه: أحدها: أن للتسلية أيضًا، وذلك لأنه لما من عليه بالإقبال على الشغل الأخروي وهو العبادة أخبر بأنه لم يصرف عن الشغل الآخر وهو البعث، كما أن الملك إذا أمر بعض عبيده بشغلين فظهر عجزه في أحدهما: يقول له أقبل على الشغل الآخر ومنهما ونحن نبعث من يقدر على الذي عجزت عن منهما، فقال: {اصبر} {وسبح}، {وما أنتبجبار} أي فما كان امتناعهم بسبب تجبر منك أو تكبر فاشمأزوا من سوء خلقك، بل كنت بهم رؤوفًا وعليهم عطوفًا وبالغت وبلغت وامتنعوا فأقبل على الصبر والتسبيح غير مصروف عن الشغل الأول بسبب جبروتك، وهذا في معنى قوله تعالى: {مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبّكَ بِمَجْنُونٍ} إلى أن قال: {وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 2 4]، ثانيها: هو بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بما عليه من الهداية، وذلك لأنه أرسله منذرًا وهاديًا لا ملجأ ومجبرًا، وهذا كما في قوله تعالى: {فَمَا أرسلناك عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [الشورى: 18] أي تحفظهم من الكفر والنار، وقوله: {وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ} في معنى قول القائل: اليوم فلان علينا، في جواب من يقول: من عليكم اليوم؟ أي من الوالي عليكم.
ثالثها: هو بيان لعدم وقت نزول العذاب بعد، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أنذر وأعذر وأظهر لم يؤمنوا كان يقول إن هذا وقت العذاب، فقال: نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بمسلط فذكر بعذابي إن لم يؤمنوا من بقي منهم ممن تعلم أنه يؤمن ثم تسلط، ويؤيد هذا قول المفسرين أن الآية نزلت قبل نزول آية القتال، وعلى هذا فقوله: {فَذَكّرْ بالقرءان مَن يَخَافُ وَعِيدِ} أي من بقي منهم ممن يخاف يوم الوعيد، وفيه وجوه أُخر.
أحدها: أنا بينا في أحد الوجوه أن قوله تعالى: {فاصبر على مَا يَقولونَ وَسَبّحْ} [ق: 39] معناه أقبل على العبادة، ثم قال: ولا تترك الهداية بالكلية بل وذكر المؤمنين {فَإِنَّ الذكرى تَنفَعُ المؤمنين} [الذاريات: 55] {وَأَعْرِض عَنِ الجاهلين} [الأعراف: 199] وقوله: {بالقرءان} فيه وجوه.
الأول: فذكر بما في القرآن واتل عليهم القرآن يحصل لهم بسبب ما فيه المنفعة.
الثاني: {فَذَكّرْ بالقرءان} أي بيّن به أنك رسول لكونه معجزًا، وإذا ثبت كونك رسولًا لزمهم قبول قولك في جميع ما تقول به.
الثالث: المراد فذكر بمقتضى ما في القرآن من الأوامر الواردة بالتبليغ والتذكير، وحينئذ يكون ذكر القرآن لانتفاع النبي صلى الله عليه وسلم به أي اجعل القرآن إمامك، وذكرهم بما أخبرت فيه بأن تذكرهم، وعلى الأول معناه اتل عليهم القرآن ليتذكروا بسببه، وقوله تعالى: {مَن يَخَافُ وَعِيدِ} من جملة ما يبين كون الخشية دالة على عظمة المخشي أكثر مما يدل عليه الخوف، حيث قال: {يَخَافُ} عندما جعل المخوف عذاب ووعيده، وقال: {اخشوني} [البقرة: 150] عندما جعل المخوف نفسه العظيم، وفي هذه الآية إشارة إلى الأصول الثلاثة، وقوله: {وَذَكَرَ} إشارة إلى أنه مرسل مأمور بالتذكير منزل عليه القرآن حيث قال: {بالقرءان} وقوله: {وَعِيدِ} إشارة إلى اليوم الآخر وضمير المتكلم في قوله: {وَعِيدِ} يدل على الوحدانية، فإنه لو قال من يخاف وعيد الله كان يذهب وهم الله إلى كل صوب فلذا قال: {وَعِيدِ} والمتكلم أعرف المعارف وأبعد عن الإشراك به وقبول الاشتراك فيه، وقد بينا في أول السورة أن أول السورة وآخرها متقاربان في المعنى حيث قال في الأول: {ق والقرءان المجيد} [ق: 1] وقال في آخرها: {فَذَكّرْ بالقرءان}.
وهذا آخر تفسير هذه السورة والحمد لله ربّ العالمين، وصلاته على خاتم النبيّين وسيد المرسلين محمد النبي وآله وصحبه وأزواجه وذريته أجمعين. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {واستمع يَوْمَ يُنَادِ المناد مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ}.
مفعول الاستماع محذوف؛ أي استمع النداء والصوت أو الصيحة وهي صيحة القيامة، وهي النفخة الثانية، والمنادي جبريل.