فصل: تفسير الآية رقم (266):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (266):

قوله تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما قدم سبحانه وتعالى أن المن مبطل للصدقة ومثله بالرياء وضرب لهما مثلًا ورغب في الخالص وختم ذلك بما يصلح للترهيب من المن والرياء رجع إليهما دلالة على الاهتمام بهما فضرب لهما مثلًا أوضح من السالف وأشد في التنفير عنهما والبعد منهما فقال: {أيود أحدكم}.
وقال الحرالي: ولما تراجع خبر الإنفاقين ومقابلهما تراجعت أمثالها فضرب لمن ينفق مقابلًا لمن يبتغي مرضاة الله تعالى مثلًا بالجنة المخلفة، انتهى.
فقال- منكرًا على من يبطل عمله كأهل مثل الصفوان بعد كشف الحال بضرب هذه الأمثال: {أيود أحدكم} أي يحب حبًا شديدًا {أن تكون له جنة} أي حديقة تستر داخلها وعين هنا ما أبهمه في المثل الأول فقال: {من نخيل} جمع نخلة وهي الشجرة القائمة على ساق الحية من أعلاها أشبه الشجر بالآدمي، ثابت ورقها، مغذ مؤدم ثمرها، في كليتها نفعها حتى في خشبها طعام للآدمي بخلاف سائر الشجر، مثلها كمثل المؤمن الذي ينتفع به كله {وأعناب} جمع عنب وهو شجر متكرم لا يختص ذهابة بجهة العلو اختصاص النخلة بل يتفرع علوًا وسفلًا ويمنة ويسرة، مثله مثل المؤمن المتقي الذي يكرم بتقواه في كل جهة- قاله الحرالي.
ولما كانت الجنان لا تقوم وتدومها إلا بالماء قال: {تجري من تحتها الأنهار} أي لكرم أرضها.
وقال الحرالي: وفي إشعاره تكلف ذلك فيها بخلاف الأولى التي هي بعل فإن الجائحة في السقي أشد على المالك منها في البعل لقلة الكلفة في البعل ولشدة الكلف في السقي- انتهى.
ولما وصفها بكثرة الماء ذكر نتيجة ذلك فقال: {له فيها من كل الثمرات} أي مع النخل والعنب.
ولما ذكر كرمها ذكر شدة الحاجة إليها فقال: {وأصابه} أي والحال أنه أصابه {الكبر} فصار لا يقدر على اكتساب {وله ذرية ضعفاء} بالصغر كما ضعف هو بالكبر {فأصابها} أي الجنة مرة من المرات {إعصار} أي ريح شديدة جدًا.
قال الحرالي: صيغة اشتداد بزيادة الهمزة والألف فيه من العصر وهو الشدة المخرجة لخبء الأشياء، والإعصار ريح شديدة في غيم يكون فيها حدة من برد الزمهرير، وهو أحد قسمي النار، نظيره من السعير السموم.
وقال الأصفهاني: ريح تستدير في الأرض ثم تسطع نحو السماء كالعمود {فيه نار فاحترقت} تلك الجنة وبقي صاحبها بمضيعة مع ضعفه وثقل ظهره بالعيال وقلة المال.
قال الحرالي: من الاحتراق وهو ذهاب روح الشيء وصورته ذهابًا وحيًا بإصابة قاصف لطيف يشيع في كليته فيذهبه ويفنيه؛ فجعل المثل الأول في الحب أي الذي على الصفوان لآفة من تحته.
وجعل المثل في الجنة بجائحة من فوقه كأنهما جهتا طرو العلل والآفات من جهة أصل أو فرع- انتهى.
فحال من رأى في أعماله أو آذى في صدقة ماله في يوم القيامة وأهواله كحال هذا في نفسه وعياله عند خيبة آماله، وروى البخاري رضي الله تعالى عنه في التفسير عن عبيد بن عمير قال قال عمر رضي الله تعالى عنه لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: «فيم ترون هذه الآية نزلت {أيود أحدكم} إلى أن قال: قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه: ضربت مثلًا لعمل، قال عمر رضي الله تعالى عنه: أيّ عمل؟ قال ابن عباس: لعمل، قال عمر رضي الله تعالى عنه: لرجل غني يعمل بطاعة الله سبحانه وتعالى ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله».
ولما بين لهم هذا البيان الذي أبهت بلغاء الإنس والجان نبههم على تعظيمه لتبجيله وتكريمه بقوله مستأنفًا: {كذلك} أي مثل هذا البيان {يبين الله} أي الذي له الكمال كله {لكم الآيات} أي كلها {لعلكم تتفكرون} أي ليكون حالكم حال من يرجى أن يحمل نفسه على الفكر، ومن يكون كذلك ينتفع بفكره.
وقال الحرالي: فتبنون الأمور على تثبيت، لا خير في عبادة إلا بتفكر، كما أن الباني لابد أن يفكر في بنائه، كما قال الحكيم: أول الفكرة آخر العمل وأول العمل آخر الفكرة، كذلك من حق أعمال الدين أن لا تقع إلا بفكرة في إصلاح أوائلها السابقة وأواخرها اللاحقة، فكانوا في ذلك صنفين بما يشعر به {لعلكم} مطابقين للمثل متفكر مضاعف حرثه وجنته وعامل بغير فكرة تستهويه أهواء نفسه فتلحقه الآفة في عمله في حرثه وجنته من سابقه أو لاحقه- انتهى. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

اعلم أن هذا مثل آخر ذكره الله تعالى في حق من يتبع إنفاقه بالمن والأذى، والمعنى أن يكون للإنسان جنّة في غاية الحسن والنهاية، كثيرة النفع، وكان الإنسان في غاية العجز عن الكسب وفي غاية شدة الحاجة، وكما أن الإنسان كذلك فله ذرية أيضًا في غاية الحاجة، وفي غاية العجز، ولا شك أن كونه محتاجًا أو عاجزًا مظنة الشدة والمحنة، وتعلق جمع من المحتاجين العاجزين به زيادة محنة على محنة، فإذا أصبح الإنسان وشاهد تلك الجنة محرقة بالكلية، فانظر كم يكون في قلبه من الغم والحسرة، والمحنة والبلية تارة بسبب أنه ضاع مثل ذلك المملوك الشريف النفيس، وثانيًا: بسبب أنه بقي في الحاجة والشدة مع العجز عن الاكتساب واليأس عن أن يدفع إليه أحد شيئًا، وثالثًا: بسبب تعلق غيره به، ومطالبتهم إياه بوجوه النفقة، فكذلك من أنفق لأجل الله، كان ذلك نظيرًا للجنة المذكورة وهو يوم القيامة، كذلك الشخص العاجز الذي يكون كل اعتماده في وجوه الانتفاع على تلك الجنة، وأما إذا أعقب إنفاقه بالمن أو بالأذى كان ذلك كالإعصار الذي يحرق تلك الجنّة، ويعقب الحسرة والحيرة والندامة فكذا هذا المال المؤذي إذا قدم يوم القيامة، وكان في غاية الاحتياج إلى الانتفاع بثواب عمله، لم يجد هناك شيئًا فيبقى لا محالة في أعظم غم، وفي أكمل حسرة وحيرة، وهذا المثل في غاية الحسن، ونهاية الكمال. اهـ.

.قال البيضاوي:

المعنى تمثيل حال من يفعل الأفعال الحسنة ويضم إليها ما يحبطها كرياء وإيذاء في الحسرة والأسف، فإذا كان يوم القيامة واشتدت حاجته إليها وجدها محبطة بحال من هذا شأنه، وأشبههم به من جال بسره في عالم الملكوت، وترقى بفكره إلى جناب الجبروت، ثم نكص على عقبيه إلى عالم الزور والتفت إلى ما سوى الحق وجعل سعيه هباء منثورًا. اهـ.

.قال القرطبي:

حكى الطبريّ عن السدي أن هذه الآية مَثَلٌ آخر لنفقة الرياء، ورجح هو هذا القول.
قلت وروي عن ابن عباس أيضًا قال: هذا مثل ضَرَبَهُ الله للمرائين بالأعمال يبطلها يوم القيامة أحوج ما كان إليها، كمثل رجل كانت له جنة وله أطفال لا ينفعونه فكبِر وأصاب الجنة إعصار أي ريح عاصف فيه نار فاحترقت ففقدها أحوج ما كان إليها.
وحُكي عن ابن زيد أنه قرأ قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بالمن والأذى} الآية، قال؛ ثم ضرب في ذلك مثلًا فقال: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ} الآية.
قال ابن عطية: وهذا أبين من الذي رجّح الطبريّ، وليست هذه الآية بِمَثَلٍ آخر لنفقة الرياء؛ هذا هو مقتضى سياق الكلام.
وأما بالمعنى في غير هذا السياق فتشبه حال كل منافق أو كافر عمل عملًا وهو يحسب أنه يحسن صنعًا فلما جاء إلى وقت الحاجة لم يجد شيئًا.
قلت: قد روي عن ابن عباس أنها مَثَلٌ لمن عمل لغير الله من منافق وكافر على ما يأتي، إلاَّ أن الذي ثبت في البخاريّ عنه خلاف هذا.
خرج البخاري عن عُبيد بن عُمير قال: قال عمر بن الخطاب يومًا لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: فيم ترون هذه الآية نزلت: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ}؟ قالوا: الله ورسوله أعلم؛ فغضب عمر وقال: قولوا: نعلم أو لا نعلم! فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين؛ قال: يابن أخي قل ولا تحقر نفسك؛ قال ابن عباس: ضربت مثلًا لعملٍ.
قال عمر: أي عمل؟ قال ابن عباس: لعملِ رجل غنيِّ يعمل بطاعة الله ثم بعث الله عزّ وجلّ له الشيطان فعمل في المعاصي حتى أحرق عمله.
في رواية: فإذا فنِي عمره واقترب أجله ختم ذلك بعمل من أعمال الشقاء؛ فرضى ذلك عمر.
وروى ابن أبي مُليكة أن عمر تلا هذه الآية.
وقال: هذا مَثلٌ ضُرب للإنسان يعمل عملًا صالحًا حتى إذا كان عند آخر عمره أحوج ما يكون إليه عمل عمل السوء.
قال ابن عطية: فهذا نَظَرٌ يحمل الآية على كل ما يدخل تحت ألفاظها؛ وبنحو ذلك قال مجاهد وقتادة والربيع وغيرهم. اهـ.

.قال ابن كثير:

وفي هذا الحديث كفاية في تفسير هذه الآية، وتبيين ما فيها من المثل بعمل من أحسن العمل أولا ثم بعد ذلك انعكس سيره، فبدل الحسنات بالسيئات، عياذًا بالله من ذلك، فأبطل بعمله الثاني ما أسلفه فيما تقدم من الصالح، واحتاج إلى شيء من الأول في أضيق الأحوال، فلم يحصل له منه شيء، وخانه أحوجَ ما كان إليه، ولهذا قال تعالى: {وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ} وهو الريح الشديد {فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ} أي: أحرق ثمارَها وأباد أشجارها، فأيّ حال يكون حاله.
وقد روى ابن أبي حاتم، من طريق العَوْفي، عن ابن عباس قال: ضرب الله له مثلا حسنًا، وكل أمثاله حسن، قال: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} يقول: ضيّعَه في شيبته {وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ} وولده وذريته ضعاف عند آخر عمره، فجاءه إعصار فيه نار فأحرق بستانه، فلم يكن عنده قوة أن يغرس مثله، ولم يكن عند نسله خير يعودون به عليه، وكذلك الكافر يوم القيامة، إذ ردّ إلى الله عز وجل، ليس له خير فيُسْتَعْتَب، كما ليس لهذا قوة فيغرس مثل بستانه، ولا يجده قدم لنفسه خيرا يعود عليه، كما لم يُغْن عن هذا ولدُه، وحُرم أجره عند أفقر ما كان إليه، كما حرم هذا جنة الله عند أفقر ما كان إليها عند كبره وضعف ذريته.
وهكذا، روى الحاكم في مستدركه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه: «اللهم اجعل أوسع رزقك علي عند كبر سني وانقضاء عمري»
ولهذا قال تعالى: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} أي: تعتبرون وتفهمون الأمثال والمعاني، وتنزلونها على المراد منها، كما قال تعالى: {وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43]. اهـ.