فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأهل الحقائق لا يتصفون بهذه الصفة، ومن الآيات فيها أنه يلقى عليها كل قذارة وقمامة فتنبت كل زهر ونور وكذلك العارف يتشرب ما يلقى من الجفاء ولا يترشح إلا بكل خلق عليّ وشيمة زكية.
ولما أشار إلى آيات الآفاق، أتبعها آيات الأنفس فقال: {وفي أنفسكم} أي من الآيات التي شاركتم بها الجماد، ثم فارقتموه بالنمو ثم بالحس ثم فارقتم الحيوان الخسيس بالعقل الموصل إلى بدائع العلوم ودقائق الفهوم.
ولما كانت أظهر الآيات، سبب عن التنبيه عليها الإنكار عليهم في ترك الاعتبار بها فقال: {أفلا تبصرون} أي بأبصاركم وبصائركم فتتأملوا ما في ذلك من الآيات وتتفكروا هل ترون أسباب أكثرها، فإن كل هذه آيات دالة على قدرة الصانع على كل ما يريد واختياره، وأنه ما خلق هذا لخلق سدى، فلابد أن يجمعهم إليه للعرض عليه، فالموقنون لا يزالون ينظرون في أمثال هذا بعيون باصرة وأفهام نافذة، فكلما رأوا آية اعتبروا بها، فازدادوا إيمانًا إلى إيمانهم، وإيقانًا مع إيقانهم، وأول نظرهم فما أودعوا من الآيات الحاجة، فمن تأملها علم أنه عبد، ومتى علم ذلك علم أن له ربًا غير محتاج، ومن أبصر جميع الصفات والأسماء فنفذ فهمه في شفاف الكائنات، فارتقى إلى أعلى الدرجات.
ولما بان بما قدمته في {المقسمات أمرًا} ما في جهة العلو من الأسباب الموجبة للنعمة والعذاب، قال: {وفي السماء} أي جهة العلو {رزقكم} بما يأتي من المطر والرياح والحر والبرد وغير ذلك مما رتبه سبحانه لمنافع العباد {وما توعدون} وجميع ما أتتكم به الرسل من الوعد والوعيد والصعقة والزلزال وغير ذلك من الأهوال وموجبات النكال، وكذا الرحمة والخير والنعمة وكل ما يتعلق به الآمال، فكما أنكم تصدقون بذلك وأنتم لا ترونه فكذلك صدقوا بالجنة والنار وإن لم تروها، فإنه لا فرق بين ماء ينزله الله فيكون منه رياض وجنات وشوك وأدواء ومرارات، وسموم وعقارب وحيات، وخشاش وسباع وحشرات، وبين ماء يعيد به الأموات، ثم يحشرهم إلى جنان ونيران، فكما أنه لا مرية في إظهار هذا الغيب فكذلك لا لبس في إظهار ذلك الغيب، ومن المعنى أيضًا أنك لا تشتغل برزق فإنه في السماء، ولا سبيل لك إلى العروج إليها، واشتغل بما كلفته من الخدمة لمن عنده الرزق ففي السماء الرزق وإليها يرفع العمل، فإن أردت أن ينزل إليك رزقك فأصعد إليها الصالح من عملك، ولهذا قالوا: الصلاة فرع باب الرزق {واصطبر عليها لا نسئلك رزقًا نحن نرزقك}.
ولما أقسم بما له من المقدورات لمن وقف مع المحسوسات المشهورات، فترقوا بذلك إلى أعلى الدرجات، وانكشف ما له من الكمال انكشافًا تامًا، وعلم أن في خزائنه سبحانه كل ما أخبرت عنه به الرسل من وعد ووعيد، سبب عنه قوله مقسمًا بنفسه الأقدس لكن بصفة مألوفة فقال: {فورب} أي مبدع ومدبر {السماء والأرض} بما أودع فيهما مما علمتموه وما لم تعلموه {إنه} أي الذي توعدونه من الخير والشر والجنة والنار وتقدم الإقسام عليه أنه صادق {لحق} أي ثابت يطابقه الواقع فقد جمع الحق مع الصدق {مثل ما أنكم} أي وأنتم مساوون لبقية ما في الأرض من الجمادات وغيرها {تنطقون} نطقًا مجددًا في كل وقت مستمرًا، ليس هو بخيال ولا سحر، أي أن ذلك لحق مثل ما أن هذا حق، فالذي جعل لكم قوة النطق من بين ما في الأرض بأسباب لا ترونها وتحصونها، ومع ما عداكم من ذلك بأسباب مثل ذلك قادر على الإتيان بوعده من الرزق وغيره ما دمتم تحتاجون إلى ذلك بما جعل فيكم من الحياة التي يصح بها العلم الناشىء عنه النطق المحوج إلى الرزق من أي جهة أرادوا، وإن لم تروا أسبابه كما أنه لو أراد لأنطق جميع من في السماوات والأرض من الجمادات بما يقيمه لها من الأسباب التي أقامها لكم وإن لم تروا ذلك. اهـ.

.قال الفخر:

{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15)}.
بعد بيان حال المغترين المجرمين بين حال المحق المتقي، وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
قد ذكرنا أن المتقي له مقامات أدناها أن يتقي الشرك، وأعلاها أن يتقي ما سوى الله، وأدنى درجات المتقي الجنة، فما من مكلف اجتنب الكفر إلا ويدخل الجنة فيرزق نعيمها.
المسألة الثانية:
الجنة تارة وحدها كما قال تعالى: {مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون} [الرعد: 35] وأخرى جمعها كما في هذا المقام قال: {إِنَّ المتقين في جنات} وتارة ثناها فقال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] فما الحكمة فيه؟ نقول: أما الجنة عند التوحيد فلأنها لاتصال المنازل والأشجار والأنهار كجنة واحدة، وأما حكمة الجمع فلأنها بالنسبة إلى الدنيا وبالإضافة إلى جنانها جنات لا يحصرها عدد، وأما التثنية فسنذكرها في سورة الرحمن غير أنا نقول هاهنا الله تعالى عند الوعد وحَّد الجنة، وكذلك عند الشراء حيث قال: {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وأموالهم بِأَنَّ لَهُمُ الجنة} [التوبة: 111] وعند الإعطاء جمعها إشارة إلى أن الزيادة في الوعد موجودة والخلاف ما لو وعد بجنات، ثم كان يقول إنه في جنة لأنه دون الموعود.
الثالثة: قوله تعالى: {وَعُيُونٍ} يقتضي أن يكون المتقي فيها ولا لذة في كون الإنسان في ماء أو غير ذلك من المائعات، نقول معناه في خلال العيون، وذلك بين الأنهار بدليل أن قوله تعالى: {فِي جنات} ليس معناه إلا بين جنات وفي خلالها لأن الجنة هي الأشجار، وإنما يكون بينها كذلك القول في العيون والتنكير، مع أنها معرفة للتعظيم يقال فلان رجل أي عظيم في الرجولية.
{آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16)}.
وقوله تعالى: {ءاخِذِينَ مَا ءاتاهم رَبُّهُمْ} فيه مسائل ولطائف، أما المسائل:
فالأولى منها: ما معنى آخذين؟ نقول فيه وجهان أحدهما: قابضين ما آتاهم شيئًا فشيئًا ولا يستوفونه بكماله لامتناع استيفاء ما لا نهاية له.
ثانيها: آخذين قابلين قبول راض كما قال تعالى: {وَيَأْخُذُ الصدقات} [التوبة: 104] أي يقبلها، وهذا ذكره الزمخشري وفيه وجه ثالث: وهو أن قوله: {فِي جنات} يدل على السكنى فحسب وقوله: {ءاخِذِينَ} يدل على التملك ولذا يقال أخذ بلاد كذا وقلعة كذا إذا دخلها متملكًا لها، وكذلك يقال لمن اشترى دارًا أو بستانًا أخذه بثمن قليل أي تملكه، وإن لم يكن هناك قبض حسًا ولا قبول برضا، وحينئذ فائدته بيان أن دخولهم فيها ليس دخول مستعير أو ضعف يسترد منه ذلك، بل هو ملكه الذي اشتراه بماله ونفسه من الله تعالى وقوله: {ءاتاهم} يكون لبيان أن أخذهم ذلك لم يكن عنوة وفتوحًا، وإنما كان بإعطاء الله تعالى، وعلى هذا الوجه {مَا} راجعة إلى الجنّات والعيون.
وقوله: {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} إشارة إلى ثمنها أي أخذوها وملكوها بالإحسان، كما قال تعالى: {لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى} [يونس: 26] بلام الملك وهي الجنة.
المسألة الثانية:
{ءاخِذِينَ} حال وهو في معنى قول القائل يأخذون فكيف قال ما آتاهم ولم يقل ما يؤتيهم ليتفق اللفظان، ويوافق المعنى لأن قوله: {ءاتاهم} ينبىء عن الانقراض وقوله: {يُؤْتِيهِمْ} تنبيه على الدوام وإيتاء الله في الجنة كل يوم متجدد ولا نهاية له، ولاسيما إذا فسرنا الأخذ بالقبول، كيف يصح أن يقال فلان يقبل اليوم ما آتاه زيد أمس؟ نقول: أما على ما ذكرنا من التفسير لا يرد لأن معناه يتملكون ما أعطاهم، وقد يوجد الإعطاء أمس ويتملك اليوم، وأما على ما ذكروه فنقول الله تعالى أعطى المؤمن الجنة وهو في الدنيا غير أنه لم يكن جنى ثمارها فهو يدخلها على هيئة الآخذ وربما يأخذ خيرًا مما أتاه، ولا ينافي ذلك كونه داخلًا على تلك الهيئة، يقول القائل: جئتك خائفًا فإذا أنا آمن وما ذكرتم إنما يلزم أن لو كان أخذهم مقتصرًا على ما آتاهم من قبل، وليس كذلك وإنما هم دخلوها على ذلك ولم يخطر ببالهم غيره فيؤتيهم الله ما لم يخطر ببالهم فيأخذون ما يؤتيهم الله وإن دخلوها ليأخذوا ما آتاهم، وقوله تعالى: {إِنَّ أصحاب الجنة اليوم في شُغُلٍ} [ياس: 55] هو أخذهم ما آتاهم وقد ذكرناه في سورة ياس (55).
المسألة الثالثة:
{ذلك} إشارة إلى ماذا؟ نقول: يحتمل وجهين أحدهما: قبل دخولهم لأن قوله تعالى: {فِي جنات} فيه معنى الدخول يعني قبل دخولهم الجنة أحسنوا ثانيهما: قبل إيتاء الله ما آتاهم الحسنى وهي الجنة فأخذوها، وفيه وجوه أُخر، وهو أن ذلك إشارة إلى يوم الدين وقد تقدم.
وأما اللطائف فقد سبق بعضها، ومنها أن قوله تعالى: {إِنَّ المتقين} لما كان إشارة إلى التقوى من الشرك كان كأنه قال الذين آمنوا لكن الإيمان مع العمل الصالح يفيد سعادتين، ولذلك دلالة أتم من قول القائل أنهم أحسنوا.
اللطيفة الثانية: أما التقوى فلأنه لما قال لا إله فقد اتقى الشرك، وأما الإحسان فلأنه لما قال إلا الله فقد أتى بالإحسان، ولهذا قيل في معنى كلمة التقوى إنها لا إله إلا الله وفي الإحسان قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قولا مّمَّن دَعَا إِلَى الله} [فصلت: 33] وقيل في تفسير: {هَلْ جَزَاء الإحسان إِلاَّ الإحسان} [الرحمن: 60] إن الإحسان هو الإتيان بكلمة لا إله إلا الله وهما حينئذ لا يتفاصلان بل هما متلازمان.
{كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17)}.
كالتفسير لكونهم محسنين، تقول حاتم كان سخيًا كان يبذل موجوده ولا يترك مجهوده، وفيه مباحث:
الأول: {قليلًا} منصوب على الظرف تقديره يهجعون قليلًا تقول قام بعض الليل فتنصب بعض على الظرف وخبر كان هو قوله: {يَهْجَعُونَ} و(ما) زائدة هذا هو المشهور وفيه وجه آخر وهو أن يقال كانوا قليلًا، معناه نفي النوم عنهم وهذا منقول عن الضحاك ومقاتل، وأنكر الزمخشري كون ما نافية، وقال: لا يجوز أن تكون نافية لأن بعد ما لا يعمل فيما قبلها لا تقول زيدًا ما ضربت ويجوز أن يعمل ما بعد لم فيما تقول زيدًا لم أضرب، وسبب ذلك هو أن الفعل المتعدي إنما يفعل في النفي حملًا له على الإثبات لأنك إذا قلت ضرب زيد عمرًا ثبت تعلق فعله بعمرو فإذا قلت ما ضربه لم يوجد منه فعل حتى يتعلق به ويتعدى إليه لكن المنفي محمول على الإثبات، فإذا ثبت هذا فالنفي بالنسبة إلى الإثبات كاسم الفاعل بالنسبة إلى الفعل فإنه يعمل عمل الفعل، لكن اسم الفاعل إذا كان بمعنى الماضي لا يعمل، فلا تقول زيد ضارب عمرًا أمس، وتقول: زيد ضارب عمرًا غدًا واليوم والآن، لأن الماضي لم يبق موجودًا ولا متوقع الوجود فلا يتعلق بالمفعول حقيقة لكن الفعل لقوته يعمل واسم الفاعل لضعفه لم يعمل، إذا عرفت هذا فنقول ما ضرب للنفي في المضي فاجتمع فيه النفي والمضي فضعف، وأما لم أضرب وإن كان يقلب المستقبل إلى الماضي لكن الصيغة صيغة المستقبل فوجد فيه ما يوجد في قول القائل زيد ضارب عمرًا غدًا فاعمل هذا بيان قوله غير أن القائل بذلك القول يقول: {قَلِيلًا} ليس منصوبًا بقوله: {يَهْجَعُونَ} وإنما ذلك خبر كانوا أي كانوا قليلين، ثم قال: {وَمِنَ الليل مَا يَهْجَعُونَ} أي ما يهجعون أصلًا بل يحيون الليل جميعه ومن يكون لبيان الجنس لا للتبعيض، وهذا الوجه حينئذ فيه معنى قوله تعالى: {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم} [ص: 24] وذلك لأنا ذكرنا أن قوله: {إِنَّ المتقين} [الذاريات: 16] فيه معنى الذين آمنوا، وقوله: {مُحْسِنِينَ} فيه معنى الذين عملوا الصالحات، وقوله: {كَانُواْ قَلِيلًا} فيه معنى قوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ}.
البحث الثاني: على القول المشهور وهو أن ما زائدة يحتمل أن يكون قليلًا صفة مصدر تقديره يهجعون هجوعًا قليلًا.
البحث الثالث: يمكن أن يقال: {قَلِيلًا} منصوب على أنه خبر كان و(ما) مصدرية تقديره كان هجوعهم من الليل قليلًا فيكون فاعل {كانوا} هو الهجوع، ويكون ذلك من باب بدل الاشتمال لأن هجوعهم متصل بهم فكأنه قال كان هجوعهم قليلًا كما يقال: كان زيد خلقه حسنًا، فلا يحتاج إلى القول بزيادة، واعلم أن النحاة لا يقولون فيه إنه بدل فيفرقون بين قول القائل زيد حسن وجهه أو الوجه وبين قوله زيد وجهه حسن فيقولون في الأول صفة وفي الثاني بدل ونحن حيث قلنا إنه من باب بدل الاشتمال أردنا به معنى لا اصطلاحًا، وإلا فقليلًا عند التقديم ليس في النحو مثله عند التأخير حتى قولك فلان قليل هجوعه ليس ببدل، وفلان هجوعه قليل بدل، وعلى هذا يمكن أن تكون ما موصولة معناه كان ما يهجعون فيه قليلًا من الليل، هذا ما يتعلق باللفظ، أما ما يتعلق بالمعنى فنقول تقديم قليلًا في الذكر ليس لمجرد السجع حتى يقع يهجعون ويستغفرون في أواخر الآيات، بل فيه فائدتان.
الأولى: هي أن الهجوع راحة لهم، وكان المقصود بيان اجتهادهم وتحملهم السهر لله تعالى فلو قال كانوا يهجعون كان المذكور أولًا راحتهم ثم يصفه بالقلة وربما يغفل الإنسان السامع عما بعد الكلام فيقول إحسانهم وكونهم محسنين بسبب أنهم يهجعون وإذا قدم قوله: {قَلِيلًا} يكون السابق إلى الفهم قلة الهجوع، وهذه الفائدة من يراعيها يقول فلان قليل الهجوع ولا يقول هجوعه قليل، لأن الغرض بيان قلة الهجوع لا بيان الهجوع بوصف القلة أو الكثرة، فإن الهجوع لو لم يكن لكان نفي القلة أولى ولا كذلك قلة الهجوع لأنها لو لم تكن لكان بدلها الكثرة في الظاهر.
الفائدة الثانية:
في قوله تعالى: {مِّنَ الليل} وذلك لأن النوم القليل بالنهار قد يوجد من كل أحد، وأما الليل فهو زمان النوم لا يسهره في الطاعة إلا متعبد مقبل، فإن قيل الهجوع لا يكون إلا بالليل والنوم نهارًا، لا يقال له الهجوع قلنا ذكر الأمر العام وإرادة التخصيص حسن فنقول: رأيت حيوانًا ناطقًا فصيحًا، وذكر الخاص وإرادة العام لا يحسن إلا في بعض المواضع فلا نقول رأيت فصيحًا ناطقًا حيوانًا، إذا عرفت هذا فنقول في قوله تعالى: {كَانُواْ قَلِيلًا مّن الليل} ذكر أمرًا هو كالعام يحتمل أن يكون بعده: كانوا من الليل يسبحون ويستغفرون أو يسهرون أو غير ذلك، فإذا قال يهجعون فكأنه خصص ذلك العام المحتمل له ولغيره فلا إشكال فيه.
{وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18)}.
إشارة إلى أنهم كانوا يتهجدون ويجتهدون يريدون أن يكون عملهم أكثر من ذلك وأخلص منه ويستغفرون من التقصير وهذا سيرة الكريم يأتي بأبلغ وجوه الكرم ويستقله ويعتذر من التقصير، واللئيم يأتي بالقليل ويستكثره ويمن به.
وفيه وجه آخر ألطف منه، وهو أنه تعالى لما بيّن أنهم يهجعون قليلًا، والهجوع مقتضى الطبع، قال: {يَسْتَغْفِرُونَ} أي من ذلك القدر من النوم القليل، وفيه لطيفة أخرى تنبيهًا في جواب سؤال، وهو أنه تعالى مدحهم بقلة الهجوع، ولم يمدحهم بكثرة السهر، وما قال: كانوا كثيرًا من الليل ما يسهرون، فما الحكمة فيه، مع أن السهر هو الكلفة والاجتهاد لا الهجوع؟ نقول: إشارة إلى أن نومهم عبادة، حيث مدحهم الله تعالى بكونهم هاجعين قليلًا، وذلك الهجوع أورثهم لاشتغال بعبادة أخرى، وهو الاستغفار في وجوه الأسحار، ومنعهم من الإعجاب بأنفسهم والاستكبار.
وفيه مباحث:
البحث الأول: في الباء فإنها استعملت للظرف ههنا، وهي ليست للظرف، نقول: قال بعض النحاة: إن حروف الجر ينوب بعضها مناب بعض، يقال في الظرف خرجت لعشر بقين وبالليل وفي شهر رمضان، فيستعمل اللام والباء وفي، وكذلك في المكان، نقول: أقمت بالمدينة كذا وفيها، ورأيته ببلدة كذا وفيها، فإن قيل ما التحقيق فيه؟ نقول: الحروف لها معاني مختلفة، كما أن الأسماء والأفعال كذلك، غير أن الحروف غير مستقلة بإفادة المعنى، والاسم والفعل مستقلان، لكن بين بعض الحروف وبعضها تناف وتباعد، كما في الأسماء والأفعال، فإن البيت والمسكن مختلفان متفاوتان، وكذلك سكن ومكث، ولا كذلك كل اسمين يفرض أو كل فعلين يوجد، إذا عرفت هذا فنقول: بين الباء واللام وفي مشاركة، أما الباء فإنها للإلصاق، والمتمكن في مكان ملتصق به متصل، وكذلك الفعل بالنسبة إلى الزمان، فإذا قال: سار بالنهار معناه ذهب ذهابًا متصلًا بالنهار، وكذا قوله تعالى: {وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} أي استغفارًا متصلًا بالأسحار مقترنًا بها، لأن الكائن فيها مقترنًا بها، فإن قيل: فهل يكون بينهما في المعنى تفاوت؟ نقول: نعم، وذلك لأن من قال: قمت بالليل واستغفر بالأسحار أخبر عن الأمرين، وذلك أدل على وجود الفعل مع أول جزء من أجزاء الوقت من قوله: قمت في الليل، لأنه يستدعي احتواش الزمان بالفعل وكذلك قول القائل: أقمت ببلد كذا، لا يفيد أنه كان محاطًا بالبلد، وقوله: أقمت فيها يدل على إحاطتها به، فإذن قول القائل: أقمت بالبلدة ودعوت بالأسحار، أعم من قوله: قمت فيه، لأن القائم فيه قائم به، والقائم به ليس قائمًا فيه من كل بد، إذا علمت هذا فقوله تعالى: {وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} إشارة إلى أنهم لا يخلون وقتًا عن العبادة، فإنهم بالليل لا يهجعون، ومع أول جزء من السحر يستغفرون، فيكون فيه بيان كونهم مستغفرين من غير أن يسبق منهم ذنب، لأنهم وقت الانتباه في الأسحار لم يخلو الوقت للذنب، فإن قيل: زدنا بيانًا فإن من الأزمان أزمانًا لا تجعل ظروفًا بالباء، فلا يقال خرجت بيوم الجمعة ويقال بفي، نقول: إن كل فعل جار في زمان فهو متصل به، فالخروج يوم الجمعة متصل مقترن بذلك الزمان، ولم يستعمل خرجت بيوم الجمعة، نقول الفارق بينهما الإطلاق والتقييد، بدليل أنك إن قلت: خرجت بنهارنا وبليلة الجمعة لم يحسن، ولو قلت: خرجت بيوم سعد، وخرج هو بيوم نحس حسن، فالنهار والليل لما لم يكن فيهما خصوص وتقييد جاز استعمال الباء فيهما، فإذا قيدتهما وخصصتهما زال ذلك الجواز، ويوم الجمعة لما كان فيه خصوص لم يجز استعمال الباء، وحيث زال الخصوص بالتنكير، وقلت خرت بيوم كذا عاد الجواز، والسر فيه أن مثل يوم الجمعة، وهذه الساعة، وتلك الليلة وجد فيها أمر غير الزمان وهو خصوصيات، وخصوصية الشيء في الحقيقة أمور كثيرة غير محصورة عند العاقل على وجه التفصيل لكنها محصورة على الإجمال، مثاله إذا قلت هذا الرجل فالعام فيه هو الرجل، ثم إنك لو قلت الرجل الطويل، ما كان يصير مخصصًا، لكنه يقرب من الخصوص، ويخرج من القصار، فإن قلت العالم لم يصر مخصصًا لكنه يخرج عن الجهال، فإذا قلت الزاهد فكذلك، فإذا قلت ابن عمرو خرج عن أبناء زيد وبكر وخالد وغيرهم، فإذا قلت هذا يتناول تلك المخصصات التي بأجمعها لا تجتمع إلا في ذلك، فإذن الزمان المتعين فيه أمور غير الزمان، والفعل حدث مقترن بزمان لا ناشىء عن الزمان، وأما في فصحيح، لأن ما حصل في العام فهو في الخاص، لأن العام أمر داخل في الخاص، وأما في فيدخل في الذي فيه الشيء، فصح أن يقال: في يوم الجمعة، وفي هذه الساعة، وأما بحث اللام فنؤخره إلى موضعه، وقد تقدم بعضه في تفسير قوله تعالى: